أرشيف التصنيف: أنا

شهادة (الدال)

05

قبل 5 أشهر من حراك 14 فبراير 2011، كنا نحتفل في صالون هيبا ببيتنا بحصولي على شهادة الدكتوراه مع مجموعة من الأصدقاء المثقفين والإعلاميين بقيادة رئيس تحرير جريدتنا (الوقت) التي ما زلت أحمل لها حنيناً خاصاً. وضع الأصدقاء عنوانا ظريفا للاحتفالية (دال بها نُرى) وهو عنوان يحاكي بسخرية كتابي (مجازات بها نَرى). كعادته تميز أبو روان (إبراهيم بشمي) ببطاقة تهنئته وتعليقه. كتب لي في البطاقة التي ما زلت أحتفظ بها: “إلى هؤلاء الذين يحصلون على الدكتوراه، عليهم أن يتحملوا التحولات التي سوف تمر عليهم”. اتكاء على عنوان الاحتفالية، كان السؤال، كيف ستغدو صورتي التي يراني بها الناس كحامل دكتوراه؟

ما كان في الأفق حينها زلزال 14 فبراير وحمولات تحولاته الثقال. وما كان أبو روان يقصد بالطبع تحمل مسؤولية تحول من هذا النوع. لكن في استعادة تالية لهذا الاحتفال أحببت أن أقارب هذا الإهداء بأفق 14 فبراير. وأجد ذاتي كحامل لهذه الشهادة أحمل ثقل المسؤولية التي حمّلنا إياها هذا الحدث الكبير. ولربما أقول إنني في هذه الشهادة معني أكثر بفهم هذه المسؤولية من خلال استعادة مجموعة من الأحداث التي مررت بها طوال السنوات الأربع الماضية، وهي السنوات التي أجد نفسي معني بتقديم شهادتي حولها. ما يسبقها كتبت الكثير عنه، كذلك كتبت شهادتي في 14 فبراير في مرحلة الدوار، ونشرتها.

ما المسؤولية التي يتحملها المثقف في الأحداث الكبرى؟

الفهم هو إحدى مهماته، الفهم وتقديم المقاربات النظرية حول الأحداث. لكن ذلك لا يكفي، لا بد من صناعة موقف من الحدث، والمثقف لا يصنع الموقف الإيديولوجي. وهنا لابد أن أقول أيضاً إنه لا يصنع الموقف الطائفي، خصوصاً وأن حدث 14 فبراير التبس بحساسيات طائفية. لا أريد أن أتحدث هنا في شهادتي حديثاً نظرياً حول الموقف والفهم، بل سأجعل سيرتي طوال هذه السنوات وطريقة تعاطيها مع الكتابة ومع الأشخاص والأحداث تتحدث.

1.أسرة الأدباء والكتاب

02في إبريل 2011، من أحد مقاهى الحمرا في بيروت أرسلت استقالتي من أسرة الأباء والكتاب، كان نصها هو التالي: “إن الثقافة لا تولد الفضيلة بشكل آلي، فسوء الأخلاق لدى الجماعات المثقفة لم يعد يدهشنا” تودوروف. أستقيل، لأنه لم يعد شيءٌ يدهشني.

هذه الاستقالة كانت موقفاً من تحول أسرة الأدباء والكتاب من “كلمة من أجل الإنسان” إلى “كلمة من أجل السلطان”. كانت استقالتي خروجاً على السلطان الذي حوّل كل المجتمع المدني بحيويته إلي قبضته. وجدت الكلمة تشكل خلاصة موقف المثقف، وهي مجسدة في الأسرة منذ 1969كما تجسدت الكلمة في المسيح. حافظ الرعيل الأول ومن جاء بعدهم على موقف الكلمة، إلى جانب الإنسان، وخان من جاؤوا بعد 14 فبراير الكلمة والإنسان، وهم بعض من هذا الرعيل. استقالتي أفهمها ضمن وظيفة تحمل المسؤولية.

بعد الاستقالة بدأت أرقب تحول أسرة الأدباء إلى جهاز مذلل لخدمة السلطان. كانت الحلقة التلفزيونية المخصصة لمحاكمة أسرة الأدباء في البرنامج سيء الذكر (الراصد)، قد خصصت لمحاسبة الكلمة التي أطلقها الأدباء والكتاب من أجل الإنسان في 14 فبراير. أُعِدَّت الحلقة لتكون بمثابة استتابة شخصية الأسرة الاعتبارية لتعلن أن لا علاقة بين الكلمة والسياسة. تولت مجموعة الإقرار بهذه الاستتابة. وتعهدوا بجعل الكلمة منقطعة الصلة بما يحدث للإنسان، ستكون الكلمة من أجل لا أحد أو من أجل مَن يملك كل أحد.

تحدثت إحدى الأكاديميات في الحلقة نفسها، عن حُبسة المثقفين الذين آثروا الصمت حين أحتاجهم مالك الوطن، بدا صوتها عالياً بما ستؤول إليه الأمور، عليكم جميعاً أن تعلنوا الولاء، وتكونوا ضمن حفلة (سيوف الولاء) التي راجت في تلك الفترة المكارثية.

أستحضر نظرية فتجنشتاين وهو يقارب الكلمات كعوائل، بحسب النسب الدلالية التي بينها، وجدت كلمتي خارج  (عائلة الأدباء والكتاب). لم تعد كلماتي تنتمي إلى هذه العائلة، فلماذا أكون فيها. هكذا وجدت تجربتي في الكتابة تحتاج إلى أن تنتمي إلى عائلة أخرى ربما تكون هي عائلة 14 فبراير.

2.الوقت الجديد

01شكلت تجربة جريدة الوقت (فبراير2006-مايو2010) إحدى محطات تطويع الكتابة في الفضاء العام، عبر مقالة الرأي الصحافية وعبر ملحق بروفايل والمحلق الثقافي (اليوم الثامن). وكذلك عبر الأفق الجديد الذي مثلته الوقت كصحيفة خارج الانتماءات الطائفية والتجاذبات الحزبية، بما فيها الحكومة كحزب عائلي.  تعلمت في الوقت أن الكلمة من أجل الرأي الحر، وكتبت فيها كتابي (خارج الطائفة) ولعلي أكشف هنا سراً، وهو أن عنوان الكتاب من مبتكرات الصديق حسين مرهون الذي كان أحد صناع (استايل) الوقت، مع الصديق الصحافي المميز محمد فاضل، ولا ننسى هنا لمسات الصديق الصحافي المثقف وصاحب الكتابة الرشيقة رشاد أبو داود. شكّل توقفها المفاجئ في مايو 2010 غياباً لفضاء آخر من فضاءات الكلمة الحرة في ميداننا العام المشترك في البحرين.

في صبيحة 14 فبراير، كنت مع مجموعة من أصدقائي الوقتيين، في إحدى مقاهي منطقة العدلية، نضع تصوراً جديداً لصحيفة قد تكون الكترونية. لحظتها لم نكن نعرف أن حدث 14 فبراير قد أصبح واقعاً جديداً مع حلول المساء. بعد أيام قليلة سنطلق تسمية الوقت الجديد مشروعاً لصحيفة الكترونية تعبر عن فضاء الدوار. لكن لم يكن في الوقت وقت، انتهت تجربة الدوار سريعاً. ومضيت حيث الوقت الجديد خارج الدوار وخارج البحرين. هناك سيكون الوقت جديداً تماماً في كل شيء، عبأته بقصص الإنسان التي كانت الكلمة من أجله كما تعلمتها في أسرة الأدباء والكتاب، ولكني عدّلت الصيغة لتكون: الكلمة مرآة الإنسان.

3.رصانة المثقف

03احتفظت من تجربة ما قبل 14 فبراير برصانة المثقف، وتخلصت من تعاليه. أؤمن أن المعرفة يجب أن تكون موضوعه الأول قبل أن ينخرط في أي شيء، لكنها معرفة رصينة من موقع ملتزم بقضايا الإنسان ونضاله من أجل الاعتراف، أتحدث وفي ذهني إدوارد سعيد الذي لم يتخلَ يوماً عن رصانته المعرفية ولم يتزحزح عن موقعه الذي يطلّ عليه حيث صراع شعبه من أجل الاعتراف، لقد جعل معرفته الرصينة تطلّ من خلال موقعه الملتزم.

الرسالة التي حملتها معي وأنا أغادر الوطن: لا تنس موقعك. لا تموّه في موقفك. لا تجعل نفسك تبدو وكأنك مع الجميع، فتستخدم من قبل من يُوقِعون الاستبداد والظلم. اجعل موقعك يحمل توقيعك في كل ما تكتب. أو اجعل كتابتك موقعة دوماً بموقفك. ظلت الوقت الجديد الأكثر موقعية فيما انشغلت فيه.

كتبت عن جدتي (سلامة سلوم) من موقعي، اعتبرت سيرتها ما تبقى من هويتي التي أُسقط منها شقها القانوني.  كتبت (نصوص متوحشة، من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية) من موقع، مثقف مسقطة جنسيته ضمن قائمة تضم مجموعة إرهابيين يكفروني، ويكفرون طائفة كبيرة من شعبي، ويسقطون حقي في الحياة، ويعتبرون كل من خرج في 14 فبراير يستحق القتل.

أنا الموضوع في قائمة واحدة مع “تركي البنعلي”، وفي مواطنة سابقة واحدة معه وإن كانت متفاوتة، أردت أن أفهم لماذا يعتبر أن قتلي ممارسة عبادة كما يقول في كتبه. ذهبت في كتابي (نصوص متوحشة) إلى نصوص تركي البنعلي، قرأتها بتفحص، وقرأت النصوص التراثية عند ابن تيمية والغزالي وابن تومرت التي كونته وجعلته المنظر الشرعي لتنظيم داعش التكفير.

4. كلفة الموقع

06

لقد كلّفني هذا الموقع الكثير، ليس إسقاط الجنسية أعظمها. لم أعد بحرينياً بالمعنى القانوني، ولم أعد جزءاً من الفضاء العام المسموح فيه رسمياً بالرأي. لست في هذا الفضاء الآن. الصحف التي كتبت فيها لم تعد لي. المراكز الثقافية التي كنت أنشط فيها لم أعد جزءاً منها. أتأمل الآن صورتي معلقة في (مركز شيخ إبراهيم للدراسات والبحوث) وأتساءل هل سقطت مع جنسيتي؟ وماذا عن الكتب التي صدرت عن المركز وتحمل اسمي، وماذا عن التسجيلات الصوتية والفيديويات التي تحمل صوتي، هل مازلت فيها؟  المثقفون زملائي وأصدقائي أغلبهم في الفضاء البحريني العام لم يعد موقعي بينهم. غدوت مثقفاً ملعوناً. لاحقتني بعض التسميات كـ”مثقف الدوار”، و”المثقف الريفي”. حفلات الشتم في الصحف التي كنت أشارك في صياغة خطابها العام، صرت موضوعاً مجرّماً في أعمدتها.

