الديري في جديده «طوق الخطاب»

 

مَنْ يفتح نص الحب يفتح كلّ النصوص

الوسط: عادل الجمري

العدد 1854   الخميس 4 اكتوبر 2007 الموافق  22 رمضان 1428 هــ


http://www.alwasatnews.com/newspager_pages/ViewDetails.aspx?news_id=80326&news_type=FDT&writer_code=

صدر للكاتب البحرين علي الديري إصدار جديد بعنوان «طوق الخطاب – دراسة في ظاهرية ابن حزم»، ويأتي الإصدار ضمن برنامج النشر المشترك بين مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة والمؤسسة العربية للدراسات والنشر.

123

وفي تقديم الديري لإصداره الجديد، يقول: «فيما نحن نتداول ترجمة قريبة من عنوان هذا الكتاب، سألتني الصديقة المترجمة العراقية خالدة حامد: هل الطوق هنا بمعنى القيد أم القدرة؟

حرّك فيّ السؤال معنى يتعلق بشيء يشبه التناقض في شخصية ابن حزم، وجدت في السؤال فرصة لتقديم جواب يريح حدّة هذا التناقض، أو يجعل منها أقرب للمفارقة؛ أي أنْ تكون حدّة ما كان يعتمل في داخلي حول شخصية ابن حزم، حدّة مفارقة لا حدّة تناقض. وربما يكون في اختياري لكلمة طوق هنا ما يشي بهذه المفارقة التي تستدعي كتاب ابن حزم الأشهر (طوق الحمامة).

فهناك الطوق علامة جمالية، ولديها القدرة على التعبير عن جمال الإنسان حين يُطوِّق بقيد الحب، وفيها يبدو ابن حزم فاتحاً أبواب الحب على أوسع طاقاته الإنسانية. أمّا (طوق الخطاب) فيبدو هنا مجموعة من القوانين المقيّدة لطاقات معنى النص وقدرته على إعطاء معنى متعدد.

كيف يكون إذاً صاحب طوق الحمامة هو نفسه صاحب طوق الخطاب؟ مَنْ يفتح نص الحب يفتح كلّ النصوص، فكيف فتح طوق الحمامة نص الحب؟ وكيف قيّد طوق الخطاب نص الفقه؟

الجواب يحتاج منّا أنْ نفهم الطوق على جهة أنه قيد وقدرة، وحدّ وطاقة، وضيق وسعة، والمعطيات المعجمية، تعزز من معاني هذه الجهة، «الطَّوْقُ ما استدار بالشيء… ودِدْت أَنِّي طُوِّقْتُ ذلك أي ليته جُعِل داخلاً في طاقَتي وقدرتي، والطَّوْقُ: الطَّاقةُ. وقد طاقَه طَوْقاً وأَطاقَه إِطاقةً وأَطاقَ عليه، والاسم الطَّاقةُ… وهو في طَوْقي أَي في وَسْعي»

الطوق بقدر ما يُحكم المعنى المتعدد، فإنه يُظهر معنى واحداً، فهو طوق معنى ما. وهذا المعنى يظهر بقدر طاقة قارئ ما، وكل قارئ يذهب إلى النص بطوقه أو طاقته، وكانت الفلسفة تعني عند أخوان الصفاء «التشبه بالإله بقدر الطاقة»، وفلسفتهم كانت طوق طاقتهم التي يظهرون من خلالها معاني الله في نفوسهم.

لقد كان غرض هذا البحث دراسة ظاهرية ابن حزم بما هي طوق، أي بما هي مجموعة قوانين تُطوّق الخطاب بقوتها لإظهار معنى ما، وكما الإطار يُظهر معنى الصورة ويحدّه ويُحكمه، كذلك طوق الخطاب، يحدّ الخطاب بإحكام كي لا يتسرب إليه معنى من الخارج لا يعطيه الخطاب أو لا يظهره الخطاب. وقد كان العنوان الأولي لهذه الدراسة مترجِّحاً بين العناوين التالية: قوانين تفسير الخطاب، أو أصول تفسير الخطاب، أو قوانين بيان الخطاب، أو قوانين الظهور أو قوانين الإجمال والتفصيل والخصوص والعموم والاستثناء والتعارض والنسخ والنقل ودليل الخطاب والاقتضاء.

بهذه الأصول أو القوانين كان ابن حزم يُطوّق الخطاب أو معنى الخطاب بإحكام، وهذا المعنى حاضر في عنوان كتابه (الإحكام في أصول الأحكام). بهذه الأصول التي تُطوِّق الخطاب بإحكام قوتها، يشبه الخطاب المُطَوَّق الحمامة المُطَوَّقةُ وهي التي في عنقها طَوْقٌ. تلك الطوق يكسبها جمالاً وذلك الطوق يُكسبه معنى.

