العلاّمة المربي.. من قلب الدولة إلى قلب المجتمع
‘’مــاذا أستطيـع أن أعــرف؟’’، ‘’مـــاذا يجــب أن افعــل؟’’، ‘’مــاذا يمكن أن آمــل؟’’ و’’مــا هــو الإنـســان؟’’. أربعـة من أسئلة الفيلسوف ايمانـويل كانط، وجّهت كتابه الشهير ‘’نقد العقل المحض’’ كتبت على يافطات صفراء وبعدة لغات ووزعت علـى شـوارع بلـدان ومدن أوروبيـة عدة، حيـث انطلـق المشـروع بـدايـــة من ألمانيا، فرنسا، اللوكسمبورغ، الدانمــرك،اليــونان، بريطانيــا، وغيرها.
لبنـان كان البلد الأول الذي يشهد هذا المشروع خارج القارة الأوروبية، والمشروع ألماني الأصل، وهو بعنوان: “weltfrage”، أي ‘’أسئلة العالم’’.
الفكرة لفنان ألماني اسمه رولاند كرويزر أراد من خلال عرضه التجهيزي البصري هذا أن يعيد طرح أسئلة كانط الفلسفية، على شعوب العالم، وهو يستعمل أكثر من أربعين لغة عالمية مختلفة. أسئلة فلسفية تفرش في الشوارع وتسأل الإنسان عن نفسه وقلبه وحياته فتصبح أقرب إليه مما تكونه في الكتب وأدمغة الفلاسفة حيث الأبراج العاجية.
الأرصفة ليست وحدها ما يشكل شوارع المدن، فالأسئلة تشكل الشوارع وأرصفتها والناس الذين يمشون عليها، إذا كان لأسئلة كانط بعدها المعرفي (الابستيمولوجي)، فإن لها وجهها الأنطولوجي، المتعلق بوجودنا في الحياة، ماذا يجب أن أفعل في هذه الحياة؟
الخطاب الذي يمتلك إجابة تقنع أو تهدِّئ قلقنا تجاه هذا السؤال الوجودي، يملك أن يشكل أرصفة المدينة، ويهندس شوارعها، ويحدد اتجاهاتها، ويعطي لوجودها معنى.
قلب الشارع
ليس هناك أكثر من صوت الخطاب الديني قدرة على فعل ذلك، يقرّب الأسئلة الفلسفية والوجودية من الشارع، ويروّض قلقها الوجودي في نفسه، فيهنـدس بـذلك قلـب الشارع، فيمنحه الحياة أو المـوت.
في البلـدان التي دخلت فيها القوى الإسلامية اللعبة الديمقراطية، وتخلت فيها عن مشاريع الدولة الإسلامية، لم تعد السياسة بمعناها الراديكالي والثـوري والتغييري هي ما يشغل خطاباتها، بقدر ما أصبح نمط الوجود الديني وقيمه الأخلاقيــة والروحيــة، هو موضــع رهـانــها.
البحرين بعد إصلاحات 2001 هي واحدة من هذه البلدان، والتيار الديني الشيعي فيها هو واحد من التيارات الإسلامية التي انخرطت في اللعبة الديمقراطية، وإن كانت قد قاطعت الانتخابات النيابية العام ,2002 إلا أنها لم تخرق قواعد اللعبة الديمقراطية. فالقبول باللعبة الديمقراطية قبول بالانخراط في المجتمع المدني أكثر منه قبولاً في الانخراط في المجتمع السياسي (الحكومة والبرلمان).
جمعية التوعية الإسلامية التي أغلقت العام 1984 في ظروف سياسية متوترة، عادت في ظل الإصلاحات السياسية تمارس دورها الديني، في قلب الشارع بحرية كبيرة، وهي تقدم نفسها حاملةً رسالة ‘’قلب المجتمع إسلامياً’’.
جمعية التوعية الإسلامية، مؤسسة أهلية إسلامية رسالية، تستمد رؤيتها وقيمها الحضارية والثقافية والاجتماعية من الينابيع الإسلامية الصافية الأصيلة المتمثلة بينبوع الرحمة الإلهية الكبرى القرآن الكريم، والسنة المطهرة للرسول الأكرم وأهل بيته الطيبين الطاهرين وفي إطار الرؤية الإسلامية الرصينة والنهج المحمدي الأصيل، الذي بلوره علماء الإسلام الربانيون ومراجعه المعتبرون.
تستهدف الجمعية -كما تقدم نفسها- في مجمل حركتها الاجتماعية بلــورة الـرؤية الحضـارية الإسـلامية الصافية، وبـناء المشـروع الإسـلامـي المتكـامـل وصياغـــة المجتمـع الإسلامـي في جوانبــه المختلفة بهدي الإســلام وقيمـه العظيمـة.
