التّأريخ الّلبناني معظمه مختلف.. معارك مضخّمة وحوادث مغيّبة
المؤرخ حمادة: الشّيعة كتبوا أهمّ ثورة في عهد العثمانيّين
سلبت لبّ قلبه رحلات ابن بطوطة «تحفة النّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، حين كان تلميذًا يقرأ كتاب التأريخ عن بلده لبنان. كانت تدور العديد من الأسئلة في رأسه الصغير: كيف؟ ولماذا؟ لم تشفِ أيّ إجابة غليل تعطّشه إلى معرفة تلك «الثغرات الكبرى» التي كانت سرديات التاريخ اللبناني تغرق بها. كان يجيد ربط الأحداث فيما بينها، فقد علّمته قراءة رحلات المؤرخين العرب الكبار أنّ هذه الحادثة، أو تلك، تكون مقنعة وواقعيّة، عندما تجتمع شواهد وقائعية تثبّت دلالتها الإنسانيّة والحضاريّة.
هذا الشّغف بالتاريخ جعله يؤسّس لمكتبة خاصّة وفريدة في نوعها، تحتضن كلّ أنواع الكتب، وإن كان أكثرها حضورًا، هو كتب التاريخ والتراث، وهو لم يعتدْ على تعداد ما يملكه من ذخائر المعرفة الورقية، فالأرقام لا تعني له شيئًا، بل الأهم هو نوع الكتاب وما يقدّمه من معرفة وثقافة.
هذا الشّغف رافقه منذ الصّغر حين كان يستمع إلى حكايات أجداده عن ضيعته في محافظة الهرمل البقاعية، والّتي كانت أكثر تماسكًا وإقناعًا من كتاب التاريخ المدرسي. كبر الشاب سعدون حمادة، وعيناه شاردتان نحو تلك المتاهة التخيليّة التي صنعت له مرويات كتبت هنا وهناك، وقُدِّمت له ولجيله، ولا تزال تُقدَّم لجيل اليوم، على أنها تأريخ بلده «العريق» لبنان.
يقول حمادة: «مذ كنت على مقاعد الدراسة الابتدائيّة، كانت قصص التأريخ تجذبني، إلّا أنّي كنت أغتاظ من بعض الدروس فيها، فقد كانوا يدرّسوننا معلومات لم أكن أجدها مقنعة، وكانت تثير لديّ شكوكًا عديدة حول منطقها في سرد الأحداث، فقرّرت أن أقوم بنفسي ببحث تاريخيّ، ليس حول بلدي لبنان فحسب، بل حول البلاد العربية كلّها».
كبر حلم سعدون الصّغير معه، حتى تخصَّص في دراسة التّاريخ. وفي السّبعينيات من القرن الماضي حين كان يحضّر أطروحة الدكتوراه تحت إشراف أحد المستشرقين في فرنسا، ارتكب أكبر خطيئة في حق تاريخ لبنان وأهل منطقته، فبعد أن كان يعتبر أنه قدّم إنجازًا على صعيد كتابة التاريخ في لبنان، لم يطل به الأمر حتّى اكتشف أنّه بثّ في بحثه كلّ النّقائص والمساوئ الدخيلة على التاريخ اللبناني…
«شعرت أنّه عليّ القيام ببحث آخر أصحّح فيه ما اقترفته يداي، أو أمحيه على الأقل أو أخفّف منه…»، يقول حمادة. ويشير إلى أنّ تلك المحطَّة من حياته، قلبت كلّ المعايير السّابقة لديه في قراءة الأحداث التاريخية، وأضحى يرى بعين الناقد المتفحّص أنّ بعض المصادر المطبوعة هي مصادر مدسوسة أو موضوعة، ولا تستند إلى الواقع التّاريخيّ الصَّحيح.
