حاوية الخصوصيات

مرّر مجلس النوّاب في جلسته الاستثنائية التي عقدها الخميس، وبسلاسة، الشق السنّي من مشروع قانون أحكام الأسرة، بأغلبية 18 صوتاً مقابل معارضة 3 نواب من كتلة الأصالة، فيما غادر نوّاب كتلة الوفاق قاعة الجلسة أثناء مناقشة المشروع.[1]555113
لماذا غادر نواب كتلة الوفاق الجلسة؟ ليس احتجاجاً على مخالفة الشريعة ولا تحفظاً على غياب الضمانات الدستورية ولا معارضة للحكومة، يجيب على هذا السؤال، النائب رئيس كتلة الوفاق خليل المرزوق بقوله «نحن مع احترام الخصوصية الدينية والمذهبية واختيارات المواطنين فيما يخصّ تعبدهم وشرعهم؛ لذلك فكتلة الوفاق تترك المجال للإخوة فيما يختارون».
إلى أي حد يمكن أن يكون احترام الخصوصية المذهبية مبرراً فعلاً لهذا الانسحاب؟ ولو كان هناك نائب شيعي شيوعي أو قومي أو ليبرالي أو بعثي مستقل، هل كان عليه أن ينسحب احتراماً لهذه الخصوصية؟
مبرر الخصوصية حمّال أفعال، بمعنى أن أفعالاً كثيرة تجد في الخصوصية محملاً لتبرير تصرفها، الحكومة لا تريد من المعارضة أن تتصل بمنظمات دولية حفاظاً على الخصوصية، الكتل الإسلامية لا تريد حفلات غنائية حفاظاً على الخصوصية الإسلامية، ديوان الخدمة المدنية ووزارة التربية وجهاز الإحصاء لا يريد أن يقدم كشوف بأسماء مواطنين حفاظاً على الخصوصية، كتلة الوفاق تنسحب من التصويت على قانون الأحوال الشخصية السنية حفاظاً على الخصوصية المذهبية. هكذا يمكنك أن تضيف الخصوصية لأي فعل تريد أن تقوم به، وستجد فعلك مبرراً، لقد غدت الخصوصية حاوية تتسع لكل أفعال السياسة، وإذا أردت أن تبحث عن تفسير لأي فعل سياسي، فيمكنك أن تذهب إلى حاوية الخصوصيات.
الاحترام موقف أخلاقي، وحين يستخدمه السياسيون، فعليك أن تكشف ما وراءه من موقف سياسي، والموقف السياسي هنا، يتعلق بصوغ موقف مستقبلي، وكأن كتلة الوفاق تريد أن تقول: احترمنا خصوصيتكم ولم نتدخل في قانون أحوالكم الشخصية، فاحترموا خصوصيتنا ولا تتدخلوا في قانون أحوالنا الشخصية ولا تدفعوا باتجاه إقراره، ولا تتعاونوا مع الحكومة للضغط علينا. هنا الاحترام، يغدو لا فعلاً أخلاقياً، بل فعلاً مصلحياً تمليه السياسة.
والاحترام متى كان يمليه موقف سياسي لا أخلاقي، سنجد هناك ما يكشفه، فخطاب السياسي فيه ثغرات تتيح اختراقه، في تعليقه على مسمى القانون يبدي – بثغرة كبيرة – رئيس كتلة الوفاق الملحوظة التالية «من الممكن أن أبدي بملاحظة بشأن مسمّى المشروع، حيث أقترح استبدال عبارة ”القسم الأول” بعبارة ”الدائرة الشرعية السنيّة”»، وقد عارض النائب عبدالله الدوسري هذه الملحوظة، ولم يصرّ عليه المرزوق، وعند بدء التصويت حاول النائب جلال فيروز التأكيد على مقترح المرزوق، إلاّ أن الأخير طلب منه عدم الاستمرار في الحديث، وغادر الاثنان القاعة.[2]
التسمية فعل، وهي فعل تمييزي، فأنا أسمي الأشياء كي أميزها، والتسمية التي يقترحها المرزوق (الدائرة الشرعية السنية) تضغط على شق الطائفة، وهو شق تمييزي، لقد أبدى المرزوق ملحوظته باحترام، لكن ليس بدافع الاحترام، بمعنى ليس حرصاً منه على إعطاء هذا القانون واجهة أفضل أو موقعاً أعلى أو تسمية أكثر وقعاً، بل من أجل التأكيد أن المسألة شرعية، وأن الدائرة الشرعية تقوم أساساً على التمييز، وهي تستدعي ذكر اسم الطائفة لتمييزها عن الطائفة الأخرى. فضلاً عن أن تسمية القسم الأول تعني أن القسم الثاني آتٍ آتٍ، مهما كانت المناكفات السياسية والدينية. ومادام هو آتٍ فقانون الأحوال الشخصية المتعلق بالشق الشيعي، يريد أن يحجز له تسمية تميز طائفته، ليكون (الدائرة الشرعية الشيعية).
هذا الاحترام الذي لم يظهر إلا في الفعل الذي يمثل في النائب طائفته، ليس فيه احترام للحيز العام المشترك الذي يمثله البرلمان، البرلمان مكان الإرادة العامة، ونتوقع منه أن يكون مكاناً لإظهار هذه الإرادة وتمثيلاً لها، وذلك ليس بأن يصدر البرلمان تشريعات لا تراعي خصوصيات التنوع والتعدد، لكن بأن يصدر ممثلوه عن روح هذه الإرادة. من المؤسف أن نجد أمثلة كثيرة على تمثيل الأعضاء لطوائفهم، ولا نجد أمثلة لتمثيلهم لتعدد الوطن. بمعنى لا نجد ممثلاً برلمانياً يدافع عن التعددية ممثلة في جماعات لا ينتمي إليها، بما هي تعددية تمثل هوية الوطن، لكن نجد أمثلة كثيرة يدافع فيها ممثلون برلمانيون عن طوائفهم.
في حلقة (هنّ) بقناة الحرة الخاصة بقانون الأحوال الشخصية بالبحرين، سألت في كواليس الحلقة إحدى المتضررات المتدينات من آثار غياب هذا القانون في المحاكم الشيعية، قالت: أبسطها، أنك لا تشعر بأدنى درجة من الاحترام، في هذه المحاكم. أتوقع أن القانون سيضع حداً أدنى من الاحترام لنا.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=10612

رسائل الرئيس

 

