جدل وحوار جريدة (بين نهرين الثقافية): يوسف محسن
في كتابه (نصوص متوحشة من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية) فكك الباحث البحريني علي الديري، النصوص التكفيرية والتأويلات التي منحت العنف والكراهية شرعية ثقافية في مجتمعات العالم الإسلامي، نصوص فقهاء جعلت من التوحش عقيدة دينية، لا تعترف بالآخر، أما كتابه (إله التوحش: التكفير والسياسة الوهابية) الصادر حديثاً، فيدرس فيه الديري نصوص التكفير الوهابية التي تشكل جذر (داعش) الثقافي.
علي الديري ناقد وباحث من البحرين، متخصص في تحليل الخطاب، اشتغل في حقل الفلسفة واللغة والمجاز، أسقطت الجنسية عنه بمرسوم ملكي في كانون الثاني 2015، لأسباب تتعلق بآرائه السياسية، جريدة “بين نهرين الثقافية” حاورته بشأن الظاهرة السلفية الجهادية بوصفها ظاهرة ثقافية وبالذات الأكثر تجلياتها وحشية (داعش).
جريدة بين نهرين حوار مع علي الديري
بين نهرين: هل يمكننا القول إن السلفيات الجهادية وأقصد أحد التجليات الأكثر بروزا (داعش) تمتلك لغة خاصة داخل الظاهرة الثقافية التي تنتجها؟ أم هي جزء من المنظومة الثقافية في السياقات العربية؟
الديري: ما يجمع السلفيات هو أنها ترجع إلى نص يسبقها، يسبق زمنها الذي تعيش فيه ولا تعيشه، ويسبق عقل الحضارة المعاصرة التي فرضت أدواتها على الجميع بما فيهم السلفيات. في كتابي (نصوص متوحشة) ذهبت إلى النص الذي يشكل لها الأب المؤسس، لغة السلفيات الجهادية هي نفسها لغة هذه النصوص: تكرار ممل، إعادة بائسة للأقوال نفسها، استخدام الحجج والأدلة نفسها، معجم المصطلحات نفسه، العمى نفسه يورثه السابق إلى اللاحق.
خذ مثلا: ابن تيمية، وابن القيم الجوزي، ومحمد بن عبدالوهاب، وأبومحمد المقدسي، كأنهم يبيضون مسودة واحدة، تدور حول فكرة مغلقة واحدة هي فكرة التوحيد السلفي ولوازمه من البراءة والولاء، البراءة من الطواغيت والآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل والكفر بها، فهذه لا تُؤخر ولا تؤجل، بل ينبغي أن تظهر وتعلن منذ أول الطريق، والبراءة من الأقوام المشركين هم أنفسهم إن أصروا على باطلهم.
لا تخرج لغة الجماعات السلفية بكل تلاوينها عن معجم لغة البراءة، ربما تتنوع تطبيقات البراءة فتأتي في صور:مفخخات أو أحزمة ناسفة، تفجير مساجد أو مراقص، انتحاريون أو انغماسيون.
منهج البراءة هو لغة السلفية الجهادية، وهو ما تجده مشروحاً في كتاب المقدسي “ملة إبراهيم” فطريقة تحطيم أصنام المشركين، هي المنهج الذي يجب أن نتبعه، وهي اللغة التي يجب أن نتحدث بها معهم، وعلى هذا تصبح ملة إبراهيم في مفهومهم تعني القوة، والعنف، والذبح، وتمثيل الموت في أقسى حالته بشاعة ورعباً.
بين نهرين: شل الحرية التأويلية لجماعة دينية أو سياسية ما، تعد النقطة الحاسمة والتي تحمل داخلها جذور التوحش (امتلاك الحقيقة المطلقة ) ما هو رأيك بهذه الفرضية؟
الديري: إله التوحش يقول لك اعبد النص من غير تأويل ولا تكييف ولا تمثيل، أي عطّل طاقتك العقلية والخيالية والإبداعية في سؤال الكيف، ومجاز التشبيه، هذا ما ينتجه مفهوم التوحيد السلفي، إله من كلمات صماء، أصنام في شكل كلمات، ممنوع عليك أن تأولها أو تفهمها بطاقتك الإنسانية. ممنوع أن تسأل كيف هي صفات الله؟ ولا تشبهها بشيء. صفات الإله غير قابلة للتأويل عند الجماعات السلفية، ومعاركهم الكبرى يشعلونها حول صفات الاستواء والجلوس.
