ليلة الرابع من المحرم..مجلـــــس مــآتـــم الحــــاج طـــرار

  باسمة القصاب، فضاء عباس: 

 

في هدوء محبب تجلس الحاجة سلامة قيمة مآتم الحاج طرار إلى ركن مأتمها الصغير. يتغشاها السواد فلا يخطئ من بياضها شيء. لا يشذ منها غير جزء عصي على الاحتواء. إنها يدها البيضاء. تبرز من شق عباءتها كحمامة لم يمسسها لون. يتوسط أصابعها فص في هيئة خاتم فيروزي. فيروزته ركن يدها، كما هي ركن مأتمها. يمكنك حين تجلس في أي مكان في المأتم، أن تلمح بريق معاضدها الذهبية. لا تفارق المعاضد معصم يدها حتى في الحزن. ينزع الأسود عن جدار مأتمها بياضه في شهري الحزن، لكنه لا ينزع معاضدها الذهبية، ولا يحلحل خاتمها الفيروزي. إنهما علامتها لا علامة حزنها. مأتمها بيتها. ومن يصير مأتمها بيتاً لها، يصير عالمها مأتمها. تسكن فيه وحدها على رغم كبر سنها. لا تقبل أن تتحول عنه إلى أي مكان آخر، حتى لو كان هذا الآخر، بيت ابنتها القريب. لا يخلو بيتها -مأتمها- من رواده -روادها-. كاريزمتها المحبوبة جعلتها جهة قلب تقصدها النسوة والفتيات على حد سواء.

