(أنت خرجت من تقليد الفقيه ووقعت في تقليد أركون) كانت التهمة الأكثر حضوراً في الحراك الثقافي العام الذي أعقب زيارة محمد أركون للبحرين في 2001م. أقول كانت تهمة لأنها لم تطرح نفسها أبداً في صيغة سؤال، ولم تكن حتى في مضمونها تحتمل السؤال، والتهمة غالباً ما تقتضي الدفاع أكثر من البيان، لذلك من المهم أن نحول التهمة سؤالاً كي نتحول من مقام الدفاع وما يقتضيه من منافحة وجدال ورغبة في الغلبة، إلى مقام البيان وما يقتضيه من توضيح وكشف وفتح وفهم واستشراف. وأقترح أن يكون السؤال: ما الفرق بين علاقتك بالفقيه وعلاقتك بأركون؟ أو بصيغة أكثر تعميماً وأكثر تحيزاً، ما الفرق بين تقليد الفقيه وصداقة المفكر؟
العلاقة مع الفقيه محكومة بقانون الماهية، والعلاقة مع المفكر محكومة بقانون التصيير. قانون الماهية يفرض عليك أن تكون هو، وهذا يتطلب أن تكون حقيقتك ثابتة وأبدية وأن تكون نسخة من الفقيه، نسخة من فعل (أمره). أن تكون ماهيتك محددة بصرامة أوامره، فالفقيه يختزل النص الديني في فعل الأمر الذي يتحدد من خلاله الحلال والحرام والمستحب والمكروه. وأنت أو ماهيتك أو حقيقتك محددة بمحددات فعل الأمر هذا. الماهية تتطلب التقليد والمحاكاة حد المطابقة كي لا تصير شيئاً آخر أو شأناً خاصاً غير معروف، فمن تتغير ماهيته يصبح كائناً غير معروف، وما يضمن لك المعرفة والتعريف، هو أن تقوم بفعل معروف مسبقاً، هو فعل الأمر، فعل أمر الفقيه، كينونتك من طينة هذا الفعل، أي تغير أو تحول أو تصير في هذه الطينة يجعلك مسخاً.
قانون التصيير يطلب منك أن تكون أنت وما تفعله، وهذا يتطلب أن تكون حقيقتك متغيرة ومتحولة وأن تكون شأناً خاصاً، وكي تصير كذلك، فعليك أن تتحرر مما يسبقك وتتطلع إلى ما يلحقك، عليك أن تتحرر من فعل الأمر ومقتضياته. التصيير يتطلب الانفكاك والخروج وتحمّل مسؤولية أن تكون على خلاف ما كنته. التصيير فعلك أنت لا فعل ما سبقك، لذلك هو فعل متحرر مما سبق.
بقدر ما يكون المفكر مشكال رؤية، تتأكد أهميته، ويتأكد حضوره وتتصيَّر علاقتك به بدل أن تتماهى. نحن مع الفقهاء نتماهى، ومع المفكرين نتصاير. في التماهي نصير هم فقط، وهم فقط بما هم نص ثابت، وفي التصاير نصير نحن وغيرنا وشيئاً آخر.
علاقتك مع الفقيه تقوم على التقليد، تقلد (فعل أمره) وتمتثل لأحكامه، وترهن كلك به، وعلاقتك مع المفكر تقوم على الصداقة، تصادق مفاهيمه، وتتمثل عوالمه، وتفتح كلك به، وتتصرف في العالم من خلالها. أحكام الفقيه أقفال ومفاهيم المفكر مفاتيح، تلك تغلق العالم وتماهيه حد التطابق وهذه تفتح العالم وتصيره حدَّ الاختلاف.امتثالك للأحكام يغلقك وتَمثُّلك للمفاهيم يفتحك، مع الفقيه أنت تقع في حكم نهائي، ومع المفكر أنت لا تقع في بل أنت تقع على، تقع على ما يفك محكماتك ويخرجك من كينونتك الأحادية.
الفقيه يظلك بعباءته ويتيح لك أن ترى بقدر ما تسمح به خيوط عباءته المحكمة، والمفكر يضلك بعرائه وهوامله ويتيح لك أن تكتشف العالم بقدر ما تسمح به خيوط الشمس، ويضع لك في كل مسار من مسارتها معالم غير محكمة، معالم هي بمثابة إشارات تحتاج إلى تأويلك كي تنفتح وتدل، وإذا وجدت في خيوط الشمس ومساراتها ما يضلك، فلك أن تبتكر لك شمسك الخاصة أو قنديلك الخاص كما فعل ديوجين الذي كان يبحث بمصباحه في رابعة النهار عن إنسان.
