قلت لزوجتي المنامية، فضاء عباس فضل، سيكون بروفايلنا المقبل عن ‘’الدير’’، قالت: اكتب عنها من ذاكرة الغرباء، ذاكرة من مرّوا فيها، ذاكرة الذين جاؤوها يحملون معهم تجارب أماكنهم، كيف تبدو الدير في ذاكرتهم؟ وكيف تعايشوا فيها؟
اقترحت عليها أن تكتب لي هي عن ذاكرتها القصيرة في تلقي هذه القرية منذ جاءتها في 1995 حاملة معها تجربة المنامة المدينة المعتقة بالاختلاف والتعدد والتلون، كتبت عنها بحب يفوق حب الغريب لمكان لم تألفه طفولتها، كتبت:
إنها الدير المقدسة كما أحب أن أسميها، وأذكرها أمام من يسألني عن تجربتي معها، حين تسأل عن المقدسات فأنت تعني الشيء الأكثر احتراماً ومحبة وتقرباً إلى نفسك، وهي كذلك بالنسبة لي. أنا الغريبة، هكذا تسميني غالبية النسوة اللاتي أُعرّف إليهن أول مرة ‘’هذه الغريبة زوجة..’’ تُشعرني هذه التسمية بأني قادمة من كوكب آخر، لم أعد أستغرب هذا التعبير، لقد ألفته، ربما لأني أعشق هذه البقعة أكثر ممن ينتسبن إليها.
في البدء لم أعرفها وبالكاد مررنا قربها حين حلمت بالسفر، ووقفت خلف أسوار المطار أتأمل تلك الطائرات وأستمتع بصوتها الذي ألفته الآن أكثر من صوت أبنائي، باسل وأماسيل.
حين تقدم لخطبتي أحد أبنائها العاشق لمدينتي حدَّ عشقي لقريته شعرت بخوف الغريب، كيف سأسافر لهذه البلدة التي لا أذكر اسمها إلا حين أريد التفرقة بينها وبين (الديه) الأقرب لمدينتي، تمنيت أن يكون قد أخطأ التسمية وحرّف حرفاً. لكنها المقدسة لا غير، لا تحريف في حروفها، في البداية تقبلت الأمر على مضض ورحت أتجول في طرقاتها أتعرف عليها وأستخبر عنها، كأني كنت سأتزوج القرية كلها.
حين سألت الأباعد عنها، منهم من قال إنها الأفقر فشوارعها ضيقة وبالكاد يمكنك أن تمر فيها وبيوتها قديمة جداً، ومنهم من عبّر عن إعجابه باتساع شوارعها وجمال بيوتها.
كانت تلك الغنمات السارحات عند مدخلها الغربي في استقبالي الرسمي الأول، مازال أهلي يتذكرونها جيداً، كدنا نصطدم بهن من فرط عجلة الوصول إلى حفل استقبال أعدته النسوة للغريبة القادمة. اليوم أنا افتقد غنماتي كما بدأت أفتقد اسم الغريبة.
من شدة دفاعي عن مقدستي يناديني أهلي بالديرية ويعيبون علي كثرة إطرائي لها وهيامي بها واغترابي عن مدينتي التي أعشقها.
كنت أرى معنى الدير كله في عمتي المتسعة بروحها دوماً، لقد اتسعت الدير في روحي حتى لم أعد ألحظ الفرق بين القرية والمدينة، اتسعت الدير لتكون مدينتي التي حلمت بها.
حين دخلتها قبل عشر سنوات كانت الفتيات صغيرات حولي، الشباب يخجلون الحديث إليَّ والنسوة تتفحصنني لتعرف ماذا أخبّئ لهن.
هذا ما كتبته زوجتي، وكان هذا وحده كافياً لأكتب بروفايل الدير بعيون الغرباء الذين صاروا ديريات وديريين، في هذا البروفايل، سنشقُّ ذاكرتهم لتحكي عن تجربتهم في هذه القرية التي يحجزها مطار يأخذ الناس إلى العالم، ويفتحها بحر لا يأتي بالناس من العالم.
في 1961جاءت رباب الدير، أحضرَتْ معها المنامة، كان عمرها خمس عشرة سنة، لكنها لم تكن المرة الأولى، فقد زارت الدير قبلها مرتين، برفقة أخيها حسين الذي كان يعاني من كسر في رجله، قصدا بيت الحاجية (بنت مدن) المراخة الشهيرة التي ستنجب (بنت إبراهيم) خليفتها الأكثر شهرة على مستوى البحرين.ليس كمثل يدي بنت مدن قدرة على جبر الكسور، تملك يداها طاقة روحية تجبر خواطر الكسور.