كبر سنها لا يتيح لها الحركة والتنقل بسهولة. لكنها تدير مأتمها من مكان جلوسها. من ذلك الركن تمارس سيادتها كما تمارس عنايتها. لا يفوتها أن ترحب بالمستمِعات بحفاوتها البالغة، لا يفوتها أن تحيطهن بعباراتها الذهبية كما تحيط معصمها بمعاضدها الذهبية. لا تغيب عن نظرها من تحضر، لا تغيب عن وعيها من تتخلف. لا تغفل من لا تصلها بعد انتهاء القراءة والضيافة. فالوصل في نظرها تقدير، وإهمال الوصل تقتير وقطع. إنها ليلة الرابع من محرم، تبكر خادمات الحسين بالحضور إلى المأتم. يقمن بتوظيب المكان وتهيئته للقراءة. في المطبخ، يجلس قِدْرٌ كبير من الحليب فوق النار، يمتزج بياض الحليب بخيوط الزعفران وماء الورد. يتمكن اللون من اللون والرائحة من الرائحة. ليس مثل الحراة تذكي الكيمياء بالكيمياء. تنتج كيمياء جديدة. حليب وزعفران، أو حليب زعفران؛ سمه ما شئت. يعبق به المكان. يمتلئ المأتم برائحة الزعفران قبل أن يمتلئ بسواد النسوة. تبدأ النسوة بالتوافد. رائحة الزعفران تهيئ لدفء يكسر برد الشتاء. تغيرت بعض ملامح المأتم النسائي في السنوات الأخيرة. أُدخلت المحاضرة الدينية تقليداً جديداً. يريد التقليد الجديد أن يستقطب الفتيات اللاتي لا يجدن في النواح والبكاء كفاية لعقولهن. يريد أن يقارب بين مأتم الرجال الذي يقدم عزاءه في قالب خطابي، وبين مأتم النساء الذي يقدم عزاءه في قالب لطمي. التقليد النسائي الجديد يتمثل أداء الخطيب. يقلّده. يتشبه الأداء النسائي (المُحاضِرة) بالأداء الرجالي (الخطيب)، فيشتبه الصوت النسائي (دون قصد) بالصوت الرجالي. اللحن والترنيمة والرتم والقوة والجهور. لكن يبقى ثمة خيط زعفراني يفرق بين الصوت والصوت، بين لغة الخطاب ولغة الخطاب. على غرار المآتم النسائية الأخرى، يشهد هذا المأتم محاولة تحديث أو إصلاح. يتبنى المحاولة عدد من شباب القرية في نهاية الثمانينات. يحاول هؤلاء تهيئة المأتم لدخول المحاضرة الدينية. لكن قارئات المأتم يجابهنهن بالرفض القاطع. يبقى المأتم في قالبه التقليدي طيلة السنوات السابقة. في السنوات الأخيرة القليلة تتقلص التحفظات. تتسرب المحاضرة إلى داخل المأتم أحياناً. لكنها أحيان قليلة. جهة الحديث مأتم القرية لا يشبه مأتم المدينة. والنسوة في مأتم القرية لا يشبهن النسوة في مأتم المدينة. في تلك الليلة لم يزد عدد الحاضرات عن الأربعين. لا يزال محرم في لياليه الأولى. ليس بين الحاضرات من لم تتجاوز العقد الثالث من عمرها أو قريباً من ذلك. أغلبهن كبيرات في السن. تعلو وجوههن البساطة والعفوية والتلقائية. تجلس بعضهن (ممن لا يستطعن الجلوس على الأرض) فوق كراسي. الكرسي تقليد جديد في المأتم أيضاً. لكنه تقليد له أسبابه الصحية لا الإصلاحية. للمأتم حرمته الخاصة. تلبس النسوة في المأتم عباءة الرأس، لا الكتف، إمعانا في الاحترام. في المدينة الأمر ليس كذلك، لمأتم النساء في القرية حظوة تفوق حظوة مأتم النساء في المدينة. تبدأ إحدى القارئات بقراءة الحديث [1]. تواصل النسوة أحاديثهن الجانبية. تسير أحاديثهن جهة حاضرهن. وحديث كربلاء يسير بهن جهة التاريخ. كأنهما يسيران في خطين متوازيين، لا يتقاطعان، ولا يلتقيان. لا تنقطع أحاديث النسوة الجانبية حتى تنقطع قراءة الحديث، ويبدأ القصيد. تبدأ القارئة بقراءة القصيد. هنا يخفت صوت النسوة. يغيب حديث جهتهن حتى يتلاشى. تغطي النسوة وجوههن. ويبدأ صوت النحيب. تتفاعل الحاضرات. تعلو أصواتهن. يشاركن القارئة ترديد الأبيات التي يحفظنها. يصير المأتم كله صوتاً واحداً ونحيباً كثيراً. تتوقف القراءة الحسينية. يأتي دور المحاضَرة الدينية (لعلها الليلة الأولى للمحاضرة في هذا المأتم). تحمل المحاضِرة معها دفتراً مدوناً فيه عدد من المحاضرات. تحمله معها في أي مأتم تذهب إليه. تتوسط المحاضرة المجلس. تبدأ النسوة بكشف وجوههن. تداخل إحدى النسوة: ليش ما جبتون لينا عيش الحسين؟ حديث الساعة تبدأ المحاضِرة بآية من سورة طه. تشرح مفرداتها. تنتقل بترتيب مقصود إلى استشهادات حسينية. تقدم حواراً يدور على لسان بعض شهداء الواقعة. لعل النسوة تستسيغ المحاضرة الذي قطعت خلوة بكائهن. تسترسل المحاضِرة في الكلام. لا العزاء. تبدأ بعض النسوة في التثاؤب والتململ. تقف بدفترها وسط المستمعات. تتحدث المحاضرة عن محاسبة الذات. تكشف إحدى النسوة عن وجهها وتقول: لا تجيبين عن القبر ولا الموت. تتناول المحاضرة بعض أحداث الساعة. تنتقد إحدى الكاتبات الصحفيات. تسميها ”بحرانية بعثية”. تأتي اللعنات من بعض النساء، تشاركهن الباقيات اللاتي لا يعرفن معنى ”بعثية”. تأتي المحاضرة على سيرة صدام حسين. تشير إلى تاريخه ونهايته. تقارن بينه وبين محمد باقر الصدر الذي أعدمه صدام. تقول المحاضرة ”عندما نبش قبر الإمام الصدر بعد 20 سنة، تفاجأ الجميع بما رأوا. كأنه مات الساعة”. تقاطعها إحدى الحاضرات ”أبي رحمة الله عليه، عندما فتحوا قبره بعد سنوات أيضا، وجدوه على حاله”. تجيبها المحاضرة ”عليه بالعافية”. تبسط المحاضرة الكلام. ومن العراق تنتقل إلى لبنان. ومن صدام حسين إلى حسن نصر الله. فينتقل الكلام من الذم إلى الإطراء. يسترسل الكلام ولا ينقطع. الشاهد يجر الشاهد. تعلن إحدى المستمعات امتعاضها: إذا كل ليلة محاضرة ما بجي. تدخل إحدى المستمعات متأخرة : ”كل شي تقولينه نعرفه، أنا تأخرت لين تنتهي المحاضرة”. تبتسم المحاضِرة، لكنها لا تستسلم، تنتقد لبس البالطو (الجلباب الأسود) المزركش، تستاء من ملابس حفلات الزواج غير المحتشمة. تدعو المستمعات إلى التوقف بعد عشرة محرم، ومحاسبة أنفسهن ليكون حب الحسين قولاً وفعلاً، لا قولاً فقط. تختم محاضرتها بأبيات حسينية وتنتهي. يشكرها النسوة، يرتفع صوت إحداهن من آخر المأتم: ما تقرين عاد جت آخر الليل (تعني الملاية). إنها الملاية الآن. ها هي تمسك دفترها وتقف في صدر المأتم. تغطي شيئاً من وجهها وتظهر ما يمكنها من القراءة والنعي. ها هي الوجوه تتبدل حالاتها. ينتفض الملل الذي كان جاثماً على بعضها، وتدب فيها شهوة النواح. تعتدل الأجساد وتتهيأ للدخول في مساحات البكاء. البكاء غسل للروح وترقيق للقلب. البكاء توجه خالص لنصرة الحسين. البكاء اشتراك في فجعة الفاجعة. البكاء مواساة لصبر زينب. البكاء اعتذار يتجاوز التاريخ. هكذا تفهم النسوة البكاء. وهكذا تقدم النسوة نفسها بين يدي العزاء. حديث الواقعة تبدأ الملاية. يغطي النسوة وجهها مرة أخرى. تطلق الملاية ونّتها الأولى. يضج المكان بالونين والآهات. تقرأ روايتها بإيقاع يفجع السواد. فتزيد السواد لوعة وأسى. يسكب النسوة أصواتهن في دموعهن. يطأطئ النسوة رؤوسهن فيرتفع نواحهن. تتمايل جذوعهن يمنة ويسرة. تهتز أجسادهن من فرط البكاء، وتنفرط أصواتهن من صوت الواقعة. كلما اشتد خطب بأحد أبطال كربلاء أو سار بخطواته نحو الموت صفقت النسوة مولولات. تصفق الملاية على ظهر كتابها وتعلي وناتها وآهاتها. لا تتمالك النسوة أنفسهن، يناجين السيدة زينب في نحيب كسير: ”غريبة يا بعد عمري”، ”الله يساعدش يا زينب”، ”جوش الشباب يا زينب”، ”ما قصرت يا عيوني”. تناجي النسوة الإمام الحسين بصوت باكٍ متهدج ” يا حبيبي يا غريب”. تمد ونتها ”واحسيييييين واحسييييين”. تلطم صدرها ”على الشهيد، على الغريب، على الوحيد، على العطشان،..”. يختلط صوت المستمعات مع صوت القارئة في تداخل يستدر الدمعة ويزيد من حدة الفجيعة. في المراد (اللطمية)، يضرب النسوة بيدهن على صدرهن أو رجلهن أو رأسهن. لا يهدأ صوت النحيب حتى تختم الملاية. ”إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”. فيأتي وقت الدعاء. حديث الحليب ها هن النسوة يجففن دموعهن. يستعدن شيئاً من هدوئهن. يسكنّ إلى الدعاء. كأنهن ينزعن عنهن ثوب الواقعة. تدور خادمات المأتم بحليب الزعفران الدافئ. ترتشفه النسوة بروية، فتعود إلى وجوههن التي أرهقها البكاء، شيء من لون الحياة. تفرش السفرة على الأرض. يتوسطها عيش الحسين وخيرات المأتم. تتقابل النسوة. ينفتح الحديث على الحديث مرة أخرى. يصير الحديث جهة الحاضر لا التاريخ مرة أخرى. تبدأ حميمية الكلام والطعام. تعود للوجوه الابتسامات والضحكات. قبل أن تغادر النسوة، يتجهن ناحية ركن المأتم. حيث صاحبة المأتم. يسلمن عليها، يشكرنها، يستمتعن بحلو عباراتها، ثم ينصرفن. من ذلك الركن، بإصبعها ذي الخاتم الفيروزي، تشير صاحبة المأتم، تلتفت لمن لم تتناول حليب الزعفران هنا، ومن لم تأكل هناك. تتأكد أن الجميع قد تمت ضيافتهن، وأن الأمور تسير بشكل مرض. تحيط بنظراتها الجميع، ويسبق سلامها سؤالها عن من لم تحضر من المستمعات والصديقات.