إذا كانت لديك مشكلة فأرسل رسالتك إلى الرئيس مباشرة، لكن إذا كانت مشكلتك أنك تريد أن تصور فيلماً عن رسائل الرئيس فلا ترسل رسالة، بل أرسل كاميراتك ودعها ترى وترسل رسائلها المواربة عن رسائل الرئيس.
فيلم المخرج التشيكي الأصل بيتر لوم ”رسائل إلى الرئيس” يروي قصة هذه الرسائل، فقد أرسل iran_230907_1 الإيرانيون عشرة ملايين رسالة إلى الرئيس محمود أحمدي نجاد منذ توليه منصبه، طالبين منه مساعدتهم ماليا.
كان هذا الفيلم الوثائقي المثير للجدل، أحد أفلام مهرجان الجزيرة للأفلام الوثائقية في دورته الخامسة الذي أقيم في 13-16 إبريل تحت شعار سنوات الأمل، بمشاركة 454 فيلما. وقد عرض هذا الفيلم في إطار الدورة التاسعة والخمسين من مهرجان برلين السينمائي، وقوبل بمظاهرات من قبل الإيرانيين المقيمين في ألمانيا، واتهم مخرجه بالقيام بحملة إعلامية لصالح الرئيس الإيراني أحمدي نجاد من خلال عدم تعرضه إلى ممارسات النظام الحاكم.
«فيلم يحتاج إلى مشاهد دقيق الملاحظة ليفهم الرسائل المستترة التي أرسلها مخرج الفيلم» هذا ما ورد على لسان أحد النقاد وهو أفضل تعليق يمكن أن يقال عن هذا الفيلم، وأقول أفضل تعليق قياسا إلى ردود الفعل السياسية التي قوبل بها الفيلم حين عرض في مهرجان برلين. فالمعارضات السياسية دائما تريد إدانة واضحة وصريحة للنظام الذي تعارضه، وتريد من الفن أن يكون ناطقا بما تريد. الفيلم الوثائقي فن وليس بياناً سياسيا، لأنه بقدر ما يسجل من وقائع بالكاميرا، فإنه يعيد تركيبها وفق اتساع عدسته في حدود الممكن، وفي هذا الاتساع يكمن الفن.
اختلافنا في تقدير اتساع العدسة وإمكانه من ناحية سياسية وفنية، هو ما يجعل من الفيلم حمّال رسائل مستترة.
استمتعت بحركة اتساع كاميرا المخرج التشيكي ”بيتر لوم” في قاعة المجلس بفندق شيراتون الدوحة، وهي تريني السياقات الاجتماعية والدينية والثقافية التي تنطلق منها رسائل الناس إلى الرئيس. فالمرسل لا يرسل رسائله في سياق واحد والمستقبل لا يستقبلها في سياق واحد. أرى أن المخرج نجح في اللعب على تنويع هذه السياقات وفي بث رسائل مواربة من خلالها، في حدود الممكن السياسي الذي كانت عدسته تتحرك من خلاله. وهذه بعض المشاهدات حمّالة الأوجه التي التقطتها في ذاكرتي.
في ديوان الرئيس، كانت هناك جموع كبيرة تنتظر مقابلة الرئيس، التقطت الكاميرا بينها حالتين، الأولى لرجل دين من عامة الناس يجلس على كرسي خشبي، ويبدي ارتباكاً لا يخفيه، لأنه سيقابل الرئيس، ويطلب من المصور أن يمهله حتى يخرج كي يجيب على أسئلته، لكنه يكتفي بالقول سأتحدث معه عن أهمية التمسك بالحق النووي، بعد خروجه يحدثه عن يقينه بقرب ظهور الإمام المهدي، لأن التكنولوجيا بلغت أوج تطورها والأمور جاهزة للظهور.
الحالة الثانية امرأتان تجلسان على الأرض، ويدور بينهما حوار طويل يتخلله بكاء إحداهما من وضع حالتها المعيشية، وتذمر الأخرى من طول الانتظار وصعوبة لقاء الرئيس، وتقارنه بسهولة مقابلة أختها التي تعيش في بريطانيا للملكة إليزابيث الثانية. فجأة ينقطع كل شيء، فالرئيس ألغى مقابلاته.
في لقطة أخرى تطرق الكاميرا شقة أحد المواطنين، وتسألهم إن كانوا قد أرسلوا رسالة إلى السيد الرئيس، فيتوارى الرجل خلف الباب، فيما تبقى زوجته مسندة ظهرها للباب تضحك على زوجها، وهو يقول ليس لديه رسالة ولا يريد أن يرسل شيئا، وإذا كان الشاه الذي تسلم رسالة من أبيه يدا بيد، لم يرد عليها، فكيف سيرد نجاد على رسالة بريدية.
في لقطة أخرى يتحدث نجاد عن ملايين المشردين في أميركا، لجمهور في قرية لا يصلها الماء ولا الكهرباء، ويطلب منهم أن يجيبوا الغرب بهتاف يؤكد صمودهم، فيهتفون بشعار الحق في النووي، وهم يرفعون صور شهدائهم في الحرب العراقية، يجمع الرئيس رسائلهم بيده، ويعدهم عبر وزير الكهرباء، أن تصل الكهرباء لهم خلال عام.
في مشهد آخر، تتحرك الكاميرا بين رجل متحمس لنجاد وللثورة، ويقول هناك حرية بدليل ألا أحد يمنعكم من التصوير، وبين رجال أمن أو مخابرات يمنع المخرج من التصوير. وفي مشهد آخر ترينا الكاميرا أحد رجال الرئيس وهو يهيئ المزارعين لاستقبال الرئيس ويقول لهم كيف يتحدثون معه، وفي المقابل ترينا صحافيا شابا، يحرّض المزارعين، أمام رجل السلطة، على أن يقولوا كل شيء وبطريقتهم التي يريدونها، ويشير لهم إلى المزارع الممتدة قائلا كل هذه الخيرات، لكنها ليست لنا.
تتحرك الكاميرا نحو النساء المحتشدات أمام بوابة الرئيس الحديدية، وهن ممسكات برسائلهن، ورجال الأمن يمنعنهن من الدخول. وصوت إحداهن يجهر بالتحدي ويقول كيف ليس لديه وقت لنا ولديه وقت للخطب الطويلة، دعه يختصر خطبه ويمنح رسائلنا وقتا أطول.
بيروقراطية النظام، أظهرتها الكاميرا في مكتب تسلم رسائل الرئيس نفسه، من خلال ردود أحد الموظفين الصلفة والمعبرة في الوقت نفسه عن الوضع الاقتصادي المتردي للبنوك، تجاه فلاح يعاني من مديونية تهدد رزقه.
قلت لعائشة سلدانة البريطانية في نهاية الفيلم، ما رأيك في «رسائل الرئيس» قالت جعلتني أشاهد إيران التي لم أزرها، ولكن..
كانت الرسالة الأكثر قوة، قد ادخرها المخرج إلى ما بعد الفيلم، حين ظهر في الشريط المكتوب أنهم طلبوا منه أن يسمي الفيلم «تطبيق الديمقراطية». وكأنه بهذه المعلومة المسربة، يسأل: هل الديمقراطية رسائل الرئيس؟
الرسائل كانت للرئيس، لكنها في الفيلم، كانت للمشاهدين، ليس فقط كي يعرفوا الرئيس، بل ليعرفوا كيف يدير الرئيس الناس عبر رسائلهم، وماذا تحكي رسائلهم من واقعهم. وهل تطبيق الديمقراطية يعني أن ترسل رسالة للرئيس. هل «رسائل الرئيس» دليل الديمقراطية أم دليل غيابها؟

