الأرشيف الألماني يوثّق حقائق تاريخيّة عن لبنان لم تُكشف سابقًا

الباحث التاريخي الدكتور عبد الرؤوف سنو:
الأرشيف الألماني يوثّق حقائق تاريخيّة عن لبنان لم تُكشف سابقًا

زينب الطحان

“علم الأرشيف هو الذاكرة السياسيَّة للشعوب”. إنَّها مهمَّة أساسيَّة للأرشيف قد لا تفوقها أهمية علمية أخرى على الإطلاق.. هذا ما يراه الدكتور البروفيسور عبد الرؤوف سنو، الذي لم يكن يخطّط يومًا لأن يصبح متخصّصًا في دراسة التاريخ.

هو اسم معروف في الأوساط الأكاديمية والبحثية في العالمين العربي والأوروبي عمومًا. حاز عدة شهادات أكاديمية عالية في لبنان وألمانيا، إذ نال دكتوراه الفلسفة في التاريخ الحديث والمعاصر من جامعة برلين الحرة/ ألمانيا الاتحادية، ودبلوم اختصاص في التعليم العالي والتنمية الدولية من جامعة كاسل في ألمانيا، ودبلوم الدراسات العربية والإسلامية من جامعة بيروت العربية، كما نال إجازة في التاريخ من جامعة بيروت العربية.

قضى البروفيسور سنّو حياته العلمية مدرّسًا متنقلًا بين الجامعات اللبنانية والأوروبية، فكان أستاذًا في التاريخ الحديث والمعاصر في الجامعة اللبنانية، وأستاذًا مشرفًا في قسم الدراسات العليا، ومديرًا لمراكز أبحاث علمية تاريخية في لبنان وألمانيا.

فتحٌ جديد في التاريخ العثمانيّ

يقول سنّو: “لم يخطر في بالي أبدًا أن أتّجه لدراسة التاريخ في الجامعة. لطالما استهوتني إدارة الأعمال، ولكنّ ظروفي الاجتماعية والاقتصادية لم تكن تسمح لي بالحضور اليومي في الجامعة آنذاك، فاخترت هذا الاختصاص، ثم بدأت أحبّه أكثر فأكثر عامًا بعد عام، ورحت أكتب المقالات البحثيَّة التاريخيَّة خلال الدراسة”.

لاحظ أساتذته أنّه يبرع باختصاصه، فأكمل دراسته العليا فيه، وكانت رسالة الماجستير تتمحور حول الإصلاحات العثمانية خلال عصر السلطانين سليم الثالث ومحمود الثاني (1789 – 1839). هي إصلاحات فرضتها الدول الأوروبية لتحسين أوضاع من كانت تسمّيهم رعاياها من المسيحيين، من خلال الإرساليات التبشيرية. نشطت في تلك الحقبة شعارات الحرية، ومطالبة العثمانيين بالانفتاح، ولكنهم لم يتمكَّنوا من تطبيق تلك الإصلاحات وفق الرؤية الغربيَّة لتلك الدول، لصعوبات جمة من جهة، ولمماطلة أحيانًا من أجهزة حكم الدولة من جهة ثانية، بحسب سنو. تصاعدت في القرن التاسع عشر روح القوميات، فالمسيحيّ لم يعد يريد الحكم العثماني، وشرع بالمطالبة بالاستقلال عنه، وبدأت حركة الاستقلال في البلقان، ففي “تكريت”، كان الحكم الذاتي في العام 1862، وأصبح لبنان متصرفية في العام 1861.

كما أنَّ تدخّل الدول الأوروبية أضعف الدولة العثمانية، وخصوصًا في استغلالها لما كان يسمّى الامتيازات الأجنبية التي بدأت مع فرنسا، حيث رعت كلّ دولة أتباع مذهبها الديني، فروسيا مع الأرثوذكس، وفرنسا مع الكاثوليك، والإنكليز مع البروتستانت، مع العلم أنه لم يكن في الدولة العثمانية بروتستانت قبل العام 1850. هذا التدخّل، أوجد امتيازات اقتصادية لتلك الدول، ما أثّر سلبًا، وبمستوى كبير، في الصناعة الوطنية والمحلية.

