” في العالم من الأصنام أكثر مما فيه من الحقائق “
نيتشه
“إنما الذات جملة شروطها، أي مجموعة العلاقات والنسب والإضافات التي تقوم بينها وبين الموضوعات “
علي حرب
“أرى طرقاً ستأخذني إلى طرق ستأخذني إلى طرق
وبحراً كالمدى فيما أرى”
قاسم حداد
لا أتحدث عن ذاتي – هنا في التقائها بأركون – بوصفها مجموعة من المكونات الفطرية أو القدرات الطبيعية أو السجايا الأخلاقية أو الاستعدادات الذهنية، بل أتحدث عن ذاتي بما هي تركيب ثقافي، أي بما هي جهد وعمل يسعى إلى تشييد بناء غير معطى، بهذا المعنى يصبح الحديث عن الذات حديث عن تجربة فيها من الأحداث والوقائع والصدمات والمواجهات والصراعات والتحولات والسياقات الثقافية ما يمكن قراءته ونقده بإعادة حكيه وتأويله .
-1-
حين تروي الذات حكايتها، حكاية تشكلها وتركيبها تحت تأثير حدث ما، فإن هذا الحدث لا يلبث أن يتلبسها ويتولى الحكي بصوته بعد أن تتمثله الذات ضمن عالمها ووعيها. أشعر الآن أن حدث التقائي بأركون هو الذي يروي ذاتي ويركب أحداث ماضيها، ويعيد قراءة مناطق عبورها ما بين التخوم والحدود، ويصل تقطعاتها وانقطاعاتها . يحضر أركون فيَّ لا بوصفه صوتاً واحداً، بل مجموعة من الأصوات تنتمي إلى أزمنة مختلفة وسياقات متعددة وعلوم إنسانية متنوعة وحضارات متعاقبة، إنها أصوات أرسطو ومسكويه والجاحظ وأبوحيان التوحيدي ودريدا وبروديو وبروديل وجاك بيرك وفوكو وبارت وياوس وغيرهم .
تروي الذات هنا أحداث تشكلها التي انتظمت في وعيها قبل ثمانية أعوام حيث التقت خلالها بأركون، لكنها ترويها بوعي اللحظة الراهنة المهددة بالنسف فيما بعد وإعادة الحكي . كلما أعادت الذات رواية حكايتها أعادت تأويل سيرتها بتقطيع أحداثها أو تمطيطها أو الحذف منها أو الإضافة إليها .
كتيت هذه المقالة احتفاء بزيارة المفكر محمد أركون إلى البحرين في مارس2002م بدعوة كريمة من مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة .
كان أرسطو يعرف الحكاية بأنها الفعل “والفعل هو ما يمارسه أشخاص بإقامة علاقات في ما بينهم ينسجونها وتنمو بهم ، فتتشابك وتنعقد وفق منطق خاص بها “([1]) وفق هذا التعريف تصبح حكاية الذات فعلها، وفعلها هو ما تنسجه من علاقات وفق منطق وعيها، وحين يتحول هذا المنطق تتحول العلاقات؛ فتنشأ حكاية جديدة تروي ذاتاً جديدة .
ما الذي تقوله هذه الحكاية ؟
-2-
في صيف 1993م كنت للتو قد أنهيت بكالوريوس اللغة العربية في جامعة البحرين، كانت الخطة المؤجلة منذ انهائي المرحلة الثانوية في 1989م تقتضي أن أتوجه نحو الدراسات الدينية، يدفعني نحوها حس أخلاقي عميق بأهمية أن أبر بوعدي لأصدقائي الذين عاهدت هم أن أكون نموذجاً لرجل دين عصري يملك تأهيلاً علمياً عالياً، شغلتني فكرة الالتحاق بـ(الجامعة الإسلامية) الحديثة التأسيس في لندن، كان لدي إحساس عميق بأهمية البحث عن شيء مختلف، غير أن التكوين الديني الذي أحمله بين جنبات ذاتي لم يكن يملك القدرة على تبصيري بالخيارات الممكنة، أقصى ما كان يستطيعه هو أن يحرض في الدافعية نحو الحج إلى أي قلعة علمية دينية موثوق في إخلاصها وتدينها، أردت أن أكون متخصصا في العلوم الدينية بشكل حديث، لم تكن صفة الحديث تملك رصيدا دلاليا في مخيلتي يتجاوز المعاني الأيديولوجية التي تأخذ بأسباب ا لعصر وحاجاته، والمعاني النضالية ضد الجبهات غير الدينية التي تثير من منطلقاتها المعاصرة إشكالاتها التشكيكية ضد الاتجاهات الدينية السياسية، لم يتجاوز مفهومي لمعنى تحديث العلوم الدينية معاني الإسلام السياسي كما أفهمه الآن.في حينها كانت صفات الجديد والحديث والمعاصر أشبه شيء في تصوري بسديم لا يمكن أن تميز من خلاله شيئاً .
