المكتبة الشَّرقية في الجامعة اليسوعيَّة
رَتقًا لتاريخ الشَّرق
“الكتب الجليلة المقدار، المعدومة المثل في سائر الأمصار، صحّةً وحسنَ خطّ وتجليدًا وغرابة، التي أخذ جلودَها عبيدهم وإماؤهم برسم عمل ما يلبسونهُ في أرجلهم وأُحرق ورقها تأوّلًا منهم”. هذا بعض ما لقيه في خزائن الكتب في القاهرة في عصر الردة، يرويه الأب لويس شيخو (1859 -1927م/ 1275 – 1346ه) في كتابه “رحلات علمية بحثًا عن المخطوطات”، الجامع لسلسة مقالات توثّق رحلته البحثية في صحيفة المشرق (1898 – 1998م/ 1316- 1419هـ).
يسرد الأب شيخو في هذا المقالات، وبكثير من الأناة والجودة والإتقان، تفاصيل رحلاته المشرِّقة والمغرِّبة، من النيل إلى بومباي، ومن الأستانة إلى فرنسا، بوصف تصويري إثنوغرافي لما عاينه من أحوال البلاد والمناطق التي زارها تعقبًا للكتب والمخطوطات التي كلَّف نفسه بجمعه وحفظها، خوفًا من أن يصيبها ما أصاب كتب القاهرة، من انتعال لجلودها، وحرق لأوراقها، لاختلاف في الرأي والعقيدة.
بدأت نواة المكتبة حينذاك من الكتب والوثائق المحفوظة في مدرسة غزير الإكليريكية، وخلال ما يقارب نصف قرن من ترؤس الأب لويس شيخو للمكتبة (1927- 1980م/ 1345 – 1400هـ)، وبفضل رحلاته المكثفة، اجتمع للمكتبة 3000 مخطوطة معظمها من الهند وثلثها من حلب.
مكتبة مرجعيّة للبحث
يعود شأن إدارة المكتبة القائمة في جوار متحف التاريخ الطبيعي ومسرح مونو وبمبناها العائد إلى العام 1939م/ 1358هـ، إلى جامعة القديس يوسف بعد الاتفاقية التي وقعتها مع الرهبنة اليسوعية في العام 2000، وهي تضم حوالى 230000 كتاب بعناوين تدور في ميدان التاريخ، والأديان، والجغرافيا، والفلسفة، والاستشراق، وجغرافيا الشرق الأدنى السياسية، وعلم الآثار، والألسنية، وفن التصوير، والأدب والفنون… إلى غيرها من المحتوى الغني من العناوين والموضوعات التي تتراوح بين الإسلاميّات، والتاريخ، والآثار، واللاهوت، والفقه، والفلسفة، وفقه اللغة، والأدب العربيّ، وذلك في عدد من اللغات، هي العربية والفرنسية والإنكليزية والروسية والإسبانية والألمانية والإيطالية والسريانية واللغة اليونانية القديمة واللاتينية.
وفي المكتبة ما لا يقلّ عن 25.000 كتاب باللغة الأرمنية، جمعها الآباء اليسوعيون المتخصّصون في الدراسات الأرمنية (جان ميسيريان، موريس تالون، بيتر هانس كولفنباخ). وفيها أيضًا أهم المجلات الأرمنية وبلغات متعددة، فضلًا عن مجموعات تكاد تكون كاملة من الصحف الأرمنية اليومية الصادرة باللغة الأرمنية.
في العام 1894م/ 1311هـ، أطلق الأب شيخو اسم “المكتبة الشرقية” عليها. ومنذ ذلك الوقت، تحتضن المكتبة كلَّ جديد في مختلف المجالات، وتضمّ مئات آلاف المجلّدات والمراجع القديمة والحديثة، وحوالى 40000 صورة وبطاقة بريديّة تعود إلى أوائل القرن العشرين.
وكانت الأديبة اللبنانية إيميلي نصر الله قد وهبت محفوظاتها للمكتبة في العام 2015 وهي مجموعة من المقالات والمحفوظات والدراسات المتعلقة بها في ثمانية عشر مجلّدًا.
وأكّد رئيس الجامعة سليم دكّاش اليسوعي، في المناسبة، أنّه يرمي إلى “نسخ المحفوظات إلكترونيًا، وتوفيرها عبر موقع المكتبة الإلكتروني، كما يطمح في الحصول مستقبلًا على مزيد من المحفوظات والوثائق، فتكون هذه المجموعة انطلاقةً نحو وثائق أخرى، لا سيّما تلك المقالات والمؤلّفات الّتي تتحدّث عن نصر الله”.
