أماسيل الديري، هي الابنة الثانية للكاتب والباحث البحريني علي أحمد الديري. في سن الثانية عشر، سمعت الطفلة البحرينية بمصطلح إسقاط الجنسية لأول مرة. كان الإسقاط قد طال شخص والدها، قبل أن تضطر إلى ترك بيتها، ووطنها، باتجاه المنفى. ومطلع العام 2017، بدأ الديري بالعمل على مشروع كتاب يشرح فيه لابنته معنى إسقاط الجنسية وأسباب استخدام لمعاقبة المعارضين في البحرين.
كتبت أماسيل الديري: “كلنا غادرنا البيت، جدي أولاً ثم أبي ثانيا ثم نحن ثالثاً. هــذا هـو المعنى الذي أفهمه لإسقاط الجنسية”… لتفتح بمقدمتها الباب أمام إعادة تشكيل المعنى لشرح أشمل قدمه والدها.
“كثير من أطفال 14 فبراير يتساءلون: لماذا أسقطت جنسيات آبائهم؟ لماذا أعدم إخوانهم؟ لماذا يُحكم بالمؤبد على أبناء عمهم؟ لماذا يُعتقل زملاؤهم من مقاعد الدراسة؟ لماذا لا تتوقف مواكب نعوش شهداء أبناء وطنهم؟ في هذا الكتاب محاولة للإجابة عن شيء من هذه الأسئلة التي باتت تلح على وجودهم الشائك في هذا الوطن الصغير”.
إجابةً على هذه الأسئلة كان كتاب “بلا هوية إسقاط الجنسية كما شرحتها لأماسيل”، الصادر عن صحيفة “مرآة البحرين” في آب/أغسطس 2017. ليشكل الكتاب الصغير وثيقة أولى من نوعها من حيث الطرح والأسلوب، حاكى فيها الديري قصص أكثر من 420 بحريني أٌسقطت جنسياتهم بفعل أصالة هويتهم التي ما تنفك تُذكر أن الملك ما كانت سلطته إلا بفعل الغزو.
عام 2011، كتب علي الديري: “أنا شاهد على هذا الدمار الذي يمارسه النظام السياسي على عاصمة بلادي. شاهد على الموت الحقيقي الذي يتذوّقه أبناء قريتي، شاهد على التمييز الكريه الذي تتعرّض له أهم كفاءات وطني. شاهد على الأطفال الذين فجّر مرتزقة النظام زهراتهم. شاهد على أطنان الغازات التي تخنق حناجر مصرّة على أن تُسمع العالم صوت حريتها. شاهد على الفساد والسرقات. شاهد على الموت الذي يأخذنا إليه هذا النظام. شاهد على هذا الملك الذي فقد إرادته السياسية وفقد وقاره الشعبي وصار نكتة (يسقط حمد) تتفنن ثقافة شعبي في إبداعها في صور لانهائية. المثقف حين يخون شهادته، يخون وطنه، وأنا لست بخائن”.
في سبعة فصول، صاغ الديري شهادة جديدة لمثقف لم يرضَ أن يكون خائناً لهويته. بأسلوب مختلف عن كتاباته السابقة، أطل الديري على الجذور التاريخية لأزمة البحرين منذ العام 2011، ملخصاً بذلك القصص المتجانسة مضموناً لأكثر من 420 بحريني ممن أسقطت جنسياتهم، ومفنداً قصص أطفال حُرموا من الجنسية لأسباب مختلفة في الظاهر، متماثلة في المضمون، راسماً صورة تماثل ديكتاتور بلاده مع ديكتاتورية الأنظمة الشمولية.