عليك أن تُسلّم فقط، تسلم بهذه الصفات، وتسلم لولي الأمر أيضا بالطاعة العمياء، لتسلم روحك. لا تسأل كيف استوى الإله على العرش؟ ولا كيف استولى ولي الأمر على العرش؟
السلفية الجهادية، تبحث عن القوة المادية السياسية التي تمكنها أن تحظر وتمنع وتقطع، وتحد من التأويل. من يذهبون إلى التأويل تطبق عليهم السلفية الجهادية حد التبري، فيصبحون في دائرة من دمهم مستحل.
“ما نزل من القرآن آية إلا لها ظهر وبطن، ولكل حرف حدّ ولكل حد مطلع” الحد عندهم هو القطع هو امتناع التأويل، والمطلع هو العقوبة على تجاوز الحد. في مقابل هذا المعنى المغلق، يقدم الشريف الرضي تأويلا آخر، يرى في الحد ليس نهاية، بل وصول إلى مطلع تشرف من خلاله على معنى جديد.
إغلاق التأويل هو نهاية أي أمة، لأنه يعني الوصول إلى حائط مسدود، في حين التأويل يعني أنك يجب أن ترتقي بحركتك الروحية والعقلية لتصل إلى الحدود القصوى من المعرفة التي تطل من خلالها على العالم، لتفهمه وتستوعبه وتعيش تنوعاته كلها. الحد ليس سيفاً ولا حزاما ناسفا ولا مفخخة، بل الحد شرفة رؤية. الذين يحدون أسماء الله وصفاته ويمنعون السؤال، يحولون الله إلى صنم غير قابل للمعنى، ومتى فقد الإنسان المعنى اغترب وتوحش.
من يردد اليوم كلام الشريف الرضي في التأويل؟ من يقول لك إن التأويل يفتح معنى الألوهية على الحياة؟ من يحثّك على أن تصعد إلى أعالي التلال، لتطل من خلالها على معنى الله، ومعنى كتاب الله، ومعنى خلق الله وآيات الله. من يستحث في داخلك القدرة على أن تبذل ما في وسعك من أجل أن تطلّ على المعنى من غير سلطة الأقوال والمرجعيات الصنمية. من يردّد اليوم كلمات الشريف الرضي؟ الجواب: لا أحد.
في مقابل ذلك، من يردّد لغة السلفيات الجهادية؟ الجواب: كل أحد. حتى الذين لم ينخرطوا في أعمالها العنفية. إنهم يترددون في كل ما يُطلعك منهم (التأويل). لا يريدونك أن تدرك الله ورسالته بقلبك، بل يريدونك أن تدركه بلسانك، وتقرّ لهم بهذا الإدراك، وإن زلّ لسانك أَرسلوك إلى مقصلة الحدّ الذي يفهمونه عقوبة، ويفهمه الشريف الرضي مطلعاً للمعنى.
لقد تحوّل الإيمان إلى حدٍّ تدخل فيه بكلمات وتخرج منه بكلمات، لا علاقة لها بالقلب ولا بالروح، وهذه هي إحدى نتائج تعطيل التأويل. وقد ناقشت ذلك مفصّلاً في الفصل الرابع من كتابي “إله التوحّش” عند الحديث عن كتاب “الإيمان” عند ابن تيمية.