كذلك، تضم المكتبة مجموعة تكاد تكون كاملة من الصحف المحلية والمجلات التي تعود إلى بداية الصحافة العربية في لبنان والقاهرة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فيوجد فيها 1800 عنوان دورية، كالمجلة الآسيوية والمجلة الإنجيلية اللتين تتفرد بهما المكتبة الشرقية، إضافة إلى صحف تاريخية كصحيفة “حديقة الأخبار”؛ الصحيفة الأولى الصادرة باللغة العربية في الشرق الأدنى، وصحيفة “لسان الحال” وصحيفة “البشير” الدينية الإخبارية، التي أصدرها الآباء اليسوعيون في بيروت بدءًا من العام 1870م/ 1287هـ، ثم توقفت عن الصدور في العام 1945م/ 1364هـ.
مجموعة فوتوغرافيَّة نادرة
افتتحت المكتبة الشرقية في العام 2016 مكتبة الصور وأجنحتها المرمّمة، بالتعاون مع مؤسّسة بوغوصيان، عبر الشريك المؤسّس فيها، ألبير بوغوصيان، الذي أبرز أهميتها قائلًا: “أبهرتنا هذه المجموعة الفوتوغرافيّة وأثّرت فينا، لأن تاريخ عائلتنا متجذّر في هذه المنطقة، من أرمينيا إلى لبنان مرورًا بسوريا، ولأنها قيمة كبيرة على مستوى الذاكرة، إذ تشهد على أزمان طاب فيها العيش وعلى أوقات صعبة ومؤلمة عاشتها بعض الشعوب، كما تدلّ صور كثيرة لمخيمات لاجئين ناجين من الإبادة الأرمنيّة”. كذلك، أشار خلال حفل الافتتاح، إلى “أنَّ مشاركة المؤسَّسة في المحافظة على هذا التراث أمر في غاية الأهمية، ولا سيما أنَّ الرطوبة كان لها أثرها الواضح في الصور، فضلًا عن أن التحلل أصاب مجموعة كبيرة منها”.
وفي العام نفسه، اشترت جامعة القديس يوسف مكتبة صور فاروجان سيبتيان، وهو الذي أرَّخ حقبة مهمة من تاريخ لبنان بالأسود والأبيض قبل أن ينتقل إلى الألوان، فرصدت عدسته شخصيات تاريخ لبنان الحديث من السياسة إلى الفن والثقافة، وصولًا إلى المهرجانات والمعالم التي ميَّزت لبنان، ليضاف هذا الرصيد الصوري إلى مكتبة الصور في الجامعة اليسوعية.
ووقع الاتفاقية رئيس الجامعة وهاروث رافي هوسب استبانيان، ابن شقيقة فاروجان، زاروهي، التي عملت معه في التحميض والتصحيح، فكانت من أوائل النساء اللاتي عملن في هذه المهنة في لبنان والمنطقة.
وبحسب نورديغيان، تشمل مكتبة الصور إعداد غرفة مزودة بنظام تحكم بالحرارة والرطوبة وبأجهزة أخرى مناسبة. وكانت الجامعة قد وضعت في تصرف المشروع مركزًا بمساحة 100 متر مربع في الطبقة الأرضية من المكتبة الشرقية، وذلك لتنظيم “مجموعة الصور وتوفير الحماية لها، من خلال الحفاظ عليها في خزائن وعلب ومغلفات غير أسيدية، وجرد المجموعات ورقمنتها، من أجل إدارة محتوياتها وتوزيعها واستعمالها عبر الأجهزة المناسبة من كومبيوترات وآلات وتدريب عدد من الموظفين المتخصّصين”.
وتبلغ محفوظات المكتبة من الوثائق الفوتوغرافية أكثر من 70000، من منشورات ورقية وشرائح زجاجية وصور سلبية وبطاقات بريدية تعود إلى بداية القرن العشرين، بدأت تتكون على أيدي الآباء اليسوعيين الذين أتى اهتمامهم بالتصوير من منطلق مهمتهم الكهنوتي وتخصصاتهم المهنية.
ومن بين هذه الوثائق ما يعود إلى مجموعة الأب أنطوان بوادوبار، الذي وظَّف تقنية التصوير الجوي الفوتوغرافي في أبحاثه عن المواقع الأثرية في لبنان وسوريا، فأتاحت له اكتشاف مدن آشورية ورومانية والمعسكرات والحصون والقنوات وبقايا الطرق والقنوات التي تعود إلى المراكز الزراعية القديمة. وهناك مجموعة من الصور تعود إلى بداية القرن العشرين للأب جوزف دولو الَّذي اهتم بتصوير مدارس القرى اللبنانية في البترون وجبيل وكسروان.