-3-
في سياق هذه الحيرة بكل ما تحمله ظلال الحيرة من معاني التخبط والتردد والقلق وعدم القدرة على الحسم وعدم الوضوح التقيت بأركون عبر كتابه ” من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي ” . كانت صدفة – مازلت أفخر بها – حين عثرت على الكتاب مندساً بين رفوف إحدى المكتبات المحلية، لم أكن أعرف أركون، للوهلة الأولى أثار عنوان الكتاب – الذي طالما أرَّق أركون وهاشم صالح – حساسيتي الدينية، ظننته يقدم رؤية جديدة للاجتهاد عبر نقد الممارسات التقليدية للفقهاء الذين مازالوا لا يعيشون عصرهم ولا يلتفتون إلى مشاكله المستجدة .
لم يتوقع أفق انتظاري أكثر من ذلك، فلم يكن يملك القدرة على أن يتوقع أن النقد يمكن أن يمتد إلى ممارسات الفقهاء المعاصرين المنخرطين في الشأن العام .
لقد كان أفقي مبنياً على تمجيد وتقديس أولئك المجتهدين الذين يملكون الإحاطة التامة بالعلوم الدينية التي لا يمكن لأحد غيرهم أن يمتلكها بهذه الكفاءة العالية، إن ممارساتهم العلمية لا يمكن أن يرقى لها النقد أو الشك، بل إننا غير مؤهلين أبداً لمعرفة هذه الممارسات ولا معرفة طبيعتها، إنها أشبه شيء بالسر المقدس الذي يجب الامتثال إليه بتسليم تام ، لم يعرف هذا الأفق أن هناك نقداً يمكن أن يتجاوز نطاق الممارسات الاجتماعية والعملية وطبيعة فهمها للإسلام , وهي ممارسات رجال الدين والكوادر الدينية القيادية والمثقفين المتدينين وعامة الناس .
بقدر ما في هذا الأفق من سذاجة بقدر ما في اصطدامه بأركون من تحولات كبرى، أحدث هذا الكتاب صدمة ثقافية عميقة في ذاتي أصبحت أكثر قدرة على الرؤية ، ما زلت أستغرب من شعور الحب الذي غمرني تجاه أركون، حين أستعيد الآن لحظات القراءة أتذكر بالضبط أوضاعي الجسمية والمكان الذي كنت أقرأ فيه والأحاديث النفسية التي كانت تراودني وأنا أقلب صفحاته ، قبل أن أتم قراءة الكتاب اتصلت بأحد الأصدقاء الذين شهدوا حيرتي بكل تقلباتها النفسية لأخبره أنني عرفت ما أريد، كان من الصعب أن أفهمه ما تبلور لدي، اكتفيت بإظهار مشاعر الارتياح واللذة الروحية العميقة التي انتشيت بها، وكأني للتو اكتشفت شيئاً جديداً .
-4-
كان هذا هو التلقي الأول الذي استطعت من خلاله أن أحدد طبيعة الدراسة التي أسعى إليها، كان علي أن أنتظر القراءة الثانية حيث الاشتباكات النقدية التي تعمل في ذاتي تبحث عن حلول سلام ومصالحة، لقد تطلب الأمر سنتين قاسيتين كنت أحمل أركون في داخلي حاولت أن أكيفه مع ما أنا فيه فأبى، رفض أن أُأْدلجه داخلي، لم يكن لأجهزتي أن تتمثله على الرغم من كل المحاولات التوفيقية، كان علي أن أبحث عن ذات جديدة تستطيع أن تبني علاقاتها بالعالم وأشيائه وموضوعاته وقيمه وأحداثه بشكل مغاير لعلاقات ذاتي المبنية وفق مؤسسات التقديس الرمزية .