العلاقة بالسياسة اعتبرتها التحدي الأكبر، كيف أحافظ على موقعي المعارض دون أن أكون جزءاً من حقل السياسة الذي لم أحبّه يوماً ولن أحبه يوماً ما، وفي الوقت نفسه كيف أقارب الموضوعات العامة باعتبارها جزءاً من السياسة على تماس مباشر معها. لذت بتخصصي الدقيق في مجال تحليل الخطاب. وجدت فيه مأمناً يبقيني على تماس مع الخطاب العام في صراعه السياسي الذي يسعى لتحويل الخطابات الاجتماعية والثقافية ناطقة باسم السلطة السياسية. هكذا مارست دوري محلل خطاب ينطلق من قاعدة معرفية تقول: كل شيء داخل الخطاب بما فيها السياسة والمعرفة والاقتصاد والصراعات الاجتماعية، والخطاب يعطيك ما فيه من كل ذلك، وهذه القاعد المعرفية هي توسيع لمقولة ابن حزم “النص يعطك ما فيه” التي عالجتها في كتابي (طوق الخطاب، قراءة في ظاهرية ابن حزم).

هكذا أصبح اشتغالي على خطاب 14 فبراير، اشتغال المثقف الذي يدرك أن للسلطة مفاعليها في الخطاب كما لها مفاعيلها السياسية في الفضاء العام. وجدت مهمتي في المشاركة في ورشة كبرى ترصد الخطاب البحريني العام بعد 14 فبراير.

أعود إلى محاكمة أسرة الأدباء والكتاب، في برنامج (الراصد) المكارثي على تلفزيون البحرين، حين دفع إعلام السلطة مجموعة من أعضائها ليقدموا شهادة الاعتراف والتوبة. كان ثلاثة من رعيل الأسرة الأول، بعضهم ظلّ يتلو الخطايا التي مارستها الأسرة في 14 فبراير، وبعضهم ظلّ ينظّر في الطلاق البائن بين الإبداع والسياسة، وبعضهم ذهب بعيداً في استرجاع خطاب الأسرة إلى حظيرة السلطة. إنه مشهدٌ كامل بمثابة انعطافة تاريخية للصيرورة التي ستكون عليها علاقة المثقف بالسلطة في البحرين. أدركت في هذه اللحظة أني لست فقط خارج (الأسرة)، بل عليّ أن أكون خارج كل هذا الفضاء الذي صار في قبضة السلطة. صرت أكثر إيماناً بالكم الهائل من التنظيرات التي قرأتها سابقاً حول المعرفة والسلطة والقوة، تصوغ جميعها معاني الأشياء وتحدّد مفاهيمها وتفرض حقائقها. وأن مهمّة المثقف أو محلّل الخطاب، تكمن في تفكيك هذه العلائق والدفاع عن المجتمع وفضائه العام.

هكذا فهمت الهجرة كإعادة تموضع، أن يكون خطابي خارج أجهزة السلطة. ويمكن هنا أن نستعير صورة الفارّ بدينه من الاضطهاد، فالمثقف أيضاً يفرُّ بمعرفته حين يتعذّر عليه ممارستها، أو حين يجبر على ممارسة ما يناقضها.

5. مثقف واقع الحال

04كان يمكنني العودة إلى البحرين بعد فترة السلامة الوطنية (الطوارئ)، وأمارس اللعبة التي يتقنها المثقف ورجل الدين، وهي البحث عن (دور برجماتي)، يجعلك في المناطق الوسطى، التي لا تغضب السلطة ولا تثير الناس. وليس سرّاً أن أحد متنفذي السلطة قد مارس دور السمسار لاسترجاع مجموعة من المثقفين والإعلاميين الذي فرّوا بكلمتهم خلال فترة الطوارئ، ولندع التفاصيل إلى لحظة أخرى.

ما كنت أريد أن أكون مثقفاً برجماتيا، أو مثقف (واقع الحال) كما أسميته في أحد أعداد نشرة (صدى الميدان) التي أطلقناها في دوار اللؤلؤة. مثقف واقع الحال (مثقف شحوال):  يعرف ولا يقول، يتذمر ولا يغير شيئا، حكمته في الصمت لا في القول، لا يزعج أحداً ولا ينزعج منه أحد، يجد في فزّاعة المتدينين تسويغا كافيا للاكتفاء بالحد الأدنى من الديمقراطية، يهادن كل الأوضاع ليضمن له موقعاً في كل موضع، يُكيّف خاطبه مع حدود ما يسمح به واقع الحال، حرب على من يحارب النظام وسلم مع من يسالم النظام، مفاهيمه للحرية والديمقراطية وتداول السلطة والنقد وفق مقاس مفاهيم السلطة لها. بقدر ما يتدرج في مواقع الدولة (رئيس تحرير، عضو مجلس، وزير، وكيل، مدير) يشعر بالإنجاز ويكتسب وجاهته الاجتماعية.لا يغضب ولا ينفعل تجاه انتهاكات السلطة لكرامة الإنسان، عقلاني حد البرود.

6. إني أَتهم

أستحضر هنا رسالة إيميل زولا (1840 – 1902) “إني أتهم”. اعتبرت في الأوساط الثقافية، هذه الرسالة شهادة ميلاد لمفهوم المثقف في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي. حين وقف الروائي والأديب أيميل زولا مدافعاً عن (دريفوس) المتهم بالخيانة الوطنية في الجيش الفرنسي. تقاطعت في قضيته إشكالات السياسة والدين والأدب والعرق والكراهية. تحولت قضيته إلى قضية رأي عام انقسم حولها المجتمع الفرنسي، انتهت ببراءته. كان إميل زولا أحد صنّاع هذه البراءة، وأحد صناع مفهوم المثقف من خلال الدور النضالي الذي قام به دفاعاً، ليس فقط عن دريفوس، وإنما عن الحقيقة والعدالة في المجتمع الذي يعيش فيه. الأثر الأهم الذي بقي من هذه القضية هو ولادة مفهوم المثقف، والأثر المادي الذي ارتبط بهذه الولادة هو رسالة أيميل زولا “إني أتهم”.

استحضر الآن خطاب زولا إلى (فيليكس فور) رئيس الجمهورية الفرنسية: “هل تسمح لي بأن أقلق على مجدك الحق وبأن أقول إن نجمك الهانئ جداً حتى الآن، مهدد بأكثر الوصمات عيباً ودواماً؟ (..) سأقول الحقيقة لأنني وعدت بقولها، ما لم تقلها العدالة كاملة وشاملة. ومن واجبي أن أتكلم لأنني لا أريد أن أكون متواطئاً في هذه القضية. وإن لم أفعل فسيطاردني في لياليّ شبح ذلك البريء درايفوس الذي يدفع هناك في جزيرة الشيطان ثمن جريمة لم يرتكبها، وسط أبشع انواع التعذيب. وسأصرخ بهذه الحقيقة، أمامكم أيها السيد الرئيس، بكل قوتي وغضبي، وكما يفعل أي رجل شريف…”.

“إني أَتَّهِمُ” إنها أنا المثقف الذي ولد من أنا (زولا)، صوت المثقف وهو يجهر بكل ما فيه، من أجل تسمية الأشياء وتسمية الحقيقة في الميدان العام، اتَّهَمَ (زولا) الرئيسَ والنظام القضائي وشخصيات عامة نافذة ولم يبال، وحول اتهامه قضية رأي عام، صارت (أنا) زولا المثقف حاضرة بقوة في الفضاء العام. هذا الفضاء الذي انفجر في 14 فبراير في مجتمعي نتيجة دفع الحقيقة التي تحدث عنها (زولا) “عندما تدفن الحقيقة، فإنها تجّمع وتخزّنُ من عوامل الانفجار ما يكفي لتدمير كل شيء حولها متى حانت لحظة انفجارها. وهكذا سيظهر بالضرورة لاحقاً ان أكبر الكوارث دوياً قد تم التحضير له للتوّ”.

وجدت نفسي أكتب رسالة زولا نفسها. وأتهم الشخصيات التي اتهمها زولا نفسها وأدافع عن الشخصيات التي دافع عنها (زولا). وهي الشخصيات التي وقع عليها الظلم العام، وجدت (دريفوس) حالة، ووجدت هذه الحالة  ممثلة في مجتمعي البحريني المتهم مكوّن من مكوّناته بالخيانة، وأخاطب الشخص نفسه الذي خاطبه زولا:

“يا لوصمة العار التي تلطخ بها اسمك – كي لا أقول حكمك – والمتمثلة بقضية درايفوس الشنيعة! لقد تجرأ للتوّ مجلس حربي محكمة عسكرية فأمر ببراءة استيرازي، ما يُعتبر صفعة قياسية للحقيقة والعدالة. وها قد انتهى الأمر، فتدنس وجه فرنسا وسيذكر التاريخ بأنه أمكن ارتكاب مثل هذه الجريمة بحق المجتمع في ظل رئاستك للجمهورية”

كما بدأت باحتفال (الدال) فأختتم بجملة كتبها أحد الأصدقاء على جدار صالون (هيبا) في ذلك الحفل”لا وجه للدال ما لم تدخل في جملة” إنها جملة 14 فبراير، صار وجه دالي ودلالتي، وشهادتي هي إعراب لما في في هذه الجملة من وجوه.

Arkoun and the Story of the Subject: Violating Common Sense

Arkoun and the Story of the Subject: Violating Common Sense

By: Ali Ahmed Ad_Dairy

ترجمة خالدة حامد

"There are in the world many idols than facts."

Nietzsche

"The subject is the sum of its conditions, i.e., the total of its relations, links and correlations with the objects."

Ali Harb

"I’m seeing routes that will take me to routes that will take me to routes; and a sea as wide as horizon in what I see."

Qasim Haddad

arkon  and ali aldairy

I’m not talking about my subject – as regards its meeting with Arkoun – as being a collection of innate constituents, natural capabilities, moral qualities or mental incentives. Rather, I’m talking about my subject as being a cultural construct, i.e., as an effort, a work, that endeavors to build a not given construction. In this sense, talking about my subject becomes a talk about an experience laden with events, facts, shocks, confrontations, struggles, transformations and cultural contexts that can be read and criticized by relating and interpreting.

-1-

When the subject tells its story; the story of its formation and being under the influence of some event, this event did not take long before it incarnates in it and start talking by its own voice after being absorbed by the subject within its universe and conscious. I feel now that the event of meeting Arkoun is the one that tells my subject, structures its past events, rereads its crossing among boundaries and borders and connects its breaks and ruptures. Arkoun presents in me not as one voice but a group of voices belonging to different times, many contexts, various human sciences and successive cultures. They are the voices of Aristotle, Maskawaih, Al-Jahiz, Abu Hayyan At-Tawheedi, Derrida, Bourdeau, Broadwel, Jack Perk, Foucault, Barths, Jauss and others.

The subject here tells the events of its formation which had arranged in its consciousness eight years ago when it met Arkoun. But it tells them by the consciousness of the current moment threatened by being blown up later, and by the retelling. Whenever the subject retells its tale, it reinterprets its biography by breaking, stretching, omitting or adding to its events.

I ‘ ve written this article celebrating the visit of thinker Mohammed Arkoun to Bahrain in March 2002 by a generous invitation from the Center of Sheik Ibrahim Bin Mohammed Al Khalefa . 

Aristotle had defined the tale as being an act; "the act is what is being done by people in having relations among each other. They weave and grow them till being intermingled and interlaced according to their own logic"([i][i]). According to this definition, the tale of the subject becomes its act and its act is the relations that it weaves in accordance with the logic of its consciousness. When this logic transforms, the relations transform too so that a new tale is formed to tell a new subject.

What does this tale tell?

