توفيت أمس، آخر صديقات جدتي سلامة سلوم في حلقتها الضيقة في الدير،عصوم، الاسم المدلل يبقى محبباً في التداول في ثقافتنا المحلية، تكبر النساء ولا يغادرن دلال أسمائهن.
أختي معصومة وجدة أمي سيدة معصومة، وزوجة ابن خالي معصومة، وكلهن قريبات من القلب في العائلة، لكن حين تقول لي إمي: تسلم عليك عصوم وتسأل عنك، أعرف مباشرة أنها السيدة معصومة بنت سيد عبد الله سيد هاشم.
أسمع صوت سلامها الرخيم الحنون يضرب في قلبي. تعزيني بالأمس أمي، وهي لا تدري بأنها تزيد وجع فقدها في قلبي: كانت تحبك وكأنك سيد من أبنائها السادة. وتضيف: رحم الله أم السادة، لقد أعطاها الله من بر الأبناء، على قدر صفاء قلبها، كانوا يحملونها على أكف قلوبهم، من غير ملل ولا جزع، طوال فترة مرضها الذي أقعدها لأكثر من عشر سنوات، بل إنهم أخذوها لزيارة الإمام الرضا بمشهد المقدسة وهي على حمّالتها، لتهدأ روحها المشتاقة لأهل البيت.
ربطتني صداقة طفولة بابنها السيد إبراهيم، كان صورة من أمه في طيبته وأخلاقه وصفاء قلبه، كان من دوننا حين تقع عينه على كسرة خبز في الطريق يأخذها بحنو بالغ ويقبلها ويرفعها على إحدى الجدران كي لا تطأها الأقدام، إنه احترام للنعمة لا أشك أن أمه السيدة معصومة قد أودعته في معتقده وسلوكه، فصار علامة في أخلاقه.
عدت لرسالتها الصوتية الأخيرة لي في العيد الماضي “هلا ومرحبا يا بوي، شحوالك، حيا الله شيخ علي، حيا الله شيخ علي، يواليك يا بويي العافية وطولة العمر” كانت تظنني على الهاتف معها، وتنتظر ردي عليها. لم يسمح فارق التوقيت بيننا أن أسمعها ردي في الوقت نفسه لتطيب نفسها المشتاقة لكل شيء يذكرها بصديقة عمرها سلامة سلوم، فالأكيد أن تضاعف محبتها لي تأتي من جهة ما احتفاء بسلامة. تخبرني أختي فاطمة أنها يستحيل أن تنسى ذكر سلامة في أي زيارة تذهب إليها، كأنها تعالج قلبها باستعادة حكاياتها معها، فقد شكّلت ثلاثيا خاصاً جمع بينها وبين شقيقتها بتول وصديقتهم سلامة. كبروا وما كبرت عادت الطفولة وبراءتها فيهم، لا تشتهي الواحدة منهم ثوباً وإلا أحبت أيكون لصديقتيها مثله، حتى حين كبر سيد محمد ابن بتول وصار يعمل بالخارج، أخذت تشترط عليه ألا يأتيها بثوب مفرد، لا قلب لها أن تلبس ثوباً لا تلبس مثله سلامة وعصوم.
ظلت ترسل لي هداياها ولم يقعد المرض حواسها عن تفقدي، ولم تمنعها مغادرتي للوطن طوال هذه السنوات من وصلي، وكأنها تشمّ فيّ رائحة سلامة. حين وصلتني هديتها (تولة) العود الفاخرة، صرت أستخدمها بحرص بالغ في شتاء بيروت وصنعت على وقع رائحتها العابقة ذاكرة جميلة، وانتقلت معي للشتاء الكندي القارص تدفئني بحميميتها. في زيارتها قبل الأخيرة، كانت متألمة حين اعتذرت لها أمي عن قبول هديتها لي، قالت لها غير مسموح أن نرسل له شيئاً بعد أن صار في كندا، لم يعد الأمر كما هو حين كان في بيروت.
تحكي لي خالتي خاتون عن وعيها بهذه العلاقة الحميمة بين أمها والشقيقتين عصوم وبتول، تقول وعيت على الدنيا، وكأني أراهم يعيشون معنا في البيت، يترددون على مجلس أمي ومأتمها طوال اليوم، هكذا كانت تفعل عصوم وبتول وأمهم مريوم بنت حجي عبد الله البابور، وأختهم غير الشقيقة شروف التي أصبحت ملاية رئيسية في مأتم جدتك.
تضيف الخالة خاتون التي تتلمذت على صوت (شروف) وملايات مأتم أمها، وقُدّر لها أن تكون في الدفعة الأولى لبنات الدير الملتحقات بالمدرسة وسط معارضة اجتماعية واسعة: وُلدت في اليوم نفسه الذي أنجبت فيه عصوم ابنتها الكبيرة فاطمة سيد حميد سيد موسى (أم حسين)، وأكملنا بصداقتنا صداقة الأمهات وصداقة العمات أيضاً فقد كانت عمة أمي (بنت الحايي) صديقة عمة عصوم (هاشمية سيد هاشم)، لقد أتاحت الجيرة القريبة إلى حد تلاصق البيوت أن تمتد علاقاتنا الاجتماعية عميقا.
أذكر من هذه الطفولة جماليات تفوق الوصف، لقد أطلقت شيخة جدة فاطمة لأبيها على فاطمة لقب (المشمومة) لفرط محبتها لها وتدليعها، وجدت تشابهاً بين قصر فاطمة وجمالها ورائحتها الزاكية، حتى غدا الاسم المحبب بيننا لفاطمة هو (المشمومة). أما أنا فقد كان خباز والدي يصنع حلوى مميزة، وتدليعاً لي فقد أطلق عليها اسمي (صرة الخاتون).
ما انقطعت (عصوم) عن مأتم سلامة حتى وهي على كرسيها المتحرك، تغالب مرضها لتتحمل مشقة الحضور، وحين وجدت في سنواتها الأخيرة أن المرض ألزمها الاستلقاء على الفراش، صارت ترسل تبرعاتها للمأتم في كل المناسبات.
تلفتني أمي وهي تحكي عن بيت سيد حميد سيد موسى زوج عصوم، إلى أني مدين في حياتي لهم، فقد كان سيد عيسى (الضرير) الأخ الشقيق لسيد حميد، هو من تعتمد عليه سلامة سلوم لتوفير الأضحيات صعبة الشروط، فهو من يعرف كيف يُحضر لك الطُمطم الأسود والديك الصحيح ليفدي حياتك من تهديدات (التابعة) التي دوماً تهددني بأخذ أعز ما أملك، وما كان غيرك.