أت ساءل الآن لماذا لم أشعر بغربة مع أركون؟ غربة تدفعني لاستيحاشه أو للنفور منه أو للشعور بالغيض من تهديماته الرمزية لسلالم مقدساتي، لماذا كانت الدهشة وحدها المسيطرة على علاقتي به ؟ هل يمكن للذات أن تدخل على عالم آخر من دون ألم الغربة ؟ هل تكفي الدهشة وحدها لوصف ما حدث ؟ ألم يخالطها شيء ؟ كيف يتحول النقد بما يحمله من عنف رمزي إلى حب ، حب ناقد ؟
-5-
لتفسير هذا الحب المنبثق من وسط كومة من عنف النقد أحتاج إلى إعادة قراءة نهاية الحد الذي كانت فيه التجربة وقراءة بداية الحد الذي دخلته .ربما تسعفنا استعارة مفهوم الحد عند هيدغر في فتح الحدين على بعضهما بدلاً من اصطناع صدام ثنائي بينهما . الحد في مفهوم هيدغر ليس نهايةً بقدر ما هو بداية لشيء آخر جديد، بهذا المعنى الحد ليس اكتمالاً ولا انتهاء ولا امتلاء، بقدر ما هو شوق إلى بداية قريبة، ووصول إليها، ووصل بها، وتعطش إلى مائها. الحد بهذا المعنى منطقة عبور تنتقل خلالها الذات من وسط إلى وسط آخر، من دون انقلابات ثوروية تستدعي القيام بأفعال التصفية والإلغاء والقطع بكل مستلزمات هذه الأفعال العنفية في أبعادها المادية، بهذا الانتقال تستطيع الذات أن تحتضن العالم بمتضاداته وانقطاعاته وتنافراته، لتثري تجربتها الإنسانية بما تقوم به من عمليات صرف واستثمار لمدخراتها الرمزية .
بهذه الروح أستطيع أن استعيد قراءاتي الدينية الفكرية المبكرة لمطهري وفضل الله والشيرازي والصدر وشريعتي (على الرغم من اختلاف نموذجه ) لأقيم معها علاقة حدية (بالمعنى السابق ) تفتحني بما تحويه من معقولية دينية متقدمة على معقوليات ثقافية أخرى أوسع . وبهذه الروح أستطيع أن أستعيد قراءاتي الدينية الروحية والأخلاقية لـ(السيد دستغيب والفهري ) لأقيم أيضاً معها علاقة حدية تفتحني بما تحويه من قيم أخلاقية وروحية دينية على قيم أخلاقية أخرى أكثر اتساعاً .
-6-
لقد بلغ هذا الحد نهايته التي هي في الوقت نفسه بداية لحد آخر، لقد بنى هذا الحد في ذاتي يقيناً صلباً، وتسليماً حاداً، واعتقاداً أرثوذكسياً لا يشك أبداً في صحة الجماعة الدينية التي أنتمي إليها، ولا يخالطه الشك في فوزها الأخروي.
لقد بلور خطاب هذا الحد حسي المشترك الذي يجمعني مع جماعتي ضمن ما يسميه أركون بالسياج العقلاني المركزي الذي يبرمج عبر تشكيلته الفكرية الاستدلالية حساسيتنا وتصورنا وإدراكنا وتفكيرنا وممارساتنا العملية .
وقد عضَّد من فرط هذا الحس قراءتي المبكرة جدا ( المرحلة الثانوية ) كتاب محمد التيجاني ” ثم اهتديت ” الذي يروي فيه رحلته العقائدية في التحول من المذهب السني إلى المذهب الشيعي . وجدت في خطابه نموذجاً إقناعياً مبهراً لممارسة هذه العقلانية المركزية ولطريقة صناعتها للحس المشترك، فتحت تأثير هذا الحس، وتوجيهات أنساقه المضمرة تشكلت حساسية ذاتي فرأيتها نموذجاً للعقلانية الحقة ذات المنطق الحجاجي الذي يملك الحقيقة التي لا يمكن دحضها.