يبطل عمل المفكر حين تكون له عباءة تغلف أصدقاءه، ويتعزز عمل الفقيه حين تكون له عباءة تنص عليه، وتنص على مقليده وأتباعه. مع الفقيه العقل في مسار النص، ومع المفكر العقل في مسار الشمس.
في مسار النص الذي هو مسار عباءة الفقيه وعمامته، نحن في مستوى ما يمكن التفكير فيه، أي في مستوى ما يسمح به هذا المسار بما هو مجموعة من التصوُّرات والعقائد والنظم الخاصة بالجماعة التي ينتمي إليها الفقيه ويتضامن معها.
وفي مسار الشمس نحن نحاول أن نفتح كوة في مستوى ما لا يمكن التفكير فيه، بسبب مانع يعود إلى محدوديّة العقل ذاته أوانغلاقه في طور معيَّن من أطوار المعرفة. أو بسبب ما تمنعه السلطة السياسيّة أو الرأي العام، إذا ما أجمع على عقائد وقيم قدَّسها وجعلها أساسًا مُؤسِّسًا لكينونته ومصيره وأصالته.
أي أننا مع الفقيه، في مسار الماهية والكينونة الثابتة، وما يسمح به الفكر محدود بحدود هذه الكينونة وثباتها، ومع المفكر نحن في مسار الصيرورة التي تخترق مستوى ما لا يمكن التفكير فيه، وهو المستوى الذي يهدد ثوابت الأشياء ونهايتها المغلقة.
مع الفقيه أنت مع الله، فهو وارث ولاية الله عن الإمام عن النبي أو عن النبي والسلف الصالح، هو ولي الله وباسم هذه الولاية يرث القرب وما يقتضيه من محبة وانقياد وتسليم وأمر وسلطة وقيادة، تماماً كما الأب يكتسب حق ولايته ومقتضياتها عليك بقرابة البنوة، كذلك يكتسب الفقيه بهذه القرابة من الله حق الولاية. تقوم علاقة الفقيه مع الناس على أنهم مجموعة من الموالين، يوالون الله خالقهم ويوالون نبيه بأمره ويوالون أوصياءه بوصيته، ينصاع الموالي لأمر مولاه كي يحقق انقياده التام إلى خالقه وبذلك يضمن جنته. الفقيه لن يمنحك الجنة من غير الولاء المطلق.
الفقيه يؤسس لمجتمع الموالين المؤمنين الذين تجمعهم رابطة الولاء العقائدية والولاء النسبي (أهل البيت). مجتمع الفقيه هم جماعته، لذلك فأمر الفقيه لا يمكن أن يتجاوز جماعته المؤمنة بولايته، ولا يمكنه أن يتعامل مع الجماعات المتعددة والمتنوعة في المجتمع الواحد على قدر المساوة، فالولاية جامع الجماعة لا المجتمع, أي جامع الجماعة الواحدة المتجانسة المتماهية لا جامع جماعات المجتمع الواحد المتعدد العقيدة.
مع المفكر أنت مع الإنسان، في تعدده واختلافه وتنوعه، ليس هناك علاقة ولاء ولا قرابة تربطك أو تشرع لك أو تمنحك شرعية القول. مع المفكر نحن في مجتمع الأصدقاء لا الأخوة، أي مع الأصدقاء المتعددين في كل شيء لا مع الأخوة المتماهين في كل شيء.
الاختلاف في مجتمع الفقهاء يفتح باب القتل وفي مجتمع المفكرين يفتح باب الحياة، لذلك ما قتل مفكر إلا بفتوى فقيه، وما قتل فقيه إلا بفتوى فقيه آخر. وما أحرق كتاب إلا بفتوى فقيه أيضا، لكن لم يقتل فقيه برأي مفكر ولا أحرق كتاب برأي مفكر. السهروردي والحلاج وابن رشد وكتبهم شهداء على الفقهاء. الفقيه باب على الموت وما بعد الموت، والمفكر باب على الحياة. بعد كل ذلك هل يمكن أن يكون الفقيه صديقاً؟!!
نعود إلى سؤالنا: ما الفرق بين علاقتك بالفقيه وعلاقتك بأركون؟
الجواب علاقتي بالفقيه كانت علاقة ولاء، وعلاقتي بأركون علاقة صداقة. أركون يمكنك أن تمشي معه، والفقيه لا يمكنك أن تمشي إلا خلفه.