دار الكتب والوثائق القوميَّة في القاهرة
ذاكرة مصر المتجدّدة.. وأحلام التحوّل نحو الصّناعة الثقافيّة
مع كلِّ خطوة نحو المُستقبل، يتأكَّد لنا أنَّ ذاكرة الأمّة أثمن ما يمكن أن تمتلكه، مهما عظمت ثرواتها، فهي ما يحفظ لها اتّزانها في خضم بحر الواقع بمتقلّباته الكاسحة، لتكون جذورها مشدودة جيّدًا نحو الأصول، فتدركها بحق، بلا تجميل ولا تشويه.. وفي بلد قديم مثل مصر، عرف أهله الحضارة والتنظيم والتدوين منذ آلاف السنين، يكتسب الأرشيف حالة خاصّة، وتتضاعف أهميّته عن مثيلاتها في الحضارات المختلفة.
دار الكتب والوثائق القوميّة تاريخيًا
عن وعيٍ بأهمية الحفاظ على أرشيف مصر وذاكرتها، بعيدًا من العبث، تقدّم ناظر وزارة “المعارف” المصرية “علي مبارك”، باقتراح للخديوي “سعيد” بإنشاء دار للكتب، لحفظ المخطوطات والوثائق المصرية النفيسة وجمعها، بعيدًا من أيدي النبلاء والأمراء وصراعات السُّلطة، فصدر المرسوم بإنشائها بالفعل في العام 1870، على يد الخديوي “إسماعيل”، بعد رحيل خلفه “سعيد” عن حكم مصر، وتمّ إنشاؤها في “درب الجماميز” في القاهرة، قبل أن تنتقل في العام 1904 إلى مقرها في “باب الخلق”، الذي لا يزال تابعًا لها حتى الآن.
هكذا نشأت “دار الكتب المصرية”. أمّا دار “الوثائق”، فهي أقدم بكثير، حيث تم إنشاؤها في العام 1828 على يد “محمد علي”، وكان مقرّها في “القلعة” في القاهرة، تحت اسم “الدفترخانة”. كانت بمثابة أول مكان لحفظ السّجلات الرسمية للدولة، بل استعانت أيضًا بعض الدول العربية في وقتها بمصر، لحفظ وثائقها المهمّة ذات الحساسية، في دار “الوثائق” القومية. وفي عهد الخديوي “عباس حلمي الثاني”، تغيّر اسم “الدفترخانة” إلى “دار المحفوظات العموميّة”، وظلّ مقرها في القلعة.
مع قيام ثورة تموز/ يوليو 1952، لم يعد قسم المحفوظات التاريخية في قصر عابدين يلبّي رغبة رجال الثورة في تقديم مادة تاريخية تصلح لكتابة تاريخ مصر القوميّ في كلّ عصوره، لتكون تلك المادة متاحة لجميع أفراد الشعب من باحثين ومستفيدين، فكان من الضروري استحداث “دار الوثائق التاريخية القومية”، التي أنشئت بموجب القانون 356 لسنة 1954، الّذي حدَّد وظيفتها في جمع الوثائق وحفظها وإتاحتها للجميع.
في العام 1971م، انتقلت المكتبة إلى المبنى الحالي على كورنيش النيل في رملة بولاق، الذي صُمِّم ليكون صالحًا لأداء الخدمات المكتبية الحديثة، وليتمكّن بمساحاته الضخمة من توفير مخازن مناسبة لحفظ المخطوطات والبرديات والمطبوعات والدوريات والميكروفيلم، إضافةً إلى قاعات تستوعب العدد الضخم من المترددين إلى الدار، وتخصيص أماكن للمراكز المتخصّصة والمكاتب الإدارية، ليؤدي المركز وظيفته كمكتبة وطنية تقدم خدماتها للباحثين والقراء في شتى المجالات.
وفي العام 1979، أصدر رئيس الجمهورّية آنذاك، أنور السادات، قرارًا يحمل رقم 472 لسنة 1979، بشأن “المحافظة على الوثائق الرسمية للدولة وأسلوب نشرها واستعمالها”، نصَّ على أن تحتفظ الجهات الحكومية بوثائقها الّتي تنتجها لفترة خمسة عشر عاماً، ثم تُنقل بعدها إلى دار الوثائق التاريخيَّة. وبعد إيداعها في الدار، تظلّ محتفظة بسريّتها لمدة خمسة عشر عامًا أخرى، ثم يُفرج عنها بعد ذلك للاطّلاع عليها.
وفي العام 1990، انتقلت دار الوثائق من القلعة إلى موقعها الحالي في كورنيش النيل في “رملة بولاق” في القاهرة، وتم إلحاقها بالهيئة المصرية العامة للكتاب.. ثم جاءت النقلة الثانية بصدور قرار رئيس الجمهورية في تلك الفترة، حسني مبارك، الذي يحمل رقم 176 لسنة 1993، بشأن إنشاء هيئة مستقلّة تضمّ “دار الكتب والوثائق القومية”، وفصلهما عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.. وبذلك، جمعت الدولة التراث الثقافي المصري المطبوع والمخطوط في هيئة واحدة.