عُدّت رسالة الماجستير (1975) فتحًا جديدًا تقريبًا حول تاريخ الإمبراطورية العثمانية، نظرًا إلى الأرشيف الوثائقي المعتمد عليه في إعدادها. صعوبة بالغة رافقت هذا البحث التاريخي أمام الدكتور/ الطالب عبد الرؤوف سنو آنذاك. كان التنقيب في أرشيف إسطنبول، وفي بعض الدول الأوروبية، مرهقًا للغاية، لم يكن ثمة توثيق ممنهج بالمعنى العلمي اليوم، ولكنه أصبح مدروسًا ومنظّمًا. كان لا بدّ من توضيح دور تدخل الدول الاستعمارية الغربية في شؤون الحكم العثماني، وتبيان حقيقة تلك “الامتيازات”، التي لم تكن أكثر من بوابة عبور نحو خلخلة هذا الحكم وتفكيك أواصر أقاليمه المترامية الأطراف.

المرحلة التوثيقية الأصعب

لكنَّ المرحلة الأصعب في عملية التنقيب في الأرشيف كانت مع الأرشيف الألماني، حين قصد سنو ألمانيا بغرض تحضير شهادة الدكتوراه. يقول: “أرسلت طلبًا لمقابلة البروفيسور بيتر فورت، وهو أستاذ في جامعة لندن، كي أعمل معه على مشروع أطروحة جيش الإنقاذ لفوزي القاوقجي، فلم يعجبه الموضوع، وبالتالي لم أُقبل في الجامعة. في العام 1975، قدّمت السفارة الألمانية منحتين للدراسة في ألمانيا، فساعدني الحاج توفيق حوري من جامعة بيروت العربية للحصول على منحة”.

أجرى المعنيّون معه مقابلة، بعدما اختار “موضوعًا يهمّهم، وهو المصالح الألمانية في سوريا وفلسطين. وطبعًا، سوريا المقصودة هنا هي بلاد الشام، ويقع لبنان من ضمنها”. كتب سنو عن مصالحها، وكان الهدف أن يكتب عن المصالح الثقافية والتبشيرية، لكنَّ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان جعله يطوّر موضوع الأطروحة، متطرقًا إلى الجانب السياسي والاقتصادي والتبشيري والثقافي.

نالت الأطروحة مرتبة الشرف، واستحقَّ جائزة عليها، وكان عنوانها “المصالح الألمانية في سوريا ولبنان في القرن التاسع عشر من 1842 حتى 1898″، وهو ما فتح له المجال للبقاء في ذلك البلد لسنوات، أعدَّ خلالها دراسات عديدة عنه وعن علاقاته الخارجية، ونشر كتبًا مختلفة.

خصوصية الأرشيف الألماني

رحلة كتابة الأطروحة وبقية الدراسات بعد ذلك، يرويها الدكتور سنّو بشيء من التفصيل، ولا يزال محتفظًا بنماذج عديدة من أوراق الأرشيف وما فيه من وثائق تاريخية. خاض غمار الأرشيف السياسي الألماني في بون التي كانت عاصمة ألمانيا الاتحادية قبل الوحدة في العام 1990.

استمرّ عمله في التنقيب لمدة سنة تقريبًا. هذا الأرشيف كان محصورًا بحقبة نهاية القرن التاسع عشر، وهو ما اضطرّه إلى الانتقال إلى برلين، كي يطَّلع على الوثائق القديمة التي تغطّي القرنين الثامن والسابع عشر، وتحوي آلاف الوثائق المتعلقة بالحرب الأولى والثانية، ولكن غالبًا ما كان هذا الأرشيف السياسي يصرّح عن وثائق مرّ عليها ربع قرن تقريبًا وليس أكثر، فلم يسمح له بالاطلاع على كل ما يرغب فيه، بل كان المختصّون في هذا الأرشيف يحددون له ما هو مسموح الإفصاح عنه، وهو ما ينمّ عن حساسية شديدة لبعض هذه الوثائق، في حال تمّ الإعلان عنها، وخصوصًا أنها قد تعيد خلق مشاكل دُفنت في الماضي.

يقول سنو: “حين كنت أبحث عن وثيقة لمسألة محددة لأطروحتي، وقع بين يدي، من دون انتباه العامل المشرف في الأرشيف، أرشيف مخصّص للإرساليات التبشيرية التي كانت منتشرة في المشرق العربي. بعض هذه الوثائق يحدد بالتفصيل العديد من ممارسات هذه الإرساليات، من مثل سرقة الأموال، وخصوصًا مع مركز كان يسمّى “جمعية القدس”، ولكنه سرعان ما سُحب مني”.