ما استدار بالخطاب (الطوق) من قوانين وأصول، تحول دون تسرب المعنى الخارجي الذي لا يعطيه النص، يحدد وسع النص وطاقته على القول والعطاء، ويحدد نطاقه ونطقه، وظاهرية ابن حزم تنص على أن «النص لا يعطيك إلا ما فيه».

ومفهوم النطق عند ابن حزم يدل على التصرف في العلوم والصناعة وفق قواعد منطقية ولغوية. وطاقة (طوق) الخطاب على العطاء والقول وما يتسع له من معنى، يتحدد بطوق الخطاب، والطوق صناعة أو علم (تصرف) يصنعه القارئ لإظهار معنى النص أو عطاء النص. وبهذا المعنى فأصول الفقه التي يعد كتاب ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام) من أمهاتها، هو علم قراءة الخطاب، وهو كي يتمكن من قراءته، فإنه يُطوِّقه بقدر مقاسه، فيكون معنى النص بقدر طاقته وقدرته. بهذا يكون ابن حزم قد قدّم لنا بقدر طاقته طوقاً ينجينا من الفوضى الدلالية ومن استغلاق المعنى، طوقاً يسعفنا لقراءة النص قراءة صحيحة وفق منهجيته الظاهرية. بهذا يكون ابن حزم قارئاً فذاً بقدرته على تطويق علامات الحب، وبطاقته على تطويق معنى الخطاب، وإنْ كان في الطوق الأول أكثر بسطاً في تأويلها، وفي الثاني أكثر قبضاً لمعناها».

مشروطية النائيني3

تحرير الأصول

يبدو أن مجاز تحرير (الأَمَة السوداء) الذي استخدمه النائيني، للإشارة إلى حقيقة المشروطة، بما هي محاولة لتحرير السلطة من آثار اغتصاب المستبدين، يتجاوز الإشارة الهامشية، فهو يكاد يكون يشكل جوهر نص كتاب النائيني (تنبيه الأمة وتنزيه الملة).

thumb_sh_naeene_s_asfhani_shWWW_i إن مفهوم التحرير يتضمن في ذاته معنى التنبيه والتنزيه، ففي لسان العرب “وتحرير الكتابة: إِقامة حروفها وإِصلاح السَّقَطِ. وتَحْرِيرُ الحساب:إِثباته مستوياً لا غَلَثَ فيه ولا سَقَطَ ولا مَحْوَ. وتَحْرِيرُ الرقبة:عتقها”. ويقال “إن من أجود التحريرات الفقهية لهذه القضية…”. وحين تعدد مآثر فقيه يقال وله (تحريرات في الأصول) و(تحريرات في الفقه). ويقال له (حواشي وتعليقات وتقريرات وفوائد وتحريرات على…).

في التحرير تقرير لمعنى، وشرح لمفهوم، ودفع لسوء فهم، وتوضيح لغموض، وتنبيه لفائدة وتنزيه لجهة، وبيان لدليل، وتدقيق لمحل نزاع ومصب خلاف.

كان حدث المشروطة، قد استدعى تحريراً من نوع خاص، تحريراً يتجاوز أن يكون حاشية على نص أو هامش لمتن مقدس، كان الحدث بحاجة إلى نص يؤسس لمعنى جديداً محرراً من النصوص السابقة.

إن جدة النص تخرجه أحياناً من حقل اختصاصه الذي كتب فيه، وكأن هذا الإخراج احتجاج لتحرر النص من أعراف الحقل وقوانينه التي تحول بينه وبين أن يكون نصاً حراً جديداً، وهذا ما يُفسر وصف النائيني بأنه مفكر المشروطية ووصف أستاذه الآخوند الخرساني بأنه فقيهها” كان الآخوند ملا كاظم الخرساني فقيها للمشروطة أو الدستورية بينما كان الشيخ محمد حسين النائيني مفكرها”[1]

على الرغم من أن الاستدلالات الأصولية التي قام بها النائيني، لم تخرج على طوق خطاب علم الأصول الحوزوي، إلا أنها خرجت على أفقه. كان النائيني يستدل بعلم أصول الحوزة، لكن قبلياته القرائية ومقدماته الحجاجية كانت من خارج نص الحوزة وشابّة على طوقها، وهذا ما يبرر ربما وصفه بمفكر المشروطية وليس بفقيهها.