[1] الحديث هو بمثابة التهيئة للدخول إلى القراءة. يقرأ الحديث أولاً، ثم يأتي بعده القصيد، ثم الرواية، ثم المراد. 

مأتم بنت الحايي.. مأتم حجي طرار

بوتريه لجدتي سلامة سلوم بريشة الفنانة مايا نصر الله

قلت لجدتي سلامة أريد أن أكتب تاريخ مأتمك.ما اسم مأتمك؟ ضحكت، كعادتها، لا تبدأ حديثا من غير أن تريك عبر ضحكتها سنها الذهبي الذي يحمل ملمحاً من ملامح تباهيها المعروف بحُليها وذوقها الجديد دوما في اللبس والعطر، كنت في مجلسها العامر بالنسوة دوما من أجيال مختلفة.ستأتي حكاية المأتم إذن منسوجة من سرودات النساء اللاتي يرتدن هذا المجلس، فنساء هذا المجلس هنَّ أنفسهن نساء المأتم. لمجلسها رواد الضحى ورواد الأصيل (العصر)، أعمارهن مختلفة وأمزجتهن مختلفة وحالاتهن الأسرية مختلفة، لكل مهن مكانان، مكانها في المجلس، ومكانها في قلب سلامة، قلبها الذي يسع حكاياتهن وأرواحهن المؤتلفة مع روحها الحيوية دوماً. متابعة قراءة مأتم بنت الحايي.. مأتم حجي طرار

دولة الناس

«لقد اخترع الناس الدولة لكي لا يطيعوا الناس’’[1]
الدولة يخترعها الناس، وليس واحداً من الناس، أو واحداً خارج الناس. الإنسان الواحد لا يخترع دولة، مهما كان يملك في الناس ومن الناس. والله لا يخترع دولاً ولا يرسل أحداً يبشر الناس بدولة على نموذجه.
يمكن أن ننسب قبيلة إلى فرد ويمكن أن ننسب جنة إلى ربّ، لكننا لا يمكن أن ننسب دولة إلى شخص. فالدولة تُنسب إلى الناس، وإذا حدث ونسبنا دولة إلى شخص، فإننا في الحقيقة لا ننسب الدولة بل ننسب ما هو دون الدولة، كأن تكون قوة مثلا أو سلطة أو ملكا أو حكما أو قبيلة أو عائلة أو إقطاعية.
الدولة ينجزها الناس، والدولة غير المنجزة (دون الدولة) هي الدولة التي لا يخترعها الناس. وفي (دون الدولة)، يطيع الناس الناس، أما في الدولة فالناس لا يطيعون الناس، الفرق يكمن إذن في الطاعة، ‘’الدولة هي شكل للسلطة تجعل الطاعة أكثر نبلاً’’[2]. هناك طاعة النبلاء، وفيها يمتثل الناس ليس للناس، بل لقانون أو دستور هو فوق الناس لكنه من الناس، وهناك طاعة الأخساء، وفيها يمتثل الناس للناس الذين هم أقوى منهم بحكم العرق أو الطائفة أو المال.
في الدولة ليست هناك طبقة نبلاء، فالناس كلهم نبلاء بحكم طاعتهم لما هو نابع منهم، أما فيما هو دون الدولة فهناك طبقة نبلاء تجد في إخضاع الناس إلى طاعتها أي في إخسائهم (وليس اخصائهم وإن كان هذا يقتضي هذا) تحقيقاً لنبلها. وتتحقق هذه العملية التي هي في حقيقتها إخساء للدولة بأن تجعل الناس تذهب إلى مجالسها كي تظهر فروض الطاعة والإذلال بدل أن تذهب إلى مجلس الدولة الذي هو بيت الطاعة، وما يصدر عنه مطاع من قبل جميع الناس.
مادام الناس لا يجدون بيتاً واحداً للطاعة، فسيضلون الدولة، ويهتدون إلى بيوت دون الدولة ودون الإنسان ودون الكرامة ودون القانون ودون ما هو فوقهم. إنها بيوت الطوائف والمتنفذين والنبلاء الذين يُعرّفون لا بطاعة الدولة ولا بطاعة الناس بل بإخساء الناس.
الدولة إما أن تكون دولة الناس أولا تكون. ليست هناك دولة نبي ولا رب ولا وصي ولا قبيلة ولا حزب.
[1]، [2] الدولة، جورج بوردو، ترجمة سليم حداد، ص.11

الإنصات إلى الملاية

 