بالينابيع الصافية والرؤية الرصينة والنهج الأصيل، تؤدي جمعية التوعية رسالتها في صيغة جواب كبير لأسئلة الشارع المقلقة. جواب تُجنِّد له يافطاتها وأنشطتها ودعاتها ومحاضراتها وندواتها ومؤتمراتها وكل أجهزتها الإعلامية، جواب يستغرق قلب الشارع الكبير.
الداعية الشيخ حبيب الكاظمي الذي استضافته جمعية التوعية الإسلامية للعام الثاني على التوالي في شهر رمضان، ليكون ضيفاً على شارع التوعية كلّه، يأتي في سياق هذا القلب.
موضوعات الدرجة الأولى
جمعية التوعية، منذ نشأتها، معنية بالتوعية الروحية والأخلاقية بالدرجة الأولى، والأيديولوجية بالدرجة الثانية، وربما السياسية بالدرجة الثالثة. ووجهة عنايتها كانت تتحكم فيه طبيعة المنهج التوعوي والتغييري لحزب ‘’الدعوة’’ المعني بتغير ثقافة المجتمع وفق النمط الإسلامي.
تبدو جمعية التوعية وفية الآن أكثر من أيّ وقت مضى لموضوعات درجتها الأولى، موضوعات الأخلاق والروح والأسلمة، بعيداً عن السياسة. وحتى اهتماماتها بالقضايا العقائدية المذهبية تندرج ضمن موضوع الإعداد الروحي وفق مفهومها للروحانية.
يلتقي خطاب الكاظمي مع خطاب جمعية التوعية في الانشغال والاشتغال على موضوعات الدرجة الأولى نفسها، لكن الأهم من الالتقاء، سيرةُ المشتغل. وسيرة الكاظمي التي حظيت ببركات لقاء السيد محمد باقر الصدر، وتتلمذت على أيدي كبار المراجع الدينية في النجف الأشرف وسبقت غيرها في الهجرة لقم المقدسة، وتخلَّقت بسير كبار عرفانييها، سيرة تتوفر على مواصفــات الثقـــة والاطمئنــان. وهي مواصفات حاسمة بالنسبة لجمعية التوعية ولجماهير الجمعية التي يهمها معرفة المرجعية السياسية والعلمية لسيرة صاحب الخطاب، فبهذه المعرفة ينفرز الخط الحزبي وتتحدد المرجعية الشيرازية من الولائية من الدعوية من حزب الله من السيد فضل الله، فلكل مرجعية ثقاتُها ومطمئنوها وموالوها، ولكل منها حظها من قلب الشارع.
من قلب الدولة إلى قلب المجتمع
تغيير النفوس وصياغتها وفق المنهج الإيماني هو أحد الاستراتيجيات التأسيسية لحزب الدعوة الذي تنحدر منه مرجعية خطاب الكاظمي، وإن كان هذا التغيير لا يستهدف الآن بناء دولة ولا إقامة حكومة إسلامية، لكنه منهج ما زال يعمل مستهدفا بناء مجتمع إيماني وإنسان رسالي، أي أن التغيير قد تحول موضوعه من قلب الدولة إلى قلب المجتمع.
إن فهـم خطـاب الحركات الإسلاميـة من خـلال رصـد التحولات السياسية التي مرت بها هـذه الحـركات من كونها حركات تسعى لإقامة دولة وحكـومـة إسلامية خارج اللعبة السياسية (وفق أنموذج ولاية الفقيـه أو وفق أنموذج الأخوان المسلمين أو وفق أنموذج الإسـلام السلفي أو الإسلام الطالباني) إلى حركات منخرطة في اللعبات السياسية داخل الدولة، كما هو الأمر في مصر والأردن والمغرب والبحرين، لا يمكن أن يقدم فهماً عميقاً لخطاب هذه الحركات، فالفهم السياسي يظل يرصد التغيرات من الخارج ولا يكلف نفسه عناء الفهم الداخلي.
وإذا ما وضعنـا في الاعتبار أن الإسلام السياسي، إسلام أصولي، بمعنى أنه يؤسس فهمه للروح والعالم على أصـول دينيـة وفلسفيـة وعقائدية، فإن الفهم النقدي لا السياسي لتحولات خطاب الحركات الأصولية يصبح مسألة ضرورية، ويبرز في مقدمة هذا الفهم نقد فهمها للروحانية، خصوصا وأنها تقدم نفسها ملبية لحاجات الإنسان الروحية في مقابل غيرها الذي أهمل الـروح.
وفي هذا السياق يتكاثر دعاة قلب الشارع، والشيخ حبيب الكاظمي واحد من دعاة هذا القلب.