وربما تكون فرادة نصه تتجاوز عمل الفقيه الذي تتحقق فقاهته بقدر عبادته للنص وعلى الضد من ذلك المفكر الذي تتحقق فرادته بقدر اختراقه للنص، وهذا ما جعل من النائيني على ما تقول الدراسات الخاصة بالتأريخ لحياته، يتبرأ من نصه ويعمل على جمع النسخ المتبقية منه من أجل حرقه، ويدفع لمن يأتي بنسخة منه مبلغاً من المال، وذلك بعد أن صار مرجعاً فقهياً لا يليق به إلا عبادة النص حرفياً وجعله طوق نجاة لحفظ مكانته الفقهية التي كان ينازعه عليها فقيه آخر.

والشواهد الدالة على هذه الفرادة، هي أن هذا النص صار علامة على النائيني وعلى المشروطة وعلى عصر الحداثة السياسية وبداية الإصلاح السياسي في إيران، بل صار هذا النص يؤرخ لمرحلة تحول الفقه الشيعي من فقه الفرد إلى فقه الدولة، وشاهداً على انخراط الفقيه في مقاومة الاستبداد بمعانية السياسية والدينية.وليس هناك علامة على التفرد أكثر من أن يتجاوز النص مؤلفه ومقاصده وإرادته، وهذا ما حدث مع نص النائيني، وتلك مسألة سنعالجها في مقالة أخرى.

إن فرادة نص النائيني، تكتسب أهميتها من هذا التحرير، عمل النائيني عمل تحريري بامتياز، بكل هذه المعاني التي يتضمنها مفهوم التحرير، لقد قام من حيث يقصد أو لا يقصد بتحرير مفهوم السلطة من مفهوم الإمامة، وتحرير مفهوم الدولة من ولاية الفقيه المطلقة، وتحرير مفهوم العصمة من الجدل العقائدي إلى رفع الاستبداد، وتحرير مفهوم الفقه من الفرد إلى المجتمع، وتحرير آليات الأصول من النصوص إلى الحياة. وتحرير مسؤولية تحرير الإنسان من طور الغيبة إلى طور الظهور.

بهذا يمكن أن نقرأ تنبيهه للأمة بما هو تحرير لها من هذه المفاهيم، وتنزيهه للملة بما هو تنزيه لهذه المفاهيم من القيود غير المحررة، من أن تكون خاتمة على فهم الأمة، ويمارس باسمها الاستبداد، أي أن تحرير هذه المفاهيم ليس خروجاً من الملة بل تحريرا للأمة من الجمود على قيد معاني هذه المفاهيم المعطلة تحت حجة الغيبة.

tanbih2 يحرر النائيني مقدمته بقوله “وبما أن هذه الرسالة وضعت لتنبيه الأمة إلى ضروريات الشريعة وتنزيه الملة عن هذه الزندقة والإلحاد والبدعة، لهذا جعلت اسمها (تنبيه الأمة وتنزيه الملة)، وصنفت مقاصدها على مقدمة وخمسة فصول وخاتمة”[2].

لقد حرّر النائيني مفاهيم الزندقة والإلحاد والبدعة من حقل ملاحقة الأفراد ذوي الأفكار المغايرة، لتكون ضمن حقل الذين يستغلون الدين لتبرير قمع السلطات السياسية للإنسان وإعطاء مشروعية مباشرة أو غير مباشرة لاستبداد هذه السلطات باسم الدين، لقد جعل هذه المفاهيم تنال من الذين يرون أن الدين لا يدافع عن حرية الإنسان، ولا علاقة له بوضع حد لاستبداد السلطات السياسية.

سنعود في المقالة القادمة إلى تحرير النائيني لمفهوم العصمة من حقل الصراعات العقائدية وتبرير الاستبدادات الظاهرة باسم العصمة الغائبة، إلى حقل رفع الاستبداد.

الهوامش

[1] انظر: المشروطية والمستبدة، رشيد خيون، معهد الدراسات الاستراتيجية، ص173.

[2] تنبيه الأمة وتنزيه المللة،المحقق النائيني، تعريب عبدالحسين آل نجف، ص96.

مشروطية النائيني2

تحرير الفقيه من الخارج

كما أن معنى النص لا يأتي منه، كذلك معنى التحديث أو الإصلاح أو التجديد لا يأتي من الفقيه بل من خارجه، من خارج نصوصه الدينية وأدواته الأصولية وحوزته العلمية، ولنا في آية الله المحقق النائيني من خلال كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) نموذجاً على صحة هذه الفرضية.