هذا الرصيد الصوري كلّه محفوظ في المكتبة، إضافةً إلى صور البورتريه أو تلك التي تظهر التاريخ الطبيعي للبنان، والكثير من الأفلام والبطاقات المصوّرة. وبذلك، تعّد المجموعات الفوتوغرافية الخاصَّة بالمكتبة، بحسب تصريحات القيمين على المكتبة، “من الأوسع في لبنان من حيث قدمها وتنوعها”.
كنز من المخطوطات
لكن لا شكَّ في أنَّ أهم ما تحتويه المكتبة، هو المخطوطات البالغ عددها 3500 مخطوطة نادرة، منها ما خطَّ على الورق ومنها ما خطَّ على جلد الغزال، كما هو حال الأناجيل التي يذكرها الأب شيخو في كتابه، فيقول: “وجدنا عشر صحائف من إنجيل القديس لوقا مكتوبة على رقّ غزال باليونانية بأحرف جميلة محلاة بالذهب والألوان، وهي بقايا إنجيل كتب سنة 1344”.
تقع هذه المخطوطات في لغات عدة كالسريانية، والفارسية، والأرمنية، واليونانية، والتركية، لكن معظمها باللغة العربية، وفي مواضيع عدة كالتاريخ والجغرافيا والدين والرياضيات والطب والموسيقى وعلم الفلك، لكن أشهرها هو الإنجيل العائد للقرن السابع والمزين بالأيقونات الحلبية.
“يمكن للمستخدم الاطلاع على العناوين التفصيلية التي تعرف بـ 1800 مخطوطة جرى فهرستها من خلال موقع المكتبة الشرقية، لكنه لن يستطيع استخدام النسخة الأصلية للمخطوط، لأنَّ استهلاكه بهذا الشكل سيؤدي إلى إتلافه، وإنما تؤمن له المكتبة نسخة إلكترونية مصورة عن المخطوط”، يقول كرم حويك المسؤول في قسم المخطوطات.
ويُتابع: “لم نقم إلى الآن بفهرسة باقي المخطوطات المحفوظة في القسم، أي ما يعادل النصف تقريبًا، وهذا ما سيحول دون اطلاع المهتمّين عليها”.
وكانت المكتبة في فترات سابقة قد نظَّمت، ضمن ورشاتها المستمرة على مدار العام، ورشًا لترميم المخطوطات، فضلًا عن جدولتها ورقمنتها وحفظها إلكترونيًا على أقراص مدمجة، علمًا أن المخطوطات مخزّنة في مغلفات كرتون خاصة لحمايتها، ولا يمكن لأحد تفحّصها إلا بعد الحصول على إذن من إدارة المكتبة والمرور بعددٍ من الإجراءات.
أكبر حاضنة للخرائط
لا تقلّ الخرائط قيمة عمّا تمثله المخطوطات والصّور الفوتوغرافية، فبحسب رئيس جامعة القدّيس يوسف، تضم المكتبة 4.500 خريطة، هي أكبر مجموعة خرائط وتصاميم خاصّة بلبنان ومنطقة الشرق الأوسط، وتضمّ ما يقارب 2000 مخطّط وخريطة جغرافية، منها 250 خريطة للبنان و60 مخططًا لمدينة بيروت، من بينها خرائط لبيروت وطرابلس في حقب مختلفة تتيح دراسة النمو السكاني في المدن، وخريطة للبنان أعدت خلال الحرب الفرنسية سنة 1862م/ 1278هـ، ومخطّط مدينة بيروت لسنة 1908م/ 1326هـ.
من أشهر الخرائط التي تحتضنها المكتبة، تلك التي وضعتها البعثة الفرنسيّة سنة 1861م/ 1277هـ، وخرائط دوبرتري (dubertret) المختصَّة بالتضاريس وطبقات الأرض، وخريطة رسمها إيمانويل دي مارتون (Emmanuel de martonne)، إضافةً إلى الخرائط التي أعدَّتها أجهزة الاستخبارات البريطانية للعراق خلال الحرب العالميَّة الأولى.
وبحسب موقع المكتبة الإلكترونيّ، “أتاحت هذه المجموعة القيام بأبحاث رائدة تناولت تاريخ بيروت في القرن التاسع عشر.. وقد أُعدّ فهرست هذه المجموعة من الخرائط والمخططات، بالتعاون مع فرع الجغرافيا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة القديس يوسف”.