-2-

In the summer of 1993, I had just taken my BA in Arabic language from Bahrain University . My postponed plan since finishing my high school in 1989 demanded that I join religious studies being pushed to them by a deep ethical sense of the importance of keeping my word to my friends whom I had promised to be the model of a contemporary religious man having a high academic qualification. I was preoccupied by the idea of joining the newly established (Islamic University) in London . I had a deep feeling of the importance of looking for something different but the religious entity that I had inside my subject did not have the power to show me the possible choices. The most it could do was to instigate my motivation to set out to any religious castle trusted with its loyalty and religiosity. I wanted to be specialized in religious sciences modernly. The quality of ‘ modern ‘ did not have any semantic repertoire in my imagination exceeding the ideological meanings which tackles the causes and needs of the age, the struggle meanings against non religious fronts that provoke from their contemporary bases their cynical problematic against the politico-religious attitudes. My understanding for the meaning of modernizing the religious sciences did not go beyond the meanings of political Islam as I understand it now. At that time, the adjectives of ‘ new, modern and contemporary ‘ were in my mind just like a mirage through which you can discern nothing. 

-3-

Within that bewilderment, with all its shades of meanings such as distraction, hesitation, anxiety, indetermination and vagueness, I met Arkoun via his book "From Ijtihad to the Critique of Islamic Reason". It was a coincidence- which I still feel proud of- when I ‘ ve found the book hidden among the shelves of some local library. I didn ‘ t know Arkoun. At the beginning the title of the book – which had always deprived Arkoun and Hashim Salih from sleeping – aroused my religious sensitivity. I thought it presenting a new vision for Ijtihad by criticizing the traditional exercises of the jurisprudents who still not living their age and don ‘ t pay attention to its incipient problems.

My waiting horizon did not expect more than that; it did not have the ability to expect that criticism can extend to include the practices of contemporary jurisprudents preoccupied with public affairs.

My horizon was built upon glorifying and venerating the Mujtahids who enjoy the ability to totally acknowledge religious sciences that no one except them can have so competently. No criticism or suspension can amount to their scholarly practices. Rather, we are not qualified at all to know these practices nor their nature. They were just like a sacred secret that one has to completely subject to. That horizon did not know that there was a criticism that can surpass the practical and social practices and the understanding of Islam. Those were the practices of religious men, the leading religious cadres, the educated religious and the public.

As much nonsense and naivety in that horizon, as there are great changes as a result of meeting Arkoun. That book had made a deep cultural shock in my subject. I became more able to see. I ‘ m still feeling amazed of my overwhelming love to Arkoun. When I restore now the moments of reading, I exactly remember my body positions, the place in which I was reading and my subject talks when turning its pages. Before finishing it I had called one of my friends, who witnessed my bewilderment with all its psychological turns, to tell him that I had known what I wanted. It was hard to explain to him what had crystallized in me. It was enough for me to show my relief and unfathomable spiritual delight as if I had just discovered something new.

– 4 –

That was my first reception from which I was able to determine the nature of the study I was looking for. I had to wait for the second reading for the critical clashes in my subject were looking for solutions of peace and reconciliation. It had taken me two hard years. I was holding Arkoun in my deep inside. I tried to accommodate him with my state but he rejected. He refused to be ideologized in me. My devices could not absorb him in spite of all my conciliating attempts. I had to look for a new subject that could build its relations with the world and its things, objects, values and events in a way different from the relations of my subject which were built upon the institutions of symbolic veneration.

I wonder now why do I feel alienated from Arkoun? An alienation that pushes me to feel strange from him, dislike or disgust his symbolic demolishing for the stairs of my sacred; why that astonishment was the only thing controlling my relation with him? Can the subject enter another world without feeling the pain of alienation? Is astonishment enough to describe what happened? Didn ‘ t it mix with something else? How can criticism, with all its symbolic violence, be turned to a criticizing love?

– 5 –

To explain the love that evolved from a mountain of violence of criticism, I need to reread the end of the border of my experience and read the beginning of the border that I ‘ ve entered. The metaphor of Heidegger ‘ s ‘ border ‘ may help to open the two borders on each other instead of creating a dual clash between them. In Heidegger ‘ s sense the ‘ border ‘ is not an end as much as not being a beginning for something new. In this sense, the border is not a conclusion nor completion, termination or fulfillment. It is a longing to a close beginning, a reach to it, a connection with it and a deep desire to it. The border in this sense is a passage through which the subject passes from a medium into another without revolutionary turns calling for the actions of elimination, canceling and emphasizing all the actions of abolition and canceling and to put an end to all the appearances of these violent actions with their material dimensions. By this transmission the subject can embrace the world with its contradictions, ruptures and resistance to enrich its human experience in exchanging and investing its symbolic savings. 3178

With this spirit I can restore my early mental religious readings for Mutahhari, Fdhul Allah, Ah-Shirazi, As_sader and Sherieti (despite his different paradigm) to have a border relation them – (the ‘ border ‘ relation here is relevant to the above mentioned sense of border) – that opens me, with their advanced religious rationality, to other wider cultural rationalities. With this spirit I can restore my moral and spiritual religious readings for Said Dastegheeb and Al-Fihri to also have a border relation with them that opens me, with their moral and spiritual religious values, to other much wider moral values.

-6-

That border had reached its end which was at the same time a beginning for another border. It had built in my subject a hard certainty, a sharp acceptance and an orthodox faith that never doubts the rightness of my religious group and never suspects its hereafter victory. 

The discourse of that border had crystallized my common sense which was merging me with my group within what Arkoun calls the central rational fence through its mental and reasoning formation our sensitivity, conception, perception, thinking and practical practice are programmed.

What condensed that sense was my very early reading (at high school stage) of the Tijani ‘ s Book "Then I Was Shown the Righteous Way" (thumma Ahtadeit) in which he tells his doctrine journey of transforming from the Sunni doctrine to the Shiite one.

  I ‘ ve found in his discourse an amazing persuasive model for the practice of this central rationality and how it makes common sense. Under the influence of  that sense and  the direction of  its  hidden system, the sensitivity of myself was  formed in  away that I have realized as a model for rationality of argumentative logic having the  irrefutable truth.

_ 7 _

With Arkoun I started rereading that rational formation to discover its fancies, reverent symbols and the transcendental. That discovery may represent one secret of my emotional and cognitive love to Arkoun. I ‘ ve found that Arkoun who was digging in the Islamic mind with his heart and hands in the heart of the zone in which I am with all my fancies, reverent and illusions. It was the first time that I approach the mind with rationality, having the power to read its buried sensitivity under the illusion of universal logic. Arkoun was neither a cold scientifistic nor a stubborn positivtic.  Rather, his letters were hot in my religious emotional veins for being able to read my religion ‘ s imaginative rationality. I ‘ ve perceived the concept of the imaginative with the triumph of conquers because I ‘ ve found in it a scientific tool to expose our concept of ‘ reason ‘ to new areas that can open a wider understanding for the nature of rational practices by any culture, religion and group.

– 8 –

I started reading my collective imagination that had formed along those centuries. I deconstructed their grand joints. They appeared to me as a great metaphor granted by history and veneration to the extent that they looked as facts and unshakable stables.

When your metaphor is shaken, the same happens to your common sense so you lose the safety of your collective facts and their symbolic familiarity that they grant you to dispel get rid of your symbolic estrangement. You can ‘ t look for another safety because all groups construct their security systems metaphorically so that they cannot give you a real security. They can teach you one thing: to discover your collective subject through them. This is what urged the French anthropologist Claude Levy Straus to define anthropology as "a journey to your culture through another culture." ([ii][ii])

Arkoun ‘ s concept of religious anthropology had opened to me another horizon to know not only my collective subject but also my human one. Religious anthropology, as studied by Arkoun, demolishes the illusionary walls separating religions and doctrines in order to study their symbolic systems in producing meanings, venerating things and seeing the world and man. This anthropology pays attention to the comparative study of all spiritual experiences in all human societies. Little details lose their importance here as well as the names that lose their necessity. Behind all that, one can find similar practices expressing the nature of man and his/her way to construct his/her symbolic representations for the world.

For instance, veneration as studied by anthropology is a human phenomenon through which man deifies things, ideas, theories, characters, events, places and times.

– 9 –

With this anthropological spirit we can read the narrative of every religious or non religious group as being a cultural and historical structure made by man who endows it a symbolic or venerating status. This is done in a way that it transcends criticism to grant itself, through what Max Weber calls ‘ veneration managers ‘ , an invulnerability that scares people from cognitively approaching it.

I didn ‘ t feel that Arkoun uncovers my collective subject through criticizing my religious or racial group as much as uncovering my human subject by criticizing all groups that take their values and knowledge from the ultimate meaning. This, on the other hand, may explain my love to him and my obsession with his critical play with my ultimate and transcendental.

The anthropological entry opens the critical and cognitive practices to the history of human groups as is done in their immediate daily life without restoring to abstract judgments, value classifications and racial preferences. It is the imaginaire taken from man ‘ s daily life and its concepts, theses and hypotheses without any mental givens.

– 10 –

Arkoun’s multi-instrument and wide open to memory and imagination cognitive experience made me see in my religions experience, with its practices, relations and additions, a topic for reading. Besides, Arkoun’s enterprise, that he called ‘ Islamogies ‘ evolves from "the everyday life of individuals and with every society live problems to deduce its relevant religions teaching, cultural creations, political and economic purposes and ideological conceptions." ([iii][iii])

Man cannot read his/her subject before being something else. The subject cannot become other only when it replaces its religions and the sum of its additions with another net. Only then, it can read its experience that it had departed. If man cannot depart or be detached from the things, ideas and concepts in which he is absorbed, their shadows keep chasing him/her in copies.

-11-

I ‘ ll claim that I’ve departed my first subject to have the right to read it. I’ll assure this claim by restoring my reading of the concept of social frameworks of knowledge. This term, used by the sociologist George Gorvich, means that all types of knowledge are not allowed within any social framework. For example, the frameworks allowing free debates, during the rise of Islamic classic age among Muslim, Christian and Jewish thinkers are no longer the same ones that prohibit, today, free discussions of the issue of the Islamic reason, as done by Arkoun for instance.

I’ve recognized this term for the first time in Arkoun’s employment for it in his reading for the cognitive frameworks controlling the Islamic societies. This term had a special impact on me. I used to repeat it with my friends just as a student who is keen to memorize new things in order not to fleet him. Now I can explain my deep concern with this concept with better consciousness. This term had opened to me a space to think of my subject away from the power of doctrine group by which I was able to have a distance between my subject and my group. I became able to see their cognitive frameworks that made them a coherent community. When you have the ability to see yourself outside your group, you can see your collective subject in critical perspective. Only then you can declare your new birth, the birth of an individual inside you!

Some concepts take their strength and effect from the metaphorical material significances dwelling them. This is what one can realize from the conceptual metaphor of the framework. The framework, in its direct material linguistic sense, has the meanings of prevention and separation. It prevents your involvement and separates you from others ([iv][iv]). Social frameworks work as barriers and border that separate one society from another. Unless you can cruise them over, you cannot evaluate the volume of symbolic violence they practice on your individual subject, nor the burden of commitments by which they tie you, nor the blindness by which they inflect your inside.

Today I can feel the oppressiveness of violence of these frameworks, which formed me all my life after being the topic of my reading. Only now, after emancipating from them, I can deconstruct them and deconstruct all the objects through which I was seeing my tradition, subject, religion, doctrine, group, identity and thinking system.