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=10543

علي الديري.. المرشح الأول لجائزة دبي

« الوقت ».. مرة ثالثة
علي الديري.. المرشح الأول لجائزة دبي 2009 فئة الصحافة الثقافية

New Picture

أعلن نادي دبي للصحافة الذي يمثل الأمانة العامة لجائزة الصحافة العربية عن أسماء المرشحين ضمن الفئات الـ 12 الأساسية للجائزة في دورتها الثامنة عن الأعمال المقدمة في العام .2008
ومن المقرر أن تعلن الأسماء الفائزة بشكل نهائي ضمن حفل جائزة الصحافة العربية يوم 12 من مايو/ أيار مباشرةً عقب انتهاء فعاليات منتدى الإعلام العربي الذي يقام في 11 و12 من مايو/ أيار بحضور أكثر من 600 مشارك من كبار الإعلاميين والخبراء من الوطن العربي والعالم.
وجاء اسم الزميل علي الديري، الأول على المترشحين لفئة الصحافة الثقافية، وذلك عن موضوعه «انتظار تركيا.. من يقتل أتاتورك».
وكانت «الوقت» قد حصلت على جوائز نادي دبي على مدى سنتين على التوالي وهي: جائزة الصحافة السياسية عن تحقيق «التيار السني في البحرين – الجماعة المؤجلة» للزميل غسان الشهابي العام .2007
أما الجائزة الثانية فقد فازت «الوقت» بفئة الصحافة البيئية عن التحقيق الشامل بعنوان «استخدام مياه الصرف الصحي» العام 2008 وأجراه قسم المحليات في الصحيفة.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=162584

http://www.dpc.org.ae/default.aspx?options={c9e8b6e5-d3f0-4949-8318-5fce16476cd8}&view=News&layout=NewsBody&itemId=8&lang=1&id=1864

مدينـــــــة أبـــــــــي

على قبر الوالد في مقبرة بهشت ثامن الأئمة (2009)
على قبر الوالد في مقبرة بهشت ثامن الأئمة (2009)

