المؤسَّسة العربيَّة للصّورة:
جوّالة يؤرخون تاريخ العالم العربي من خلال الصّورة
*غفران مصطفى
وجوه غريبة في ألبوم كبير. على كلِّ صورة رقم كُتِب بالقلم الأحمر العريض. لا معنى لكلِّ صورة بمفردها، ولا أسماء تدلّ عليها، فيُستعاض المعنى بالتصاق الصّور الشمسية بجانب بعضها البعض، لتصير عشرات الوجوه في صفحة واحدة. وجوه “مُكشّرة” وأخرى متبسّمة، وكثير منها يختزن قصصًا مخبوءة خلف الملامح وخلف اللونين الأبيض والأسود. صور التقطها المصوّر شفيق السوسي في استديو “السوسي” في صيدا، في فترتي الخمسينيات والستينيات، ووصلت إلى المؤسَّسة العربية للصورة التي تتكفَّل اليوم بحفظها، لتضاف هذه المجموعة الصوريّة إلى أرشيفها.
دراسة لتاريخ الصّورة
مجموعة “السوسي” ليست الوحيدة في أرشيف المؤسَّسة، فهي تضمّ منذ تأسيسها في بيروت في العام 1997 وحتى اليوم، قرابة 600000 صورة. وإضافة إلى هذه المجموعة، تملك المؤسَّسة مجموعات فوتوغرافية من عدد من البلدان العربية، من مثل لبنان وسوريا وفلسطين والأردن ومصر والمغرب والعراق، وعدد من بلدان الخليج العربي، من مثل السعودية وقطر والإمارات، وأيضًا من جاليات عربيّة في كلٍّ من إيران والمكسيك والأرجنتين والسنغال.
لم يكن بناء المؤسَّسة في البداية قائمًا على نظام مؤسَّساتيّ، فهُويتها خلقها عدد من الفنانين. يقول مدير المؤسسة العربية للصورة مارك معركش، شارحًا ظروف نشأتها: “فكرة المؤسَّسة ولدت بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان. في هذا الوقت، لم يكن ثمة مؤسَّسة في لبنان قادرة على حفظ التراث الفوتوغرافي للحرب وللفترة التي تسبقها، بل كان الناس يمتلكون مجموعات فوتوغرافية كثيرة، ولم يكن يوجد مكان لحفظها. لهذا السَّبب، قرر المؤسّسون أن يتبنّوا عملية الحفظ، ويدرسوا الممارسات المختلفة للصورة وتاريخها في لبنان والمنطقة العربية”.
يوضح معركش أنَّ الهدف في بداية التأسيس لم يكن دراسة تاريخ المنطقة العربية من خلال الصورة، بل دراسة تاريخ الصورة في المنطقة العربية. ومع رواج اسم المؤسَّسة في فترة التسعينيات، بدأ عدد من الفنانين بالانتساب إليها، حتى توسَّع عملها وسافر أعضاؤها إلى بلدان عدة بهدف جمع أكبر عدد من الصّور ذات القيمة الأرشيفيَّة.
معايير اختيار الصّور في المؤسَّسة منذ انطلاقتها لم تكن موحّدة، فإلى جانب اهتمامها بالقيمة الفنيَّة للصورة، صبّت اهتمامها أيضًا على الممارسات المحيطة بها، أي الظروف التي التقطت فيها، الحقبة الزمنية، المصوّر، المكان، مضمون الصورة، وغيرها.
يُفنّد معركش عمل المؤسَّسة بأربعة أفعال هي: الجمع والحفظ والأرشفة والنشر. وفي الفترة الزمنية الممتدة من العام 1997 وحتى العام 2017، كان التركيز الأكبر على عمليتي الجمع والحفظ. العدد الأكبر من المجموعات الصوريّة حصلت عليه المؤسَّسة في السنوات السبع الأولى منذ تأسيسها. حينها، كان أعضاؤها يقومون بجهود شخصية للجمع، لكن في وقت لاحق، وبعدما تعرَّف الناس إلى عملها، صاروا يمدّونها بمجموعات جديدة لهم أو لأشخاص يعرفونهم، حتى كبرت المجموعات الصورية فيها، ووصلت إلى 301 مجموعة، كلّ واحدة منها لديها خصائصها وتاريخها. واليوم، تحتوي أكبر مجموعة فوتوغرافية في المؤسَّسة 150 ألف صورة، فيما تحتوي أصغر مجموعة نصف صورة.