– 12 –

Frameworks are not just a border on which we stop. They are much more than this. They are our authority to which we resort when we want to make a judgment or an opinion to discern something, interpret a metaphor, except some event, read a text or be represented as group.

Frameworks are embedded as forms of trickery and they take various shapes: givens, criteria, theories, concepts, power, experience, institution, discourse, text, narratives, doctrines, ideas, tenets, postulates, hidden systems, proverbs and sayings, sacred characters, prevalent values, …etc.

Frameworks, with their different shapes, represent our common sense that combines us to our cultural sensitivity by which we meet the world.

Frameworks, with their authorizing job that enables individuals to interpret the outside events and facts, represent our mental systems and symbolic representations by which we build our social constructions within the framework of a certain ideology. ([v][v])

When the subject replaces its group framework, it replaces its own subject, life, world, tale, narrative and great certainties on world, history, man and God

The subject cannot deviate from the power of collective frameworks without being subjected to archeological digging, i.e., historical exposing. This is because that these frameworks present themselves as a representation of nature, innate character, right, truth, reason, pure meaning, a typical mental state or necessary determinants. In that way, it imposes itself, practice its violence, perpetuate its existence and abandon the historical and mundane systems. With that trickery, frameworks empathy the subject so that it turns it to an eternal calmness that resists movement, change and transformation.        

Arkoun ‘ s enterprise endeavoring to crystallize a free and open secularism to a new faith that is based on freedom, tolerance, abandoning fanaticism and veneration with the resistance that it receives from traditional religious men who are controlled by static cultural frameworks represents a model for how frameworks control ourselves, behavior and vision.

I wish I could keep on telling how these frameworks had formed my life, with all its practical practices, personal relations, choices, taste, readings, places, activity, faith, ritual, sacral and representations but the sensitivity of social and cultural context can not accept what is outside the power of its sense.

Let me say that it is the fear to have the fate of the scabby camel.

-13-

In this sense we can understand culture as being a group of traditions, conventions and values governed by a social and collective framework that programmed man behavior and determines his/her way of thinking and judgments ‘ criteria and portraits his/her vision of life. We can understand its discourse that is produced within its frameworks being a symbolic institution governed by a hidden network of cultural concepts, rules and criteria to which the sayings or selves of the symbolic representatives of that discourse are subjected.

    As long as there is a culture formulating man ‘ s cognitive and social frameworks, governing his/her thinking and cognitive systems (epistemes) and determining his/her horizon, man ‘ s historical position in every context will be formed within two levels:

1. The level of what a speaker can talk about. It is related to the speaker ‘ s domination of the language he/she uses and to the peculiar abilities of every language a speaker has chosen among human languages. It is also related to what is available by thought , conceptions, doctrines and systems of a certain group to which a speaker belongs or addresses and to the historical period of the development in that group. In addition, it is related to what is permitted by the existing power in the society or a nation with which the speaker consolidates.

2- The level of the unthought because of a forbidding caused by narrowness of reason itself or being closed to a certain phase of knowledge. The unthought is also caused by what is prohibited by political power or the public opinion if it is unanimously considered its doctrine and values as sacred and made them a base for its being and originality.

Within the theoretical practice of any tenant, theory or subject, the structure of these levels subjects to historical conditions in which the cognitive is intervened with the political and the mundane with the religious in a way that man cannot surpass easily. Accordingly, to understand the way in which we ourselves are formed, we need a historical reading that seeks different sciences in order to detect the formulations of these two levels; the level of the thought and the level of the unthought as well as their discourse and vision.

– 14 –

Then, as long as the subject is within the frameworks themselves, its Ijtihad (individual judgment), no matter how clever is, become captive to a certain historical state. That ‘ s why we need to criticize the Islamic reason for it reveals and exposes all the practices and frameworks that tightly hold the subject and represent its vision and transformation.

Critique of Islamic reason, as demonstrated in Arkoun ‘ s enterprise, is not a critique of Islam or its spiritual experience, as is shown in the revelation. In stead, it is a critique for its historical embodiments in man ‘ s practices as well as a critique of social and collective frameworks that formulated it and the sciences that had understood it. We are really indebted to Arkoun today for the wide areas of thinking he has opened, and for the vast capabilities of knowledge he has laid for investment. I am myself indebted to him and to his every sound uttering my new myself and its modern tale. This is what I could tell of the tale of my subject while reformulating the world inside itself in accordance with its Arkounic shock.

إلى شيخ الطريقة بقلم حسين خلف

بقلم حسين خلف

جريدة البلاد البحرينية

إلى " شيخ الطريقة"!

01

ربما  وصلتك مقولة انه لا يجب "الابتلاش" بالديري!، أي بانتقاد علي الديري علناً، لأنه كما جرت العادة يمحق خصومه محقاً ويسحقهم سحقاً، لغوياً وفكرياً ليغدو ناقدوه بعدها أثراً بعد عين، ويذهبون مَثلاً في المقبل من الأيام وربما الأجيال.

رغم هذا التهديد، قررت كصديق كتابة ملاحظاتي الخاصة عن جلستنا الأخيرة، الملاحظات هي عن الصديق والحبيب أبا أماسيل، كما أحب تسميته دائماً.

كان علي الديري بالنسبة لي في العام 2002 هو "المرتد" و"الحداثي الذي يبطن كفراً بكل شيء"، كنت حينها ذا قناعات صارمة تُلزم المؤمن بها بـ"اتخاذ موقف" إزاء أي تحريك لمياه بحيرته الهادئة.

نعم. تغيرت كثيراً، وغدا الديري لي صديقاً أحبه وأحترمه، أبوح له بأسرار وأحب متابعة تجدده، أهم سبب للتغير النفسي تجاه الديري كانت أخلاقه الرفيعة وصدره الواسع لأشرس الانتقادات المباشرة، وهاتين الصفتين لم يتغيرا في أبا أماسيل حتى اللحظة.

كل ما قلته ليس جديداً، أعلم ذلك، لكن الجديد هو انني دائماً ما رغبت ببرفلة شخصية الديري على الورق،  وكانت الفكرة جاهزة، وعنوانها الثابت الذي بُحت به هو"شيخ الطريقة"!.

الديري بالطبع ليس شيخاً وهو لا يريد ذلك، ربما كان يضحك الآن من تصوّر نفسه شيخاً، لكن  عنونت شخصيته بهذا الإسم، لأني طالما تصورته باحثاً  من الطراز الرفيع، باحث عن الحقيقة، حقيقة كل شيء، حقيقة هذا الكون، وحقيقة صانعه، وحقيقة الدين، وحقيقة النبوّة والكتاب، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الحياة وهو طالما أشعرنا، وأكد شعورنا بأنه قاريء متعمّق للنصوص الدينية والفكرية التي تبحث في هذه الحقائق، محاولاً نفض الغبار عما ارتحنا له دهوراً…

كان  يقفز بسرعات مذهلة، وكنت لا ألبث ألهث وأنا أتابع قراءاته وحواراته المدهشة.

وكانت الدهشة هي ما يميز الديري، يمر على الحجر بجانب الطريق فيراه بعين مدهوشة، عينٌ ترى أن للحجر معنىً،  وفكرةً لا تخطر على بال العابرين أمثالي.. كان كالضوء الكاشف الذي ينير الزوايا المعتمة..

تابعت مسيرة الصديق الديري الأخيرة ودخوله عالم المجاز، وأخيراً عالم ابن عربي، كنت أحدث نفسي دائماً أن الديري سيتصل لي يوماً ليقول: وجدتها!.

لكن شيئاً من ذلك لم يحصل أبداً، دققت في حواراتي معه على ركائز مقولاته الأخيرة، استبدلت هذا التركيز بالتركيز على الديري نفسه، نفسيته الرائعة المتفائلة وكيفية تحركها وتأثيرها وتفاعلها مع ما يقوله هو ويتلوه من مقولات.

في آخر جلستين، وبالذات الأخيرة في الأول من يونيو 2010 الذي صادف يوم ثلاثاء، بدأ التأمل يعطي قراءة جديدة لهذا الصديق العزيز والخلوق..

خلاصاتي…

خلاصة تأملي، أن هذا الديري تخلى عن الدهشة، بدأ يتعوّد على رؤية الأحجار المرمية على جانبي الطريق،  لقد تسلل التعب سراً إلى ذلك العقل النشط، وبدت الراحة جميلة، الديري كما أراه الآن، لديه تصوره الخاص لـ"القوة المطلقة" جعلها إلها وتصالح معه كما قال لي، وأنا أعلم أن الديري لم يتصالح مع أي إله وإنما الديري تصالح مع نفسه،  تحدث معها، ظنّ أو اعتقد أنها الحقيقة الأخيرة، وشيئاً فشيئاً ارتاح، وهكذا غدت القراءات والمصطلحات الجديدة غير مدهشة له، فبإمكانه تطويعها عبر النفس المطمئنّة، والعقل غير المندهش، وفهمها بطريقة خاصة به أي بالديري.

لقد خلق الديري إلها وديناً وعالماً بيديه، كما صنع الأولون أساطير عن الأرض التي تقف على قرني ثور، صنع الديري أسطورته من غير قرنين بالطبع، وأصبح يغذيها بما يقرأه، فبعد قراءات لعدة صفحات من أفكار ابن عربي، يرفع الديري صوته بعبارة واحدة كأنها أعجبته "نتذكر ألوهيته وننسى ألوهيتنا"، يتأوّه، يفتتن، يُكرّر العبارة ويضع تحتها خطًا، نعم فهي ربما ستصبح فيما بعد ركنا من أركان الأسطورة.

لم أكن أعتقد أنه مثلنا، كان شيئاً يشبه شريعتي، لكنه الآن ما بعد بعد شريعتي،  كان مشروع فيلسوف سيطلق يوماً صرخته التي ستبقى مع الزمن، هو من لم أعتقد أنه سيتعوّد على شيء عادي…

يهيم على وجهه بين آلاف صفحات العرفان الراقي ومصطلحاته، يفتح المصطلحات بقاموس سعاد الحكيم،  لكنه كمن يجري داخل حجرات قلبه مأسوراً بسلسلة لا تصدر صوتاً ولا ضجيجاً، لا يصرخ: وجدتها!، ولا يبحث عمن هو ماثل أمامه وفيه، يقف يحاكي غيره وهذا الغير ليس سوى: نفس علي بن أحمد الديري.

يعجن مصطلحات الإيمان ، ليصنع منها قواعد الحيرة والشك، يقرأ  منازل الآخرة والجنّة،  ليبني منها أبراجاً دنيوية…

هل يعيش صديقي عالمه الخاص الذي صنعه بيديه، كما أحسب وأظن؟، كم سأتمنى بعد الآن  إن كان ظني في مكانه، أن يصحو هذا الصديق يوماً ليجد أن  ما صنعه يشبه صنم القرشي الذي جاع فأكل صنمه الذي صنعه من التمر.

كفّ الديري عن كونه يبحث، الآن هو يؤكد أسطورته الخاصة وفهمها للإله والعالم والدين والإنسان وكل شيء، وقد غدا مطمئناً للقاء الموت "الآن وفي هذه اللحظة" كما قال لي.

  إنه اطمئنان يخيفيني.