مشاريع ثقافيَّة ومكتبيَّة
أطلقت المكتبة في العام 2013 مشروع “الفهرسة الإلكترونية” الذي يتضمَّن أيضًا إعادة هيكلتها. وقد أمضى الطلاب الَّذين تم اختيارهم عن طريق مكتب “الخدمة الاجتماعية” في الجامعة، حوالى 5 ساعات يوميًا، مقابل أجر يساعدهم في تسديد جزء من أقساطهم، وعملوا نحو أسبوعين في المستودعات في إطار عملية إزالة الغبار والتعقيم وتنظيم الرفوف، قبل الانتقال إلى العمل لمدة أسبوعين في الفهرسة الإلكترونية، وهو العمل الذي امتدّ لفترة ثلاث سنوات.
اليوم، تفتح المكتبة أبوابها لطلاب الجامعة اليسوعية، وللعموم أيضًا، مقابل بدل اشتراك رمزي، وتقدم حسومات خاصّة لأساتذة الجامعة اللبنانية وطلابها، بحيث تخفض كلفة الاشتراك إلى النصف.
وتحتضن الجامعة اليسوعية أيضًا في أرجائها “مكتبة مؤسّسة فارس الزغبي الثقافيّة”، التي تتضمَّن أكثر من 60 ألف مجلّد في الحقوق والعُلوم السياسيّة والأدب والثقافة، وتعدّ مرجعًا في مواضيع متنوّعة، من مثل السياسة والفلسفة والتاريخ والبيئة، وهي متاحة بأجمعها للباحثين والمهتمين ضمن نظام “الإعارة الخارجيّة”.
ويضاف إليها خمس مكتبات متخصّصة هي: مكتبة العلوم الاجتماعيّة، مكتبة الآداب والعلوم الإنسانيّة، مكتبة العلوم الطبيّة، مكتبة العلوم والتكنولوجيا، مكتبة حرم الابتكار والرياضة.
كذلك، تتولى المكتبة الشرقية منذ العام 1906م/ 1324هـ طباعة مجلَّة جامعة القديس يوسف (mélanges) وتوزيعها، والتي صدر منها حتى اليوم 65 عددًا، وهي تنشر الأبحاث العلمية الخاصة بحضارات القرون القديمة والوسطى في الشرق الأوسط والشرق الأدنى، فضلًا عن أبحاث متخصّصة في العديد من الميادين، من بينها علم الآثار والتاريخ ودراسة النقوش والدراسات السامية وفقه اللغة وتاريخ الفلسفة والعلوم وتاريخ الأديان..
وفي العام 2006، تأسَّست جمعية أصدقاء المكتبة الشرقية في بيروت، للترويج للمكتبة دوليًا في الأوساط الأكاديمية وفي عالم الثقافة والإعلام، ومساعدتها ماديًا لرعاية الباحثين.
سرّ كلّ هذا العلم!
كأنَّ أهل العراق هم سدنة بيت العلم. فيما كانت العاملة في المكتبة الشرقية، كريستينا الصايغ، تسردُ لي قصة الأب العراقي لويس شيخو الذي تجشَّم عناء السفر والخوف على النفس من القتل، ليجمع من أدنى الأرض وأقصاها قصاصة ورق يزهد بها من يجهل قدرها، وجدت نفسي أستذكر قصة السيد شهاب الدين المرعشي النجفي الذي لاقى الجوع والسجن، ورهن ثوبه وما ملك من أجل استنقاذ مخطوطة من التلف أو الوقوع في أيدي المستعمر، والموصي بأن يدفن جسده عند مدخل مكتبته، كي تطأه “أقدام باحثي العلوم الإسلامية ومحقّقيها كلّ يوم”.
قد يكون ماء دجلة الذي ذابت فيه مكتبة بغداد بأيدي المغول، جرى في عروق السيدين، فكان كلّ ذلك..
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: المكتبة الشَّرقية في الجامعة اليسوعيَّة رَتقًا لتاريخ الشَّرق
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
اقرأ أيضًا:
- “دار النمر” ومجموعته الفنيَّة المتنوّعة
- “المركز الوطني للأرشفة والتوثيق” في لبنان- تعرّفوا إلى الأرشيف الأصفر
- منظّمة “أمم” للأبحاث والتوثيق.. ديوان للذّاكرة اللبنانيَّة
- ذاكرة مصر المتجدّدة.. وأحلام التحوّل نحو الصّناعة الثقافيّة
- أرشيف “المدرسة الصِّحافيّة” مستمرٌ برفد العالم بالمعلومات والصّور
- أرشيف الإذاعة ذو خصوصية وقديمُه يرمز إلى هويتها
- “مركز الدّراسات الفلسطينيّة” أرشيفًا ومكتبة
- “السفير”: مليون ونصف قصاصة صحافية مفهرسة
- مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت.. أرشيف تاريخي واقتناء لكل ثمين