لم تكن مصادر المجموعات الصوريّة واحدة، بحسب معركش، فمنها ما جمعه مصوّرون محترفون، ومنها ما جمعه هواة، وأخرى جمعها مصوّرون صحافيون، أو جُمعت من استديوهات، أو من أفراد يملكون كاميرات ويوثقون حياتهم وحياة عائلاتهم في ألبومات عائلية غير تجاريَّة.
“تساعدنا هذه الصّور على معرفة الطبقات الاجتماعية التي ينتمي إليها أصحابها من خلال مصادرها، فالذين كانوا يملكون الكاميرات في الماضي ويستطيعون تظهير صورهم، كانوا يعدّون من العائلات الميسورة ماديًّا، بينما الصور المظهّرة في استديو كانت لطبقات مختلفة، لأنَّ غالبية الأسر كانت تقصد الاستديو في المناسبات والأعياد”، يقول معركش.
بين فترتي الأربعينيات والسبعينيات، استُحدثت ممارسات جديدة في مجال التقاط الصور. هذا الأمر كان يعني المؤسسة بشكل كبير في عملية الجمع، إذ إن الأهمية لا تكمن بالصور نفسها، بل بالممارسة المحيطة بها، حين صار المصوّرون يخرجون إلى الطرقات، ليصوّروا الناس، ومن ثم يدعونهم إلى استلام صورهم من “استديوهاتهم” من دون أي بدل مادي. وبهذه الطريقة، كانوا يروّجون لأعمالهم.
مجموعات فوتوغرافية متنوّعة
تملك المؤسسة العربية للصورة مجموعات فوتوغرافية من أشخاص معروفين وآخرين مجهولين، ومن حقبات زمنية مختلفة، ومن بلدان متعددة، فهي تمتلك، مثلًا، مجموعة صورية مؤلّفة من 90 ألف صورة من المعماري العراقي رفعت شادرجي، وتعود إلى فترة الخمسينيات، وهي صور لمرحلة إعادة إعمار بغداد.
غالبية المجموعات الصورة تعود إلى فترة الخمسينيات والستينيات. وتوجد في المؤسسة أيضًا مجموعة من استديو “photo jack” في طرابلس، تحتوي 97 ألبومًا، ولكلِّ ألبوم رقم خاص به. ويوجد أيضًا صور من المصوّر أكرم زعتري والمصوّر هاشم مدني الذي كان يملك استديو “شهرزاد” في صيدا، ومجموعات من إيران للمصوّر نيجار عزيمي، كانت تركّز على سلالة كاجار، وتكمن أهميتها في أنها صور تاريخية بحتة، مع القليل من الاهتمام بالجوانب الجمالية أو الاجتماعية والسياسية للصورة.
واجهت المؤسَّسة صعوبات في الحصول على مجموعات صورية في منطقة الخليج، بسبب امتناع أصحابها عن إخراج هذه المجموعات من أراضيها. كذلك الأمر في الجزائر، إذ لم تستطع الحصول على أيّ مجموعة فوتوغرافية منها.
يقول معركش إنَّ المؤسَّسة تمتلك مجموعة مصوّرة لا تعرف أي معلومات عنها، سواء عن هوية المصور أو مصدرها أو مضمونها. في هذه الحالة، تحدّد المؤسّسة المعيار الذي ستؤرشف على أساسه هذه الصّور، كما تفعل مع باقي المجموعات.
ويضيف: “أحيانًا، نقع في إشكالية أن تبقى بعض الصور مع النيغاتيف الخاص بها، فبين أن نبقي عليها كما أتتنا، وما قد ينتج بعد ذلك من ضرر بالصور أو بالنيغاتيف، أو أن نفصلهما، فإننا نفضّل أن نخاطر في عدم فصلهما، حتى نحافظ على الطريقة التي جاءتنا فيها المجموعة”.