بعيداً وبالمناسبة

أكثر ما يمكن لي التساؤل حوله، أن الإمام الخميني (رحمه الله) الذي تمر الذكرى  السنوية لرحيله اليوم الخميس 3 يونيو، وكذلك علي الديري هما عاشقان لإبن عربي وفكره، فيما هما نقيضان إلى حدٍ كبير، الإمام الخميني غدا زعيماً عالمياً لفكر يؤيد مركزية الدين دولةً وأسلوب حياةٍ، يرى المجتمع والعالم ويفسر الأشياء  بطريقة معينة، بينما الديري يعتبر كل ما قاله عديله في العشق أمراً غير صحيح على أقل تقدير وأهون تعبير…

غريبٌ، أن كل منهما يستشهد بابن عربي هذا،  ليجتمع فيهما تعاكس الشرق والغرب.

علي الدّيري.. السّقوط في جنّة العلمنة.. أو مغادرة جحيم الاطمئنان

بقلم نادر المتروك

جريدة الوقت

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=205660

علي الدّيري.. السّقوط في جنّة العلمنة.. أو مغادرة جحيم الاطمئنان

بقلم نادر المتروك

من حُسن الحظ أنّ علي الدّيري ‘’مواليد البحرين 1971م’’ معنيّ، اشتغالاً وتدريباً وبحثاً، بالمجاز. فهل يصحُّ، إلى الآن، الاستعانة بمجاز ‘’الجمل الأجرب’’؟! إذا كان الأمرُ يتعلّق بالاستهلاك، وأنّ الحدث – أي الدّيري نفسه – تجاوز سياق المجاز إيّاه، فإنّ مؤونة المجاز تُسعفنا على تقديماتٍ أخرى قد تكون أكثرُ التئاماً وتناسباً. بدا للوهلة الأولى أنّ الدّيري على وشك تحقيق المعادلة المفقودة: أنْ يجمع الدّراسة الجامعيّة، والتمكّن الحوزوي، وبذلك يُحقّق واحدة من الأهداف العليا التي حلمت بها الصّحوة الإسلاميّة وهي في أوْج طموحاتها المكبوتة. كان الشّاب يجلس القرفصاء وهو يشحن ذهنه بـ ‘’القلب السّليم’’، و’’العقليات الإسلاميّة’’ وكيف يكون لنا ‘’اقتصادنا’’ و’’فلسفتنا’’ والقراءة الشّموليّة للحياة. الجلسات المسحورة بأعلام الصّحوة كانت تحبسُ نفسها من أيّ دخول غريب، وأمّنت سياساتُ التحصين السّياجَ الآمن. كلّ شيء كان يُوحي بأنّ الدّيري غارق في طمأنينته الأخيرة، ولم يكن لأحدٍ أن يتوقّع أنّ الهزّة ستبدأ من الدّاخل، وبتحريضٍ من أيديولوجيين مختلفين، أمثال علي شريعتي.

إنها سلسلة من الخروجات. إذا كان الدّيري الآن خارج جماعته، وطائفته، فإنّه كان موشكاً كلّ مرّة على خروج تدريجي. بدأت التكسّرات مع الأسئلة. إنها أولى الأبواب إلى الجنّة؛ جنة العلمنة التي سيكتبُ حكايتها الذّاتية تأريخاً لولوج غير مبالٍ في المعركة المفتوحة. دخلها بهدوء، لكن. كان يحتاج إلى قدْر واسع من المناورة بعد الوقائع الصّداميّة، والصّادمة، التي تورّط فيها مع موروثه الدّيني، وثقافة التديّن السائدة. فضّل المجابهة أولاً بإستراتيجيّات الأسئلة ‘’المسمّمة’’. نجح الأمرُ، واشتعل المحيط عليه. برزَ، وقتئذٍ، شيطاناً يُوسوس في صدور المؤمنين بأسئلته المثيرة للرّعب. اعتبروه، قبل ذلك، مشاكساً يتدرّب على فنون المحاورة، لكن مزيداً من الزّحزحة التي أفلح في إحداثها عجّلت بخيار الحصار والمسارعة في نبذه. جعله ذلك يدلف للبحث أكثر في سلّة الخيارات. بعد أن وظّف علم الكلام الجديد، وعبَرَ به أركون وأطيافه، حلّ في البقعة الأوسع: التصوّف الفلسفي، ومنها بدأ يغرف من المجازات. هدأت عنه اللّعنات، ولكن الأمور ليست سوى تسويةٍ لحين. 

يحلّ الآن في جنّة العلمنة. إنه حلولٌ في شكل سقوط. ولكلّ سقوط كدمات، وهي ‘’ولا أجمل’’ بالنسبة للباحث عن رؤى بغير العيون والمعابر التقليديّة. يُفضّلها على ذلك ‘’السّكون الصّاخب’’ الذي تقدّمه جاهزاً الأيديولوجيا. إنها جحيم لا يُطاق، ولو أكثرت من التبشير بنعيم الجنّة المؤجّلة. يقتربُ الآن من آخر البداية، وعلينا أن ننتظر طويلاً لنقف على أوّل النهاية. يمدُّ يده ويمسح على العبارة الأخيرة رافضاً الحدود، ويضع كلّ شيء مفتوحاً على نهاياتٍ مفتوحة.

حوار مع علي الديري حول طوق الخطاب

علي الديري متحدثا عن كتابه الفائز بجائزة التميز 2008 “طوق الخطاب”:

أنا خارج طائفتي.. والخروج على «الأطواق» هو الرابط بين كتبي

النص حمّال ظواهر ولكل ظاهر طوق دنيوي

الاشتغال على تحليل الخطاب، لتحرير منظور الإنسان إلى العالم..

أجرت الحوار: أفراح الهندال

ما الذي يجعل ناقد مختص بتحليل الخطاب، مثل علي الديري، يذهب في كتابه الأخير “طوق الخطاب”، إلى دراسة رجل شريعة، مختص بعلم أصول الفقه، مثل ابن حزم؟ كيف بدأت العلاقة بينهما؟ وكيف نشأت؟ وكيف تطورت؟ وكيف أمكن للديري المناكف دفاعاً عن تشعيب الأنفاس وتعدداتها وتنوعاتها، أن يتذوق جماليات خطاب ابن حزم بحدته وحقيقته وبحسمها ويقينياتها؟ كيف يمكن لمزاج ابن حزم الذي يقول بأن “النص يعطيك ما فيه”، أن يكون مستمرَءاً من قبل مزاج ناقد، يرى أن النص يعطيك ما فيك وما في أفق عصرك وسياقك وجماعتك وآلياتك التأويلية؟ كيف تذوق الأخير ظاهرية خطاب ابن حزم الأصولي؟ وهو القادم (سوسيولوجيا)، من تكوين عقائدي يحمل ابن حزم منه ومن مصادر معرفته موقفا سلبيا؟ وأخيراً كيف يفهم الديري شخصية صاحب طوق الحمامة الرحبة، من خلال شخصية صاحب (الإحكام في أصول الأحكام) الفقهية المتجهمة الحادة الأصولية؟

كان هذا بعض ما أخذنا إليه الحوار مع علي الديري. صاحب كتاب “طوق الخطاب” الصادر في 2007، عن مركز شيخ إبراهيم للدراسات والبحوث.

* تركز على الرمز والاستعارة والمجاز، ما وجه تركيزك هذا؟

الديري: أنا أرى أن الخطاب هو حقل من المجازات والاستعارات والتشبيهات والحكايات، بمعنى أن مكوّن أساسي من مكونات الخطاب، هي المجازات والاستعارات، وعبر المجازات والاستعارات يبني الخطاب مقدّماته ويرى العالم ويخلق نسبه، ويُقيم استدلالاته، ويبني حججه، فأنا معنيّ بالمجاز وبالاستعارات باعتبارها تشكل هوية الخطاب، وتخصصي الأساسي هو تحليل الخطاب، وبالدرجة الأولى أنا معنيّ في تحليل الخطاب بمكوّنه المجازي والاستعاري.

 الذهاب إلى ابن حزم

* من أي زاوية درست ابن حزم في كتابك طوق الخطاب؟

الديري: درست ظاهرية ابن حزم. لقد ذهبت إلى ابن حزم على وجه التحديد، لكي أرى إسهام ابن حزم من خلال علم الأصول في تحليل الخطاب أو ما تسميه اللسانيات اليوم بعلم تحليل الخطاب. كنت أريد أن أرى ما الذي أسهم فيه هذا التخصص أو ما الذي أسهم فيه هذا العلم العربي القديم (علم أصول الفقه)، وهو يعتبر بالمناسبة من العلوم الإسلامية الأصيلة، بمعنى إنه من العلوم التي لم تستوردها الحضارة الإسلامية من حضارة أخرى، وإنما أنشأتها هي إنشاءً، لكي تضع مجموعة من القواعد النظرية لدراسة الخطاب الديني المقدس، وهو خطاب القرآن وخطاب الحديث، ولكن هذه القواعد ممكن أن ننظر إليها اليوم، بأنها قواعد غير محدودة فقط بخطاب القرآن والحديث النبوي، وإنما هي قواعد تصلح لقراءة أي خطاب من الخطابات البشرية، فهي تصلح لقراءة أي خطاب من الخطابات الاجتماعية والسياسية والإعلامية.

لقد ذهبت أنا إلى ابن حزم في البداية لهذا السبب الأكاديمي، ولكني وجدت فيما بعد في طريق الذهاب إلى ابن حزم، أهدافا أخرى، ووجدت غايات أخرى ووجدت موضوعات أخرى في هذا الطريق. وربما يكون ما كتبته في هذا الكتاب، جزءاً مما وجدته، ويبقى الجزء الأكبر والأهم يتعلق بما لم أكتبه، لكنه حاضر في أفقي.

 دليل ابن حزم

* ولكن كيف تحددت الهوية، هوية الخطاب من خلال دراستك لأصول الفقه عند ابن حزم؟

الديري: لن أقول هوية الخطاب، لكي لا نستعمل مصطلحات قد توقعنا في لبس، سأقول ما هو مقوّم الخطاب، مقوّم الخطاب يعني ما هو الشيء الذي يقوم عليه الخطاب ويعتبر ركنا أساسيا من أركان الخطاب؟ أنا وجدت أن المجازات هي أحد هذه المكونات، لكن دراستي لابن حزم لم تكن اشتغالا على هذا المكون، فهذا المكوّن لم يشتغل عليه ابن حزم، هذا موضوع اشتغلتُ عليه تاليًا بعد انتهائي من ابن حزم.

موضوع ابن حزم في تحليل الخطاب ، كان الدليل ، وابن حزم يفهم الخطاب والدليل وفق إطار المنطق الأرسطي، فبالنسبة له أن علم المنطق الأرسطي هو العلم الذي يمكن من خلاله وضع قواعد نظرية لتحليل الخطاب، وهنا أريد أن ألفت إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن علم أصول الفقه علم يجمع عدة علوم مع بعضها ويستثمرها لتوليد علمه، فعلم أصول الفقه هو علم مكوّن من علم المنطق والفلسفة واللغة والبلاغة وعلم الكلام وعلم النحو، بل وحتى علوم الطبيعة تدخل فيه. جميع هذه العلوم يستثمرها هذا العلم ويولّد هو من خلالها أدواته فيما بعد

إحدى المكونات الرئيسية التي أسهم فيها ابن حزم في تشييد هذا العلم، وكتاب ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام) يعتبر رابع أربعة كتب في تأسيس علم أصول الفقه في الحضارة الإسلامية، وقد أسهم إسهاما كبيرًا في إدخال المنطق الأرسطي ليكون مكوّنًا من مكونات علم أصول الفقه.