ماذا عن مشاريع الأطفال الذين سيولدون في الخارج؟
يقول الديري: “في البحرين عشرات الحالات لأطفال بلا جنسية، سارة إبنة الأمين العام لأكبر جمعية سياسية في الخليج الشيخ علي سلمان بدون جنسية، لأنها وُلدت وأبوها في السجن”، ويتحدث عن تألمه لمشهد أب يناغي طفله ذا الأشهر عبر برنامج “سكايب بالتلفون لأن جنسية الأب مسقطة والابن بلا جنسية”.. ثم يخاطب أماسيل: “تخيلي كيف سيكبر هؤلاء الأطفال، بلا أب، وبلا وطن، وبلا انتماء، وبلا اعتراف، كأن الحكومة تقول لهم: نحن لا نعترف بكم، وانتم لا تنتمون لهذه الأرض، وآباؤكم خونة.” ويتساءل: “ماذا عن مشاريع الأطفال الذين سيولدون في الخارج؟ أفكّر في أصدقائي الذين طالت بهم المحنة، محنة الهجرة ومحنة اسقاط الجنسية”.
ويبدو أن هذه التساؤلات كانت تُلح على الديري، الذي قرر منذ الأسبوع الأول لاكتمال عام على هجرته إلى كندا أن يعقد مع ابنته الجلسات الأولى لبدء مشروع هذا الكتاب. الجانب الإنساني الذي حاكى به الديري جوانب السياسة والتاريخ، كان الأكثر وقعاً على القارئ.
قبري حيث سرّي
يقول الديري: “لا أدري الآن، هل يمكنني أن أكون مرآة لأرضي البحرين، لو دفنت في مقبرة باردة في كندا؟ يُقلقني هذا السؤال أكثر مما يقلقني سؤال إمكانية أن أعود إلى بلدي، أريد أن يكون قبري حيث كان أبي يدفن الأضحية التي هيّأتها جدتي لولادتي، بعد إجهاض 4 أجنة لأمي. أحنّ إلى السر المدفون في مقبرة الدير. أريد أن أدفن حيث تراب هذا السر. شيء من التمائم المحيطة بهذا السر، أشعر أنها مازالت تحيط بي، ولن تجد روحي تمام راحتها، إلا حين تستقر هناك حيث القبور هويات محفورة في تاريخي البحراني الذي لا يمكن أن يسقط إلا مزروعاً في الأرض مرآة ونخلاً وتاريخاً يٌحرج الغزاة.”
يسترسل الديري في شرح التداعيات العملية لاسقاط جنسيته، بعد تبلغه بالخبر في 31 كانون الثاني/يناير 2015. في قائمة ضمت 72 بحرينياً جاء إسم الديري إلى جانب إسم “تركي البنعلي” كبير شرعييي داعش. هكذا ساوت السلطة بين الإرهاب والمطالبين بإصلاحات، طالما أن المطالب ترهب سطوة الاستفراد بالنفوذ.
وفي كتابه، يميّز الديري بين أن يكون المرء بحرينياً بهوية غير منجزة وغير جامعة، وبين أن يكون بحرانياً بهوية بعيدة عن المعنى الطائفي مشبعة بالبعد الوطني، ومنجزة بفعل التاريخ والاضطهاد والتمييز. ليعتبر كلمة “بحراني” أشبه بندبة يولد مع الانسان ليحدد هويته بعلامة فارقة.
“لا أستخدم هنا (بحراني) بالمعنى الطائفي أو المذهبي، بل بالمعنى الاجتماعي والسياسي، المتعلق بسياسة الحكم في التمييز والتخوين والتهميش وعدم الاعتراف. (البحراني) في استخدامي، هو الذي وقع عليه فعل الغزو (الفتح عام 1783) وتم إخضاعه لحكم الاقطاع… مازال هذا البحراني غير معترف به ومهمشاً وتمارس ضد سياسة التمييز الطائفي… ويُشكك في ولائه”، يقول الديري.
إسقاط الصحافة
تسأل أماسيل والدها: هل الملك يُسقط جنسيات الشيعة فقط، لأنهم من يعارضونه؟
فيحيلها إلى قصة عبدالرحمن الباكر، المناضل البحراني السُني، الذي قاد تجمعاً يضم السنة والشيعة في خمسينيات القرن الماضي، لينتهي به الأمر إلى السجن والنفي بعد إسقاط جنسيته. يقول علي الديري بذلك إن الحاكم يسقط الجنسية عن أي شخص يشكل بكلامه ومواقفه خطراً على الحكم، ونزعته السلطوية. ولهذا فإن الخطر يراه الملك في أي مناضل سواء كان شيعياً كالديري، أو سنياً كالباكر.