تركّز المؤسَّسة على الحقبة الممتدة بين الأربعينيات والسبعينيات، وتملك حتى اليوم صورًا تعود إلى العام 1860 والعام 1993، لكن معركش يلفت إلى ضرورة إضافة مجموعات معاصرة إليها، كمجموعات تعود إلى فترة الحرب الأهلية، إضافةً إلى العمل على طرق جديدة تقوم على جمع الصور، من خلال وضع عناوين يحدد على أساسها الجمع، كالحركات النسوية في العالم العربي.
لا يوجد اليوم في المؤسَّسة باحثون يعملون على توثيق المجموعات، فهي تستدعي فنانين وباحثين من خارجها لتوثيق هذه المجموعات، ويقتصر عملها على تدوين مضمون الصورة. هذا الأمر يسهّل طريقة البحث عن الصور لديها، وفي الموقع الإلكتروني الخاص بها، إذ سيجري العمل في وقت لاحق على نشر 35 ألف صورة في الموقع، لتصبح متاحة للناس، في وقت تساهم المجموعات في المؤسسة في خلق دراسات اجتماعية وإنثروبولوجية وغيرها.
الاهتمام الأساسي للمؤسسة اليوم يصبّ على وضع هذه الصور بين أيدي الناس، حتى يستفيدوا منها في أبحاثهم التي تتمحور حول الممارسات المتعلقة بالصور، وكيف كانت الصور تلتقط في الماضي والظروف المحيطة بها. في هذه الحالة، يتحوّل اهتمام المؤسَّسة من الصورة نفسها إلى الممارسات المتعلقة بها. على سبيل المثال، هناك صور التُقطت بالأبيض والأسود، وقام المصوّر بتلوينها بالريشة، وأخرى عبارة عن صور شمسيَّة، لكنها تختلف بين بعضها البعض من خلال إبراز المصوّر لقدراته في جعل الصور الشمسية مميزة عن غيره.
أساليب الحفظ والترقيم
منذ العام 2015، لم تعد المؤسَّسة العربية للصورة تستقبل مجموعات فوتوغرافية جديدة، لانشغالها في ترقيم المجموعات الموجودة لديها، واستطاعت حتى اليوم ترقيم 57 مجموعة من أصل 301 مجموعة تملكها. “هذا الرقم يعدّ كبيرًا، لأن العمل على الحفظ والتنظيف وإعادة وضع المجموعات في مواد تخدم الأرشفة والترقيم يستغرق وقتًا طويلًا”، يقول مدير المؤسسة مارك معركش، ويلفت إلى أنَّ جميع التقنيات المستخدمة فيها حديثة وبمعايير عالمية.
تعرّف المؤسّسة عن نفسها بأنها لا تبغي الربح، وتعتمد في عملها على المساعدات المالية. يوضح معركش أنّ التمويل لا يفرض عليها هُويتها، بل يفرض أحيانًا التركيز على أمور معيّنة دون غيرها، “فمثلًا، يصبّ التمويل اليوم بالدرجة الأولى على الترقيم، لكن هناك مراحل مهمّة تسبق الترقيم يجهلها كثيرون، هي التنظيف والحفظ بمواد عالية الجودة، وهي ذات كلفة عالية”.
تحافظ المؤسسة على الصور كما تصلها، وتعمل فقط على تعديلات بسيطة في الألوان وحدّة الصورة، حتى تكون المجموعات قريبة من الغرض الصوري الذي يريدونه. وفي حال وصلت إليهم صور داخل إطارات، فإنهم يحافظون عليها كما هي، لأن “الإطار جزء من قصة الصورة”. تحفظ المجموعات الصورية في غرفة مبردة، هي عبارة عن 11 مترًا مربعًا، وتوزّع داخل علب، وقد تتوزع المجموعة الواحد على أكثر من علبة، بحسب نوعية المجموعة (مطبوعة، زجاج، negative)، وبحسب قياس الصور.