حدث الدستورية أو المشروطية في إيران في العقد الأول من القرن العشرين، حدث خارجي، وسياقاته خارجية، لكن لم تكن أمريكا في ذلك الوقت قد حملت راية التبشير بالديمقراطية بعد، ولم تعلن نفسها نبياً جاء يحرر الشعوب من ظلم الاستعباد.

tanbih2 أقول ذلك كي لا يفهم من مفهوم (الحدث الخارجي) ما نفهمه في الجدال السياسي حول مشروعية التعويل على الخارج في الإصلاح. فالخارج هنا، هو ما يقع خارج النص، ما يقع في أفق فهم الفقيه من دون أن يكون موجوداً وجوداً مباشرا أو ظاهرا في النص، وهذا ما تلخصه جملة أهم مفكري علم الكلام الجديد، وهو محمد مجتهد شبستري”الفقيه لا يستنبط الأحكام مستعينا بعلم الأصول فقط، وإنما تتدخل أيديولوجيا الفقيه ورؤيته لقضايا الإنسان والمجتمع والحق والعدالة والسياسة والاقتصاد والصناعة والعلوم والحضارة والقيم والأخلاق، في صياغة آرائه واستنباطاته الفقهية وعملية الاجتهاد والإفتاء تتحرك بتوجيه لازم من كل هذه المقدمات، وتسير في طريق معين لتتمخض عن نتائج خاصة”[1].

هذا يعني “أن النص لا يعطيك ما فيه”[2] كما تقول ظاهرية علم أصول ابن حزم، بل النص يعطيك ما فيك، وما في سلطة جماعتك التأويلية، وما في عصرك، النص يعطيك ما في خارجك، ما يقع في ذهنك وبطنك وقلبك وجسدك ومشاعرك، وهي تتفاعل مع عصرها.

ما يقع في أفق فهم الفقيه هو الحدث الخارجي، أي الحدث الذي يأتي من خارج النص ليوجه النص ويفتحه على فهم مغاير، التحديث الذي قام به النائيني والذي يتمثل في (تحرير يد الأمة السوداء) يرجع إلى هذا الحدث الخارجي.

في الأسبوع الماضي حين كنت مدعواً من قبل الأخوة في مجلس عائلة أبو المكارم في منطقة القطيف، لتقديم محاضرتي التي منعت من تقديمها في حسينية بن خميس العريقة في ذاكرتنا الوطنية، والتي كانت حول مفهومي للحداثة الدينية، أثارت كلمة (الحدث الخارجي) حساسة في فهم بعض الأخوة الذين أفقهم مشبع بيقين أن الفقيه يتوفر على نصوص تملك الحقيقة الكاملة، وهو قادر على أن يشخص الواقع ويتفاعل معه ويطبق عليه هذه الحقيقة بما يناسب الواقع.

وذلك بما يملك من علوم جمة وسنوات تحصيل طويلة، الفقيه في يقينهم ليس بحاجة إلى ما هو خارجه وخارج نصه وخارج علومه، هو يتفاعل مع الواقع لكن الواقع لا يتفاعل معه. هو يهب الواقع معناه، لكن الواقع لا يهبه معناه، هو يُشخّص الواقع لكن الواقع لا يُشخّصه، هو يعرب الواقع لكن الواقع لا يعربه.هكذا يكون الفقيه فوق الواقع، وهو من فوقيته ينزل عليه معناه وفتواه.

الحدث الخارجي بالنسبة للنائيني، يتمثل في اتصال أفقه بأفق حركات الإصلاح والتحرر، وهو بهذا الأفق راح يقرأ نصوصه الدينية ويعمل أدواته الأصولية، ويوجه حجاجه الفقهي مع خصومه الفقهاء الذين لم يتصل أفقهم بحدث حركة الإصلاح الفكري والسياسي التي شغلت النخب السياسية والثقافية والدينية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

يحدثنا المختصون بسيرة النائيني من الذين بذلوا مجهوداً مضنياً في تحقيق رسالته وترجمتها للعربية عن اتصاله المبكر بجمال الديني الأفغاني حامل راية الإصلاح والتحرر ومقاومة الاستبداد “كانت تربطه علاقة بجمال الدين الأفغاني منذ كان طالباً في أصفهان في العشرينيات من عمره، وقد سعى لاحقا في سامراء لترتيب لقاء له مع السيد المجدد الشيرازي الذي كان أستاذ النائيني بعد اندلاع ثورة التنباك 1891م”. [3] “ويدل أسلوبه في رسالة تنبيه الأمة على تأثره البالغ بالسيد جمال الدين الأفغاني”[4]. “إن تأثير جمال الدين يندرج في المقدمات الاجتماعية التي لولاها لما كان للمجتمع الإيراني أن ينهض في هذا الوقت، لكن هذا الدور الهام لم يسجل من جانب المجتمع الديني”[5].ص37

كما أنه كان على اتصال بالأفق الذي كان يصدر عنه الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” الذي سبق كتاب (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) بعقد كامل.وهذا ما دفع محقق رسالة النائيني ليعقد مقارنة بينه وبين الكواكبي.

