من هو الكاتب الليبرالي الجديد؟
هذا هو السؤال الذي طرحه شاكر النابلسي في 6أغسطس، في اليوم الرابع والعشرين من الحرب على لبنان، وبقدر ما كان جواب النابلسي يحيل إلى المفهوم، سأحيل أنا إلى الخطاب الذي يعرف من خلاله النابلسي مفهوم "الكاتب الليبرالي الجديد"، فالخطاب هو أرض المفهوم، وهذه الأرض هي التي تعطي للمفهوم معناه ونكهته وقوامه.
وبقدر ما كان خطا ب النابلسي في ظاهره غير معني في تعريفه "للكاتب الليبرالي الجديد" بموقفه السياسي، سأكون أنا أيضاً غير معني في قراءتي لخطابهم بموقف الكتاب الليبراليين الجدد الذين يتحدث باسمهم النابلسي، هل هم "متصهينون أشد من الصهاينة أنفسهم لا صلة لهم بمبادئ الليبرالية ولا بمُثل الحرية"؟ كما يذهب إلى ذلك أحمد دينين. هل هم هؤلاء المتحرقون ل “نعيم” الحرية الأمريكي المحمول على آلة الموت الصهيونية؟ كما يذهب إلى ذلك دكتور حسن مدن.هل هم أقرب للمحافظين الأمريكيين الجدد؟ كما يراهم مثقفون ليبراليون عرب في بيانهم "صرخة ضد التبسيط"
إذن، لست معنياً هنا بالموقف، قدر عنايتي بالخطاب الذي يصدر عنه شاكر النابلسي في تعريفه "الكاتب الليبرالي الجديد".
صرخة ضد التبسيط
في يونيو2005 أصدر مجموعة من المثقفين الليبراليين العرب بياناً عنوانه " ليبراليون عرب: صرخة ضد التبسيط" ومن الأسماء التي وقعت على البيان: حازم صاغية، تركي الحمد، محمد الحداد، رشيد الخيون، ودلال البزري، سيار الجميل… إلخ.
مما جاء في البيان "ما نحاوله نحن الموقّعين أدناه، صرخة ضد التبسيط إزاء العناوين الأهم في حياتنا… نذهب إلى أن الليبرالية التي نقول بها، ولاءٌ لقيم تحديثية وتنويرية أولاً وأساساً، وليست أبداً ولاءً للولايات المتحدة كائناً من كان المقيم في بيتها الأبيض… إن الديمقراطية تتويج لمسار وليست أول المسار، كما يشيع من يسمّون أنفسهم "ليبراليين جدداً" وهم أقرب إلى أن يكونوا "محافظين جدداً".
يبدو أن البيان لم يكتب له الرواج، على الرغم من ألمعية الأسماء التي وقعتها ورزانة الخطاب الذي صدرت عنه. ويبدو أكثر أن صرخته لم تصل لليبراليين العرب الجدد، كي يعيدوا النظر في بيانهم الركيك حد التبسيط الذي أصدره النابلسي في يوينو2004 تحت عنوان "من هم الليبراليون العرب الجدد، وما هو خطابهم؟". فلو كانت الصرخة قد وصلت في شكل مراجعة نقدية لما أصدر النابلسي بيانه "من هو الكاتب الليبرالي؟" في اليوم الرابع والعشرين من الحرب على لبنان، عل الأرضية البسيطة ذاتها من دون أن يكلف نفسه عناء حفرها أو تقليبها أو تخصيبها. فهل هو أصمّ أم أرضه صماء؟!
تبسيط الحقيقة
ما يفعله خطاب الليبراليين هو بالضبط ما وصفه البيان بحصافة، تبسيط إزاء العناوين الأهم في حياتنا، وهو تبسيط يتم باسم الديمقراطية والليبرالية. كما يتم من جهات أصولية أخرى بأسماء تبسيطية أخرى. وهذا التبسيط هو ما يجعل من مأزق هذا الخطاب، هو نفسه مأزق الجهات الأصولية الأخرى. لنر كيف يقدم خطاب الليبراليين الجدد نفسه؟ وكيف يتمثل بهذا التقديم العناوين الأهم في حياتنا؟
ما يتعلق بعلاقته بالحقيقية، فهو يقدم نفسه "كاتب الحقيقة.. يسعى إلى كشف الحقيقة المُرَّة علاقات الكاتب الليبرالي مع الحقيقة فقط، ومن أجل الحقيقة فقط وليضرب الآخرون رؤوسهم في الحيط. فلا نزلَ القَطرُ.. يهمه قارئ الغد، الذي هو وحده سيكتشف الحقيقة"
هل يدير الأصولي علاقته بالحقيقة بغير هذا الخطاب؟ فدينه دين الحقيقة، ونبيه أو إمامه أو زعيمه أو فقيهه يموت دون الحقيقة المرة، وليس يهمه غير الحق، وطريقه طريق الحق مهمها قل سالكوه. وليست تهمه الدنيا، بل الغد حيث الجنة.