* على الرغم من استفادة ابن حزم من منطق أرسطو إلا أنه كان معروفًا بحدته وحدة كلماته، حتى كان يُضرب بها المثل بمقارنتها بسيف الحجّاج. كيف تفسر ذلك؟

الديري: فعلا لغة ابن حزم لغة على مستوى الحِجاج لغة حادة وحاسمة ويقينية ولا تقبل بفكرة تعدد الحقيقة، وأنا أُرجع ذلك إلى المنطق الأرسطي الذي يستند إليه ابن حزم في مفهومه للحقيقة. المنطق الأرسطي يعتمد على الحقيقة الموضوعية بمعنى الحقيقة التي هي موجودة خارج الذات، فنحنُ نصل إلى هذه الحقيقة الموجودة خارجنا بتجردنا من كل هوىً، من كلّ ميْلٍ، من كلّ خطأ، من كل ضعف نظرٍ أو ضعف ذهنٍ، فأنت إذا توفرت على هذه الخصائص المتجردة من هذا الكل، استطعت أن تصل إلى هذه الحقيقة الموجودة خارجك أنت، وستصل بطريقة موضوعية وسليمة ويقينية.

هذا المنطق اليقيني الذي استند إليه ابن حزم في فهم الحقيقة جعل من لغته لغة حادّة لا تقبل أنصاف الحقائق ولا تقبل ما يسميه هو بالمغالطات والتشغيب والتي في حقيقتها هي آراء أو حقائق أخرى لا يقرها دليله الظاهري. هناك قواعد منطقية تحدّد الحقيقة تحديدا صارمًا في المنطق الأرسطي، وقد صاغ ابن حزم من خلالها مفهومه للدليل الذي يحدد وفقه معنى الخطاب، وقد بلغت حدّة ابن حزم درجة أنه كان يقول: إن الذي لا يعرف أو لا يتقن المنطق الأرسطي لا يمكننا الثقة في علمه أو في فقهه، حتى لو كان فقيهًا. لكن علينا أن نقرأ هذه الحدة بإيجابية أيضا، فهي تستند إلى انفتاح ابن حزم على علوم الغير، وأقصد هنا المنطق الأرسطي الذي هو منطقٌ نشأ في حضارة غير الحضارة الإسلامية بل وفي بيئة غير دينية إذ هي بيئة وثنية لا علاقة لها بالدين السماويّ.

 كشف التلاعبات

كأن ابن حزم يريد أن يقول إنه لا يمكننا أن نفهم النصوص الدينية إلا باعتماد هذا المنطق، لذلك فأنا أفسّر حدّته بهذا الجانب العلمي. أيضا هناك مكون آخر بطبيعة الحال يتعلق بالجانب الاجتماعي وهو الجانب المتعلق بالمعارضات التي كان يواجهها ابن حزم من المذاهب الأخرى، وهذه المعارضات كانت ناشئة من كون أن الظاهرية التي يمثلها ابن حزم هي منهج جديد بالنسبة إلى بلاد المغرب والأندلس التي اعتادت الفقه المالكي، فحين يأتي فقيه بمدرسة جديدة هي المدرسة الظاهرية وهي مدرسة من المعروف أن أصلها مشرقي وكان ابن داوود الظاهري هو المؤسس لهذه المدرسة في القرن الثالث قبل أن يتسلمها ابن حزم ويتسلم معها كتاب ابن داوود (الزهرة) وهو كتاب في الحب. لقد تسلم ابن حزم ظاهرية الخطاب وظاهرية الحب وذهب بها بعيدًا في القرن الخامس الهجري.

تنشأ معارضات عند دخول نظرية جديدة أو مذهب جديد على حقل قد رتّب أوضاعه وأعرافه مصالحه ورتّب قواه وعلاقاته، وهذا ما توضحه نظرية “بروديو” في الحقل الاجتماعي وهي نظرية تفسّر الصراعات الاجتماعية في الأوساط العلمية والثقافية، سواء كان الأمر في حقل الأدب أو الفقه أو السياسية أو الوجاهة.

يمكننا أن نفسر حدّة ابن حزم بأنها نوع من ردّة الفعل على خصومه الذين كان يشنّعون عليه ويواجهونه ويحاولون أن يؤلبوا عليه الناس ويؤلبوا عليه ملوك الطوائف في تلك الفترة، وبالتالي نشأت لديه حدّة في مواجهتهم والرد عليهم من أجل الدفاع عن مذهبه ومنطقه، أي من أجل أن يموضع نفسه في الحقل العلمي الذي كان يكتب فيه.

أيضا هناك سبب ثالث يمكننا أن نفسّر من خلاله هذه الحدّة، وهو السبب المتعلق بأن ابن حزم كان شاهدًا على حكم الطوائف وكان أبوه شاهدًا على حكم استقرار الخلافة الأموية في الأندلس وقوتها، حين اهتز هذا الحكم وهذا الاستقرار، وجاءت ملوك الطوائف، وأخذ كل ملك ينشئ مملكته في طائفة أقل، حدث نوع من التشرذم في القوى التي كانت تحكم الأندلس، وهذه التشرذمات التي حدثت دفعت ابن حزم ليعبّر عن سخطه على التشرذم الموجود، أو لنقل هو يريد أن يدين أحد أسبابه، هذا السبب هو أنّ هذا التشرذم الموجود على المستوى السياسي والذي تبدى على مستوى ضعف الدولة العربية الإسلامية في الأندلس، يأتي من أنّ كل أمير أو كلّ ملكٍ استقلّ بطائفة كان يستند في حكمه السياسي إلى حكم فقهي، والحكم الفقهي يضعه فقيه، لذلك لابدّ أن يكون هناك فقيه يتكيف أو يكيّف الناس لكي يُعطي مشروعية لهذا الحاكم، فوجد ابن حزم أن جزء من التلاعب في قراءة النصوص الدينية وتأويلها، يأتي ليحقق هذه المشروعية. هذا التلاعب هو المسئول عن التشرذم السياسي الموجود، فهو كأنه أراد أن يجعل من منهج الظاهرية منهجًا يفضح ويكشف هذه التلاعبات في قراءة النصوص.

 دنيوية الظاهرية

ينبِّه إدوارد سعيد في كتابه (العالم والنص والناقد) إلى ما لدى المدرسة الظاهريّة من أفكار في تفسير النصوص لا تعزل النص عن تفاعلاته الواقعيّة والبشريّة والثقافيّة، فالنص ظاهرة تعبيريّة ظرفيّة، يقترن معناها باستعمال وظرف محدّدين أي بوضع تاريخي وديني.

وتحقق ظاهرية ابن حزم ذلك بأن تجعل للنصوص والأشياء في العالم كيفيات بدل أن تكون لها جواهر باطنة وأسرار خاصة. وكيفيّات النصوص هي ملفوظاتها، وأبنيتها، وتراكيبها، وظروفها السياقيّة، وطرق إنتاجها، ومدلولاتها. تمثل هذه الكيفيّات ظواهر النصوص التي على العقل الاشتغال عليها، من أجل فهمها. وظاهريّة ابن حزم في قراءة الخطاب تمثل اجتهاده الخاص في قراءة هذه الكيفيّات في الدنيا. لذلك فالظاهرية قراءة دنيوية للنصوص، وهي حمّالة ظواهر، لأن في الدنيا لا يوجد غير الاختلاف.

 جماليات ابن حزم

لذلك ابن حزم لم يكن متصالحًا مع السلطات السياسية في عصره وتعرّض أيضًا إلى محاكمات قادته إلى سجن، وكان يقول دائمًا إنه ما كتب كتابًا أو ما كتب ورقة إلا وهو على قلق بسبب أنه إما أن يكون في سجنٍ أو يكون على هجرة أو يكون على هربٍ أو يكون على قلاقل سياسية.

هذه التركيبة أسهمت في تكوين مزاجه الحاد في الكتابة وفي الدفاع عن وجود حقيقة للنص واحدة ومعنى للنص واحد ظاهر لا يقبل التأويل، أي لا يقبل اللعب، ولا قبل التوظيف السياسي، ولا يقبل ميوعة في المعنى. ولعل جملة ابن حزم المكثقة “النص لا يعطيك إلا ما فيك” تخلص ظاهريته وموقفه من المرجعيات غير النصية التي تعطي معناها الخاص .

أنا أفسّر حدية مزاج ابن حزم بذلك، ومع ذلك أقول أنا قد استمرأتُ هذه الحدية ووجدت فيها جمالية أخرى، هي جمالية القلق المعرفي. وهذا جعلني متفهما لمزاج ابن حزم وعصره ولقلقه المعرفي الذي كان يشغله. المفكر أو الفيلسوف أو العالم، هو ليس فقط حصيلة علمه، وإنما هو أيضا خلاصة عصره وخلاصة القلاقل السياسية والاجتماعية التي يخوضها، والمفكرون العظماء أو العلماء العظماء تفكيرهم دائمًا يكون تفكيرا خارج الأطر الضيقة للعلم، فبالتالي هو يفكّر من خلال سياق العصر الذي يعيش فيه.

* كيف راقتك هذه الحدية وأعجبتك؟ هل هي ما جعلك تستند وتخرج من دائرة النصوص الشيعية والمنهجية الشيعية في بحث أمور الأصول والفقه وهذه الأمور.

الديري: دعيني أوضّح أولاً بأني لم أجد أن حدّة ابن حزم تتناسب معي، فأنا لستُ حادًّا في نقدي، ولستُ حادًّا في نظرتي للمسائل، ولست ممن يقولون بوجود حقيقة واحدة للنص، فالنص في مفهومي لا يعطيك ما فيه كما يقول ابن حزم، بل يعطيك ما فيك وما في أفق عصرك وسياقك وجماعتك وآلياتك التأويلية، النص يعطي ما في أنفاس الخلائق. فأنا مختلف تمامًا في هذا المزاج، ولكن استطعت أن أتفهم هذه الحدّة، وأن أتذوق جمالياتها التي تحمل في داخلها قلقا معرفيّا وقلقا وجوديا وقلقا سياسيا للوضع الكائن في العالم، وجوانب من هذا القلق يمكن أن تفسر حدّة ابن حزم ضد التلاعب بالنصوص وبالحقيقة وبتوظيفها. استطعت أن أستوعب ذلك في هذا السياق، واستطعت أن أقرأ جماليات فيها أيضا وأن أتفهمها وأن أتذوقها بهذا المعنى. ولعل من المفيد أن أذكر هنا بعبارة شبنهاور “إن لم أجد شيئاً يقلقني، فهذا في حد ذاته يقلقني” التي يرددها دوما الصديق الأديب كريم هزاع، في سياق تبيانه لسيكيولوجيا المثقف.