مشهد مدينة أبي، هذا ما كنت أعتقده، واليوم هذا ما أتيقنه، اليقين يتحقق في لحظتين، لحظة الحب ولحظة الموت، وقد جمع أبي اللحظتين في هذه المدينة، أحبها ليس فقط حد الموت، بل حد أن مات فيها. كانت روحه تسكن حيث سرها المقدس، والمقدس لا يعرف غير اليقين، وروح أبي لم تعرف غير هذا اليقين، يقين دونه الموت والحب.
كانت رهبة الموت تقف بي في صباح جمعة بهشت رضا (مقبرة أو جنة الإمام الرضا) حيث جسده المسجى في كفن الموت، كان مسؤول الموتى يفك رباطة الرأس بحياد الموت وببرودة ثلاجة الموتى، كان قد مضى على راحته 36 ساعة وعلى شقائنا آلاف من ساعات الحزن. ما إن قرأت في وجهه نداوة الحياة الذي توفر عليه بفضل يقين الحب، حتى استحال كل حزني يقين فرح، ذهبت رهبة الموت وحل بياض الأبدية، وصرت أشتاق رؤية طراوة وجهه أكثر، طلبت أن ندخله على الوالدة في غرفتها، لتقرّ عيون قلبها بقين فرح وجهه، حين رأته قالت لم أره شباباً أكثر من هذا اليوم، لن أبكي إلا فراقه، لن أبكي موته. قرت عيوننا بيقين حبه، وحين وضعناه حيث تراب سر المدينة المقدس، لم نعد بحاجة إلى فرح يجيء، فقد وجدناه في وجه أبي.
كنت في الصيف الماضي برفقته طوال شهر أغسطس/ آب في هذه المدينة، كان يقلقني سؤال كيف تكون المدن مقدسة؟ فالمدن مكان الشك والقرى مكان اليقين. كيف صارت مشهد مدينة بعد أن كانت مجرد قرية صغيرة تابعة لطوس القديمة؟ كيف صيّر هذا المقدس (مرقد الإمام الرضا) القرية مدينة فيها مكتبة )مكتبة الأستانة الرضوية) تعد من أهم أربع مكتبات في العالم الإسلامي وتضم 78000 مخطوطة؟
لم أسأل أبي، لم أكن أريد أن أقلق لذة يقينه بلذة شكي، اكتفيت أن أسمع مروياته عن هذه المدينة، وسيرة يقينه فيها. حدثني عن طفولتي التي لا أتذكرها فيها.
كان يحدثني عن عمرانها، فقد كان شاهدا عليه طوال ما لا يقل عن خمسة عقود. فأبي يجد في العمران دوماً ميدان اختصاصه، فالبحرين حين بدأت تدخل ورشة العمران الحديث، كان هو واحدا من الذين انخرطوا في هذه الورشة عبر شركة أحمد منصور العالي، ويحفظ في ذاكرته وأرشيفه مشروعاتها الكبرى التي دخلتها.
هذا الرقم (33567) لن ينساه أبي، إنه رقمه في شركة بابكو التي سيغادرها باكراً بعد سبع سنوات، حاملاً درس هذا الرقم الذي علمه معنى النظام والتخطيط، معنى أن يكون لكل عمل خطة زمنية وخطة تنفيذية وخطة مالية مجدولة.
ظل عمله دوماً في الإنشاءات، كانت البلاد مقبلة على عهد جديد، جيوش الموظفين والمهندسين الغربيين التي ستبني إنشاءات البلاد الجديدة. تريد من يهيّئ لها فللها ومساكنها على مقاس خرائط العمران الغربية، هكذا جاءت مدينة عوالي، كان مازال حتى لحظته الأخيرة يصف لي مواقع البيوت التي أشرف على إنشائها في عوالي. رسم لي جدول العمل، وقال هكذا علمتنا بابكو أن نحسب الوقت بدقة ونضع خطة العمل بوضوح.
أمي تنظر إلى مقتنياته التي تسلمتها من المستشفى بعد وفاته وهي تقول: ”لا يمشي إلا بقلمه وساعته وخاتمه” يجدول الوقت بساعته، ويكتب أحداثه بقلمه، ويحفظه من السوء بخاتمه، هكذا كان يرى الوقت بحاجة إلى جدولة وتدوين وحفظ. في مكتبته أرشيف غزير يحكي قصص إنشاءات أشرف عليها، ومشروعات انخرط فيها، ومراحل كان شاهداً عليها. إنه أرشيف العمران.
يحتوي دفتر دائريه السنوي، كل تفاصيل يومياته، تواريخ سفره ورجوعه وأرقام الاتصالات والأماكن التي يزورها، وفي هوامش الدائري الطرائف التي تمره في قراءاته، وشيء من الفوائد الصحية والنصائح وأسعار السكن، والشيكات المدفوعة والمستلمة والأشخاص الذين يمرون به والذين يتدينون منه.
في سفرته العلاجية للهند قبل سنتين، كتب يومياته في المصحة بطريقة تفاصيل الأرشيف البريطاني، أسماء الأطباء والممرضات والأكلات وتحركاته في المصحة وتقارير الأطباء وتعليقاتهم وأحواله الصحية اليومية. وأجواء المصحة والطقس الخارجي وأحاديثه اليومية، واستجابات جسده.
نقل درس بابكو إلى شركة أحمد منصور العالي وأسس فيها نظاماً دقيقاً، هو حصيلة السنوات السبع التي قضاها في (أكاديمية) بابكو. كان الخال الحاج عيسى الفن يأخذ مقاولات بناء من شركة العالي، لاحظت الشركة أن مناقصاته تأتي محسوبة بشكل دقيق ومجدولة وفق نظام واضح الترتيب. وحين عرفوا أن الوالد هو من يصوغها، جاءه الحاج عبدالعزيز العالي إلى مجلس بيت والده، وطلب منه شخصيا الالتحاق بشركته، كانت مجازفة كبيرة أن يترك بابكو وهو في بداية تألقه ومستقبلها المضمون ينتظره، ليراهن على شركة مازالت واعدة، أصرّ العالي عليه ووعده بمرتب يفوق بابكو، فكان التحاقه بشركة العالي بعد مشاروة والده، وهناك سيعمل مع المهندس البريطاني (إينكل). سيكون درسه امتدادا لبابكو، يقول أبي: إنه مدين لهذا الشخص بكل ما يعرفه في هندسة الإنشاءات، خصوصا عملهم في مشروع (هدم الكوري).
في رحلتنا الأخيرة، حاول ابني باسل (10سنوات) أن يحاكي جده في كتابة مذكراته، فجلس إلى يمينه وأخذ يكتب ”8/8/2008 رحلة إيمانية إلى مشهد مكونة من الجد أحمد والجدة صباح وأبي علي وعمي إسماعيل وعمتي عرفات وعمتي معصومة وعمتي زكية وعمتي زينب وأمي فضاء وابن عمتي هشام وأختي أماسيل وعمتي زهراء وعمتي صفاء.
أقلعت الطائرة من مطار البحرين الساعة الحادية عشر والنصف مساء وهبطت الطائرة في مطار مشهد الواحدة والنص صباحاً وكان باستقبالنا أبو مصطفى، وأول الأحداث هي ضياع هشام لمدة دقائق في المطار ولكن وجدناه بعد ذلك قرب الألعاب. بعد ذلك غادرنا المطار للسكن حيث سكنا في عمارة الإيمان وهنا اكتشفنا نسيان حقيبة جدي أحمد وجدتي صباح في المطار استرحنا حتى الصباح ثم ذهب أبي علي وجدي أحمد إلى المطار واستلما الحقيبة المنسية”.
قلت له: الحفيد سر جده.
وجدت صعوبة كبيرة في قراءة سورة الفاتحة على روح أبي، كنت بحاجة إلى الصلاة من أجل استحضار روحه، لا من أجل شيء آخر، كانت حروف الفاتحة تفتح ذاكرة صوت أبي وهو يقوّم قراءة الفاتحة في لساني، كنا نفترش فضاء السطح العلوي من بيت العائلة الكبير، ونتخذ صفوفنا خلف صلاة أبي، قبل أن يسلمني المهمة تالياً. كلما فتحت فمي لأقرأ انعقد بالبكاء، كأني أفتح دروس أبي التي لم تنته، دروسه حين يحلّقنا حول متن الأجرومية لنقرأه على يدي الشيخ حسين الستري، ودروسه حين كان يفاجئنا بتصحيح أخطائنا في تلاوة القرآن في ليالي رمضان وليس أمامه مصحف. كنا نتعجب كيف يعرف حركات الكلمات ويصوبها من ذاكرته حين نخطأ. كيف حفظ أبي القرآن بهذه الدقة، هو ليس رجل دين، ولم يكن يوما مدرس لغة عربية، وانشغالاته في الهندسة والنجارة والأعمال اليدوية لا علاقة لها بحركات الكلمات، بقدر ما لها علاقة بحركات اليد. لاحقا في مدينته مشهد، سيحكي لي قصته في قراءة القرآن وحفظه على يد ملا علي بن عبدالله بن جاسم.
كان هذا الدرس وحده كافيا، لأعرف البراعة اللغوية التي توفر عليها الوالد، وتقديسه للكتابة والقراءة، ولأعرف مكتبته التي كانت تضم مراجع، لم أكتشف أهميتها إلا حين دخلت الجامعة.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=10396

حوار مع عصام عبدالله

حاورته « الوقت » في سياق ندوة بجمعية المنتدى.. المفكر عصام عبدالله:

«تنويريونا» لم يرفعوا الوصاية عن العقل.. وحين الحسم لم يحسموا

 

من منا لم يردد مرة واحدة على الأقل في حياته كلمة ”عولمة” و”حداثة”، دلالة على مفاهيمية عصر جديد أخذ يكتسح. لكن هل سألتم أنفسكم أين نقف بالضبط على رقعة هذا العصر* اسمعوا الدكتور عصام عبدالله، أستاذ الفلسفة الحديثة بجامعة عين شمس والمتخصص في علم تاريخ الأفكار، ماذا يقول. ”نعيش النسخة الثانية، المزيدة والمنقحة من النقد الكانطي” نسبة إلى آخر فلاسفة عصر التنوير الألماني عمانويل كانط. لكن ماذا يعني ذلك؟ اسمعوا إليه مرة أخرى. ”إنها مرحلة نقد النقد، حيث غدا السؤال ما هو قدر التعددية والاختلاف داخل التعددية والاختلاف” بحسب تعبيره. كلمات شائكة ما من شك، لكن في هذا الحوار الذي أجرته معه ”الوقت” بواسطة البريد الإلكتروني قبيل مجيئه إلى البحرين بمناسبة مشاركته يوم أمس الأول في ندوة بجمعية المنتدى ذات التوجه الليبرالي، يجيب عصام عبدالله إسكندر عن كل الإشكالات التي ترافق طرح هذا النوع من الأسئلة. وهذه مقتطفات:

