كانت التوصية التي حملنا إياها عبدالله يتيم، أنا وعديلي حسين المحروس، حين أخبرناه أننا ذاهبان إلى القاهرة: أحضرا لي سيرة جلال أمين الصادرة حديثا عن دار الشروق ‘’ماذا علمتني الحياة.. سيرة ذاتية’’.
منذ بدأت تصفح سيرته مع أبيه أحمد أمين، لم أتمكن من تركها. أنهيتها في يومين، وفي السيرة تاريخ أكثر من ستة عقود عربية، غنية بمعلوماتها هذه السيرة وغنية بجرأتها وغنية بصاحبها. وهي بحاجة إلى وقفة مطولة، لكني أكتفي هنا بشذرة صغيرة من هذه السيرة، وهذه الشذرة التي يورد فيها جلال أمين مقولة برناردشو في معرض سرده لسيرته التي لم تعشق أكثر من التدريس مهنة تجلب له رضا النفس والسرور، نص هذه المقولة يقول ‘’من يعرف كيف يقوم بعمل ما، يقوم به بالفعل، ومن لا يعرف يقوم بتدريسه’’.
لقد جاءت هذه المقولة في سياق كان فيه جلال أمين يروي افتتانه بالتدريس ومتعته في ممارسته وبراعته في تقديم المحاضرات للجمهور والطلبة، ويبرهن عليها بعرض صورة تسلمه جائزة أحسن أستاذ بالجامعة الأميركية بالقاهرة (1992).
هل كان جلال أمين لا يعرف أن يقوم بعمله الاقتصادي أو القانوني أو الثقافي أو الفكري، فراح يدرسه؟ كمن لا يعرف كيف يقوم بفعل إنشاء مصنع أو إدارته أو استصلاح أرض، فيقوم بتدريس شروط الإدارة الناجحة لشركة صناعية أو شرح الأنواع المختلفة للتربة أو الطرق المختلفة للري؟
تبدو مقولة برناردشو تسيِّر معنى غير المعنى الذي تسيّره سيرة جلال أمين، فالمقولة تستهجن مهنة التدريس والسيرة تحتفي بها. لماذا تسوق السيرة مقولة تنتقص منها؟ بل السيرة تعي تماماً أن هذه المقولة تنتقص منها، بدليل أنها تعقبها بتعليق يقول ‘’هناك بعض الصحة في هذا القول لكنه قاس أكثر من اللازم’’. ولن يخفف من قسوة هذا القول غير السيرة، فالسيرة شاهد أكثر واقعية، وتكون شاهداً أقوى متى توفرت على قوة أكبر، كما هو الأمر مع سيرة جلال أمين، فالفعل الذي أنجزته هذه السيرة يفوق الفعل الذي قامت به سير كثيرين لم يمتهنوا التدريس، لقد كتب جلال أمين 32 كتاباً وترجم 4 كتب، ونشر باللغة الإنجليزية 9 كتب، و70 عاماً حافلاً بالحوادث الخاصة المشتبكة بالعامة والعامة المؤثرة في الخاصة. وكان شاهداً على أكثر من نصف قرن من عصره، شاهداً لا يكف عن قول الحقيقة التي يراها ببصيرته، ويرويها بمعايشاته، ويعيد تركيبها ومراجعتها بنقده وتجاوزه.
ولعل في استحضار هذه السيرة ما يتضاد معها علامة قوة أيضا، فالضعيف لا يقوى على أن يواجه خصومه، ويعمد دوماً إلى تجنبهم أو استبعادهم، كما تشهد بذلك التجارب السياسية والأكاديمية والثقافية التي رواها جلال أمين في سيرته ‘’ماذا علمتني الحياة؟’’.
السيرة القوية تمنحنا قدرة على مراجعة المقولات النظرية، لذلك فمقولة برناردشو لا يمكن أن نقرأها بعد هذه السيرة كما كنا نقرأها من قبل. لقد فقدت شيئاً من إطلاقيتها، وفقدت شيئاً من قسوتها، وفقدت شيئاً من صحتها. لكنها في المقابل لن تفقد شيئاً من قوتها أيضاً، فالمقولات القوية، تزداد متانة بمراجعات السير القوية لها، والدليل على ذلك أن مقولة برناردشو صارت في سيرة جلال أمين تقول شيئاً آخر أيضاً، وبطريقة أخرى أقل قسوة أيضاً.
وهذا ما يتيح لنا أن نقرأ مقولة برناردشو إلى جانب سيرة جلال أمين التي تقول ‘’أفضل طريقة لفهم المشكلة المعقدة أن يضطر المرء إلى تدريسها’’.