في جلسة دردشة حول بروفايل العلمانية، كنت فيها مدعواً مع الصديق حسين مرهون، للحديث عن تجربتنا مع نخبة من مثقفي وتكنوقراط اليسار البحريني، أبدى الدكتور عادل العريفي، استشاري الطب النفسي، اعتراضه على دعوتنا لتفهم التيار الديني وقراءة مواقفه السياسية خارج إطار اللعبة السياسية، وقد صاغ اعتراضه في شكل سؤال استنكاري، يقول فيه:كيف ننسق مع الجمعيات الدينية، وهي لا تخرج عن اثنين، إما أن تكون جمعيات مولاة تبرر باسم الدين تطابقها مع السلطة السياسية بما هي شخص أو ولي أمر مفترض الطاعة، ولا يجوز الخروج على سلطته، وهي تُسوّغ بهذه الحجة مواقفها السياسية الممالئة، وإما أن تكون جمعيات معارضة تبرر باسم الدين معارضتها السياسية ومطالبها الحقوقية، وباسم الدين ترفض مقتضيات مطالبها التي تفترض تقبل ثقافة الديمقراطية.كيف يمكن التنسيق مع هذه الجمعيات التي رابطها الديني وأقنعته يتقدم على رابطها المدني ومقتضياته؟
قلت له، أنا مثقف، ووظيفتي لا تنطلق من إمكان التنسيق، فذلك إمكان يشغل المشتغلين أو المنشغلين بالسياسة، والعلاقات في المجتمع في مفهومي لا تنحصر في إمكان التنسيق. والمجتمع أكبر من الجمعيات السياسية مهما كانت درجة تمثيلها للمجتمع، وهي إن مثلت جانباً من المجتمع أو وجها من وجوهه أو رابطاً من روابطه أو فئة من فئاته، فإنها لا تمثل كل إمكانات اجتماعه، أي العلاقات التي تربطه وتشده وتشكل صفته الاجتماعية.
المجتمع ليس مجموعة أفراد، بل منظومة علاقات متعددة، ومهمة المثقف العمل على هذه العلاقات تفكيكاً ونقداً وبيان ما تنجزه في المجتمع من أحداث ووقائع ومآزق وأزمات.البعد السياسي هو بعد من أبعاد المجتمع، ولا يمكنه أن يكون الممثل الوحيد لما هو معقود في المجتمع من علاقات، أي أن التمثيل السياسي لا يعكس حقيقة العلاقات الاجتماعية لذلك “يدين بورديو الفهم الذي يعتبر السياسي كانعكاس للاجتماعي أو السياسي كصورة حقيقية للعلاقات الاجتماعية”([1])
حتى الصراعات السياسية التي نشهد وقائعها بشكل منتظم لا تمثل حقيقة الصراعات الاجتماعية، كما يفيدنا بورديو فـ”الصراعات السياسية لا تعكس حقيقة الصراعات الاجتماعية، لأنها تدور بين تنظيمات أكثر مما تدور بين طبقات وفئات”([2]) لو كانت الصراعات السياسية في البحرين تعكس حقيقة الصراعات الاجتماعية، لانتعشت سوق الحراسات الشخصية وسوق شركات الأمن الخاصة، ولطالب السعيدي الحكومة بضرورة رفع علاوة الأمن الشخصي.
الجمعيات السياسية صارت شاغلة الناس، حتى صارت كأنها هي المجتمع، لقد التهمت المجتمع وسيّسته (بالمعنى المباشر والسطحي) والسلطة عندنا فيما يبدو تتنافس، (وهي دائما تتنافس ولا تعرف الحياد، لأنها دائما شخص له مصالحه الخاصة جدا) مع الجمعيات السياسية في هذا الالتهام، حتى صارت المآتم مطالبة بإظهار ولائها السياسي، لا أحد خارج اللعبة السياسية، أو لنقل بصورة أكثر دقة لا أحد خارج استغلال أطراف اللعبة السياسية.
رابطة الجلسة كانت تجربتنا الدينية وتحولاتها العلمانية، لكنها انفلت إلى منطقة نقد لتجربة اليسار وموقفه المتعالي من التجربة الدينية، وما أنتجه هذا الموقف من قصور معرفي في فهم الظاهرة الدينية وتجسداتها الاجتماعية.
إن مقولة التنسيق تعبر عن علاقة سياسية، ولا تحمل في داخلها مفهوماً تفسيرياً، يمكننا من فهم الظاهرة الدينية وطريقة اشتغالها،من هنا فحين أقدم تجربتي الدينية في شكل سيرة، لا أقدمها كي توظف من قبل أي طرف للاحتجاج بها على جدوى التنسيق أو عدم جدواه، بل أقدمها من أجل فهم العلاقات الأكثر تعقيداً في مجتمعي، وإذا كان السياسي ليس معنياً بالفهم، بل معني بالاستغلال، فعليه أن يستغل هذا الفهم ليتصرف ببصيرة أكثر.
[1]البناء على بيار بورديو:سوسيولوجيا الحقل السياسي، علي سالم،ص 90.
[2] المرجع نفسه، ص89.