-7-
مع أركون رحت أعيد قراءة هذه التشكيلة العقلانية لأكتشف ما فيها من خيلات ومقدسات ومأثورات ومسلمات ورموز ومتعاليات . ربما يمثل هذا
الاكتشاف سراً من أسرار حبي العاطفي والمعرفي لأركون . لقد وجدت أن أركون وهو يحفر في العقل الإسلامي أنه يحفر بقلبه ويديه في قلب المنطقة التي أنا فيها بكل ما فيها من خيالات ومقدسات وأوهام لأول مرة أقارب العقل بعقلانية لديها القدرة على قراءة حساسيته المطمورة تحت أوهام المنطق الكوني، لم يكن أركون علموياً بارداً ولا وضعياً متعجرفاً؛ لذا كانت حروفه حارة في عروق عاطفتي الدينية لفرط قدرتها على قراءة مخيلة عقلانيتي الدينية ، لقد تلقفت مفهوم المتخيل باحتفاء الفاتحين، فقد وجدت فيه أداة علمية لفتح مفهومنا للعقل على مساحات جديدة يمكنها أن تفتح فهماً أوسع لطبيعة الممارسة العقلانية التي تضطلع بها أي ثقافة أو دين أو جماعة .
-8-
رحت أقرأ مخيلتي الجماعية التي تشكلت طوال هذه القرون، أخذت أفكك مفاصلها الكبرى، فبدت لي مجازاً كبيراً منحه التاريخ والتقديس ما جعله يبدو في صيغة حقائق وثوابت لا يمكن أن تهز .
حين يهتز مجازك يهتز حسك المشترك، فتفقد أمان الحقائق الجمعية، وتفقد ألفتها الرمزية التي تمنحك إياها لتبدد غربتك الرمزية . لا يمكنك أن تبحث عن أمانٍ آخر، فكل الجماعات تبني أنظمتها الأمنية مجازياً؛ لذا لا يمكنها أن تعطيك أماناً حقيقياً . إنها تستطيع أن تعلمك شيئاً واحداً، وهو أن تكتشف ذاتك الجماعية عبرها، وهذا ما دفع الأنثروبولوجي الفرنسي ( كلود ليفي شتراوس ) إلى أن يعرف الأنثروبولوجيا بأنها ” رحلة سفر إلى ثقافاتك عبر ثقافة أخرى “([2]) .
لقد فتح لي مفهوم أركون للانثروبولوجيا الدينية أفقاً آخر للتعرف لا على ذاتي الجماعية فقط بل على ذاتي الإنسانية، فالانثروبولوجيا الدينية كما يدرسها أركون تسقط الجدران الوهمية الفاصلة بين الأديان والمذاهب؛ لتدرس أنظمتها الرمزية في توليد المعنى وتقديس الأشياء ورؤية العالم والإنسان، تهتم هذه الانثروبولوجيا بالدراسة المقارنة لكل التجارب الروحية في كل المجتمعات البشرية، تفقد هنا التفاصيل الصغيرة أهميتها وتفقد الأسماء ضرورتها، فخلف كل ذلك ممارسات متشابهة تعبر عن طبيعة الإنسان وطريقة تشييد تمثلاته الرمزية للعالم .
فالتقديس على سبيل المثال كما تدرسه الانثروبولوجيا ظاهرة إنسانية يؤله عبره الإنسان الأشياء والأفكار والنظريات والشخصيات والأحداث والأمكنة والأزمنة.
-9-
بهذه الروح الانثربولوجية يمكننا أن نقرأ سردية كل جماعة دينية أو غير دينية بوصفها تركيباً ثقافياً وتاريخياً يصنعه الإنسان ويصبغ عليه من معناه وقيمه ما يعطيه مكانة رمزية أو تقديسية، فيتعالى على النقد مانحاً نفسه، عبر ما يسميه (ماكس فيبر) بمسيري شؤون التقديس، حصانةً تخيف الآخرين من الاقتراب المعرفي منه .
لم أشعر أن أركون يعري ذاتي الجماعية عبر نقد جماعتي الدينية أو العرقية بقدر ما كان يعري ذاتي الإنسانية عبر نقد كل الجماعات التي تنهل قيمها ومعرفتها من المعنى المطلق، وهذا ربما يفسر من ناحية أخرى حبي له و شغفي بعبثه النقدي بمطلقاتي ومتعالياتي .
إن المدخل الانثروبولوجي يفتح الممارسة النقدية والمعرفية على تاريخ الجماعات الإنسانية كما تحقق وتعين في حياتهم اليومية المباشرة من دون اللجوء إلى الأحكام المجردة والتصنيفات القيمية والتفاضلات العرقية .إنه – المتخيل – يستمد من تجربة الإنسان الحياتية ما به يبلور مفاهيمه وأطروحاته وفرضياته من دون مسبقات ذهنية .