بين نهرين: السلفيات الجهادية (داعش)، تسعى إلى تهديد وفناء الحداثة الغربية، عبر خطاب وسلوك معاد للعقلانية والمرح، وهذا الأمر نفذ في باريس من خلال مهاجمة مسرح باتاكلان الذي كان يحيي حفلاً لرواد موسيقى الروك، التي تعد بمثابة شيفرة ثقافية تعكس حالة التنوع والتعايش الخلاق بين الأمزجة والأعراق والأديان والفنون، أو عبر الهجوم على مجموعة لمطاعم (لاكازا نوسترا) الذي يقدم وجبة البيتزا التي باتت بمثابة وجبة عابرة للجنسيات والثقافات، كيف تكون داعش إنتاج الحداثة والعولمة وفي نفس الوقت حركة مضادة للحداثة؟
الديري: الحداثة تتعلق بزمن العقل والروح والسلفيات الجهادية لا يتحرك عندها هذا الزمن، لو تحرك هذا الزمن في عقلها تفقد صفة السلفية، وتسقط من عوالمها المتوهمة، هي تستخدم أدوات التحديث والعولمة لتحصّن قلاعها وتعيد انتشارها في هذا الفضاء المعولم، هي تريد أن يبتلع الزمن السالف الزمن المعاصر، فيحدث هذا الصدام.
المخلوق (فرانكنشتاين) هو صناعة حديثة، لكنه يعاني من نقص في تركيبه الروحي والعاطفي، وهذا ما جعل منه مشوهاً، لقد كان صنيعة التحديث الصلب، كما الجهاديات السلفية صنيعة التحديث الصلب الذي أتاحه لها الانترنت والصناعة وأدوات التواصل الحديث، لكنها حركة مضادة للتحديث السائل المتعلق بالإنسان وحقوقه وروحه وأشكال وجوده المتعددة.
بين نهرين هناك جهود انثروبولوجين، مثل أوليفي روي في كتابه “الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة”، وسكوت أتران مؤلف كتاب “الحديث إلى العدو، الدين والأخوة وصناعة الإرهابيين وتفكيكهم” والفرنسي إيمانويل تود في كتابه الإشكالي “ما هي شارلي؟ سوسيولوجيا أزمة دينية”، من وجهة نظركم هل يعد الخطاب السلفي الجهادي الداعشي خطاب خلاصي ام خطاب ترتسم فيه أزمة؟
الديري: كل خطاب خلاصي، يحمل في داخله نزعة تخلصية، يعني يدعو إلى التخلص من نماذج معينة وأعراق وأفكار وأديان. يعتقد أن خلاص البشرية يكمن في التخلص مما هو عالق فيها من الخارج، التوحيد هو مركز الخطاب الخلاصي عند الجماعات السلفية، يعادون الناس عليه ويقتلونهم عليه ويتبرأون منهم عليه، أي أنهم يتخلصون من الناس بحجة أنهم يريدون أن يخلصوا العالم بالتوحيد.
مفهوم الخلاص، موجود في الديانات، فهي تبشر بالجنة وخلاص البشر من الشرور والخطايا، يتحول الخلاص في الحركات الدينية إلى تخلص من الناس الذين يختلفون معها، كما فعلت حركة الصهيونية، فالخلاص يتحقق بعد بناء الهيكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى، وللوصول إلى هذا الهدف، يمكنك أن تقتل الناس وتهجّرهم وتتخلص من كل الذين لا يؤمنون بمعتقدك اليهودي في محيط القدس.
كذلك، جاء محمد بن عبدالوهاب بدعوة تخليص الجزيرة من الشرك، فتحالف مع قوة سياسية لديها تطلعات للتخلص من خصومها السياسيين، فأعمل هذا الحلف السيف والقتل والصرم والتكفير في الجزيرة باسم تخليصها من شرور الشرك، وهذا هو منطق الحركات السلفية الجهادية.
بين نهرين: إله التوحش، نقيض الإله الإنسانوي، أتساءل ما هي الشروط الثقافية والاجتماعية والسياسية التي أنتجت هذا الإله الوحشي؟
الديري: إله التوحش ليس في السماء، هو في الأرض، في قصور الخلفاء والسلاطين ومدارسهم الدينية التي تخلقه على مقاس حاجاتهم السياسية، بحثت عنه فوجدته في نصوص الغزالي يأمر بالقتل والسفك وانتهاك العرض ضد خصوم الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي، خصومهم من المسلمين وليس الكفار والمشركين. ووجدته في نصوص مؤسس دولة الموحدين (ابن تومرت) وهو يُكفر ويُقتل ويستبيح خصومه المرابطين وهم من المسلمين من أهل السنة والجماعة، ما كان للخليفة عبد المؤمن بن علي أن يجلس على كرسي الحكم قبل أن ينزل إله التوحش ونصوصه إلى الأرض، ليستبيح بها الخلفاء المرابطين.