ويضيف: «كان كلّ مؤرّخ يكتب حسب أهدافه ومصالحه وأهوائه الشّخصيّة، وخصوصًا في لبنان؛ هذا البلد المعروف بطوائفه وأحزابه السياسية المتعدّدة والمختلفة… في الحقيقة، كان التاريخ اللبناني حتى فترة قريبة محصورًا بالتاريخ الديني، وتحديدًا التاريخ الكنسي وحياة القديسين. ومن ثم صار البعض يهتمّون بالتاريخ السياسيّ الدينيّ، وعلى رأسهم البطريرك حويك، الَّذي بدأ بتدوين تاريخ لبنان كما يراه. ومن المعلوم أنَّ قضايا التاريخ شائكة، وقد تخرج عن نطاق الطبيعة، ولذلك، كتب البعض تاريخ المناطق اللبنانية على أنه تاريخ لبنان، فكان ما كتبوه مشوّهًا وناقصًا، وفيه ثغرات كبيرة جدًا حول العديد من المفاصل والتغييرات المصيرية…».
والغريب أنّ من أتى بعدهم من مؤرخين، حتى في العصور الحديثة، لم يجدوا بين أيديهم غير هذه الكتب التاريخية المشوّهة، التي يشوبها نقص على مستوى المراجع، فاعتمدوا عليها، ولم يكلّفوا أنفسهم عناء البحث الجدي لكشف الحقائق وملء الثغرات…
أنواع الوثائق بين رحلة البحث والتنقيب
بعد رحلة مضنية من البحث في المصادر العربيَّة ومراجعها، توصّل المؤرخ حمادة إلى مصدر حمله إلى خارج المنطقة العربية، وهو الأرشيف الموثّق في الدول الأجنبية، الذي يتمثل «بالرسائل الموجودة في القنصليات والسفارات الأجنبية التي كانت تحتلّ لبنان.. فالدبلوماسي الذي يمثّل دولته المحتلة، كان يكتب تقاريره إلى حكومة بلده، وكان عمله مشابهًا لعمل الصحافي الدقيق، الذي يكتب تقارير ويستنتج المعاني السياسية وأبعادها، ويرسلها إلى حكومته… وهناك بلدان أجنبيّة، مثل فرنسا وإنكلترا وروسيا والنمسا، تمتلك أرشيفًا ضخمًا عن لبنان، لا سيما فرنسا التي كان يخضع لاحتلالها، فقد كان لديها قنصل فرنسيّ في طرابلس وآخر في صيدا وفي صور وفي مختلف المناطق اللبنانية، وكذلك في الشام وفي دمشق.. وهذه الوثائق الدبلوماسيّة هي مصدر مهمّ جدًا لكتابة تاريخ لبنان…».
والمصدر الآخر هو الأرشيف العثماني، ذلك أنّ الأتراك حكموا لبنان حوالى 400 سنة، وعلى الرّغم من طغيانهم ومساوئهم السّياسيّة في الحكم، فقد كانوا متقدّمين جدًا من ناحية الإدارة، وكانت إدارتهم متماسكة. ويضم الأرشيف العثماني الحالي مئات الآلاف من الوثائق التي تتعلّق بتاريخ لبنان، كونه كان ولاية عثمانية ضمن إمبراطورية متنامية..
غير أنّ هذا الأرشيف ـ كما يقول حمادة ـ غير موثّق بأسلوب عمليّ وعلميّ، ما يجعل مهمّة الباحث في الوصول إلى ما يريده صعبة للغاية، إذ نجد أنَّ ثمة مجموعات هائلة من الوثائق الرسمية والملفات غير موثقة ضمن آلية محددة، فيبقى أمام الباحث الجادّ الاعتماد على جهده الخاص في التنقيب والبحث، وربما يحالفه الحظّ في العثور على ما يبتغيه. إنّ هذا الأرشيف الغنيّ جدًا يحتاج إلى مؤسَّسات مختصّة للقيام بعملية أرشفة وفق قواعد العلم التوثيقي الحديث، وهذا الأمر ليس متوفرًا حتى الآن، في حين أنّ الأرشيف الفرنسيّ يضمّ معلومات مؤرشفة وموثقة وسليمة عن تاريخ المنطقة السورية أو عن قرية ما في جبل عامل، ومن السّهل الوصول إليها.
