رسالة إلى أبي…

 

(توفي والدي في 2009 في مدينة مشهد، ودفن في حرم الإمام الرضا (ع) في مقبرة بهشت ثامن الأئمة)

هذه المرة كان الطريق إليك طويلًا وشاقًّا من أقصى الأرض، إنها أطول مسافة غياب زمانًا ومكانًا بين آخر زيارة في أبريل 2014 وهذه الزيارة في أغسطس 2017.

أعود إليك هذه المرة وكأني أؤول إليك، فقد فقدت جنسيتي التي منحتني إياها في العام الذي استقل فيه وطننا، وكنت واحدًا من الذين أسهموا في ورشة بنائه العمرانية.

لقد أسقطوا جنسيتي وكأنهم أسقطوا أصلي الذي يؤول إليك. طوال السنوات الثلاث ونصف وأنا أحن إليك حنين الشيء إلى أصله.

أقف على قبرك بلا هوية رسمية، أحمل معي كتابي “بلا هوية.. إسقاط الجنسية كما شرحتها لأماسيل” أضعه على قبرك وأعرف أنه لا يكفي لأشرح لك كيف آلت بي الأمور لأغدو خارج الوطن، خارج ذلك المكان الذي أعطاني هويته بك، ملعونًا من نظامه السياسي.

أعرف أن أسئلتك أكثر من أسئلة حفيدتك أماسيل، ما زالتْ تتباهى بأغنيتك لها “أماسيل تسقي الورد”. إنها تفاخر بماء اسمها مني، وماء هويتها منك.

أقف على قبرك بكتابها، وأستمد من بحرانيتك العلامة التي لا تزول، أضعها مجاورة لهوية كتابي، لتقول بهذه المجاورة ما لا تستطيع حروفي متجاورة أن تقوله.

أدرك هذه اللحظة وأنا على أعتاب قبرك، القدر الإلهي الذي اختار لك هذه البقعة المقدسة، كنت أظنها مجرد كرامة لحبك لهذا المكان وهذا الإمام، حسبتها شاهدًا على سيرتك الروحية المشهدية فقط، هي بيقين الحب الذي فيك كذلك، لكنها بما صرت أنا إليه، أَجِد فيها سرًّا آخر يتعلق هذه المرة بي وبغربتي، وكأنك ادخرت لي بقعة وطن آوي إليها من تعب الهجرة. هنا تتقاطع ثلاث غربات، غربة الإمام المقدس وغربتك وغربتي، كل غربة تحن على الأخرى لتأتلف معها، فتشكل الغربات معًا وطنًا أرجع إليه.

أقف هذه المرة على قبرك لائذًا لا زائرًا، لاجئًا لا عابرًا. هكذا كعادتك تسلب منا المبادرات، وتمنحنا البركات. منحتنا كل شيء، ما زلت ضنينًا أن نمنحك شيئًا، حتى زيارتي لك، صارت لجوءًا يمنحني الأمن والأمان (وطن) بعد أن كنت أظنها برًّا ووفاءً مني إليك، هكذا تظل أبوتك فاعلة دومًا فوق التراب وتحت التراب، تُعطي وتمنح وتفيض.

تحت بركات تربتك ألتقي اليوم بالعائلة، لقاء يشبه العودة للوطن، معنا ستة عشر طفلًا من أحفادك، جمعهم تراب قبرك وهجرة ابنك، قرأنا لك فاتحة الكتاب، أردت أن تتفتح  ذاكرتهم هنا على ما صرنا إليه، قلت لهم تذكروا أن هذا المكان منذ هذه اللحظة سيغدو وطنًا يجمعني بكم.

إلى أبي 1

إلى أبي 2

اترك تعليقاً