تتمّ عملية الترقيم من خلال وضع النيغاتيف أو الصورة على سكانير (scanner) مسلّط عليها ضوء، تعلوها كاميرا digital لتصوّر المادة المطبوعة أو غير المطبوعة، ومن ثم تتمّ إضافتها إلى الكمبيوتر وإجراء التعديلات الضرورية واللازمة عليها. تحفظ المجموعات المرقمة بنسختين، واحدة “ماستر فايل” والأخرى “ري تاتشد فايل”.
مشاريع صُوريّة ومكتبية
في العام 2011، أضيفت مكتبة مختصّة بالصورة تحديدًا إلى المؤسَّسة، وضمَّت في البداية 1000 كتاب، وصولًا إلى 2200 كتاب. تُعنى الكتب أيضًا بممارسات الأرشفة في المنطقة العربية والعالم. ويقول معركش إن هذه الكتب ستصبح في شهر أيلول/ سبتمبر المقبل متاحة لكل الناس ليستفيدوا منها، فالمكتبة شكَّلت إضافة للباحثين الذين يعملون على دراسة المجموعات الصورية في المؤسَّسة.
وبسبب ظروف العمل، لم تكن المؤسَّسة قد فتحت أبوابها منذ وقت طويل للعموم، لكن، وفي شهر أيلول/ سبتمبر المقبل، ستفتح أبوابها من جديد لجميع المهتمين بالصّورة والأرشيف.
أصدرت المؤسسة في السنوات العشرين الماضية سبعة كتب تتضمن أعمالها. وفي هذا العام، ستصدر ثلاثة كتب جديدة، إضافةً إلى أنها نظمت 15 معرضًا في بلدان عالمية عدة، وقريبًا سيتم العمل على معارض صُورية في لبنان والمنطقة بشكل مكثّف.
تعمل المؤسّسة اليوم على إعادة تصويب أهدافها ومشاريعها. ومن ضمن الأهداف المستحدثة هو الدور التثقيفي، من خلال ورش عمل ستقام في وقت قريب لطلاب المدارس والجامعات والباحثين والمختصّين في مجال الصورة على الصعيدين المحلي والعالمي.. والدور الذي كانت تؤديه في الماضي، وهو فهم تاريخ الصورة، سيتغير تباعًا ليصبّ على فهم تاريخ لبنان والمنطقة من خلال الصورة.
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
لتحميل المقال بصيغة PDF: المؤسَّسة العربيَّة للصّورة جوّالة يؤرخون تاريخ العالم العربي من خلال الصّورة -ديوان الذاكرة
___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
*غفران مصطفى: منتجة برامج في تلفزيون الميادين. حائزة على شهادة ماجستير في علوم الإعلام والتواصل من الجامعة اللبنانيّة في بيروت. نشرت عددًا من المقالات الأدبية والاجتماعية في جريدتي السفير والأخبار.
للتواصل عبر الإيميل: ghofran.moustafa@gmail.com
اقرأ أيضًا:
- “دار النمر” ومجموعته الفنيَّة المتنوّعة
- “المركز الوطني للأرشفة والتوثيق” في لبنان- تعرّفوا إلى الأرشيف الأصفر
- منظّمة “أمم” للأبحاث والتوثيق.. ديوان للذّاكرة اللبنانيَّة
- ذاكرة مصر المتجدّدة.. وأحلام التحوّل نحو الصّناعة الثقافيّة
- أرشيف “المدرسة الصِّحافيّة” مستمرٌ برفد العالم بالمعلومات والصّور
- أرشيف الإذاعة ذو خصوصية وقديمُه يرمز إلى هويتها
- “مركز الدّراسات الفلسطينيّة” أرشيفًا ومكتبة
- “السفير”: مليون ونصف قصاصة صحافية مفهرسة
- مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت.. أرشيف تاريخي واقتناء لكل ثمين
- المكتبة الشَّرقية في الجامعة اليسوعيَّة رَتقًا لتاريخ الشَّرق