 هوية المثقف

* أنت نشأت في بيئة دينية شيعية، وأَلِفْتَ مدوناتها التأسيسية، فما الذي جعلك تخرج من دائرة النصوص الشيعية والمنهجية الشيعية في بحث أمور الأصول والفقه؟

لماذا لم أذهب إلى المدونات والنصوص الشيعية بحكم قربي من هذه المدونات؟ أريد أن أوضح هذه المسألة الهامّة جدّا بالنسبة لي، أولاً أنا لم أدرس في الحوزات الدينية، كانت هذه أمنية من أمنياتي التي رافقت تكويني المعرفي والفكري فترة من الفترات. كانت لدي رغبة مقدسة للذهاب للدراسة في الحوزة، وهذه الرغبة أستطيع أن أقول إنها قد انتهت بعد السنة الأولى من تخرجي من مرحلة البكالوريوس في العام 1993، فقد دخلت مرحلة معرفية جديدة خرجت فيها من أطري الأيديولوجية والدينية والطائفية وبدأت أنفتح على العلوم الإنسانية بما هي أدوات لفهم الدين والتاريخ والمعرفة والحقيقة خارج المذهبيات والتحزبات والطوائف.

بهذا الخروج انتهى مشروع ذهابي إلى الحوزة، ولكن بحكم تكويني السابق على هذا الانفتاح، اقتربت من أجواء الحوزة واقتربت من كتبها، ودرست بعض مقدّماتها.

خروجي من هذه الأطر، جعلني أنظر إلى تراثي الإسلامي العربي الحضاري نظرة شمولية، لا يمكن أن أنظر إليه بعد هذا الخروج نظرة ضيقة، بأن أذهب إلى الكتب الشيعية وأبحث فيها، وكأنها تؤسس لحقيقة خاصة ومستقلة عن البقية، أو كأن لديها المنهجية الحقّة، وكذلك أصبحت لا أحمل دافعًا لخدمة مذهبي بأن أشتغل على تراثه بشكل خاص، لقد انتفى لديّ هذا الدافع الرسولي الذي كان حاضرا بقوة كما كان خالقا فيّ الرغبة المقدسة في الذهاب إلى الحوزة.

كما أنني لم أكن أيضًا أحملُ همّا، يتعلق بإبراز تفوّق علماء مذهبي، باعتبارهم هم السبّاقون أو المؤسسون أو الذين وضعوا أسس كل معرفة جديدة. لقد تخلصت من هذه الهواجس، وأصبحت لدي كل كتب حضارتي متساوية من حيث الأهمية، وأصبحت لدي كلّ الشخصيات الفكريّة في تراثنا متساوية، كلّها متساوية بمعنى أن كلّها لدي مسافة نقدية واحدة منها، ولديّ مسافة أيضا علمية واحدة، ولديّ إحساس بأنها تشكّل جزءًا من هويتي ليس لأحدٍ منها تكوين يفوق التكوين الآخر في هذه الهوية، وهذا شرط معرفي لمقاربة تراثنا. وإذا لم يكن لديك هذا الأفق الذي يجعلك ترى تراثك كلّه على مسافة واحدة، فأنت تُخلّ بشرط معرفي، ولا يمكّنك أن تقترب من هذا التراث، وتعرف حقيقته.

اتخاذي من ابن حزم موضوعاً أشتغل عليه، يأتي في هذا السياق، وبالمناسبة لم أدخل على ابن حزم بوصفه أديبا ولم أدخل عليه بوصفه أشهر من كتب في الحبّ، وإنما دخلت عليه من الشقّ المتعلق بالفقه، فهو الشق الأكثر تحدّيا بالنسبة إلى أي باحث يريد أن يتأكد فعلاً أنه غير متورط بأي انحياز مذهبي، أقول ذلك ونحن نعيش اليوم سُّعارا طائفيا بلغ أوج اشتعاله بعد حرب العراق، وأنا آتٍ من بيئة هي بيئة البحرين وهي البيئة القريبة من بيئة العراق، وهما البيئتان الأكثر حدّة في المسألة الطائفية، إذا ما وضعت هذا السياق في الاعتبار، فهذا يشعرني بشيء من الرضا لأنني قد ذهبت إلى ابن حزم، من دون أي اعتبار لموقفه الحاد من الشيعة ولموقف الشيعة الحاد منه، ودون اعتبار للحساسيات الطائفية المشتعلة اليوم. مع أني قد ذهبت إليه قبل هذا السُّعار، فأنا أنجزت هذا الكتاب في عام 2002 ، ونشرته في 2007.

* هذا سيجعلك تقع في دائرة أخرى، وهي دائرة النقمة من أهل مذهبك بتهمة الانتصار للمذهب الآخر؟

الديري: أنا خارج طائفتي من الناحية المعرفية، والمثقف إذا لم يكن خارج طائفته لا يعول عليه، المثقف ليس ناطقا باسم طائفته، عليه أن يكون ملعوناً من طائفته، كما كان الأمر مع الفيلسوف اسبينوزا.

 خارج الشحن العقائدي

دعيني أستكملُ لكِ الإجابة على سؤالك، أنا ذهبت لابن حزم وكنت أريد أن أرى إسهام علم أصول الفقه في مجال علم تحليل الخطاب، ولم أكن معنيًّا بهذه الهواجس كلها، وبالفعل وأنا أقرأ ابن حزم، لم تستوقفني جمله أو عباراته التي كان يظهر فيها موقفا مشنعاً من المذهب الشيعي، ومن مصادره المعرفية المعتمدة، حاولت أن أتفهم هذا الموقف في سياق عصره وفي سياق العلاقة بين الشرق والغرب وفي سياق الاحتدامات السياسية والصراعات المذهبية والجدل الكلامي، ولم تتحرك فيَّ بتاتًا نوازع الدفاع أو التصحيح أو التأثر بأن هذا ضد مذهب أنتمي إليه في مرحلة تكويني العقائدي، أو أنتمي إليه سوسيولوجيًّا حاليا. أنا وجدت نفسي خارج هذا الانتماء الديني الضيق، وإن كان هذا الخروج المعرفي لا يخرجك سوسيولوجيا، ولكنه لا بدّ أن يُخرجك على المستوى المعرفي، وهذا أقوله اليوم باعتزار، أن تستطيع أن تخرج عن تكويناتك الضيقة، وأن تذهب إلى الأشياء لتقرأها بتجرّد أكبر وبحقيقة أطلق (أي أكثر طلاقة) وبأفق أوسع. أقول هذا الكلام اليوم وأنا أعيش هذا الشحن الطائفي بشكل يثبت أن التاريخ انقطاعات وتراجعات وانه لا يسير إلى الأمام دوما ولا يصل إلى نهايته.

سألني أحد الأشخاص بعد أن قدّمت محاضرتي حول هذا الكتاب في مركز الشيخ إبراهيم للدراسات والبحوث: كيف يمكن أن يكتب شخص من قرية الدير الشيعية عن ابن حزم؟ فابتسمت له، وقلت له: أنا لم أذهب إليه بصفتي شيعياً، ذهبت إلى ابن حزم بصفتي محلّل خطاب، ومحلل الخطاب لا يحلل الخطاب من منظور مذهبي أو منظور ديني أو أي منظور ضيق، محلل الخطاب بقدر ما هو يُخضع تحليله لأدوات معرفية، فإنه يتحرر من هذه الأطر الضيقة التي تفرض عليه منظورات خاصة، كذلك جاءتني اعتراضات كثيرة كلها تصبّ في هذا المنحى، فأحدهم كتب لي: كيف تكتب عن هذا الناصبي؟!! إنه مصطلح مشحون بتاريخ الخلافات المذهبية، وإذا لم تخضع هذا المصطلح إلى تحليل نقدي وتاريخي، يجعلك على مسافة من الخطاب الذي يمثل بيئته العقائدية، فإنك لن تكون أكثر من مجادل عقائدي يهدر وقته في الانتصار لمذهب يعتقد أنه سينجيه يوم القيامة.

 قواعد الإحكام

* طوق الخطاب يُشير إلى طوق الحمامة بينما الكتاب لا يتناول هذا المنحى ولا هذا الكتاب، فما الرابط بينهما؟

الديري: موضوع طوق الخطاب ليس طوق الحمامة، موضوع طوق الخطاب هو كتاب ابن حزم في أصول الفقه وهو الإحكام في أصول الأحكام، هذا الكتاب يتكوّن من ألف صفحة تقريبا، موضوعه علم أصول الفقه، وما هو علم أصول الفقه؟ الأصول تعني قواعد أو قوانين، الفقه هو الفهم وأصول الفقه تعني قواعد الفهم أو قوانين الفهم، فهم ماذا؟ قواعد فهم الخطاب، الخطاب القرآني والخطاب النبويّ، فأصول الفقه هي أصول بمعنى قواعد وقوانين فهم خطاب القرآن وخطاب الحديث النبوي، منظورًا إلى الخطاب هنا بما هو مجموعة من الأوامر التي تحدد للإنسان ما يجبُ عليه وما لا يجوز له وما يستحب أن يقوم به وما هو مكروه، بمعنى أنه علم قواعد فعل الأمر الموجود في الخطاب، وهذا فعل الأمر يأتي تارة للمنع والنهي، وما بين النهي والأمر يأتي المستحب والمكروه، فكل هذه القواعد تحاول أن تقرأ هذا الفعل – فعل الأمر وفعل النهي – في مدوّنة كبيرة جدا هي القرآن والحديث.

نحن هنا بحاجة إلى قواعد تبيّن لنا وتفسّر لنا صيغ الأمر لهذا الخطاب، فلذلك عنونت الكتاب بعدة عناوين قبل أن أستقر على العنوان الأخير، منها “قوانين تفسير الخطاب” ” قواعد تفسير الخطاب” “قوانين الإحكام” ” قواعد البيان” ” أصول البيان” لأن الفقه عبارة عن بيان، فعندما تفقه الشيء تستبين ما فيه، أي تطلب بيانه، وأيضا ممكن أن نقول إنها أصول تفسير الخطاب، تسميات كثيرة ممكن أن تعبّر عن موضوع هذا العلم، لكنّي فضلتُ أن استعمل عنوان ” طوق الخطاب”، فلماذا استعملت هذا العنوان؟

هناك سبب أوليّ يتعلق بطوق الحمامة، أردت أن ألعب على عنوان كتاب ابن حزم طوق الحمامة وأشتق منه وأفهم من خلاله عمله في علم الأصول، وهنا أريد أن استرجع حادثة وقعت لي في أوّل مرة وقعت فيها على كتاب ابن حزم في علم أصول الفقه (الإحكام في أصول الأحكام) وجدت أن لغته وموضوعه غريبان على صوة ابن حزم التي في مخيلتي. انتابتني لحظة شك، هل اسم ابن حزم المكتوب على هذا الكتاب هو نفسه ابن حزم صاحب كتاب (طوق الحمامة) الذي يتحدث عن الحبّ بلغة أدبية جميلة وبحرية ليست محكومة بقواعد الأمر والنهي.

 بين طوقين

كنت أقارن شخصية صاحب طوق الحمامة الرحبة كما رسمتها مخيلتي، بشخصية صاحب (الإحكام في أصول الأحكام) التي بدت لي شخصية عالمية فقهية متجهمة وحادة وأصولية، رحت أراجع سيرة ابن حزم حتى تأكدت أن صاحب ذلك الكتاب (طوق الحمام) هو نفسه صاحب هذا الكتاب (الإحكام في أصول الأحكام)، ولكن بقى هذا التساؤل لدي من دون إجابة. ولم أسع للإجابة عليه، لأنه لم يكن ضمن حدود بحثي، كان حدود بحثي فقط هذا الكتاب بغض النظر عن ذاك الكتاب، فذاك الكتاب يخصّ الدراسات الأدبية أكثر، هذا الكتاب وجدته خاصا بالدراسات المتعلقة بدراسات تحليل الخطاب.