إن ما أسماه توفيق السيف بـ(المقدمات الاجتماعية) سنجده يعبر عن حضوره النافذ في عنوان مقدمة كتاب النائيني، لقد جعل عنوان المقدمة هكذا “في شرح حقيقة الاستبداد ودستورية الدولة وتحقيق معاني القانون الأساسي ومجلس الشورى الوطني وبيان مفهوم الحرية والمساواة”

لقد استحال الحدث الخارجي أو (المقدمات الاجتماعية) في أفق النائيني مقدمة حجاجية أو منطقية أو أصولية، وصار يسوقها في سياق التدليل على صحة خطاب المشروطية.هذه المقدمة تقول: “إن تحديد السلطة وتقييدها لئلا تؤول إلى الاستبداد والقهر هو من أظهر ضروريات الدين الإسلامي”[6]

كيف صار تحديد السلطة وتقييدها من الاستبداد ضرورة دينية؟ هل الفقهاء المناوئون للنائيني في عصره لم يقرأوا هذه الضرورة في النصوص الدينية؟ هل الشيخ فضل الله النوري صاحب حركة المشروعة المناوئة لحركة المشروطة كان ضالاً هذه الضرورة؟ وهل تكريم الإمام الخميني له واعتبار إعدامه استشهاداً واختيار الذكرى السنوية لهذا الاستشهاد لافتتاح مجلس الشورى الأول في العهد الجمهوري، وإطلاق اسمه على طريق رئيسي في العاصمة، يعد تكريماً لإنكاره هذه الضرورة؟

هل الفقهاء السابقون على النائيني من المحقق علي الكركي (ت 940 هـ) والمولى أحمد النراقي (ت 1245 هـ) والشيخ مرتضى الأنصاري (ت1281هـ) لم تسعفهم استدلالاتهم الأصولية لاستخراج هذه الضرورة من النصوص الدينية؟ هل كانت تحريراتهم وتقريراتهم وتحقيقاتهم قد أغفلت هذه الضرورة؟

لم تكن نصوص فقهاء المشروطة ولا نصوص فقهاء المشروعة مختلفة، لكن ما وقع في أفق فقهاء هذه النصوص كان مختلفاً. وهذا يعني أن النص يعطيك ما يقع فيك لا ما هو واقع فيه.

في المقالة القادمة، سنقرأ كيف قرأ النائيني نص العصمة بما وقع فيه وصار مقدمة في استنباطه واجتهاده.سنقرأ كيف أدرج العصمة في سياق رفع الاستبداد؟ لنصل إلى تقرير إن تحرير الأمة السوداء أو تحرير يدها يأتي من الخارج.

الهوامش

[1]علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، تحرير عبدالجبار الرفاعي، ص346

[2]انظر الفصل الثالث من كتاب( طوق الخطاب: دراسة في ظاهرية ابن حزم) علي الديري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،2007.

[3]،[4]،[6] تنبيه الأمة وتنزيه المللة،المحقق النائيني، تعريب عبدالحسين آل نجف، ص33،ص20،ص129.

[5] ضد الاستبداد: قراءة في رسالة “تنبيه الأمة وتنزيه المللة”، توفيق السيف،ص37.

مشروطية النائيني1

تحرير الأمة السوداء

tanbih2

يروي آية الله المحقق النائيني في كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) أنه رأى قبل عدة ليال في الرؤيا، المرحوم آية الله ميرزا حسن خليل الطهراني أحد المراجع البارزين الذين أيدوا الحركة الدستورية وكان قد توفي 1908م.

فسأله ” ماذا قال الإمام الحجة فيما يختص بمواقفكم إزاء المسألة الدستورية؟ فكان ملخص قول الإمام الحجة (عج) هو أن الدستورية اسم جديد لموضوع قديم، ثم أورد مثالاُ بهذا الخصوص لا تسعفني ذاكرتي باستحضاره، ثم قال المرحوم الميرزا الطهراني لقد قال الإمام (عليه السلام): إن مثل الدستورية مثل تلك الأمة السوداء التي تلوثت يدها فأجبروها على غسلها” [1]