من هنا، تعدّ مهنة المؤرخ الباحث عن الحقيقة شاقّة، وليس فيها تهاون فيها أو ملل. ورغم كلّ المعوّقات التي واجهت حمادة في رحلة بحثه، فقد وفّق في الحصول على وثائق عديدة، وكان يهتم إلى أبعد حدّ بالوثائق القديمة، فيذهب متقصيًا مكانها ومكان صاحبها للاستفادة منها. من جهةٍ ثانية، لا يقبل حمادة إجراء مقارنة بين عملية البحث التاريخي في المنطقة العربية مع تلك الحال الإجرائية في مكتبات أوروبا التي سافر إليها، حيث كانت كلّ الوسائط مهيأة له هناك، في ظل تشجيع كبير على البحث التاريخي، «فهناك أجد دومًا من يساعدني للحصول على وثيقة ما، إضافةً إلى التنظيم المتوفر في مكتباتهم العلمية التي تساعد الباحث بشكل كبير»، يقول حمادة.
ولكن ماذا عن نوع الوثائق الَّتي كان يحوزها ويستطلع منها الأحداث ويستقرئها؟ يقول المؤرخ حمادة إنّ هناك نوعين من الوثائق المعتمدة عادة؛ الأوّل هو المراسلات السّريّة الّتي كان يكتبها الوالي أو الحاكم، ويرسلها إلى السّلطات العليا في الدولة… وفي ذلك الوقت، لم يكن بإمكان القناصل الوصول إلى هذه المراسلات، لكونها وثائق دولة ورسمية، غير أنها صارت الآن متوافرة لكل من يريد الاطلاع عليها.
أما النوع الثاني من الوثائق، فهو مجموعات من البيانات لا تكفي لأن تؤسّس وحدها لعمل بحثيّ تامّ، ولكن يمكنها أن تشكّل إضاءات على بعض الزوايا المحدّدة المجهولة في تاريخ لبنان، ومن السّهل الوصول إليها، وبعضها موجود مثلًا في محكمة طرابلس الشّرعية.. ويضم أرشيف هذه المحكمة حاليًا مجموعة من الوثائق العثمانية، هي عبارة عن تصاريح رسمية صارت بمتناول اليد، وأصبحت مجهّزة بواسطة الميكروفيلم. كما أنّ هناك مجموعة وثائق في محكمة صيدا، ولكن الكمّية التي بقيت منها مع مرور السنوات ليست كبيرة، إنما يمكن لها الإضاءة على بعض النواحي… وهناك وثائق في الأديرة الدينيّة، وعلى رأسها البطريركية المارونية، وقد اعتمد حمادة على هذا النوع من الوثائق بشكل كبير.
ويضيف المؤرخ حمادة أنَّ هناك نوعًا ثالثًا من الوثائق يمكن الحصول عليه بالطرق الخاصّة. وهناك طريقة اعتمد عليها إلى حدٍّ كبير، حيث حصل على ما يقرب من مئة وثيقة تاريخيّة، واستطاع بفضلها بناء رؤية معيّنة أكثر وضوحًا حول تاريخ لبنان، وهي مقنعة إلى درجة مهمة، ومنطقية بشكل أكبر من السرديات التي تحويها الكتب التاريخية السابقة على عمله.