New Picture (6)

دعني أدخل على سيرة تكوينك الفلسفي، كيف صرت مختصاً في الفلسفة؟

– نشأت يتيماً محملاً بكل الأسئلة الميتافيزيقية، عن معني الموت والحياة والوجود وما بعد الوجود، وعلاقة الأرض بالسماء واستكشاف المجهول والخفي (البحث عن الحقيقة)، فقد عرفت فيما بعد أن كلمة ”الحقيقة” باللغة اليونانية، كما أضاءها هيدجر هي (انكشاف الخفي والمحتجب).

في المدرسة الابتدائية وكانت (إنجليزية) درست في الصف الثاني قصة بعنوان ”الغواص” تدور أحداثها في البحرين حول غواص ماهر اسمه ”حامد” أحب بنت شيخ الصيادين وكانت رائعة الجمال، وطلب أبوها مهرا عبارة عن لؤلؤة نادرة غالية الثمن، وقد لاقى هذا الحامد المسكين أهوالا في أعماق الخليج، لكنه نجح في النهاية في اقتناص هذه اللؤلؤة وتزوج من محبوبته. ولك أن تتخيل ما تركته هذه القصة في نفس وعقل ووجدان طفل عمره سبع سنوات (وكانت مقررة على كل المدارس الإنجليزية في مصر وقتئذ). لقد عرفنا معني الحب والتضحية والمثابرة والمغامرة والإرادة والتنوع والتعدد والاختلاف.. من دون كلمة إنشائية واحدة تشرح هذه المعاني أو تنظر لها!.

تعرفنا على أنواع وألوان وأحجام للأسماك واللآلئ، وكيف نبحر إلى أعماق الأشياء ولا نقف فقط عند سطوحها، وأن الحياة هي رحلة مليئة بالتحديات والأهوال والانتصارات أيضا، وأن الحب قيمة سامية تتطلب التضحية والعطاء وركوب الصعاب.

كل القضايا الفكرية سياسية

المهم أنني اكتشفت موهبتي في الرسم بسبب هذه القصة، فقد كان علينا أن نلون بعض الرسومات للأسماك وقوارب الصيد. وفي الصف الأول الثانوي قررت أن أدرس الفلسفة وأتخصص فيها بعد أن اكتشفت عصر النهضة الأوروبية من خلال منهج التاريخ المقرر علينا، وهو العصر الذي اكتشف فيه الإنسان الأرض والسماء معاً، عصر الكشوف الجغرافية والثورة الكوبرنيقية والنزعة الإنسانية، وعظماء التاريخ: ليوناردودافنشي، مايكل انجلو، ميكيافيللي، مارتن لوثر، جوردانو برونو، بومبوناتزي، جاليليو، مونتيني، إرازموس، سرفانتيس، وغيرهم.

وبالفعل كانت رسالتي في الماجستير حول ”الفكر اليوتوبي في عصر النهضة الأوروبية” أو قل ”المدن الفاضلة” من خلال علم اجتماع المعرفة عند كارل مانهايم، وكل يوتوبيات النهضة عند توماس مور، فرنسيس بيكون، كامبانيللا، ورابليه هي جزر نائية رائعة الجمال توجد في أعالي البحار، وهي تشبه الجزر التي كان يغطس حولها حامد ويصطاد اللؤلؤ.

ثم تخصصت في الدكتوراه في علم تاريخ الأفكار وما بعد الحداثة، ودارت أبحاثي بعد الدكتوراه حول ”الآخر”، ”التسامح”، و”الرشدية اللاتينية في إيطاليا”، و”العقيدة المجردة”، فضلا عن مؤلفاتي الفلسفية الخالصة حول أعلام الفكر الفلسفي المعاصر: ”جاك دريدا : ثورة الاختلاف والتفكيك”، ”يورجن هابرماس”، ”إيمانويل ليفيناس”، و”الأسس الفلسفية للعولمة” وهو أحدث كتاب لي صدر في يناير/ كانون الثاني ,2009 عن المجلة العربية بالمملكة العربية السعودية.

في معظم كتاباتي أمزج الفلسفة بالعلوم الإنسانية الأخرى كعلم الاجتماع، علم النفس، والتاريخ، ولم تغب عنها السياسة قط، فكل القضايا الفكرية هي قضايا سياسية داخل الفكر كما يقول ألتوسير.

الاختلاف هو الهدف

كيف تصف المشهد الفلسفي اليوم على مستوى العالم؟

– لأنه يتطلب إلماما واسعاً وعميقاً بالمياه الجوفية المحركة لعالم اليوم، إن إحدى التحولات الفكرية الأساسية، هو التحول من ”الوحدة” إلى ”التعدد”، وصار التعدد والاختلاف هو الهدف، أما الوحدة فيعترف بها فقط من خلال النظر إلى الاختلافات أو من خلال وضع التمايزات في الاعتبار، وهذا يبدو فيما احتلته ”الهوية” من أهمية متزايدة ومتنامية، وما يتعلق بها من مفاهيم مثل: ”الآخر”، ”الخصوصية”، ”الكونية”، ”الحوار”، ”التواصل”، ”الصراع”، ”الاعتراف”، ”التسامح”، ”الديمقراطية”، ”الليبرالية”، ”التعدد”، ”الاختلاف”، و”العولمة”.. الخ.