ويفسرّ النائيني مجاز الإمام الحجة على النحو التالي: “ولا شك أن المثال الذي أورده الإمام (عج) مطابق للواقع تمامًا، فهو سهل وممتنع في آن واحد، ولم يكن ليخطر ببال أحد، وهناك قرائن عديدة يمكن القطع من خلالها بصحة هذه الرؤيا وصدقها، منها سواد الجارية حيث تدل دلالة واضحة على مغصوبية أصل التصدي، وأما تلوث اليد ففيه إشارة إلى الغصب المضاعف، وحيث كانت الدستورية مزيلة له، لذا شبهها الإمام المنتظر (عج) بأنها عملية غسل وتنظيف ليد المتصدي الغاصب من القذارة التي عرضت عليها”[2]

يورد توفيق السيف في هامش ترجمته لرسالة النائيني التعليق التالي “هذا ما يؤخذ على المصنف نور الله ضريحه، فلم يكن مناسباً للمقام الاستدلال بالأحلام أو التعويل على ما لم يثبت بالدليل القاطع والبرهان الساطع، لا سيما في مثل هذا الموضع من مواضع الاختلاف، كيف وهو من هو في قوة الحجة وعمق الفكرة وصفاء الرؤية”[3]ص287

لا شك أن هامش تعليق توفيق سيف له وجاهته، لكن لاستدلال النائيني وجاهته أيضاً ودلالته، فرؤية الإمام المهدي في الأحلام مألوفة في الثقافة الشيعية ولها وظائفها الإقناعية ومفاعيلها الاطمئنانية، ومهما كانت الحجج الأصولية التي برع النائيني في صياغتها لصالح الانتصار لفكرة المشروطية (الدستورية) لا يمكنها أن تؤدي في الجمهور المنقسم في ذلك الوقت، ما تؤديه هذه الرؤية ومجازها.

من جانب آخر يبدو أن هامش توفيق السيف وهو في مقام الاحتفاء باللغة الأصولية، لم يلتفت إلى الرؤية التي تحملها هذه الرؤيا (الحلم) فلبّ الحلم كان يكمن في المجاز الذي استخدمه الإمام الحجة (إن مثل الدستورية مثل تلك الأمة السوداء التي تلوثت يدها فأجبروها على غسلها)، فهذا المجاز يستطيع أن يرينا بوضوح وبساطة وكثافة ما لا تستطيع أن ترينا إياه حجج النائيني الأصولية والعقلية.

ويكاد يكون استخدام المجاز على نجو أثير من أجل الرؤية، وليس من أجل الزخرف اللفظي، سمة من سمات الثقافة الإيرانية، والنائيني كتب كتابه باللغة الفارسية وطبعه ونشره وأحرقه في النجف، إن استخدام المجاز في الثقافة الإيرانية تجده يتجلى في الخطابات السياسية وخطابات الوعاظ والمفكرين وعلماء الدين والفلاسفة والمثقفين، تجده في خطابات علي شريعتي وعبدالكريم سروش ومرتضى مطهري وعبدالحسين دستغيب ومحمد صادق الحسيني. لا يكاد يخلو خطاب في هذه الثقافة من مجاز رؤية، وربما تكون السجادة الإيرانية بجمالها وتركيبها المعقد من أكثر المصادر قدرة على توليد المجازات.

الأمر الآخر الذي فات هامش توفيق السيف، هو أن موضع الاختلاف الذي كان أحد ثماره هذا الكتاب، متصل أشد الاتصال بالإمام المهدي، فالذين عارضوا انتصار النائيني لفكرة الحكومة الدستورية (المشروطة) كانت حجتهم الإمام المهدي، فلا يجوز للفقيه أن يُشرّع لأي سلطة أو أن يقيمها أو أن يمارسها أو يتعاطى معها في غيبة الإمام المهدي، وكل سلطة في هذه الغيبة تعتبر في نظرهم اغتصاباً لذلك فهي غير شرعية. الشرعي هو أن تمارس انتظارك.

ومادامت حجة الخصم تستند إلى الإمام المهدي فلا بد للخصم المقابل من أن يستنطق الإمام المهدي، ليمنحه الشرعية أو ما يدل عليها أو ما يعزز من حجته الأصولية.وقراءة خطاب النائيني في ضوء ما يرينا إياه هذا المجاز، ستكشف لنا أن النائيني قد استند إلى هذه الرؤية/المجاز، في صياغة حججه العقلية الأصولية في كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) فهو تنبيه للأمة لهذه الرؤية التي يحملها مفهوم المشروطية والمعبر عنه في مجاز النائيني بغسل يد الأمة السوداء، وتنزيه للملة من تهمة الغصبية، أي من أن تكون الملة التي قالت بالحكومة المشروطية أو الدستورية قد اغتصبت حق الإمام الغائب.

