رواية ”برهان العسل” الصادرة حديثاً عن دار الريس للكاتبة السورية المقيمة في باريس سلوى النعيمي، تقوم لعبتها الفنية على ”فصفصة” كتب التراث التي تتناول موضوع الجنس بحرية بالغة الغبطة وبألفاظه المباشرة التي وضعتها اللغة العربية له، من أمثال كتاب (رشف الزلال من السحر الحلال) للسيوطي و كتاب (الروض العاطر في نزهة الخاطر) للنفزاوي.
تقول (راوية) سلوى النعيمي ”كانت الحرية التي يكتب بها القدماء تمد لي لسانها بين صفوف الكلمات التي لا أجرؤ على استعمالها، لا شفوياً ولا تحريرياً”، ”هذه النصوص جزء من ثقافتي. هذه النصوص جزء من مخيلتي. هذه النصوص جزء من حياتي الجنسية” ”صرت أتسلى بإحالة كل ما يحصل بيننا إلى النصوص القديمة، أقرأها عليه وأتفنن في فصفصتها”.
نحن بحاجة دوماً إلى لسان القدماء، كي نتكلم وكي نتجرأ، ولكي نتصرف، بل وحتى كي نمارس العنف، اللسان هو لغة، واللغة تمنحك إنسانية تتصرف بها. في هذه الرواية تتصرف سلوى النعيمي، في برهان الجسد ببراعة تشبه براعة القدماء في التصرف بخطاب الجسد من غير أن يحتاجوا إلى برهان من قدماء غيرهم يبيحون لهم القول. كما أن سلوى النعيمي لم تكن قد ذهبت إلى قدمائها كي تستأذنهم في التصرف في تحويل برهان عسلها إلى رواية جامعة، تجمع كل ما يعتمل في ثقافتنا من تناقضات لا تسكت، لتضعها في رواية معناها لا يسكت أيضا. لم تذهب إليهم لتستأذنهم ولا لتجعل من كلامهم في الجسد برهاناً على حقها في أن تتصرف في لغة الجسد، الجسد الذي وصفه نيتشه يوماً، وهو يعيد الاعتبار إليه في رسم الحقيقة، بـ (الذهن الكبير).
هي ذهبت إلى قدمائها، لتتفنن في فصفصة نصوصهم، ولعبة الفصفصة هذه هي ما أعطى للرواية قيمتها الفنية البالغة اللذة، ولو أنها جعلت من كل فصل يبدأ بـ ”فص” كأن يكون ”فص الماء”، ”فص الحيل”، ”فص الحكايات”، ”فص التقية”، لكانت عناوين الفصول علامات بالغة البرهان على هذه الفصفصة، كما فعل قديمنا ابن عربي في (فصوص الحكم)، خصوصا وأن عنوان الرواية يتناص مع جملة ابن عربي ”برهان حلاوة العسل هو العسل نفسه” كما كشفت عنه الرواية في فصلها الأخير.
كانت الرواية ممتعة بلعبة الفصفصة هذه، وهي سرّ تميزها، وليست الجرأة الإيروتيكية، كما يمكن أن يبدو للبعض، ما أسهل أن تكون هذه الجرأة برهاناً على نجاح أي عمل روائي، لكن هذه الرواية لا تستمد فيما أظن برهان نجاحها من خارجها، من الإيروتيك، بل برهانها منها وحلاوتها منها، من فصفصتها الرهيفة والبليغة، كما هو برهان حلاوة العسل منه، يمكننا أن نذهب إلى خارجها ونجد الإيروتيك، لكننا لن نجد هذه الفصفصة التي هي منها بامتياز، بامتياز يسمح لنا حتى بتجاوز الأدب وأصول النقد أيضا لنقول، إن التمييز بين الروائية والراوية في هذه الرواية لا برهان عليه فنياً في أفق القارئ. ويبقى عسل الرواية يمكنك أن تتذوقه بمجرد أن تضع أصبعك أوعينك على أي سطر تنفرج صفحته إليك.