ديمقراطية الأخ

الأمر الثاني انتفت صفة القداسة عن الكلمات، في عصر العولمة وما بعد الحداثة، ولا يوجد مفهوم مطروحاً للتداول والنقاش على بساط البحث لا يطاله النقد أو غير قابل للنقد، فنحن نعيش الموجة الثانية من ”النقد” الكانطي أو النسخة الثانية (المزيدة والمنقحة) وهو ”التفكيك” الدريدي، ويتميز عن النقد بأنه ”نقد للنقد”، كما أنه التطبيق العملي ”للنقد المزدوج” حسب صديقنا عبدالكبير الخطيبي، فأصبح السؤال هو: ما قدر التعدد والاختلاف داخل التعددية والاختلاف؟.. ماذا تعني كلمات مثل ”تعدد”، ”تنوع”، و”اختلاف” أساسا؟.. وماذا يعني الانتخاب اليوم بعد أن كبلت الدول الديمقراطية بالاتفاقيات الدولية؟.. هل نحن على أبواب ”ديمقراطية الأخ” التي حذرنا منها فلاسفة الاختلاف؟

ما أبرز الفاعلين على مستوى هذا المشهد؟

– فلاسفة ما بعد الحداثة، أو قل فلاسفة الاختلاف في فرنسا، ميشيل فوكو، جيل دولوز، جاك دريدا، وجاك لاكان وغيرهم، بالتوازي أحيانا والتقاطع أحياناً أخرى مع الألماني ”يورجن هابرماس” شيخ الفلاسفة في العالم، وتكشف جهودهم الفلسفية المهمة عن أن الأمور ليست كما تبدو لنا، وإنما هي تمضي من دون توقف نحو ”التماثل” و”التشابه” لا التعدد والاختلاف، وهنا مكمن المفارقة، وإن شئت المراوغة، فهي تقر وتعترف بالتعدد والاختلاف والتنوع، ولكن من أجل إلغائه ودمجه في ”وحدة ” هي ”وحدة معنى” أو ”هوية مبنى”، حسب تعبير عبدالسلام بن عبدالعالي.

العالمية إلغاء للغيرية

إن ”منطق الشبيه والمثيل” The Same – Exemplar إذا استعملنا لغة دريدا في ”سياسات الصداقة” هو منطق شمولي استعلائي يرفض الآخر وينبذ الاختلاف. وقد دشن فيلسوف الغيرية إيمانويل ليفيناس النقد الجذري لفكرة الشبيه، ذلك أن تحويل الذات إلى موضوع أو في التعامل مع الآخر كموضوع يعد عملاً تعسفياً. وسبق لإدوارد سعيد في كتابه ”الاستشراق” الصادر العام 1978 أن نبه إلى أن تحويل الذات إلى موضوع يحط من إنسانية الآخر، وهو رفض لحقه في الوجود كانسان له تاريخه وثقافته وطريقته الخاصة في الحياة.

ويري أنه إذا ما كانت هناك من أخلاق خالصة فهي تلك الأخلاق التي لا تبغي امتلاك الآخر لأن كل معرفة هي سيطرة. وهي الفكرة نفسها التي دافع عنها ”ليفيناس” حين تحدث عن ضرورة الحفاظ على مسافة أو قطيعة بين الأنا والآخر، فكل معرفة سلطة وكل سلطة عنف.

من هنا دعا إلى أخلاق تتأسس على المسؤولية تجاه الآخر، أو ما يسميه ليفيناس بعلاقة ”وجه – لوجه” وليس ”كتف – لكتف” التي تسود المجتمعات الشمولية. وهي فكرة أو تقليد لا يسود الفلسفة الغربية وحسب ولكن أيضاً كل المجتمعات القبائلية والعشائرية والأبوية، التي تمجد ”الأخ” وتعلي من شأن ”الأخوة”.

فقد حذر دريدا في كتابه ”سياسات الصداقة” وفي كتابه ”مارقون” من الديمقراطية المقبلة، ودعا إلى نبذ منطق الأخ والشبيه. يقول ”لا خطر على الديمقراطية المقبلة إلا من حيث يوجد الأخ، ليست بالضبط الأخوة كما نعرفها، ولكن حيث تصنع الأخوة القانون، وتسود دكتاتورية سياسية باسم الأخوة”.. فالدعوة إلى الأخوة العالمية اليوم، على سبيل المثال، قد تلغي الغيرية وكل حق في الاختلاف، وهو ما تنبهنا إليه الفلسفة.

مرت على مصر تيارات فلسفية كبرى، وتمثلتها شخصيات ثقافية وسياسية هي اليوم جزء من تاريخ الثقافة العربية. كيف تؤرخ لهذه التيارات والشخصيات؟

– أغلب القضايا الفكرية المثارة اليوم، كان يفترض أن يكون النزاع حولها قد حسم منذ عهد مضى، وهذه المجموعة البسيطة من الأفكار والمفاهيم المتناثرة في كتابات المثقفين الجذريين، كان ينبغي أن تكون قد استقرت لدينا منذ ما يقرب من القرن، علي الأقل.

وهنا يبدو المأزق الحقيقي الذي تعرض له أكبر مشروع ثقافي للتغيير الاجتماعي في القرن العشرين، الذي لم يتوافق أبرز فرسانه – الدكتور فؤاد زكريا تحديدا – مع حركة التاريخ في المجتمع العربي، ومع هذا، أصر في شجاعة علي الإمساك براية العقلانية والتنوير، والإبقاء عليها مرفوعة عاليا، رغم عواصف المتعصبين وسطوة المتعملقين.

ففي بداية القرن العشرين، كانت العلمانية مشروعا متكاملا، يقف في مواجهة مشروع إسلامي آخر، كان موجودا بصورة أكثر تواضعا، وأقل عنفا وعدوانية. وتركت العلمانية أثرها في أجيال عدة (لطفي السيد، سلامة موسى، وطه حسين، لويس عوض، زكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا وغيرهم)، وهو أثر ضمني، بل إن جزءا كبيرا من الثقافة العامة لمصر طوال الثلاثة أرباع الأولى من القرن العشرين كانت تصطبغ بالصبغة العلمانية، ولا يكاد يوجد مفكر مهم في تلك الفترة إلا وكان له نصيب منها، ولم تكن هناك حاجة للمجاهرة بالعلمانية على اعتبار أنها موجودة ضمنا، لأن المواجهة الحادة بينها وبين التيارات الإسلامية لم تكن قائمة حتى أوائل السبعينات.

البحث عن مخرج

أما الصيغ الفكرية التي كانت مطروحة آنذاك، فقد تمثلت (عمليا) في صيغتين أساسيتين – وهاتان الصيغتان كانتا موجودتين أصلا منذ نهاية القرن التاسع عشر. الصيغة الأولى عرفت بالتوفيقية، أما الصيغة الثانية فهي الابنة الشرعية للأولى، وهي صيغة ”إما.. أو”.

غير أن هذه التوفيقية، لم تكن – في التحليل الأخير – توفيقا متوازنا أو متكافئا بين طرفين، وإنما كانت في حقيقتها، انحيازا وتغليبا وترجيحا لطرف على حساب الطرف الآخر، كما يقول الأنصاري في كتابه العمدة السالف الذكر، وإخفاء هذا الانحياز والترجيح خلف قناع توفيقي ظاهري، ناهيك عن التوتر الخفي الذي ظل كامنا داخل الصيغة التوفيقية، حتى حانت الفرصة، وبرز في العلن ذلك الانشطار الحاد بين عنصري المعادلة.