يفصّل الديري في كتابه آلية الحكم، وسطوة الملك على السلطات وعلى الاعلام، ليقول إن بلاده أقرب إلى الأنظمة الشمولية التي توظف الإعلام لبث دعايتها السياسية، وتجمّل صورة الملك وعائلته، ولتغطي على الانتهاكات في الداخل.
ويعتبر أن الملك وعائلته الذين نجحوا في تدمير الانسجام الاجتماعي، هم من دمّروا الصحافة بعدما أسقطوها في حضيض التأجيج والفبركة والكذب.لقدر سبق قرار الملك إسقاط الصحافة، وشيطنتها للمعارضين لتعبّد طريق السلطة أمام استهدافهم وشطبهم. يعتبر الديري أن مقالات الصحف التي هاجمته بناء على موقفه السياسي كانت أولى أوراق اسقاط جنسيته، ليستعرض الهجوم الذي طاله في كتابه.
ذات الملك مصونة
“صدر قرار اسقاط الجنسية بمرسوم باسم الملك، وتم رفض النظر فيه بحكم باسم الملك، يتم كل شيء في وطننا باسم الملك، الوطن حيث يكون الملك، إنه يقبض على كل شيء في الوطن إنه النظام الشمولي كما سميناه”.
يفنّد الديري كيف أن ذات الملك مصونة بموجب الدستور البحريني، فلا يسائله قضاء، ولا يقف بوجه قراره اعتراض أو استنكار، إذ لا سلطة فوق سلطته في البحرين. يكتب الديري: “لا أعرف كيف أجيب الذين يسألونني: لماذا أسقطت جنسيتك؟ أقول لهم لم يخبرني أحد بالسبب، ولا تسلمت رسالة تفيد السبب، ولم تكن هناك قضية في المحكمة تتهمني بشيء معين. ربما شاهدني الملك مرة خارج البيت وقرر أني أستحق إسقاط الجنسية، وذات الملك مصونة عن السؤال، فلا يمكن لنا أن نسأل الملك ونعرض ذاته للاهانة أو الاحراج”.
استغرق إنجاز مشروع الكتاب عدة جلسات بين الوالد وابنته، لم يتصرف الديري في أسئلة ابنته، بل تركها كما هي، مقدماً لها إجابات تتفتح مع نضجها ووعيها، كما أشار في مقدمته. ولعل هذا ما سيلاحظه القارئ من خلال إجابات الديري التي كانت أكبر من وعي ابنة 13 عاماً. ولكنها إجابات كانت تحاكي وعياً يريد الكاتب البحريني له أن يتشكل ويتجذر. كانت أماسيل، الابنة الثانية للديري بعد نجله الأكبر باسل، تردد كلمة “تتفلسف” لوالدها، ما يعكس الجو العفوي الصرف للجلسات التي شكلت الكتاب كوثيقة، تصوغ هوية أماسيل علي الديري، تمنحها لأبنائها تماماً كما منحته والدته صباح بحرانيته.
لماذا أماسيل؟
قد تكمن الإجابة على هذا السؤال في الأمومة التي يراها الديري تمنح الهوية. في معرض كتابه يتحدث علي الديري عن والدته، ليقول: “لاشيء أقوى من أمومتها التي منحتني بحرانيتي، بكل ما فيها من تاريخ المحن التي تثقل مصير هذه الأرض. لم أجد أقوى من أرض صباح أستند إليها في هذه اللحظة التي تشبه أن يقذفك أحد من كوكب الأرض ويلقي بك في فراغ الفضاء. كتبت: “لايعني أني لست إبن البحرين”، وكأنني أصرخ، كأنني للتو أخرج من بطن أمي”.