بعد صراع مع المرض الذي أقعدها خمس سنوات في فراشها، توفيت يوم 18/1/2017صديقة جدتي سلامة سلوم، عرفناها باسمها المدلل (سَعُّود) وهي (الحاجة سعدة عبدالرضا أحمد يوسف الديري) والدها الملا الحاج عبدالرضا، من أعلام قرية الدير مؤسس حملة (الديري) للحج والزيارات.
أحفظ أسماء صديقات جدتي وتورايخ وفياتهن، فهن جزءاً ليس من ذاكرتي فقط بل من سيرتي، كنت صديقهم بقدر ما كانوا صديقات جدتي، كُنّ يسألن عنها ويتفقدنها، ولأني جزءا من سيرتها وعالمها، فكان السؤال والتفقد والحب يشملني، تحضرني الآن من الأسماء وأكتبها على النحو الذي كنا ننطقها نطق تدليع: زهيرة، مريوم، شروف، صفوي، عصوم، سَعُّود، نصرة، فضة.
كانت أم علي (سَعّود) صديقة جدتي صديقات طفولة من دون أن تكون بينهم جيرة أو قرابة نسبية، بينهما حب فائض، تنادي كل واحدة منهما الأخرى (خيوه). لا أحد يعرف كيف نسجوا هذه العلاقة، أمي صباح ترجح أن العلاقة بدأت من (المعلم) عند الحاجة شريفة بنت يوسف، مع هذا الترجيح يبقى هناك سرّ أظنه ذهب مع رحيلهم، فهذا الحب العميق من أسرار الأرواح التي تأتلف بقدرة ربانية يصعب تفسيرها. لا تمل جدتي من الحكي عن متانة هذه العلاقة، وتظل تحكي قصة الخلاف الذي وقع فيه أهل الدير في الستينيات وانقسم فيه أهلها قسمين متشاحنين، على رأس هذا الخلاف تقع عائلة سلامة جدتي من جهة وعائلة سعّود من جهة أخرى، وصل التهديد لكلتيهما أن يقطعا العلاقة، فكان أول امتحان قاس لصداقتهما، ولأن الحب يتغدى بالمنع والحظر، فراحت كل واحدة منهما تحتال على قوانين الحظر، فتبتكر لها طريقة للتواصل مع الأخرى، غالبا ما كانتا تتخفيان تحت جنح الظلام، ليلتقيا تحت جناح نور المحبة التي جمعتهما.
فيما بعد نسي الناس خلافاتهم، لكنهما لم تنسيا قصة المقاومة من أجل الحب والصداقة، وظلت كل واحدة ترويها للأخرى وللآخرين حتى صارت جزءا من تاريخ هذه العلاقة.
تروي أختي الصغرى (زينب) الحفاوة التي تعطيها كل واحدة منهما للأخرى حتى آخر نفس فيهما: كنت في الثامنة من عمري رسولة (سلامة) ومرافقتها إليها، بل كنت أنتزع هذه المهمة انتزاعا، لا أسمح لأي أحد أن يتولاها، فهناك ينتظرني كيس مشحون بالحلويات وآيسكريم الأميرة والكاكو والمينو وتشكيلة مما لذّ وطاب، والويل لمن يقترب منه.
في كل المناسبات لا تنسى (سلامة) صديقة روحها، مع هلال محرم تجهز لها كسوة السواد من الثياب، من بضاعة متجرها الذي كان هو نفسه مجلسها النسائي بالبيت، وخلال أيام عاشوراء ترسل لها بين يوم ويوم قدرها المخصص لها، هي تعرف أن مأتم عائلة صديقتها النسائي يطبخ كل يوم لكن مكانة (سَعّود) في قلبها توجب عليها أن تخصها بشيء من بركة مأتمها.
حين تشتد بسلامة آلام الظهر وتجد صعوبة في حركة القيام والجلوس، كانت تطلب أن تأخذها السيارة إلى حيث بيت رفيقة عمرها، فتخرج (سعّود) لها وتحضنها وهي جالسة في السيارة، تتزودان من بعضهما ما هو فائض فيهما، فتمنح كل واحدة منهما الأخرى طاقة حب تعينها على تحمل آلام المرض وقسوة الزمن وتناقص الصديقات.
تحرص كل واحدة منهما على ترسيخ تقاليد محبة خاصة بها، ف(سعّود) ظلت ترسل عيديتها (10 دنانير) وكأنها تناغي إحدى حفيداتها، بإدخال الفرحة عليها في يوم العيد.
لقد قلت إن شيئا من سيرتي يتعلق بصديقات جدتي، ليس السيرة فقط، بل حتى وجودي البيولوجي يتعلق بهم، فقد عانت والدتي من مشكلة إجهاض الحمل عدة مرات، فكانت تبوح جدتي لصديقتها (سعّود) بمشكلة ابنتها، فأرشدتها ل(مريم جان) الحاجة المحاطة بالأوراد والأدعية والأضحيات والبخور والطقوس، خضعت والدتي، لوصفة من وصفاتها، فجاءت ولادتي عليها، وظلت الوصفة نفسها تُتُبع بحذافيرها مع 13 ابناً، كنت أنا أولهم، جئت محاطاً بالنذور والقراطيس والأسرار والأحراز، وكانت جدتي المشرفة على تطبيق تفاصيل الوصفة ومتطلباتها فيما تتولى (مريم جان) قراءة الأوراد على الأضحية، ولعل أصعبها كان البحث عن تيس (طمطم) أسود، ظلت جدتي تكلف الضرير السيد عيسى أخ السيد حميد جارنا للبحث عن هذا الطمطم مع كل حمل لوالدتي، يظل معها بالبيت طوال فترة حملها وتتولى هي بيدها إطعامه، ويذبح مع الولادة، ويكفن ويوضع معه كيلو دهن أخضر وست بيضات وكيلو سكر، ويدفن في مقبرة الدير، كل ذلك إرضاءً لما كانت تسميه أمي وجدتي و(سّعود) ومريم جان (التابعة).
أضحيتي تنام هناك في مقبرة الدير، وجدتي تنام هناك أيضا وصديقاتها يجاورنها واليوم تتبعهم (سّعود). لكني في هذه اللحظة من لحظات احتضار كل شيء في وطني لا أعرف إن كنت سأتبعها حين تأتي ساعة اليقين.
من هي هذه (التابعة) وكيف تحضر في المنام لوالدتي وماذا تطلب منها وكيف تتدخل في حملها وتهددها بقتلي إن حاولت أن تقوم بأي عملية (ربط) عن الإنجاب، تلك قصة تطول.
رحم الله (أم علي) وأسكنها مع جدتي فسيح جناته