بيد أن التكوين الفلسفي لفؤاد زكريا ومزاجه النقدي، فضلا عن حسه التاريخي، كان يأبى الصيغتين معا، ومن ثم كان لابد من البحث عن مخرج: لا هو توفيقي، ولا هو (إما.. أو). وهنا تحديدا سنعثر على أهم ”لحظة” من اللحظات المضيئة النادرة في منتصف القرن العشرين، لحظة لم ندرك بعد ”أبعادها” ودلالاتها، لأننا ببساطة لم ندرسها بما فيه الكفاية، كما أن الأحداث اللاحقة طمست معالمها!

فقد كانت هناك صيغة أخرى طرحت على المستوى السياسي والاجتماعي، هي صيغة ”التحرر والاستقلال”، سعى فؤاد زكريا إلى تأصيلها على مستوى الفكر والثقافة، التي ظلت على مختلف المستويات الأخرى مجرد ”شعار”.. وكأنه عليى موعد مع ”نيتشه” الذي لم تبق من أقواله في أذن فؤاد زكريا سوى عبارة ”كن نفسك”.

وتلك كانت مفارقة، تسترعي الانتباه والتأمل، بين ”الفكر والواقع” في هذا المنعطف التاريخي، إذ إن ما آمن به فؤاد زكريا وسعى إلى تأصيله بالفعل كان يتناقض عمليا مع مجريات الأمور في الواقع المصري الذي ”أبى” بدوره أن يتنازل عن الصيغة التوفيقية، بل وعاد بها إلى مكونتها الأولى وهي صيغة (إما.. أو).

ملامسة الجدار المكهرب

كيف هو وضع الدرس الفلسفي في الجامعات العربية؟

– سؤالك محرج، لأنه يلامس الجدار المكهرب لتخلف العالم العربي في قمته، يا صديقي: الفلسفة والأصالة صنوان، وأنت في مجال الفلسفة لا تملك إلا أن تكون نفسك، وليس مجرد مسخ شائه. المشكلة في العالم العربي أننا نعاني من ”التشرقية”، والمصطلح لألبرت حوراني وليس لي، وهي بكلمة واحدة (انعدام الأصالة). والفرد التشرقي هو الذي يعيش في الوقت نفسه، في عالمين أو أكثر من دون أن ينتمي إلى أي منهما. وهو الذي يتمكن من تلبس الأشكال الخارجية المشيرة إلى تملك جنسية معينة أو دين أو ثقافة، من دون أن يملكها بالفعل.

”وهو الفرد الذي لم تعدله قيمه الخاصة ولم يعد قادرا على الخلق بل على المحاكاة فحسب. وحتى المحاكاة لا يقوم بها بشكل دقيق، لأنها هي أيضا تقتضي نوعا من الأصالة. إنه إنسان لا ينتمي إلى أي مجتمع ولا يملك أي شيء خاص به”. ولتوضيح هذه الفكرة سأستعين بالدراسة الرائدة لصديقي الدكتور محمد جابر الأنصاري المعنونة بـ ”الفكر العربي وصراع الأضداد”: فما حدث منذ بواكير النهضة العربية وحتى السبعينات من القرن العشرين كان ”تلفيقا” وليس ”توفيقا”، مما أدى في النهاية إلى حالة الانشطار الحاد التي نعيشها اليوم، بين التيارات الإسلامية وأنصار المشروع العلماني (الليبرالي).

وحتى أعلام النهضة والتنوير والحداثة، من أصحاب المشروع العلماني، لم يكونوا أصلاء تماما، وحسب هشام شرابي في كتابة ”البنية البطركية، بحث في المجتمع العربي المعاصر”، فإن ”الخاصية الرئيسية للوعي ”المحدث” هي نزعته إلى تحويل النماذج إلى أصنام. وهذا اتجاه نلاحظه في المجتمع العربي من خلال الطريقة التي يتم بها تلقف العلم واللباس والإنتاج الفني وحتى النظريات السياسية كنماذج مرشدة. ويتصف هذا الوعي المنمذج بنزعتين مترابطتين ومتعاضدتين هما المحاكاة والامتثال. هكذا تثبت الأفكار والأعمال والقيم والمؤسسات أو تنقض، لا اعتمادا على نهج نقدي مستقل، (وهو جوهر الفلسفة)، بل اعتمادا على نموذج خارجي باستمرار”.

لذلك لا أستغرب تحول معظم أساتذة الفلسفة في المدارس والجامعات العربية اليوم إلى مجرد ”دعاة”، بينما تعاني القلة القليلة منهم، وتناضل من أجل البقاء، في جو خانق يكفر الفلسفة والفلاسفة، وفي أفضل الأحوال يستهزأ بهم. كما أنني لم أفاجأ بتجفيف منابع التعليم من الفلسفة في مختلف البلاد العربية.

والتفكير في حد ذاته مقلق، وإعمال العقل غير مرغوب فيه، والنقد مرفوض من الساسة ورجال الدين على السواء. والفلسفة هي كل ذلك، لأنها ضد الزيف والتفاهة والقبح والادعاء، ادعاء الحقيقة المطلقة، كما أنها ضد القهر والظلم بكل صوره. فقد دفع سقراط حياته ثمنا لقول الحقيقة ودفاعا عن حرية الرأي، ورفض ديكارت قبول الأشياء كما هي، ودافع كانط عن الكرامة الإنسانية بإعلاء قيمة العقل والنقد.. والقائمة تطول، ولكنها تخلو بالقطع من أي فيلسوف عربي، منذ ابن رشد.

شرق ومغرب

كيف تقارن الدرس الفلسفي في الجامعات المصرية اليوم بالدرس الفلسفي في الجامعات المغربية؟

– لا وجه للمقارنة، هناك حركة فلسفية نشطة في المغرب العربي، واطلاع واسع على ما يحدث في الغرب، والانتقال من مرحلة النقل والترجمة إلى التأصيل والإبداع. والسبب في رأيي يعود إلى فهم الوظيفة الجديدة للفلسفة منذ السبعينات من القرن الماضي، بينما لاتزال الفلسفة بخطابها العمومي والشمولي يطن عندنا.