لم يكن فهم المئات من الوثائق في الأرشيف الألماني، والإنكليزي أيضًا، ميسّرًا بالنسبة إلى الباحث التاريخي سنّو، ذلك أنَّ معظم المعلومات التاريخية كانت تُكتب باللغتين الألمانية والإنكليزية القديمتين، وبخطّ اليد، وهو ما كان معتمدًا في تلك القرون، فواجه صعوبة بالغة في فهم هذه الخطوط. ويضيف شارحًا: “في ألمانيا، قُدم إليَّ كرّاس يقابل بين شكل الحروف القديمة والحديثة، كي أتمكَّن من فكّ حروف الكلمات. أحيانًا، كنت أستعين بأشخاص ملمّين بهذا الخط. عانيت فعلًا، وبذلت جهدًا كبيرًا لأتعرف إلى أحداث الحقب التاريخية التي كنت أنقّب عنها”.

مرّت عقود على ذلك اليوم. أما الآن، فأضحت عملية التنقيب في أيِّ أرشيف، أوروبي أو غربي، أكثر سهولة. عندما قرّر سنو تأليف كتاب عن “ألمانيا والإسلام بعد الحرب العالمية الأولى”، وتحديدًا بين الحرب العالمية الثانية والعام 1972، وجد أنَّهم باتوا يعتمدون على طرق حديثة لتسهيل الاطّلاع على الأرشيف، فحين سافر إلى بريطانيا منذ 15 سنة، كان يبحث عن الوثيقة في صندوق ورقي. أما اليوم، فالوثائق موجودة في الحواسيب الإلكترونية، ويستطيع الباحث أن يحصل عليها تباعًا من خلال بحث إلكتروني دقيق.

الغريب في الأمر، كما يقول الدكتور سنو، أنَّ جزءًا كبيرًا من الأرشيف الألماني القديم، كانوا يعتمدون في كتابات وثائقه على اللغة الفرنسية في الخطاب السياسي خصوصًا، لأنَّ ألمانيا كانت دولة مجزأة (قبل أن تتوحد)، وكان للفرنسيين تأثير واضح في المناطق الجنوبية الألمانية. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، لم نعد نجد أية وثيقة مكتوبة باللغة الفرنسية، بل بالإنكليزية، نظرًا إلى بدء هيمنة الولايات المتحدة الأميركية في العالم.

لبنان في الأرشيف الألمانيّ

يغلب الطابع السياسي على مواد الأرشيف الألماني، غير أنّ الأمر لم يمنع من وجود وثائق تتعرّض لمناحٍ أخرى من الحياة الاقتصادية والاجتماعية ومافيات الفساد، وخصوصًا الرسائل والبرديات التي كان السفراء والقناصل الألمان يرسلونها إلى حكومة بلادهم، فقد كانت السفارات تشبه مراكز مخابرات للدولة، وكانت تمتلك حصانة. يشير الدكتور سنو إلى وجود أرشيف ألماني خاص بالوثائق الاقتصادية، كان يقصده في “كوبلنز”. أما أرشيف الوقائع والأحداث العسكرية، فهو متوفر في “فرايبورغ”، وهو يزخر بوثائق عسكرية تتعلَّق بالحروب.

يروي أستاذ التاريخ قصَّة قرأها في إحدى الوثائق، تنقل بدقّة كيف كانت المخابرات الألمانية تعمل في لبنان. يقول: “في الحرب العالمية الثانية، برز شخص اسمه يونس البحري. كانا مذيعًا في إذاعة برلين ضد الحلفاء. سمعت تسجيلات خاصَّة به، ووجدت تقارير عما كانوا يتداولونه من أحاديث في مقهى الشرق قبل حرب لبنان، والذي يبدو أنّه كان مركزًا للمخابرات الألمانية. في هذه الحرب، سقط لبنان تحت حكومة فيشي الفرنسية المعارضة لحكومة فرنسا الحرّة برئاسة شارل ديغول”.

كشف البروفيسور سنّو أيضًا سرًا لا يُشاع في لبنان، تؤكّده الوثائق التي اطّلع عليها في الأرشيف الألماني، وهو يتعلَّق بالأمير شكيب أرسلان – شخصية تاريخية في جبل لبنان – حين كانت بعض الحركات العربية واللبنانية تتعاون مع ألمانيا، وتحدَّث عنها بإسهاب في خمسين مقالًا. عُرف عن شكيب أرسلان أنَّه كتب نحو ثلاثين مقالًا في الصحف الألمانية حين أقام في ألمانيا، وعندما سقطت الإمبراطورية وتفكَّكت، تحوّل من الإسلام إلى العروبة، فأصبح مع القومية العربية. يقول سنو: “بحثت عن هذه المقالات ووجدتها، وأجريت حولها بحثًا دقيقًا معتمدًا على وثائق ألمانية في الأرشيف. عندها، تبيّن لي عدم صحّة تلك المعلومة”.