كيف يمكن للخطاب أن يكون ليبرالياً وجديدا وهو يدير علاقته بالحقيقة المعرفة بأل التعريف التي هي أل الإطلاق؟ لا يمكن ذلك إلا بتبسيط العناوين الأهم في حياتنا، وهل هناك أهم من الحقيقة؟!
ما دامت هي معرفة بـ(أل) فهي جاهزة وكاملة وعلينا فقط أن نعثر عليها، "عند العرب أو العجم، عند الشرق أو عند الغرب، عند الكورد أو عند الآشوريين، عند اليهود أو عند البوذيين، عند المسلمين أو عند المسيحيين، عند أبيه أو عند أمه…." أو في البيت الأبيض!! والأرجح أن تكون هناك، وبقية الخيارات كلها وهمية أو خاطئة.
الحقيقة في هذا الخطاب ليست صيرورة تشكلها تجارب الأمم بإخفاقاتها ونجاحاتها بعلوها وهبوطها بتضادها وتكاملها باحترابها وسلمها بتقدمها وتأخرها بتدافعها الدائم.الحقيقة في هذا الخطاب تذهب لها في بيت أبيض فتعثر عليها نقية صافية مكتملة. الحقيقة في هذا الخطاب ليست مساراً يحتاج إلى حمل طويل ومخاض ذاتي عسير، الحقيقة موجودة وجاهزة وتحتاج فقط إلى قبول، ولو بولادة قيصرية، ورحم الله سقراط وأمه، فقد كانا يولدنا الناس ولادة طبيعية بالتدافع الذاتي، ولم يلجآ في أي يوم إلى استعمال أجهزة ذكية!!
وتبلغ هذه الحقيقة حدا من الأصولية الأحادية أن تضعك بين اثنين، إما أن تكون كاتبا ليبراليا وجديدا أو أن تكون من القوم "النائمين الساهميين المخدرين بحشيش الشعارت". هذه الحدية تجد تفسيرها في خطاب الحقيقة الذي هو خطاب (أل) التعريف الذي يدير الحقيقة بعقلية الأصولي.
النبي الجديد
يبدو الكاتب الليبرالي صاحب الحقيقة المرة، وهذه إحدى مقتضيات أصوليته وشواهدها، في إدارة للحقيقة والنظر إليها، نبياً صاحب دعوة جديدة وقبلة للحقيقة جديدة، لكنها لا تتجه هذه المرة للشرق، بل تتجه للغرب في أقصاه، هناك حيث الكعبة بيضاء.
يبدو نبياً يكشف وحده الحقيقة المكتملة " حتى ولو رجموه بالحجارة، وبصقوا عليه، وشتموه، ورموه بأقذع الصفات السوقية" الحقيقة التي" تقضُّ المضاجع، وتنبشُ المواجع"، ومن يحمل رسالة الحقيقة النبوية لا يمكن أن يكون لسان حاله غير لسان اللاهج بالثبات "سنبقى غير مترددين، ولا تائبين، ولا متراجعين، ولا خائفين". إذا كان هو هكذا، فهل يحق أخلاقياً لخطابه الذي يقوم على هذه الروح الرسولية والأصولية حد المقاومة والصمود أن ينكر على خصومه أن يكونوا بالروح نفسها؟!! وهل هو بهذه الروح خطاب ليبرالي جديد أم هو خطاب محافظ جديد؟
النبي الجديد ليست لديه مشكلة مع رسالته، فهي تحمل الحقيقة كاملة وجاهزة وبسيطة ولا تنتظر سوى الدعوة والإبلاغ. مشكلته تبدأ لحظة احتكاكه بالجمهور، على عكس المفكر الذي تبقى مشكلته دوماً مع خطابه ومعيقاته الداخلية وسيروراته الذاتية في تشييد حقائقه غير المنتهية. هو يتحدى الإكراهات التي تحول دون نمو فكرته، هو يتحدى ذاته بالدرجة الأولى.
تبدو مشكلة خطاب شاكر النابلسي مشكلة نبوية، فالآخر الذي يشغله في خطابه والآخر الذي يتحداه هو الجمهور غير المؤمن بحقيقته التي عثر عليها في البيت الأبيض، يخترق هذا الآخر كل جملة من خطابه "ليس راعياً لقطعان الأغنام والأنعام، لا يطمع بتصفيق الجمهور، ولا بباقات ورودهم، ولا بقبلاتهم".