ما النشاط العام الذي يمكنك أن تمارسه أنت اليوم في الميدان العام بصفتك مختصا في الفلسفة؟

– إلى جانب تدريس الفلسفة في كلية الآداب جامعة عين شمس، في أقسام: الفلسفة والاجتماع والنفس والتاريخ والإعلام، فأدير وحدة لدراسات الحضارات المعاصرة بالجامعة، كما أنني عضو بالمجالس القومية المتخصصة (شعبة العلوم الاجتماعية) وهي تتبع رئيس الدولة مباشرة. وكاتب صحافي، لي مقال أسبوعي بموقع إيلاف الإلكتروني وجريدة روز اليوسف المصرية. ومستشار ثقافي وعلمي لعدد من مراكز الأبحاث والدراسات في مصر والإمارات العربية.

أشارك أيضا في الكثير من اللقاءات الفكرية والمؤتمرات العلمية والندوات الثقافية، والفضائيات، بما في ذلك الالتحام اليومي مع قضايا الراهن وهموم الواقع، وعلى سبيل المثال: قضايا المواطنة، والدولة المدنية، والديمقراطية، والمرأة، استشراف مستقبل النظام العالمي، والتعليم والتنمية المستدامة.. إلى آخر هذه الموضوعات التي أصبحت غذاء يوميا على مائدة المثقفين العرب.

التنوير لم يلامس سوى القشرة

كيف تراجع وأنت المختص بتاريخ الفلسفة، فكر رجالات عصر النهضة العربية، اليوم؟

– يعرف كانط التنوير بأنه: ”هجرة الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول وحده عن وجوده فيها. والقصور (عدم الرشد) هو حالة العجز عن استخدام العقل، والإنسان القاصر مسؤول عن قصوره لأن العلة في ذلك ليست في غياب ”العقل”، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، من دون قيادة الآخرين.. لتكن تلك الشجاعة على استخدام عقلك بنفسك، ذلك هو شعار التنوير”.

المغزى الأساس للتنوير إذا، هو القدرة على التفكير بشكل ذاتي مستقل. وكأن جوهر التنوير في كل زمان ومكان، هو تأهيل العقل لبلوغ (حالة الرشد) من دون وصاية اللاهوت ورجال الدين، والثورة على البنى الأبوية البطركية، بتعبير هشام شرابي.

وهذا يفسر جزئيا لماذا فشلت حركة التنوير في العالم العربي (في القرن الماضي) وحتى اليوم، لأنها ببساطة لم تحقق الهدف الأساس لبلوغ العقل العربي الرشد وهو: رفع الوصاية عن هذا العقل، وعن التفكير المستقل والإبداع الحر.

وعلينا أن نعترف بشجاعة أن حركة النهضة العربية لم تؤثر سوى في القشرة الخارجية للعقل العربي، بفضل احتكاك روادها الأوائل بالغرب، ووجود الاستعمار الغربي في المنطقة في الوقت نفسه، كما يقول نادر قريط، فما أن غادر الاستعمار عقب الحرب العالمية الثانية، وارتفع شعار – وشعور زائف – ”بالتحرر والاستقلال” على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حتى عادت (ريما لعادتها القديمة) واستعادت قوة الموروث سيطرتها على العقل من جديد، فيما نشهده اليوم من مختلف أشكال الوصاية على العقل باسم الدين تارة والإيديولوجيا تارة أخرى، والقانون الممتزج بالدين (الشريعة) تارة ثالثة.

شجاعة كانط

في العدد الجديد (90) من مجلة ”فكر وفن” الألمانية، مقاربة مهمة حول مفهوم القانون في العالم الإسلامي والغرب، وهو مفهوم مختلف عليه حتى الآن: فالقانون في العالم الإسلامي هو ”الشريعة”، ولا يوجد استعداد للقبول بالمفهوم العصري له، كما هو متبع في الدولة المدنية العلمانية الدستورية الحديثة، وهذا الانقسام في الرأي حول مفهوم واحد (للقانون وتطبيقاته)، يتجلى أساسا في القضاء، كما جاء في افتتاحية المجلة.

بيد أن العقل الذي بلغ (الرشد والنضج)، وأصبح عقلا مستقلا ومسؤولا، يراجع نفسه بنفسه ويقيم أخطاءه باستمرار، من خلال القوانين العقلية والدساتير المدنية، وهذا المعنى يغيب، أو يغيب عادة، عند معظم المثقفين العرب في تناولهم لفكرة التنوير، وهو: شجاعة ”كانط” وجرأته في إخضاع العقل أيضا للنقد – وليس ”تقديس” العقل وعبادته كما يفعل البعض عندنا – لدرجة أنه عنون كتابه بـ ”نقد العقل الخالص” العام ,1787 وهذه الشجاعة تحديدا هي إحدى سمات التنوير وعلاماته على مر العصور.

من هنا تحمل كلمة ”نقد” شحنة فلسفية دائما، والنقد بالمعنى الفلسفي لا يعنى فضح العيوب ولا إبراز التهافت وإنما إثبات حدود الصلاحية. والعقل الناقد (الناضج) المستقل، يمارس النقد على ذاته أولا، قبل أن يمارسه على الآخرين، أو بالأحرى، يمارس عملية مزدوجة ومتوازنة، فيما أسماه صديقنا الراحل عبدالكبير الخطيبي بـ ”النقد المزدوج”.

الحقيقة المزورة

هل تاريخ الفلسفة هو شيء آخر غير الفلسفة؟

– هيجل هو أول من رأى الوحدة بين الفلسفة وتاريخها، فالفلسفة وتاريخ الفلسفة كل منهما مرآة للآخر. ودراسة هذا التاريخ هي دراسة الفلسفة ذاتها، ذلك أن تاريخ الفلسفة لا يهتم بوقائع وأحداث خارجية، إنما هو لحظات حلول الفكر المطلق في التاريخ.

تاريخ الفلسفة ليس مجرد عرض لآراء مضت وانقضت، لأنه ببساطة لا توجد آراء في الفلسفة.. الفلسفة هي العلم الموضوعي بالحقيقة، إنها معرفة ضرورية، فهي معرفة وليست رأيا أو سردا لآراء. وحسب هيجل: ”ليس الإنسان هو الذي يصنع الفلسفة، بل إن الفلسفة من خلال الإنسان تصنع ذاتها”.

وقد زرع نيتشه الشك في عبارة (أنا أفكر) لديكارت، كما لاحظ ميلان كونديرا، حين أكد على أن: ”الفكرة تأتي عندما تريد هي لا عندما أريد أنا؛ لذلك فإنها حقيقة مزورة تلك التي تدعي أن الفاعل ”أنا” ضروري للفعل ”أفكر”. من هنا يمكننا أن نفهم عبارة ”جوته”: ”أن الفلسفة (والشعر) في الزمان وفوق الزمان”.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=160872

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=161268

مدونة الباحث د.علي الديري