كتاب الملاية

في تحقيق حول ( مأتم النساء) طرحت مجلة الأنصار [1] السؤال التالي (لماذا هذا الهجوم الشرس حول آلية العمل في مأتم النساء؟ وهل هو قادر في صورته الحالية على إخراج جيل واع فاهم؟ كانت الإجابات: واقعاً أنا لا أذهب إلى المآتم النسائية، عندما أذهب إليها لا أحصل على فائدة تذكر… إن المأتم النسائي متخلف عن الركب الحضاري والثقافي والاجتماعي). متابعة قراءة الإنصات إلى الملاية

الغذامي بالنسبة لي أنا

الدرس الأهم ـ بالنسبة لي أنا ـ في تجربة الغذامي الثقافية، ولن أقول النقدية فقط ولا الأكاديمية فقط، هو درس ما يمكن أن أسميه “الخروج من الضَّيق إلى الواسع”، وهو درس بدأت أتلقاه في النصف الثاني من التسعينيات، حين كان الغذامي ينشر في جريدة الحياة سلسلة مقالاته عن المرأة واللغة، كنت مأخوذاً حينها بالطريقة التي يؤول بها حكايات الثقافة، وهو ضرب من التأويل الجديد الذي يتجاوز الدرس الذي ألفته في طريقة تحليل الروايات والنصوص الأدبية،

إنه الدرس الأول في الخروج بمعنى النص من أفق المعنى الجمالي ومقتضياته الشكلية إلى أفق المعنى الثقافي ومقتضياته الإشكالية. كنت حينها أتوفر على عدة نقدية مكونة من مفاهيم: البنية والنسق والخطاب والنص والراوي العليم وزمن الحكي وزمن الوقائع والانزياح والتخييل والشعرية ودرجة الصفر في الكتابة ووو إلخ. وهي عدة محكومة من جانب آخر بأفق مدرسي شديد الضيق. بقدر ما عززت هذه المفاهيم النقدية من قدرتي على قراءة النصوص الأدبية بمختلف أشكالها، فإنها عززت من جانب آخر ما هو أخطر من هذه القدرة، إنها عززت من أفق الضيق، الضيق الذي يجعلك ترى في النص الأدبي نهاية جمالية تستوجب التقديس وتتمنع على إمكانية أن يعتريها شيء من التدنيس، إنها متمايزة عن كل غرض دنيوي ثقافي. وهو الضيق الذي يجعلك ترى حدود عملك لا تتجاوز هذه النصوص، وهو الضيق نفسه الذي يجعلك تتعالى على كل ما يعتمل في ثقافتك ولا يجسد نفسه في شكل أدبي تقرّه هذه المفاهيم. وهو الضيق أيضاً الذي يحصرك في دائرة الغناء، إما أن تغني لهذه النصوص التي يكتبها الأدباء الفحول أو تبخس من حق النصوص التي يكتبها أنصاف هؤلاء الأدباء. الضيق الأكثر خطورة على تكوين الناقد ـ بالنسبة لي أنا ـ كان يتمثل في الهالة العلمية التي أسبغها النقد الأدبي على هذه المفاهيم، حتى صارت وكأنها أيقونات غير قابلة للتصرف من أجل استثمارها في حقول أخرى، أو من أجل زحزحتها لتوسيع أفق عملها في الحقل الأدبي نفسه. من هنا تأتي أهمية الغذامي – بالنسبة لي أنا- أنا المكون من هذه المفاهيم ومن أفقها في النظر إلى اللغة والكتابة والنص والأدب والعالم. مع الغذامي سأخرج على ضيقها وجبروتها وأوهامها المعرفية. مع الغذامي ستكون لغة النقد أكثر طواعية وأكثر قرباً وسلاسة، إن اللغة التي كتب بها الغذامي لا تقل أهمية عن المفاهيم التي أدخلها في حقل النقد.سنغادر اللغة المقعرة التركيب وسنكون أمام لغة تحسن التداول والتواصل والدخول على معاني الأشياء التي لا تجد تمثيلاً لها في نماذج الثقافة العليا. مع الغذامي سأخرج – بالنسبة لي أنا- من الضَّيق (بفتح الضاد) من اللغة ومن العمل ومن الاختصاص ومن المفاهيم، وذلك حتى قبل صدور كتاب النقد الثقافي. فالروح التي كان يعمل بها الغذامي، حتى بعيداً عن التنظير، هي الأكثر نفاذاً وقدرة على التحويل، أقصد التحويل من الضيق إلى الواسع. سيتيح لنا الغذامي بإدخاله الثقافة بمعناها الإنثروبولوجي الواسع إلى حقل النقد ـ سيتيح لنا أن نخرج من الضيق إلى الواسع، ستتوسع مساحة العمل، وستتصرف المفاهيم وفق ما تتطلبه نصوص الثقافة بمختلف أشكالها، وستخفف اللغة من غلواء تقعرها، وستتسامح مع كائنات الثقافة بمختلف تمثيلاتها. لن تكون النصوص الأدبية الرفيعة المستوى وحدها الدالة، ولن تحتكر وحدها الدلالة، ولن تنفرد دون غيرها بالدليل، سيكون كل فعل وحدث وشخصية وتاريخ ولعبة ومكان وزمان ونص وحكاية ولون ولباس وجسد، دالاً على شق من الثقافة.