في روايته عن التّاريخ اللبنانيّ، يقول حمادة: «إنّ تاريخ لبنان الموجود بين أيدينا لا صلة له بالحقيقة الواقعيّة، وهو عبارة عن مجرد تهيؤات وتصوّرات وضعها من يرغب في الإضاءة على تاريخ محدّد، ولو كان بعيدًا عن الواقع. وتاريخ اليوم يقتصر على تاريخ الشوف، حيث يختزلون به تاريخ كلّ لبنان. يحكي هذا التاريخ عن الشهابية والأمير فخر الدين والمعنية، وهؤلاء لم يحكموا طوال تاريخهم أي منطقة خارج الشوف، التي لم تكن تشكل أكثر من خمسة عشر في المئة من مساحة لبنان. لم يلتفت الكثير من المؤرخين إلى هذه الحقيقة أبدًا، ذلك أن التحيّز أعماهم، ونحن نسأل: أين تاريخ بيروت وطرابلس والبقاع وبيت الدين ودير القمر؟ لقد كتبت بنفسي عن كلّ هذه المناطق».
لم يكتفِ حمادة بالإضاءة على تاريخ تلك المناطق، واهتمّ بشكلٍ كبير بتاريخ جبل عامل، الَّذي ظلّ مغيّبًا، ولم يكن يربط بتاريخ لبنان، وتعمّد البعض نسيانه بشكل كلّي، وكأنه لا ينتمي إلى البلد، في حين أنّه كان تابعًا لولاية الشام. من هنا، كتب سلسلة «تاريخ الشيعة في لبنان».
هل أحدث توثيق حمادة الحديث لتاريخ لبنان انقلابًا ما أو تغييرًا، أو صنع رؤية مغايرة عن لبنان وكسر صورته النمطيّة في كتب التاريخ؟ نسأل حمادة هذا السّؤال السياسيّ، فيجيب بأنّه لا يحبّ المبالغة في التوصيف أو التقويم الفعلي لما تركته أبحاثه وكتبه من أثر في الشّارع اللبنانيّ الاجتماعيّ والسياسيّ في المستوى الأول، ولكن هذا لا ينفي ما أحدثته السّلسلة الّتي أصدرها من نسق جديد غير مألوف في البحث التاريخيّ، وهو لا يوصّف عمله كاملًا، بل لا يزال يرى أنّ هناك فجوات كبيرة لمّا تسدّ بعد، وتحتاج إلى البحث عن الرواية التاريخية الأصلية وربطها بالأحداث المتداولة والمدوّنة، ليستخرج منها سردًا أكثر التصاقًا بالواقع، وهذا بالطبع يحتاج إلى المزيد من الجهد الإضافيّ والمضني.
ويشير حمادة إلى أنَّ النسق الجديد المغاير في كتابة التاريخ، والذي اعتمده هو وغيره من الباحثين الجادين، ساهم في إعداد دراسات في أوروبا عن تاريخ لبنان، تصحيحًا للسابق ونفضًا له وتصفيةً من الأوهام والتخييلات، ليصبح تاريخًا حقيقيًا يمكن الأخذ به.
الباحث عن الحقيقة.. متى يكون مؤرخًا علميًا؟
سألنا حمادة عن الإشكاليّة القديمة ـ الحديثة المتمثلة بتورّط المؤرخ في التحيّز إلى أبناء طائفته أو مذهبه، وعما يفعله في حال كان ابن طائفة قد غيّب تاريخها طوال عهود طويلة، فقال: «هذا السؤال مهم جدًا، ولطالما كنت أطرحه على نفسي، فالإنسان يميل غريزيًا إلى بيئته وأهل داره ومقره ومسقط رأسه، ولكنني كنت أحاول دومًا، قدر المستطاع، إنشاء مسافة موضوعية وعلمية بين هذا الولاء والمعلومة الواقعية، مهما اختلفت مع أهوائي الخاصة، لكي تكون الوقائع هي التي تحكي وتحركني، لا عواطفي. ولقد نجحت في ذلك إلى حدّ بعيد، إلى درجة أني لاحظت بعد النشر وتداول الأبحاث والكتب، أني غبنت طائفتي في أكثر من موقع وحادثة…».