كل سلطة لا يقيمها الإمام الغائب أَمَة سوداء حتى لو كان القائم عليها فقيها أو مجلس فقهاء، فليس للفقيه أن يتولى أمر السلطة أو الدولة دون الإمام، وهو إن فعل ذلك يكون قد اغتصب حق الإمام، وعليه فكل السلطات الحاكمة مغتصبة وغير شرعية، لكن ذلك لا يعني محاربتها، لكن يعني عدم التعاطي معها أو إعطائها الشرعية، وهذا ما يؤكده الشريف المرتضى في كتابه (الشافي في الإمامة) يقول “ليس علينا إقامة الأمراء إذا كان الإمام مغلوباً كما لا يجب علينا إقامة الإمام في الأصل…ليس إقامة الإمام واختياره من فروضنا فيلزمنا إقامته. ولا نحن المخاطبون بإقامة الحدود فيلزمنا الذم بتضييعها لأنه إن ادعى ذلك كان مدعيا نفس المسألة”[4]

ظل مفهوم إقامة الإمامة يعني إقامة السلطة والدولة، وهذا ما شغل المرجعية وحدد مسار عملها. إن تحديث هذا المفهوم سيغير وظيفة المرجعية وسيغير مفهومها للدولة والسلطة، وقد كان جهد النائيني استثنائياً في هذا المجال، لقد حرر يدّ الأمة السوداء وأعطى لهذا التحرير مشروعية تعادل تقريبا مشروعية تحرير العبيد التي أعطاه العصر الحديث لحقوق الإنسان.فما الذي فعله النائيني؟ وكيف حرر يد السلطة السياسية(الأمة) من لوثة الغصبية؟ وهل يمكن أن نحرر جسد الأمة السوداء تحريرا كاملاً؟ وما تأثير هذا التحرير على مفهومنا للدولة والإمامة؟ هذا ما سأحاول الإجابة عليه في الحلقات القادمة..

الهوامش

[1]، [2] تنبيه الأمة وتنزيه المللة،المحقق النائيني، تعريب عبدالحسين آل نجف، ص136

في ترجمة توفيق السيف: “المشروطة مثل أمة سوداء مملوكة يدها قذرة، فتطهر بغسل يدها”

[3] ضد الاستبداد: قراءة في رسالة “تنبيه الأمة وتنزيه المللة” لشيخ الإسلام الميرزا محمد حسين الغروي النائيني، توفيق السيف.ص287.

[4] الشافي في الإمامة، الشريف المرتضى، ص112،114. وانظر توفيق السيف،ص28.

السعيدي والمزعل وصفر سقراط

في تصريح للنائب السعيدي بشأن تصاعد وتيرة أحداث لجنة التحقيق البرلمانية ووزارة الصحة وتصريحات الوزيرة الأخيرة، قال الاتهامات الموجهة من قبل الوزيرة إلى رئيس اللجنة تحديداً النائب محمد المزعل اتهامات صحيحة، على رغم أن المزعل جاء بانتخاب وبإدارة أعضاء اللجنة. إلا أننا لا نلومه كثيراً لحداثة سنه في الحياة السياسية التي تريد الكثير من الخبرات في طريقة التعامل والإدارة، وهذا الأمر كذلك لا يمكن أن يعد إنقاصاً من مكانة الرجل، بل جميعنا كنا هكذا، وتعلمنا من خلال احتكاكنا في العمل السياسي“[1].

لا تهمني الشحنة السياسية في تصريح السعيدي، ولا ظلال معناها، ولا عما تعبر عنه من موقف سياسي مراوغ لصالح أي طرف من الأطراف، سواء أكان المزعل بحياته السياسية المحدثة حسب توصيف السعيدي، أو كانت الوزيرة بأناقتها المفرطة ووزارتها المفرطة. ما يهمني في تصريح السعيدي، هو إشارته إلى موضوعة نقص untitledالخبرات وطريقة التعامل والإدارة وحداثة سن الحياة السياسية، وإذا ما كانت تعد نقصاً في مكانة رجل السياسية.

لا أتوقع أن السعيدي، كان يريد من تصريحه هذا أن يقدم درساً بريئاً أو مجانياً بأهمية الالتفات إلى حاجة حياة النائب السياسية إلى خبرات وإدارة وسنوات، فالسياسي ليس معنياً بتدريس خصومه، ولا بالاعتذار عنهم، ولا بتنبيههم إلى الطريقة الصحيحة في فعل الأشياء. بل هو معني باستثمار أخطائهم والتشنيع بها والانتقاص من كفاءة أدائهم. ويمكننا أن نقرأ تصريح السعيدي في هذا السياق، لكني لست أيضاً معنياً بهذه القراءة، فأنا معني باستثمار (موعظة) السعيدي غير البريئة، لإعادة طرح سؤال سقراط الأثير: هل يمكن تعلم الفضيلة؟