بعد انتهائي من الكتاب بفترة، حاولت أن أفهم معنى الطوق، الطوق هو علامة تدل على الجمال، وتدل على القدرة، وتدل على الطاقة.كيف يمنحك قدرة؟ لأنه يعطيك قوة ويجعلك متماسكا، فحين تطوّق شيئا تجعله متماسكا، فكأن طوق الحمامة يُماسك الناحية الجمالية لديها، فيعطيها الزينة، ويعطيها القدرة لكنها تبقى مقيدة به.

هذه المعاني وجدتها أيضا حاضرة في كتاب الإحكام، ما هو الإحكام؟ الإحكام هو عبارة عن تقييد الشيء، فأقول أنا أحكمت الطوق، وحين تحكم الشيء تعطيه قوة، وأيضا في إحكامك تعطيه جمالا، لأنك تبرزه وتظهره بشكل ما، فكأنك أظهرت تماسكه، فوجدت أنا إن قواعد ابن حزم لتحليل الخطاب أو أصول ابن حزم هي عبارة عن طوق للخطاب، بمعنى أنها تقيّد فهمك وقراءتك للخطاب وفي الوقت نفسه هذا القيد يمنحك قدرة، لأنها مجموعة من الأدوات التي تعينك لقراءة الخطاب، وهي تمنحك قدرة بمعنى طاقة، والطوق من فعل الطاقة والطاقة هي عبارة عن قدرة، قدرة على قراءة الشيء أو على التمكّن من الشيء، وفي الوقت نفسه أرى أنها تمثل ناحية جمالية لجهد إنساني، وأي جهد إنساني نحن ننظر إليه من ناحية جميلة، لأن الجهد الإنساني جميل بالمعرفة التي ينتجها، فأنا سميت طوق الخطاب دراسة في ظاهرية ابن حزم وكنت أعني بذلك مجموعة الأدوات التي وضعتها الظاهرية لقراءة الخطاب، نظرت إلى هذه الأدوات على أنها تعينك وتمنحك قدرة قراءة الخطاب، وتقيّد قراءتك للخطاب وأيضا هي عنصر جمالي بما هي جهد إنساني. بعد ذلك عليّ أن أرجع إلى قواعد التفكيك التي هي أيضا جزء من ممارسة تحليل الخطاب، وقواعد التفكيك، لأن علم تحليل الخطاب ليس محصورا في منهجية معينة، ولا في أدوات معينة، هناك أدوات كثيرة في تحليل الخطاب، ومدارس كثيرة وعلوم كثيرة ومنهجيات كثيرة فأنا أيضا أخرج على طوق ابن حزم لكي أقرأ طوقه، وفي قراءتي لطوق ابن حزم حاولت أن أفسر أيضا هذا الإحكام أو هذا الطوق في القراءة. لماذا كان ابن حزم يقيد قراءة النص بالدليل الذي لا يسمح إلا لحقيقة واحدة أن تظهر؟

 مقاربة مختلفة

* قمتَ بتقديم كتابك في مركز الشيخ إبراهيم للدراسات والبحوث، لماذا لم تقدم كتابك في كلية الشريعة أو مكان ينتمي للشريعة باعتبار دراستك تعني المعنيين بدارسي أصول الفقه، وهل تعتقد بأنهم مهتمون بالإطلاع على هذا الكتاب؟

الديري: أنا أتمنى أنهم غير مهتمين وأتمنى أن لا يُفهم كتابي أنه متعلق بعلم الشريعة بتاتا، هو ليس كتاب في الشريعة.

كان في محاضرتي أستاذ جامعي عراقي قضى أكثر من ثلاثين عاما في كلية الشريعة، ويدرّس المناهج الفقهية فيها، قدّم مداخلة أشاد فيها بمحاضرتي، وقال إن هناك العديد من الأمور التي لا يتفق فيها معي، ولكنه قال إنه يحترم وجهة نظري وأفقي في دراسة ابن حزم.

كنت حريصا أن أبيّن أن مقاربتي لابن حزم مختلفة عن مقاربة علماء الشريعة لهذا الموضوع، هم يذهبون إليه كصاحب مذهب، وأنا أذهب إليه كصاحب طوق، أنا أذهب إليه كعالم لديه مجموعة من الأدوات منبثقة من أفق نظري في قراءة الخطاب، فلست أراه صاحب مذهب في مقابل مذاهب أخرى، أنا معني بإبراز منظومته المعرفية في قراءة هذا الخطاب، لذلك كنت أتحدث عن خلفيته المعرفية والفلسفية والمنطقية وكنت أتكلم عن فهمه، وأحاول أن أعرف في منظومته ما هو الفهم وما هي المعرفة وما هي اللغة وما هو الخطاب وما هو العقل وما هو الدليل.الإجابة عن هذه الأسئلة تحدد لي الأفق المعرفي الذي يشتغل من خلاله ابن حزم، لذلك أنا لست معنيا بالقراءة الشرعية وصحتها.

* هناك من يذهب إلى أن علم أصول الفقه هو علم خاص برجال الدين والحوزات وبالتالي فأنت لست سوى متطفل لا تفقه فيه ولا تفهم. ما رأيك؟

الديري: كما قلت لكِ فحسب تفسير (بروديو) للحقل، كل تخصص يحتكره أصحابه، وحين يدخل شخص من خارج الحقل أو تدخل نظرية جديدة أو مفهوم جديد إلى الحقل، يُستفزّ بعض المشتغلين في الحقل، فيبدؤون يدافعون عن أعرافهم وبعضهم يستوعب الجديد ويكيف آليته وفقه، وأنا أتفهم هذا البعد، لذلك أقرأ الاعتراضات التي أبداها البعض، في هذا السياق، وقد لاحظت أن بعض آلية الدفاع عن الحقل تقوم على آلية التجهيل، وذلك بأن يحاول أن يُجهّل معرفتك أو يحاول أن يبحث عن أخطائك ويقلل من فهمك لهذا العلم، ليُسقط مقاربتك بهذه الطريقة، وهذه مسألة صارت معروفة، فعوضا أن أُستفزّ من خلالها أو أردّ عليها، أحاول أن أفهمها.

 فخ الطوق

* إذن أنت أوقعت الكثير في الفخّ، هناك من أخذ الطوق إشارة إلى طوق الحمامة، وهناك من أخذ ابن حزم وكتاب الإحكام إشارة إلى الشريعة والفقه. فهل تعتقد بأنه موجه لدارسي علم الخطاب؟

الديري: الكتاب فعلا يُوقع في هذه الالتباسات والأفخاخ، وكلما كثرت أفخاخ الكتاب، فتح شيئا جديداً، أو لنقل أنه ينقل الجدل إلى منطقة جديدة، وبالفعل حدث ذلك، وأنا بالدرجة الأولى أقول هو يقع ضمن تخصص تحليل الخطاب، ولكن هذا التخصص مفتوح على كلّ التخصصات، الإنثربولوجيا وعلم الكلام والفقه والمنطق والفلسفة واللغة وعلوم الذهن. ولأنه مفتوح على تخصصات معرفية متنوعة، فهو تشكيلة من العلوم، بل هو يدفعك إلى أن تنفتح على العلوم المختلفة وأن تبحث عن تواشجاتها واتصالاتها وحواراتها الداخلية، وترى كيف أن إعطاء معنى للنص هو محصلة التقاء علوم كثيرة وحوارات داخلية ثرية بين علوم كثيرة.

كان ابن حزم يعتقد أن دليله وحده قادر على أن يعطي معنى النص، وأن علم الأصول وحده قادر على أن يعطينا معنى الخطاب، ومع انفتاحنا على مختلف العلوم، سنكتشف أن كل علم يعطينا شيئا من معنى الخطاب. وليس هناك تخصص يحتكر حقل المعنى.

* ما الرابط بين الكتب الثلاثة التي أصدرتها؟

الديري: أنا أجد هناك روابط كثيرة، كتابي الأول ” التربية ومؤسسات البرمجة الرمزية، كيف تُنتج المؤسسة الذت” كنتُ معنيّا فيه بطوق الثقافة بما هي فعل تربية، لأقول التربية بمعناها الأوسع، التربية بما هي صناعة فرد وإقناع ووجهات نظر ومجموعة من القيم المعدة لتطويق الإنسان، التربية بهذه المعاني أجدها طوقا، هي خطاب يطوّق فهمك، ويطوّق فكرك ويطوّق ذاتك، ويطوّق كل ما فيك في إطار معيّن.

كتابي الثاني في الحقيقة هو (طوق الخطاب) الصادر في 2007، وكتاب الثالث هو ( مجازات بها نرى) الصادر في 2006 وهو يحاول أن يقارب المجازات والاستعارات والتشبيهات، بما هي طوق للحقيقة، فالمجاز يطوّق الحقائق ويجعلها تبدو جميلة ومقنعة ومحكمة ولديها القدرة على الإقناع والتنوير والرؤيا، فالمجازات والاستعارات هي أدوات للإقناع وأدوات للرؤيا وأدوات للفهم وأدوات لصناعة القناعة وتشكيل العقل، وهي أدوات كل خطاب، لذلك فالخطاب هو حقل من المجازات.

وهذا الكتاب هو أيضا يرى أن علم أصول الفقه أداة، أي هو طوق يطوق الحقيقة ويطوّق المعرفة ويطوق التأويل والنص. بل يطوّق فهم الإنسان والجماعة وفهم عصر من العصور، فالكتب ثلاثتها ممكن أن نقاربها بما هي طوق على الحقيقة، وطوق على الإنسان وطوق على العقل، فكيف يستطيع الإنسان أن يفهم أطواقه المختلفة في أشكاله المختلفة.

 تحرير المنظور

* إلام تريد أن تصل؟ أقصد ما همك الأول، ما الهاجس المسيطر عليك؟

الديري: تحرير الإنسان أو أقل تحرير منظورات الإنسان في النظر إلى العالم والنظر إلى الحقيقة والنظر إلى الإلوهية والنظر إلى ذاته والنظر إلى الموضوعات العامة، تحرير هذا المنظور يحتاج إلى جهد كبير جدا، هذا المنظور ليس جهازا مادياً، فهو جهاز معنوي يتبدى في شكل خطاب، ويتبدى في شكل لغة، ويتبدى في شكل ثقافة، ويتبدى في شكل تربية، ويتبدى في شكل مؤسسة، إذا كنت أريد لهذا المنظور أن يتحرر لابدّ أن أعرف كيف يتجسد في هذه الأشكال، أجد إن علم تحليل الخطاب هو الميدان المعرفي الذي يمكن أن يقدم لي معرفة ما أريده.

* من يعرفك يعرف ابن عربي وتعلقك الشديد به، على الرغم من منهجيته وأسلوبه ومعتقده وفكره المخالف تماما لابن حزم. فكيف تجمع الاثنين ؟

الديري: قراءتي لابن عربي قد جعلتني أستوعب ظاهرية ابن حزم بشكلٍ أكبر. وهذا السؤال سأرجئه لحوار آخر، فهو بحاجة إلى اتساع يليق بحجم الرجلين.

جريدة أوان الكويتية

http://www.awan.com.kw/node/106177

جريدة الوقت البحرينية

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=128121

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=129026