طرحنا عليه سؤالًا آخر: «إلى أيّ مستوى قد يعيق عدم الانتماء إلى تيار سياسيّ محدّد، المؤرخ عن الحصول على مادته السردية؟»، وفي جانب آخر من السؤال: «هل يحدّد انتماء المؤرخ السياسي سلفًا انحياز رؤيته في سردياته؟»
يؤكّد حمادة أنّ التّاريخ هو ما يكتبه عادة المنتصرون، فمؤرخ السلطة أو المعارضة أو الحزب السياسي، لا يعدّ مؤرخًا، بل هو بوق، كما أنه ليس صاحب مبادئ، بل هو خطيب يروج لمبادئ الذين ينتمي إليهم.. «أول شرط ليكون الباحث مؤرخًا، هو البحث عن الحقائق بنفسه. ومن جهة أخرى، عليه أن يبعد هذه الأنا أو الميول أو المراكز عن بحثه. معظم المؤرّخين في لبنان كتبوا تصوّرات للأحداث الّتي يريدونها هم وجماعتهم. وأحيانًا كثيرة، لم يكن ما كُتِب على علاقة بالواقع الحقيقي على الإطلاق. هناك وقائع اخترعوها، وهناك وقائع بسيطة بالغوا فيها إلى حد بعيد، وجعلوا منها قصة مركزية، فصار التّاريخ مُفَبركًا، وتمّ تسويقه، وخلقت فيه أسماء غير موجودة أصلًا».
وإذا دخلنا إلى التاريخ مع حمادة، نسمع بمؤرخ يدعى الأب جبران، عاش في أوائل القرن العشرين، عندما كانت متصرفية لبنان تابعة للدولة العثمانية التي كانت في طريقها نحو الانهيار، فأنشأ وقائع تفشي ميوله وتبيّن رغبته في الانفصال عن المحيط العربيّ. وفي تلك الحقبة، انقسم اللبنانيون، فمنهم من أراد الانضمام إلى مشروع سوريا الكبرى، ومنهم من رغب في الانتماء إلى الغرب الأوروبي عبر فرنسا، فنجح العديد من المؤرخين في خلق معارك وهمية. ونحن نحتاج، للأسف، إلى وقت طويل للتخلّص من هذه الوقائع الدخيلة والمزيفة. فمثلًا، تعد معركة عنجر في كتب التاريخ اللبناني، من أهمّ المحطات التاريخية، ويؤكّد البعض أنها وقعت بين فخر الدين والمعنيين(1)، لكن في واقع الأمر، يشير ما توصلت إليه من حقائق حسب الوثائق، إلى أن معركة عنجر وقعت بين الدولة العثمانية متمثلة بكلّ ولاتها، وكان من بينهم فخر الدين آنذاك، والمعارضين أو أعداء السلطة الذين كانوا شيعة البقاع في ذلك الوقت…».
ويتابع حمادة سرده التاريخي، ليعطي مثلًا آخر حول معركة «عين دارة»، التي يقال إنها وقعت بين القيسيين واليمنيين الذين كانوا في لبنان، معتبرًا أنّ الأمر غير صحيح، فهذه المعركة وقعت في الشوف بين جند بعلبك وبعض أنصار الوالي الذي كان معينًا وقتها فيها من قبل والي صيدا.. وما يؤكّد هذه الحقيقة هو تقرير القنصل الفرنساوي الذي عاش المعركة وواكبها، ونقل ما حدث فيها.
ويلفت إلى أنّ تاريخ لبنان في الإمبراطورية العثمانيَّة، كان تاريخ صراع بين الدَّولة العثمانيَّة وأهل البلد، الذين كانوا معظمهم من الشيعة، وكان ثمّة معارك متواصلة بينهم، لأنّ اللبنانيين كانوا يرفضون أي حاكم من الخارج.. وكانت الدولة العثمانية في معظم الأحيان تضطر إلى الخضوع للأمر الواقع الذي كان يفرضه الأهالي بعد نزاعات عسكرية عديدة.. وكانت تعترف بالحكام المحليين.
تغيير كتاب التّاريخ المدرسيّ.. هل يحصل؟!