قبل صدور كتاب النقد الثقافي كتبت مقالة احتفائية في ملحق رؤى بمناسبة زيارة الغذامي إلى البحرين، كان عنوانها “الجبروت الرمزي في خطاب الغذامي” قلت فيها حرفياً “في ضوء هذه التجليات المتعددة( للجبروت الرمزي) يمكننا أن نفهم إشارة الغذامي له بأنه “الشرط الثقافي وسماته النسقية ” فهذه الإشارة توسعه لتجعل منه شرطاً ثقافياً ، يتجاوز نطاق الشرط الأدبي ، فالأدبي يعيش ضمن مملكته ونسقه الرمزي، ولا نغالي إذا ما قلنا إن موضوع النقد الثقافي هو جبروت الرمز الذي يتجلى في أشكال مجازية لا حدَّ لها”

أنا مدين شخصياً للغذامي في فتح أفقي على هذا الجبروت، وهو يحدد بشروطه معاني الأحداث والنصوص والخطابات، ويعطي بمعاييره قيمه الرمزية للأشياء.وبهذا الأفق صار النقد ـ بالنسبة لي أنا ـ محاولة لتفكيك سلطة هذا الجبروت. في كتابي (مجازات بها نرى: كيف نفكر بالمجاز؟) الصادر في صيف 2006م كنت أفهم المجاز على أنه جهاز رؤية، أي بما هو عين رمزية، وهي عين محكومة بجبروت الثقافة الرمزي، أي أن المجاز عين في جسد الثقافة، والعين لا ترى وحدها بل ترى بجسدها كلِّه، وكل مجاز يرينا محمولات ثقافته التي هي جسده. فليس هناك مجاز معلق في الهواء، بل المجازات كلها معلقة في الثقافة. وهنا أنا مدين مرة أخرى للغذامي في جانب من جوانب فهمي للمجاز وعمله. وبهذه المديونية خرجت من ضيق الجملة والنص إلى اتساع الثقافة، صارت الثقافة تحفظ جبروتها الرمزي في أرشيف من المجازات. ولعل براعة الغذامي تكمن في قدرته على تطويع أدواته النقدية في قراءة أرشيف هذه المجازات، وهكذا يمكننا أن نفهم عمله النقدي في قراءة عمود الشعر والأنوثة والفحولة وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر بوصفه عملاً نقدياً على هذا الأرشيف. ولعل جملته التي افتتح بها كتابه المرأة واللغة ” لم تكن المرأة في هذا التكوين سوى مجاز رمزي أو مخيال ذهني يكتبه الرجل وينسجه حسب دواعيه البيانية والحياتية” لا تخص فهمه للمرأة وحدها، بل فهمه لكل كائنات الثقافة، فكلها مجاز تركبه أوامر الثقافة ونواهيها ومستحسناتها ومستقبحاتها وآليات عملها. أنا مدين له في توسيع تعريفاتي للمجاز وتكثيرها، فالمجاز صار بهذه المديونية تمثيلا تقوم به قوة تريد أن تفرض حقيقة ما، والمجاز تشكيل لشبكات الرؤية، والمجاز تشكيل للعالم، والمجاز جعل وتصيير، والمجاز لسان الثقافة الناطق، المجاز اتساع كما الغذامي اتساع. هكذا أفهم معنى شهادتي هنا، إنها شهادة على حضور الغذامي فيَّ، في لغتي ومنطقة عملي وأفقي ورؤيتي ومفاهيمي. حضوره فيَّ بما أنا مجموعة أصوات مديونة إلى جهات متعددة ومتنوعة.

 

مدونة الباحث د.علي الديري