بقدر ما هو ينفي من جانب انشغاله بهذا الآخر، يؤكد من جانب آخر فرط حضور هذا الجمهور وفرط انشغاله به، وهذا ما يؤكده استداركه "ولكن غاية مُناه أن تصل رسالته إليهم، وتفعل فعلها فيهم. تحرق خشبهم القديم المسوّس، وتذري في الهواء قشهم العتيق، وتنفض من رؤوسهم بيوت العنكبوت، وتخرجهم من الكهوف المظلمة الباردة" إنها بهذه الغايات البعيدة، رسالة نبوية بامتياز.
ويؤكد هذا الحضور النبوي، إننا لا نعثر على أثر لمن يختلف معه من الليبراليين الذين هم ضد التبسيط، في حين أن خطاب المفكر يكون مشغولا دوما بأنداده المختلفين معه أو القريبين منه أو الذين يشاركونه في جزء من أرضيته المعرفية. فهو يدير معهم حوارا واختلافا وجدلا، وبهذا الشكل تنمو حقائقه، لكن يبدو أن ليس لدى النابلسي غير حقيقة واحدة وهي مكتملة وجاهزة ومكانها معروف. ولا وقت لديه يضيعه مع أنداد يشككونه في رسالته النبوية، لذلك من الأفضل أن ينشغل بظلاماته من الجمهور، فهي دليل الأنبياء على صدق ما يدعون.
اللغة البسيطة
ويبلغ الكاتب الليبرالي منتهى تبسيطاته ومنتهى أصوليته ومنتهى أحاديته ومنتهى سذاجته ضد العنوان الأهم في حياتنا، حين يصادر على اللغة حقها في النظر إلى العالم بحقائق متعددة. ويصادر عليها حقها في سياسة حقائقها ويصادر عليها حقها في تصيير حقائقها. ويصادر على حقيقة أن اللغة حين تصوغ الحقيقة عند "العرب أو العجم ، عند الشرق أو عند الغرب، عند الكورد أو عند الآشوريين، عند اليهود أو عند البوذيين، عند المسلمين أو عند المسيحيين، عند أبيه أو عند أمه" تسميها بعدد أسماء الله وتسوسها بعدد أنفاس خلائقه وتواريها وتداريها وتجاريها وتراوغها وتعمهمما وتضيقها. هكذا تشتغل اللغة في بناء عوالم الحقيقة غير المنتهية.
في قبال حقيقة عمل اللغة التي تتوسط بيننا وبين حقائق عوالم الكائنات والأشياء، يزعم خطاب النابلسي إن علاقته بالحقيقة بدون وسيط، كعلاقة الأصولي بالله بدون وسيط وباسم هذه العلاقة المباشرة يحضر الله أو تحضر الحقيقة في كل الأشياء التي يمتلكها هذا الأصولي أو الليبرالي الجديد في أصوليته.
هكذا ينفي الكاتب الليبرالي عن خطابه وعن نفسه آثم اللغة ومستخدميها وآثم حقيقتها في صياغة العالم "الكاتب الليبرالي ليس سياسياً في كلامه وفي أقواله، يداري ويجاري ويواري. يزوغ من الحقيقة كما يزوغ السياسيون، ويراوغ كما يراوغ السياسيون، ويعممون الكلام، ويطلونه بطبقة من العسل السام. السياسيون يقولون عن الأعور، إنه يبصر بعين واحدة، أما الكاتب الليبرالي فيقول للأعور: أعور"
هكذا تكتمل النبوة الجديدة، بالقدرة على تصيير اللغة تصييرا يجعلها تتطابق تماما والحقيقة، تقول عن الأعور أعور، من دون مواربة ولا مخاتلة ولا زيادة ولا نقص ولا حجب ولا ستر ولا مراوغة. لغة الكاتب الليبرالي لغة الحقيقة!!
وبالتعويل على هذه اللغة التي تقول للأعور أعور، ولا تترك مجالا لبناء حقيقة أخرى له، بهذه اللغة يمكننا أن نحل مشكلة الإنسان. ومشكلة الشرق الأوسط الجديد.وبغير هذه اللغة سنبني عوالم مختلفة للشرق الأوسط وهذا سيؤدي إلى الفوضى غير الخلاقة.
ولغة الحقيقة تماما كلغة الأنبياء لا يمكنها أن تستجيب للسلطة أو القوة التي تريد أن تفرض على اللغة معانيها للأشياء.لكن ما يتناساه الليبراليون الجدد هو أن قدرتهم على تسمية الأعور أعور قد خذلتهم في تسمية ما يجري الآن بعينين سليمتين، وهذا ما تفطن له نصر حامد أبوزيد في مقالته (العقلانية العوراء والليبرالية العرجاء) حين خاطبهم "يؤسفني أيها العقلانيون الليبراليون الذين ينظرون بعين واحدة، فيتمتعون بحاسة نقدية مفرطة تجاه الأنا، وعمي كامل تجاه الآخر، أن أعلن تبرؤي منكم ومن مواقفكم"