إلى أيّ حدّ تأمّل بتغيير كتب التاريخ اللبناني في المدارس، والَّذي لا يزال يشكّل أزمة هويَّة متأصلة؟ لا يبدي حمادة تشاؤمًا مطلقًا عند الإجابة عن هذا السؤال، فهو مؤمن بأنَّ التغيير آتٍ مهما تأخر، «ولا بدّ من أن يأتي ذلك اليوم، وتتغيَّر كلّ تلك الكتب التاريخية المفبركة حول تاريخ لبنان، فلا يستطيع أحد أن يخبئ التاريخ إلى الأبد، مهما كانت سلطته وقوته».
ويتابع: «الحقيقة تفرض نفسها في النهاية، فكما أثبتنا بعد عقود حقيقة معركة عين دارة، سيأتي باحث آخر ليخبرنا حقيقة جديدة موثّقة وناصعة، فقد كثر المؤرخون الباحثون عن الحقيقة بالوسائل العلميّة».
لا يرى حمادة أنَّ مشروعه التّغييريّ في كتابة التاريخ قد انتهى وهو في هذا العمر، فلا يزال يحصل على وثائق بطرق مختلفة، ورغم أنه لا يدري الآن أهميّتها، ولكنه على يقين بأنّها ستبلور له العديد من الحقائق، مثلما حدث معه في موضوع كشف الثورة الشيعية في لبنان، التي حدثت في جبل لبنان ثم انتقلت إلى جبل عامل والبقاع، وهي ثورة مغيّبة تمامًا من تاريخ لبنان ولم يذكرها أحد.
والغريب، بحسب حمادة، أنّ أهمّ الأحداث في عهد الإمبراطوريّة العثمانيّة وقعت في هذه الثورة، فعلى مدى خمسة وعشرين عامًا، كانت الجيوش العثمانية تتوالى من الأناضول، وعلى رأسها أهم قادة الجيش العثمانيّ. وقد حاول سبعة صدور عظام الدخول إلى جبل عامل، فلم يوقفوا الثورة أبدًا. وجاء كتابه «الثورة الشيعية في لبنان» ليكون الأكثر سطوعًا وإضاءة على هذه الحقيقة التاريخية.
وهو يدلف بنا في هذا المنعطف ليعرّج سريعًا على الوجود التاريخي للشيعة في المنطقة، متسائلًا عن تلك القدرات الهائلة في حفظ وجودهم والهوية الخاصة بهم، حيث لم يقدر أحد على هزيمتهم، رغم كلّ التضحيات التي بذلوها، لأن الدولة العثمانية كانت تنظر إليهم من وجهة نظر دينية، وتتّهمهم بالكفر، وتعلن واجب الجهاد ضدهم، فكانوا يقاتلون دفاعًا عن وجودهم، حتى أصبحوا محاربين شرسين عبر التاريخ.
ويختم حمادة متسائلًا: «من هم هؤلاء الَّذين وقفوا في وجه إمبراطورية طويلة عريضة ولم تستطع فرض السيطرة عليهم؟! أتساءل أحيانًا: هل كان للشّيعة سياسة موجّهة؟! من المؤكّد أن الدفاع عن النفس يدفع الإنسان بقوّة غير متوقّعة على الإطلاق».
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: التّأريخ الّلبناني معظمه مختلف.. معارك مضخّمة وحوادث مغيّبة
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- جدليات تاريخية بنظرة مغايرة
- ابن الحكاية الدرزية المتأصّلة منذ أيام الفاطميين
- حصاد الهجرة وأشتات الذاكرة
- المؤرخ حسن نصر الله.. من أعمدة بعلبك
- دار حفظ التراث البحراني..
- التراث القديم يلتقي والحديث في “حوش الرافقة”
- الشيخ الدكتور “جعفر المهاجر”
- العرائض السياسية البحرانية المفقودة في أرشيف الوكالة البريطانية
- من الأرشيف المحلي إلى العالم.. وثائق تاريخيّة تُنشر للمرة الأولى