-10-
لقد جعلتني ممارسة أركون المعرفية المتعددة الأدوات والمنفتحة الآفاق على الذاكرة والخيال، أرى في تجربتي الدينية بممارساتها وعلاقاتها وإضافاتها موضوعاً للقراءة، خصوصاً وأن مشروع أركون الذي أطلق عليه تسمية (الإسلاميات التطبيقية ) ينطلق “من واقع الحياة اليومية للأفراد والجماعات والإحاطة بالمشاكل الحية المطروحة في كل مجتمع، لاستنباط ما يتعلق بها من تعاليم دينية وإبداعات ثقافية وأغراض سياسية واقتصادية وتصورات أيديولوجية “([3]) .
لا يمكن للإنسان أن يقرأ ذاته قبل أن تصبح شيئاً آخر، والذات لا يمكنها أن تتحول إلى آخر إلا حين تستبدل شبكة علاقاتها ومجموع إضافاتها بشبكة أخرى، حينها يمكنها أن تقرأ تجربتها التي غادرتها، وإن كان الإنسان لا يغادر أو ينفصل عن الأشياء والأفكار والمفاهيم التي تلبسته بالمطلق، فأطيافها تظل تلاحقه في نسخ مهجنة .
-11-
سأزعم أنني غادرت ذاتي الأولى؛ ليحق لي قراءتها؛ وسأؤكد هذا الزعم باستعادة قراءتي لمفهوم الأطر الاجتماعية للمعرفة . هذا المصطلح لعالم الاجتماع (جورج غورفيتش) ويعني به أن كل أنواع المعرفة ليس مسموحاً بها ضمن أي إطار اجتماعي([4]). مثلاً، الأطر التي كانت تسمح في فترة ازدهار العصر الكلاسيكي الإسلامي بالمناظرات الحرة التي تدور بين مفكرين مسلمين ويهود ومسيحيين، لم تعد هي الأطر نفسها التي تمنع اليوم المناقشات الحرة لقضايا العقل الإسلامي كما يقاربها أركون مثلاً.
تعرفت هذا المصطلح لأول مرة من خلال توظيف أركون له في قراءته للأطر المعرفية التي تحكم سياق المجتمعات الإسلامية، لقد كان لهذا المصطلح وقع خاص في نفسي، كنت أردده كثيراً بين الأصدقاء ترديد طالب العلم الذي يحرص على حفظ الأشياء الجديدة كي لا تهرب منه. الآن يمكنني أن أفسر ولعي الشديد بهذا المفهوم بوعي أفضل، لقد فتح لي هذا المفهوم مساحة للتفكير في ذاتي بعيداً عن سلطة الجماعة العقائدية، استطعت عبره أن أقيم مسافة بين ذاتي وجماعتي، أصبحت قادراً على رؤية أطرهم المعرفية التي تجعل منهم مجتمعاً متماسكاً، وحين تستطيع أن ترى نفسك خارج جماعتك، يمكنك أن ترى ذاتك الجماعية بمنظور نقدي، عندها يمكنك أن تعلن ولادتك الجديدة، ولادة الفرد فيك!
تستمد بعض المفاهيم قوتها وتأثيرها من حضور الدلالات المادية المستعارة فيها، وهذا ما يمكن أن نستوحيه من الاستعارة المفهومية لـ(الأطر) فالإطار في معانيه اللغوية المادية المباشرة يستحضر معاني الحجز والحد والمنع والفصل، فالإطار يحجزك ويحدك ويمنع اختلاطك ويفصل بينك وبين الآخرين . تعمل الأطر الاجتماعية بمثابة حواجز وحدود تفصل بين مجتمع وآخر، وما لم تتمكن من الخروج عليها، لن تستطيع تقييم حجم العنف الرمزي الذي تمارسه على ذاتك الفردية، ولا ثقل الالتزامات التي تكبلك بها ، ولا الإكراهات التي تفرضها عليك، ولا العمى الذي تصيب به بصيرتك.
أستطيع اليوم أن أتحسس فداحة عنف هذه الأطر التي شكلتني طوال حياتي بعد أن أصبحتْ موضوعاً لقراءتي، الآن فقط بعد أن انفككت منها يمكنني تفكيكها وتفكيك كل موضوعات التي كنت أرها من خلالها : تراثي، ذاتي، ديني، مذهبي، جماعتي، هويتي، أنظمة تفكيري.