حين أبلغها أخوالها أنك ستكونين ديرية بخبرة منامية، كانت تعرف جيداً أنها ستغادر المدينة إلى قرية بعيدة لا شوارع بعد لها، قرية مازالت بكراً، لم تفتح عيونها بعد ولا شوارعها. المسافة بين الخطبة والزواج شهران، لم يكونا شهري تعارف، فهي لم تره قبل ليلة الزواج، كانا شهري حداد، لوفاة الحاج عبدالله بن عيسى مطر، أحد رجالات القرية الذي تربطه صلة نسب بعائلة زوجها.
كان ينتظرها بيت عائلة من حوش كبير على هامشه غرف صغيرة. بدا الحوش بمثابة سوق صغيرة يبيع فيه عمها الحاج أحمد سلمان السمك واللحم والدجاج. سيوفر لها هذا السوق فرصة للاختلاط بأهل القرية والتعرف عليهم والدخول في عالمهم. عبر هذا السوق ألفت لهجة الدير التي بدت لها سريعة جدا وغير مفهومة، وعبر هذا السوق انخرطت في شؤون العائلة، وصارت واحدة من جنودها المجندة لكسب الرزق.
بدا لها النظام الاقتصادي للعائلة غريباً وغير متقبل، لقد جرت العادة في القرية أن يعمل الجميع ويتسلم ربّ العائلة المال وهو الذي يتولى توزيعه وإدارته وحفظه، حين بدأت تمارس احتجاجها لتكون لها خصوصيتها في تكوين عائلة نووية ضمن البيت الكبير، بدأ عمها بحس السلطة المطلقة، يقرأ في احتجاجها ما هو أبعد من الخصوصية. وجد في هذه المنامية التي تدير أمورها ببراعة شخصية تنازعه سلطته المطلقة، وأنها ستؤسس لنمط جديد في العلاقات الزوجية، فاتهمها بالسيطرة على ابنه، ومحاولة فرض شخصيتها عليه.
لن يخفي العم إعجابه بزوجة ابنه، لكنه لن يتوانى عن مناكفتها وتحجيم دورها المنافس لسلطته في البيت، ستشتعل خلافات صغيرة، لكنها ستبقى ضمن البيت العود.
على الرغم من ذلك، لم يجد العم نموذجاً يعبر به عن المرأة التي يريدها في زواجه الثاني والثالث، غير نموذج رباب، “أريد امرأة مثل رباب”.
في مقابل العم كانت هناك العمة الحاجة أم عبدالله، أعلنت انحيازها التام لشخصية رباب، وقدمتها على ابنتها، كانت حليفاً قوياً لكن من غير سلطة، وجدت رباب في عمتها النقيض الكامل لعمها، حتى كانت تعتبر صديق رباب صديقها وعدو رباب عدوها، بالمقابل كان على رباب أن تعمل بالمنطق نفسه، غير أنها مع زيجات عمها المتكررة اللاتي هنّ ضرات وعداوات بالفطرة مع عمتها قد أوقعها في حرج دائم، فالعمّ لا يمكن أن يقتنع بأي وفد نسائي يرافق زفافه المتكرر إذا لم تكن رباب في مقدمته، حتى إنها اضطرت مرة للهرب إلى بيت أمها في المنامة خوفاً على مشاعر عمتها، غير أنه أرسل لها من يحضرها، ويحضر معها زعلاً لازم عمتها أياماً لمشاركتها زواج إحدى ضرّاتها، أو إحدى مشاريع عداواتها.
خياطة الذوق
أنت لا تأتي المكان وحدك، بل تأتي ومعك مكانك الذي جئت منه، تحمل خبراته ونظامه ومعارفه وتفاصيله، جاءت رباب الدير في مطلع الستينيات، وهي ابنة 15عاماً، لكنه تحمل خبرة 5سنوات خياطة، منذ سن العاشرة وهي تتدرب على يدي أمها وخالتها فنون الخياطة: نقدة، صوف، تطريز. أتقنت هذه الفنون بمهارة بمهارة فائقة، جاءت الدير تحمل معها ماكينة خياطة، كما جاء نابليون مصر 1798م يحمل معه آلة طباعة، تبشر مصر بعهد جديد.