الفضيلة هنا، ليست هي الورع والتقوى ومكارم الأخلاق التي لا شك يتمتع بها أعضاء الكتلة الإيمانية بكفاءة عالية، تُمكِّنهم من أن يَذَكِّروا السعيدي بها ويعلموه إياه. إنما الفضيلة التي شغلت سقراط في محاوراته، هي ما أشار إليه السعيدي في تصريحه، أي الخبرات وطريقة إدارة الحياة السياسية بكفاءة. لو طرحنا سؤال الفضيلة بهذا المعنى ليس على أعضاء الكتلة الإيمانية فقط، وليس على أعضاء كتلة الأصالة فقط، وليس على أعضاء كتلة المستقلين فقط، وليس على أعضاء كتلة المنبر الإسلامي فقط، وليس على أعضاء البرلمان فقط، بل على أعضاء المجتمع السياسي البحريني، ماذا ستكون الإجابة؟

لن أجد أفضل من الاستعانة بسقراط في محاورته لمينون، كان يقول “فرجال الحكم إنّما يبرعون في تدبير مدنهم باتّكالهم على الظنّ الصّادق. أمّا حالهم في العلم فكحال الأنبياء والكهنة؛ إذ هؤلاء كثيرا ما يقولون الحقّ ولكن بغير علم بحقيقة الأشياء الّتي يتكلّمون فيها”[2]

يشمل مصطلح رجال الحكم في محاورات سقراط، رجالات الدولة والسياسيين، وهو يسميهم تسمية أقرب إلى السخرية والانتقاص بالإلاهيّين، فهو يقول: “وأنت قد لا تنازع بأنّ هؤلاء الرّجال الّذين يوفّقون أيّما توفيق في أفعالهم وأقوالهم بغير علم، إنّما أليق الأسماء بهم أن نسمّيهم “الإلاهيّون”[3].

وباعتقاد أٌقرب إلى اليقين يؤكد سقراط صحة تسميته بقوله: “فلسنا نجانب الصّواب إذن، إن وسمنا هؤلاء النّاس الّذين وصفناهم آنفا، والأنبياء والكهنة وكلّ من كان ذا باع في تدبير السّياسة بالإلاهيين. بل لا سيّما رجال السّياسة من هم أحقّ بأن يوصفوا بالإلهيّين والملهمين، وذلك لأنّه لولا اللّطف الّذي ينزل إليهم من عند الله، لما فعلوا ما فعلوا من أشياء عظيمة وهم صفر من كلّ علم بالأشياء الّتي يتكلّمون فيها”[4]

نحن بين جواب السعيدي الذي يُعوّل على عمر الحياة السياسية للسياسي، وبين سقراط الذي يُعول على لطف الله الذي لولاه لا يمكن أن يكون السياسي أكثر من صفر. يبدو جواب السعيدي أكثر إقناعاً من جواب سقراط، وتلك مفارقة تجعل من السعيدي متقدماً على سقراط، ليس في الزمن بل في الكفاءة، وربما السبب يرجع إلى أن لطف الله بالسعيدي كان أكثر من لطفه بسقراط والمزعل.

وربما تكون مقترحات السعيدي النيابية، تعبر أصدق تعبير عن لطف الله الذي أنزله في قلب السعيدي، فصار نصيراً للمرأة كما يصف نفسه، وصار كفاءة سياسية بحجم بيت خبرة، وهذه عينة من مقترحاته التي تلطف الله بها عليه ” حصر ممارسة الشعائر الدينية في دور العبادة، اعتماد تدريس المذهب المالكي كمذهب رسمي في المدارس الحكومية، إطلاق اللحى ولبس النقاب، باصات مكيفة لطلاب الثانوية، إمداد المؤسسات والبيوت بشبكات الغاز الطبيعي، رفع العيدية إلى ألف دينار، حارسات أمن للطالبات”

مرة أخرى أكرر أني مقتنع بجواب السعيدي، لكني أجد نفسي أكثر ميلاً إلى سقراط حين يتعلق الأمر بالسعيدي نفسه، واقتناعي بقدرة (صفر) سقراط التفسيرية أشد حين يتعلق الأمر بمقترحات السعيدي، رحم الله سقراط إذ يقول “وهم صفر من كلّ علم بالأشياء الّتي يتكلّمون فيها”

الهوامش

[1] صحيفة الوسط. العدد 1834. الجمعة 14 سبتمبر

[2]، [3]، [4] محاورة مينون، تعريب لطفي خيرالله.

مدونة الباحث د.علي الديري