-12-
الأطر ليست مجرد حد نقف عنده، بل هي أكثر من ذلك؛ فهي مرجعنا الذي نرجع إليه حين نريد أن نصدر حكماً أو نمضي رأياً أو نميز شيئاً أو نأوَّل مجازاً أو نتوقع حدثاً أو نقرأ نصاً أو نتمثل جماعة.
تتجسد الأطر في أشكال مراوغة وتتخذ صوراً متعددة : مسلمات، معايير، نظريات، مفاهيم، سلطة، تجربة،مؤسسة،خطاب،نص ،سرديات ، مذاهب، أفكار، عقائد، بدهيات، أنساق مضمرة، أقوال مأثورة، شخصيات مقدسة، قيم سائدة…. إلخ .
الأطر بمختلف أشكالها، تمثل حسنا المشترك الذي يجمعنا، وحساسيتنا الثقافية التي نتلقى بها العالم.
والأطر بوظيفتها المرجعية التي تتيح للفرد إمكانية تأويل الأحداث والوقائع الخارجية، تمثل أنساقنا الذهنية، وتمثلاتنا الرمزية التي نقيم عبرها إنشاءاتنا الاجتماعية في إطار إيديولوجيا ما ([5]).
حين تستبدل الذات إطارها الجماعي، فإنها تستبدل ذاتها وحياتها وعالمها وحكايتها وسردياتها ويقينياتها الكبرى المتشكلة عن العالم والتاريخ والإنسان والله .
لا يمكن للذات أن تُحيِّد من سلطة الأطر الجماعية من دون أن تخضعها للحفر الأركولوجي أي للتعرية التاريخية؛ ذلك لأن هذه الأطر تقدم نفسها بوصفها تمثيلاً للطبيعة،أو للفطرة، أو للحق، أو للحقيقة، أو للعقل، أو لمعنى نقي، أو لحالة مثالية نموذجية، أو لحتمية لا بدَّ منها، وهي بهذا الوصف، تفرض نفسها، وتمارس عنفها، وتُأبِّد وجودها، وتُبعدُ عنها الأعراض التاريخية والدنيوية، بهذه المراوغة تتلبس الأطر الذات؛ فتحيلها سكوناً أبدياً يقاوم الحركة والتغيير والتحول.
إن ما يلقاها مشروع أركون الساعي إلى بلورة علمنة حرة ومنفتحة تدعو إلى إيمان جديد يقوم على الحرية والتسامح والبعد عن التعصب والتبجيل، من مقاومة من قبل رجال الدين التقليدين المحكومين بأطر ثقافية ساكنة، يمثل نموذجاً لتحكم الأطر في ذواتنا وسلوكنا ورؤيتنا .
بودي لو أسترسل في سرد الكيفية التي جسدت فيها هذه الأطر حياتي بكل ما فيها من ممارسات عملية وعلاقات شخصية واختيارات وذوق وقراءات وأماكن وفاعلية وإيمان وطقوس وعبادات ومقدسات وتمثلات، ولكن حساسية السياق الثقافي والاجتماعي لا يمكنها أن تتقبل ما هو خارج سلطة حسها . لأقل إنه الخوف من أن ألقى مصير الجمل الأجرب .
-13-
وبهذا المعنى يمكننا أن نفهم الثقافة، بوصفها مجموعة من الأعراف والتقاليد والقيم والقوانين المحكومة بإطار اجتماعي وجماعي يبرمج سلوك الإنسان ويحدد طريقة تفكيره ومعايير أحكامه ويرسم زاوية رؤيته إلى الحياة .
ويمكننا أن نفهم خطابها المنتج ضمن إطارها، بوصفه مؤسسة رمزية تحكمها شبكة خفية من المفاهيم والقوانين والمعايير الثقافية التي تَمتثل إليها أقوال أو ذوات الممثلين الرمزيين لهذا الخطاب.
مادامت هناك ثقافة تصوغ الإنسان، و أطر معرفية واجتماعية تحكم تفكيره، وأنظمة معرفية (الابستيم ) تحدد أفقه، فإن وضعية الإنسان التاريخية في كل سياق، ستبقى تتشكل عبر مستويين(([6]:
1. مستوى ما يمكن التفكير فيه للمتكلم وهو متعلق بتمكن المتكلم من اللغة التي يستعملها ، وبالإمكانيات الخاصة بكل لغة من اللغات البشرية التي اختارها المتكلم. كما أنه متعلق أيضاً بما يسمح به الفكر والتصورات والعقائد والنظم الخاصة بالجماعة التي ينتمي إليها أو يخاطبها المتكلم وبالفترة التاريخية من فترات تطور تلك الجماعة. ثم إنه يتعلق كذلك بما تسمح به السلطة القائمة في المجتمع أو الأمة التي يتضامن معها المتكلم .