زيارة إلى التاريخ
كانت لديّ هذه الخلفيَّة التاريخيَّة عن المكان، وأنا أدلف من أبوابه، على موعد للقاء الدكتور محمود الضبع، رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية، لكنَّ معايشة التجربة كان لها رهبة مختلفة تمامًا، وكأنَّني أخطو إلى قلب المعبد الَّذي يحفظ تاريخ مصر وجزءًا كبيرًا من تاريخ الوطن العربي. يصعب على العقل استيعاب فكرة أن جنبات هذا المبنى تضمّ أكثر من 100 مليون وثيقة، ونسخة من كلّ كتاب صدر في مصر منذ العام 1813 وحتى الآن، وأكثر من ستين ألف مخطوط، ومائة وستين ألف مجلد من الدوريات، وستين مصحفًا مملوكيًا نادرًا، ومقتنيات ذات قيمة تاريخية لا تُقدّر، أبسط مثال عليها، وهو ما قد لا يعرفه الكثيرون، أنّ مصر تمتلك واحدة من أربع نسخ من مصحف الخليفة الثالث عثمان، محفوظة في دار الكتب والوثائق.. كما أنها تمتلك مخطوطًا أصليًا للقرآن الكريم، مجموعًا منذ قرابة 1400 عام!
انطلاقًا من خلفيّته الثقافيّة والأكاديميّة، يدرك الدكتور محمود الضبع، وهو يشغل حاليًا أعلى منصب إداريّ في المكان، خطورة أن تكون على رأس أرشيف بثقل “دار الكتب والوثائق”. فأستاذ النّقد الأدبي في جامعة “قناة السويس”، صاحب الأطروحات الثقافية والكتابات النقدية، الذي احتلّ هذا المنصب في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، يعلم أكثر من غيره أن تحديات الواقع المصري الآن لا تحتمل أيّ تقصير فيما يخصّ تاريخ هذه الأمّة، بوعي من رجل هو أكثر من موظّف بيروقراطي يؤدي عمله فحسب.. لم أسمع منه أي شكوى، بل هناك دائمًا كلام عن أحلامه وخططه بخصوص الدار، شرع بالفعل في تنفيذها، لنقل “دار الكتب والوثائق” نقلة نوعية، ووضعها على طريق “الصناعة الثقافية”.
أحلام اليوم حقائق الغد!
جئت للقاء الدكتور محمود وأنا مُحمّل بشكاوى أصدقائي من الباحثين والكُتّاب فيما يخص التعقيدات التي تواجههم عندما يرغبون في الوصول إلى وثيقة أو مخطوط مُعين، ليساعدهم على إنجاز بحث أو مقال يعملون عليه، ويتطوّر الأمر إلى ما هو أوسع، فالمهتمّون بالتاريخ المصري بشكل عام يعانون من أجل الوصول إلى ما يريدونه في خضم هذا الأرشيف الضخم. ولتعقيدات البيروقراطية المصرية العتيقة اليد الطولى هنا!
قبل أن أطرح عليه ما يجول في نفسي بخصوص هذه النّقاط، بدأ مباشرةً الحديث عن مشروعه بخصوص إتاحة أرشيف دار الكتب والوثائق إلكترونيًا من خلال الإنترنت، فعندما يدخل هذا المشروع حيز التنفيذ، قد لا يحتاج الباحث أو الكاتب، بعد تسجيل بياناته إلكترونيًا، إلى القدوم بنفسه إلى مقر الدار، بل يمكنه حينها الاطلاع على ما يريد إلكترونيًا، أو استصدار التصريح اللازم للحصول على نسخة مما يريد من وثائق، من دون الذهاب بنفسه إلى الدار، ودخول تيه من الإجراءات والعقبات البيروقراطية.
في ظلّ واقع يقول إنَّ أقل من 3 في المئة من المحتوى العربي هو ما يُعد متاحًا بالفعل على الإنترنت للناس، يمكن أن نتخيّل ما ستحدثه هذه الخطوة من نقلة نوعية في دوائر المعرفة والثقافة العربية!
أحلام الدكتور محمود فيما يخصّ دار الكتب والوثائق تتجاوز هدف إتاحة المعرفة للراغبين فيها، على أهمّيته العظيمة، إلى ما هو أبعد، حيث يرغب، كما ذكرنا، في إدخال الدار حلبة “الصناعة الثقافية”، للتغلّب على عقبة “ضعف الميزانية” التي يعانيها أرشيف دار الكتب، فعلى الرغم من أنّ دار الكتب والوثائق المصرية تُعد ثالث أضخم أرشيف في العالم حاليًا، فإنّ المخصّص لميزانيتها يُعدّ رقمًا لا يُذكر مقارنة بميزانيات مثيلاتها في العالم.