كانت ماكينة الخياطة تحمل معها ثقافة جديدة، لم يكن أهل الدير يعرفونها بعد، أدخلت ماكينة رباب موضة السراولة البيض الواسعة مع الفساتين القصيرة. صارت الخياطة صناعة ذوق وخيار، أصبح بالإمكان أن نختار شكل ملابسنا، نفصلها كما نريد، نشبك خيوطها وفق مقاسات أجسامنا، إنها تجربة متفردة تتيح لنا أن نكتشف فرادة أجسادنا، أصبح لكل امرأة مقاسها الخاص، ولديها خياطتها الخاصة.وصار بإمكانها أن تشتري قطعة القماش التي تعجبها، وتطلب شكله الذي تريد أن يصير عليه. صارت الخياطة ذوقاً لا مجرد ستر.
نصف زيجات أهل الدير كانت تمر بين يدي أم صادق، تخيط فساتينهم وتشكل وجوههم وترتب مسرحهم وتنظم طريقة دخولهم وتجعلهم يكتشفون وجوههم الجديدة في مرايا حفلات الزواج.
العرس الذي ترعاه أم صادق، يكون حديث القربة، والعروس التي تحظى بذوق يديها، تظل تفاخر طوال حياتها بذلك، يقال عنها (ما فوقها فوق).حتى عمها بغطرسته، يذعن لسلطة ذوقها، كانت هي من خاط فستان زواج زيجته الثالثة في منتصف الستينيات. لم تكن رباب صاحبة ذوق فقط ولا صاحبة مهارة فقط، بل كانت صاحبة ثقافة تميز مختلف الأزياء بحسب أعراقها ومناطقها وجهاتها، تعرف المرأة الميناوية من الفارسية من القطيفية من الشنشنية من المحرقية من الرفاعية من زيها، بل يمكنها أن تصف أوجه الاختلاف الدقيقة بين هذه الأزياء النسائية كلها. إنها خبيرة بتاريخ الأزياء وصناعتها.
تربية غير
لم تصنع رباب ذائقة مختلفة فقط، ولا إدارة مختلفة فقط، ولا خياطة مختلفة فقط، ولا أعراساً مختلفة فقط، إنها صنعت أيضاً تربية مختلفة. كان صادق الذي هو الآن من ألمع جراحي البحرين ابنها البكر في 1964، ويسرى ابنتها الكبرى في 1966، ويليهم لؤي وهيفاء وابتهال ونور. إنهم صناعتها بامتياز، كل شخص منهم إضافة إلى فرادته يحمل فرادة رباب أيضاً في شخصه.
في الوقت الذي كان فيه أطفال القرية لا يميزون بين الشارع والبيت، فالشوارع كلها بيوتهم، والأتربة أحذيتهم، كانت رباب تعلم أبناءها الفرق بين آداب البيت وآداب الشارع، ملابس البيت وملابس الشارع، نظافة البيت ونظافة الشارع، قيم البيت وقيم الشارع. كانت هذه المنامية مهووسة بثقافة الفرد واستقلاله، وقد ربت أطفالها وفق هذه الثقافة، كانت معلمات المدرسة ومعلمو المدرسة يميزون ملابس أولادها ويرون فيهم شخصيتها وثقافتها.كانت تلبسهم البدلات المفصلة وتسرح شعورهم وتهندم أشكالهم، كانت تربية غير.كانت النسوة يتهامسن بينهن: (جان زين بناتنا مثل بنات أم صادق).
محو الأمية
كانت مدرسة الزهراء على بعد خطوات من بيتها المنامي، لكن قروناً من التاريخ تحول بينها وبين أن تصل هذه المدرسة، لقد عالجت هذه القرون التي لم تمكنها من الالتحاق بالمدرسة، بالذهاب لمحو الأمية في مدرسة الدير في بداية الثمانينيات، تعلمت الكتابة هنا، وصارت تملك مهارة الكتابة، إضافة إلى ما كانت تمتلكه من مهارة القراءة التي تعلمتها في درس القرآن.وهي مهارة مكنتها من متابعة الصحف منذ صدور الأعداد الأولى من جريدة أخبار الخليج.لقد محت مدرسة الدير أميتها الكتابية، كما ساهمت ماكينتها في محو جوانب حية من أمية الدير.
الديرية
صارت رباب اليوم ديرية، لكن بم صارت ديرية؟ صارت ديرية بما نسجته من علاقة محبة، وبما ألفته من قلوب، وما تركته من أثر، وما تشبعت به من أجواء اجتماعية، أحبها الناس هنا، بما تركته فيهم من روح جديدة.بعض الديريات فهمن نموذجها المختلف تعالياً وتكبراً، لكن ما أن يقدر لهن أن يقتربن منها حتى يكتشفن عالمها الإنساني الذي يستطيع أن يختلف مع الآخر ويستوعب في الوقت نفسه برحابته العالم.
عرفت الدير مناميات سبقن رباب كما عرفت الدير مناميات لحقن رباب، لكن لم يعرفن منامية كرباب.