ووجدت هذا الإله متربعاً في نصوص ابن تيمية، يبحث عن إله في الأرض يتحالف معه، ليُمعن في القتل باسم التوحيد، فتُبسط له الأرض فيحكم باسم الله، ووجدت محمد بن عبدالوهاب، واسطة العقد بين إله ابن تيمية المتوحش وسيف محمد بن سعود، لقد صاغا عقد اتفاق الدرعية على قاعدة “الدم بالدم والهدم بالهدم” وبذلك فهي اتفاق على أن نص التوحيد ضمان لدم الدولة وضمان لدم الدعوة، وهدم أحدهما هدم للآخر. هي ضمان للتوحيد السياسي للدولة الخاضعة بالقوة لعقيدة إيمان مُوحدة ومُعَمّمة وغير قابلة لأي تأويل أو اختلاف، كما أنها ضمان لبقاء الدعوة ظاهرة وقوية ومهابة وناطقة في مراسيم الحكم وألسن الناس.
باختصار، يجد إله التوحش مكانته المقدسة في الأرض، حين تُعطي السياسة شرعية دينية للفتك المتوحش بالخصوم السياسيين. والنصوص المقدسة لهذا الإله في ثقافتنا، هي النصوص التي تصادر حق الإنسان في السؤال عن الله وصفاته وتصادر تأويله لها، وتستبيح دماء الآخرين باسم هذه الصفات.
بين نهرين: من المعروف أن ثقافة الخطابات السلفية الجهادية تتغذي على منطق الانغلاق والعزلة على الذات، من جهة، والإحساس بالتعالي الذي يعتبر عاملاً مغذيًا لمنطق الغطرسة والغزو والإيمان الأرثوذوكسي بالأنموذج الواحد. أتساءل كيف تظهر تلك الثقافات وتعد قوة هائلة في التاريخ؟
الديري: (الإيمان الأرثوذكسي بالأنموذج الواحد) هو نفسه (السلفية) أو (أهل السنة والجماعة) أو (أهل الحق) هذا تعبير لا يشير إلى جماعة أو مذهب أو طائفة فقط، بل هو يشير إلى الطريق المستقيم الصحيح الّذي يفرضه إجماع السلطة كطريق للتدين.
هذه التركيبة من العقيدة والسلطة والقوة تحوّل الدين إلى ممارسة عنف وإكراه وتوحش، وهذا ما حاولت أن أدرسه وجعلته عنوانا فرعيا في كتابي (نصوص متوحشة من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية) لقد مارس السلاجقة توحشهم عبر سلفيتهم التي كانت عقيدة أشعرية مفروضة كطريق وحيد للإسلام المفروض بالسلطة السلجوقية، وكذلك فعلت الوهابية، فرضت التوحيد من منظورها السلفي كعقيدة بسيف سلطة آل سعود. داعش اليوم تريد أن تمارس ما فعلته الوهابية في تاريخ الدولة السعودية الأولى، باعتباره تاريخ صدر الإسلام الصحيح.
بين نهرين: نرى أنّ المواجهة العسكرية لداعش ليست كفيلة باستئصالها، بل إنّ المواجهة الثقافية والفكرية هي أجدر وأنجع. أتساءل كيف ذلك؟
الديري: المعركة على كل الجبهات، والمثقف الذي يظن أنه سيهزم داعش بكتبه فقط، ستحرقه داعش بكتبه.وكذلك المثقف الذي يكتب من الحضن الذي فرّخ داعش، سيغلق عليه هذا الحضن يوماً ويجد نفسه بلا نفس ولا حرية ولا كرامة.