2. مستوى ما لا يمكن التفكير فيه بسبب مانع يعود إلى محدودية العقل ذاته أو انغلاقه في طور معين من أطوار المعرفة. وما لا يمكن التفكير فيه يعود أيضا إلى ما تمنعه السلطة السياسية أو الرأي العام ، إذا ما أجمع على عقائد وقيم قدسها وجعلها أساساً مُؤسِّساً لكينونته ومصيره وأصالته .
يخضع تراكب هذه المستويات ، داخل الممارسة النظرية لأي مذهب من المذاهب أو أية نظرية من النظريات أو أية ذات من الذوات إلى شروط تاريخية، يتداخل فيها المعرفي بالسياسي ، والدنيوي بالديني، ولا يمكن للإنسان أن يتجاوزها بسهولة؛ لذا نحتاج في فهم طريقة تشكل ذاوتنا، إلى قراءة تاريخية تستعين بمختلف العلوم لكشف صياغات هذين المستويين : مستوى المفكر فيه، ومستوى اللامفكر فيه، لخطابها ورؤيتها .
-14-
سيصبح اجتهاد الذات إذن، مهما بلغت حدة ذكائها، مادام داخل الأطر نفسها أسيراً لوضعية تاريخية معينة ، من هنا الحاجة إلى نقد العقل الإسلامي،إذ النقد هنا يكشف ويعري كل الممارسات والأطر التي تحكم سيطرتها على الذات، وتحول دون رؤيتها وتحولها .
ليس نقد العقل الإسلامي كما يتجلى في مشروع أركون، نقداً للإسلام ولا لتجربته الروحية، كما تجلت في الوحي، لكنه نقد لتجسداته التاريخية في ممارسات البشر، ونقد للأطر المعرفية والاجتماعية والجماعية التي صاغته وصاغت العلوم التي فهمته.
إننا مدينون اليوم لأركون بما فتحه من ساحات جديدة للتفكير، وبما خلقه من إمكانات معرفية للاستثمار. وأنا مدين له ولكل صوت ينطق عبره بذاتي الجديدة وحكايتها الحديثة.
هذا ما استطعت أن أرويه من حكاية ذاتي، وهي تعيد تشكيل العالم بداخلها وفق صدمتها الأركونية.
الهوامش
[1] ) يمنى العيد، تقنيات السرد الروائي، بيروت، دارالفارابي، ط1، 1990م، ص27.
[2] ) عبدالله يتيم، كلود ليفي ستروس: قراءة في الفكر الأنثروبولوجي المعاصر، المنامة، بيت القرآن، ط1، 1998م.
[3] ) ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر، الزواوي بغورة، بيروت، دار الطليعة، ط1، 2001م،ص68 .
[4] ) محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، دار الساقي ،ط2، 1993، ص 14.
[5] ) انظر تعريفات التمثلات الرمزية في :
– مجلة العلوم الاجتماعية، الجغرافيا والتمثلات الرمزية ، الكويت، خريف 2001،المجلد29 ، العدد 3.
([6] محمد أركون ، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل ، دار الساقي ،ط1، 1999، ص 10.
المحنة والصدفة وحدهما عرفاني بك.. ومنذ ذلك الوقت المشحون وأنا أتعرف وما أزال!!!!!
مفاتيح الحاسوب وفضول البحث عن هذا الديري العجيب…لم أخطأ يوما عندما قلت لك أستاذي..لقد أستطعت أن أتعلم منك عن بعد من خلال كل النوافذ كيف أقود الدفة وأتعامل مع الريح والنسيم …كنت أضغط على الوقت وأحاول أن أتعقب ما تكتب وما تقرأ من عبر أثير خارج نطاق الجغرافيا…اليوم أكتشف أن هذا الديري قد أتهك الزمن ليصل ومازال…صدقا من كل قلبي أتمنى لك السداد …
دوما مخفور بدعواتك، الزمن هو هذه التكوينات التي تمارس حجبها وسلطاتها كي لا نعبرها فنتجاوز زمنها، والسداد بالنسبة لي هو السير خلافها.. بشق طرق غير مسددة وغير مضمونة