في الحرب العالمية الأولى، كان للألمان مكتب يعمل فيه مستشرق ألماني اسمه مات فوراوبنهغ، وهو من كتب عن حياة البادية والآثار، وعن العراق وسوريا والبدو في الجزيرة العربية والقوميات العرقية والأكراد… سُلِّمَ إليه مكتب دائرة الاستخبارات الألمانية، وكان يتواصل مع الحركة القومية العربية، ومع الجماعات المؤيدة لألمانيا، وكان من مهامه نشر مقالات مختلفة ونسبها إلى شخصيات عربية، بهدف تحقيق التأثير لمصلحتهم. طبعًا، كان الأمر يجري بالاتفاق مع تلك الشخصيات. ويؤكّد سنو، بصفته باحثًا تاريخيًا، أنَّ أرسلان لم يكن حليفًا بقدر ما مارس دور الأداة، فألمانيا لم تكن حليفًا للحركة العربية، بل داعمًا للعثمانيين.

الحيادية في البحث التاريخي!

لعلَّ ما أدلى به البروفيسور سنو كان دافعًا لنسأله: متى يقرّر الباحث التاريخيّ عدم نشر وثيقة تكشف عن حقيقة قد تثير خلافًا بين أبناء المجتمع نفسه أو بينه وبين مجتمعات أخرى؟ وإلى أيّ مدى يلتزم الباحث بالحيادية والموضوعية؟

في رأي سنو، حين يكون الباحث إيديولوجيًا، ويبحث عن أدلَّة ليثبت فكرة محدّدة، قد يقع فريسة صراع مع ضميره الإنساني حين يكتشف ما لا يسرّ أحدًا. في لبنان، حدث أن نشر المؤرخ عادل إسماعيل وثائق فرنسية حول إحدى الكنائس المسيحية، فاستنكر عليه البعض عدم التنقيب في العديد من الروايات، وقيل له إنه أخفى عددًا من الوثائق لأغراض خاصّة، ظنًا منهم أن ما يخفيه إيجابي بحقّ تلك الكنيسة، فاضطر إلى الردّ عليهم، مبينًا حقيقة بشعة حول فضائح جنسية بين الراهب والخوري وأحداث مرتبطة بتلك الروايات. ويضيف: “عندما التقيته، أسرّ لي تحفظّه على عدم نشر كلّ الحقائق التي توصَّل إليها، رغم أنه حاول الحفاظ على الحيادية إلى حد كبير”.

لا حيادية تامَّة في عمل الباحث التاريخي، إذ تتداخل العلوم السياسية بشكل عميق في البحث التاريخي. لذا، من المهمّ انتظار مرور عقود على الحدث كي يُقوّم فيه الرأي السديد إلى حدّ مقبول. في التاريخ، لا يوجد شيء نهائي، فلا بد أن تُكشف وثيقة ما لاحقًا، تُظهر حقيقة لم يتوقَّعها أحد. مثلًا، المؤرخ إسكندر رياشي كان صحافيًا كبيرًا توفي في العام 1958. خلال الحكم العثماني، تملَّك جريدة يومية، وحورب لما كان ينشره من وقائع، فهاجر إلى الخارج. وعندما عاد إلى وطنه، نشر كتابين، وكشف عن فضائح معظم السياسيين السياسية والجنسية وعمالتهم لدول الغرب وغيرها.

الأرشيف في لبنان لا يزال غير منظَّم وفق الأساليب العلمية المتطورة حاليًا من تصنيف وتبويب، فمن الصعب جدًا على سنّو العمل والتنقيب فيه. قد يضطر بعض الباحثين إلى الأخذ بآراء خاصة حيال قصَّة أو حادثة ما، وهذه مسألة خطرة، وخصوصًا إن لم يكن الباحث متمرسًا، بحسب قوله، فقد يقع ضحية وجهة نظر الدولة. لذلك، يفترض به البحث عن أرشيف آخر ليدعم روايته. ولا ينفي سنّو هنا أهمية الأرشيفات الخاصة المعتمدة على الذاكرة الشعبية، فحين يتوافر التاريخ الشفهي والرواية الشفهية تتغيَّر أمور عديدة، يختم.

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

لتحميل المقال بصيغة PDF: الأرشيف الألماني يوثّق حقائق تاريخيّة عن لبنان لم تُكشف سابقًا

___________________________________________________________________________________________________________________________________________________________

أرشيفو  10 بصيغة PDF 

اقرأ أيضًا: 

عن الكاتب


اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة تتميز بـ *


يمكنك استخدام HTML وسوم واكواد : <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>