هكذا، يُعدّ مشروع تحويل المحتوى الذي تمتلكه دار الكتب والوثائق إلى الأشكال والوسائط الحديثة التي يمكن تداولها في عصرنا الحالي، ذا بُعد ربحيّ، يُعوّض ضعف الميزانية المخصّصة لكيان بحجم أرشيف مصر التاريخيّ ومكتبتها الوطنيّة.
على سبيل المثال، يؤكّد الدكتور محمود الضبع في هذا الصّدد أنَّ الدار تمتلك مكتبة موسيقية ضخمة جدًا من إسطوانات الغرامافون وشرائط الكاسيت التي لم تعد تستخدم الآن، من عهد ما قبل المطربة “بديعة مصابني”، وهي المرحلة الّتي اعتاد مؤرخو الموسيقى أن يبدأوا تأريخ الموسيقى المصرية الحديثة بها! بل تمتلك الدار أسطوانات تحتوي تسجيلات لسيدة الغناء العربي “أم كلثوم”، لم تخرج إلى النور منذ سنين طويلة، وهي تؤرخ لمرحلة مُبكرة للغاية من المشروع الغنائي الضخم لأم كلثوم.. كلّ هذا الأرشيف الموسيقي النادر تعمل الدار الآن بالفعل على تحويله إلى صيغ معاصرة، وعلى إتاحتها للجمهور، ضمن مشروع ضخم، بالجهود الذاتية للدار.
معهد لتدريس فنون الترميم.. حلم جديد
لدى الدار اليوم مركزان للترميم؛ واحد في دار الكتب، يقوم بترميم المخطوطات والمصكوكات والعملات، والآخر في دار الوثائق، يقوم بترميم الوثائق والخرائط وما يتعلّق بها.. وهذان المركزان على درجة عالية من الجودة والخبرة، إلى درجة أنَّ عددًا من المؤسَّسات الدولية تلجأ إلى دار الكتب لتدريب خبرائها في هذا المجال.
لدى الدكتور محمود الضبع حلم ومشروع هنا أيضًا، يتمّ الإعداد له ليدخل حيّز التنفيذ، لتحويل هذا المركز إلى معهد يمنح الشّهادات للدارسين، وينشر علمه وخبرات العاملين فيه بين الناس، ويوفّر موردًا ماليًا للدار بشكل مستقلّ، يعوّض ضعف الميزانية المخصّصة لها.
حتى التّاريخ يحتاج إلى جموح المجدّدين
أحلام رئيس دار الكتب والوثائق الحالي وخططه تبدو شديدة الجموح لمن احتكَّ بالبيروقراطية المصرية، التي تقع الدار ضمن منظومتها، لكنَّ اللحظة تفرض علينا هذه الأحلام والمساعي، فلم يعد واقعنا يحتمل تعاملنا مع تاريخنا على أنّه مجرد قصص وسير للأولين، فيما أرشيفنا ما هو إلا قبوًا مظلمًا، يسكنه العنكبوت، ويطمس معالمه الغبار، بينما أمم أخرى، لا تمتلك عُشر ما نمتلكه من تاريخ مؤرشف، تنفق المليارات لصون ما تمتلكه، والاستفادة منه، وتطويره وتطويعه للأشكال التي تتناسب مع عصرنا الحالي.
تتصادم هذه المساعي مع منظومة القوانين التي تحكم عمل دار الكتب والوثائق، بصفتها الحالية كمؤسَّسة غير هادفة للربح، لكن الدكتور الضبع يؤكّد أنَّ العمل جارٍ مع مجلس النواب الآن على مشروع لتعديل القوانين الحالية، لتتناسب مع معطيات العصر الراهن.
بينما أتجوَّل في جنبات دار الوثائق، بين رفوف الكتب، وقاعات الاطلاع، وأقسام المخطوطات والمقتنيات النادرة، وكأني في جولة في تاريخ مصر والعرب، أخذتُ أفكّر في أنّ لدينا الآن فرصةً لإحداث نقلة نوعية في التعامل مع هذا الكنز الذي لا ندركه ونتصرّف كأنّنا لا نراه!
فكم نحن في أمسّ الحاجة إلى أن نعود إلى أحضان الأرشيف، لعلّنا نعيد اكتشاف أنفسنا كأمّة.. أمّة لها تاريخ أهملته كثيرًا، وآن وقت الانتباه!
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: ذاكرة مصر المتجدّدة.. وأحلام التحوّل نحو الصّناعة الثقافيّة
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- “المركز الوطني للأرشفة والتوثيق” في لبنان تعرّفوا إلى الأرشيف الأصفر
- “دار النمر” ومجموعته الفنيَّة المتنوّعة
- منظّمة “أمم” للأبحاث والتوثيق.. ديوان للذّاكرة اللبنانيَّة
- أرشيف “المدرسة الصِّحافيّة” مستمرٌ برفد العالم بالمعلومات والصّور
- أرشيف الإذاعة ذو خصوصية وقديمُه يرمز إلى هويتها
- “مركز الدّراسات الفلسطينيّة” أرشيفًا ومكتبة
- “السفير”: مليون ونصف قصاصة صحافية مفهرسة
- مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت.. أرشيف تاريخي واقتناء لكل ثمين