“توارث أهل الحلة [سماهيج] عن أجدادهم أن الله يفرش للمهاجر في البحر طريقًا يَبَساً”.
حين وصلتني رواية الصديق دكتور عمار الخزنة (مهاجر في زمن الجدري) كنت منهمكًا في قراءة رواية (الموريكسي) للروائي حسن أوريدي، تحكي الرواية قصة الموريسكيين. وهذا تعبير قدحي يشير إلى المسلمين من العرب والأمازيغ وغيرهم من الذين طردوا من الأندلس بعد سقوطها والفشل في جعلهم مسيحيين مؤمنين، تعرضوا لمحنة إنسانية أيام محاكم التفتيش، اضطروا فيها لإخفاء إسلامهم ولغتهم.
تعرض الرواية سيرة عائلة مسلمة مكوّنة من الأب (قاسم: دييغو) الذي يضطر لإخفاء إسلامه واسمه وإسلام زوجته (فاطمة) وإسلام أبنائه (أحمد: بيدرو وزهرة: إيناس). يُخفي الأب الفقيه هويته في شكل فلاح مسيحي بسيط، لكنه في الخفاء يحرص في غرفة صغيرة ملاصقة لحظيرة الحيوانات على تعليمهم اللغة العربية والإسلام، ويطلب منهم أن يتكتموا على العالم السري الذي يعيشونه في البيت، كي يحافظوا على الحياة التي هي أعظم ما وهبه الله لنا.
لقد أوقفت قراءة رواية (الموريسكي) وشرعت في رواية (المهاجر) أنهيتها خلال 24 ساعة، ما شعرت أني غادرت الحكاية، فالمشاعر التي تملكتني وأنا أتابع قصة عائلة قاسم هي نفسها المشاعر التي تملكتني وأنا أتابع قصة علي بن غانم وأبنائه عيسى ومحمد وخزنة ونرجس، عاشوا في قرية سماهيج في القرن التاسع عشر، حيث البساتين والنخيل وعيون الماء والبحر وحظور صيد السمك المعروفة وسفن الغوص وعالم اللؤلؤ والنواخذة والغاصة والطواشين.
يصطدم الأب بن غانم ذو الأنفة والعزة والكرامة بفداوية الشيوخ (أولاد إبليس) فيضطر لاتخاذ البحر طريقًا للهجرة إلى البصرة ويبقى هناك حتى موته. وبعدها بعقود من السنوات يعيد ابنه عيسى الذي يحمل طباع أبيه القصة نفسها بعد أن يعمد الفداوية إلى سرقة (حظرته) فيدافع عن كرامته ويقتل اثنين منهم في سر (حظرة الهاشمية) بالحربة التي كان يحملها عادة البحار معه حين يباري مصائده، فيلحق بطريق أبيه حيث يتخذ البحر مهربًا. إنها القصة نفسها التي تعرضت لها العوائل الموريسكية المسلمة فقد سلّط عليهم القشتاليون المرتزقة الذين يستخلصون أجورهم من النهب والسلب.
والحظرة طريقة تقليدية شائعة لصيد السمك القريب من السواحل [انظر الفيديو المرفق] تتكون من شباك مثبتة بأعمدة بشكل شبه مثلث وبها مدود وسر، يجتمع معظم السمك في سر الحظرة وقت الجزر. ولكل حظرة اسم ووثيقة ملكية.
لماذا هاجر بن غانم؟
لأنه لا يريد أن يكون غريبًا داخل وطنه، فضل الغربة عن وطنه، الغربة بالنسبة له أن يفقد كرامته، ويُهدد برجال الشيوخ الإقطاعيين “إنك تتكلم على أسيادك وتحرض الناس على العصيان”. أن يكون هناك فداوي مرتزق نهّاب يحرق حضار (سور) بستانه (مسعّد) ويعبث بحق ملكيته وإرادة تصرفه وحرية قدرته ويحولون بينه وبين بستانه، ما عاد قادرًا على أن يرفع رأسه في مستوى نخيله، صار يشعر بالغربة بين رأسه ورأس نخلته، وما عاد ابنه عيسى قادرًا على أن يحفظ سر حظرته (الجوجبية والهاشمية) مصونًا عن النهّابة المحميين من قبل الشيوخ.
عاش بن غانم على أطراف ميناء البصرة وظلت عيونه لأكثر من أربعين عامًا على البحر، يحلم بالعودة إلى ديرته الحلة (سماهيج)، ينشد معبرًا عن شوقه لبستانه وحظرته وأهله:
يا ناس أنا بي علة
من واحد (بالحلة)
يا ريتني (طير) له
وأسامره طول الليل…
هاجر رجال العائلة، وماتت نرجس من وباء الجدري، وبقيت (خزنة) تحفظ البيت والعائلة والحقل والحظرة، كانت تجهّز زوادة الطريق للمهاجرين من عائلتها وتولّد نساء القرية وتزرع الأمل بالعودة. تركت لنا وثيقة تاريخية مهمة تثبت ملكية الحظرة لأبيها بن غانم. في ذاكرة (خزنة) سر تهجير أبيها، وسر قصته، وسر كرامته، وخزانة حكاية الحلة (سماهيج). لاحقًا صار بيت بن غانم يعرف ببيت أولاد خزنة، وصارت القابلة خزنة واهبة الحياة والكرامة مانحة ألقاب، فأصبح أحفادها يُلقبون باسمها ويُعرفون بعائلة (الخزنة).
كل مولود لابن غانم يأتي على رأس حلم يشي بسيرهم ومصائرهم في الحياة، حلم تجري أحداثه في (سر حظرته) فيكتسب المولود طبائع شخصيته من طبيعة الحلم الذي يجري في (السر). أودع بن غانم فيهم خير السرّ وبركاته وعلّمهم أن كرامتهم دونه، عليهم أن يحفظوه ليصونوا وطن كرامتهم.
الدرس الذي يتذكره أبناء بن غانم ويروونه لبعضهم بعضًا كان في سر حظرة الهاشمية، قال لهم: السمك كباره وصغاره يموت بصمت إلا سمكة (الزمرور: القرضي) الصغيرة فإنه يُعلّم قاتله إنه لن يموت بصمت، يعكر مزاج قاتله بصوته، لذلك لا تسمحوا لأحد أن يقتلكم بصمت.
حفظ أبناء خزنة هذا الدرس (لا تسمح لأحد أن يقتلك بصمت)، هذه الرواية (مهاجر في زمن الجدري) هي صوت عيسى بن غانم وأبيه وعائلته من أبناء خزنة وأحفادها، ظلوا يروونها جيًلا بعد جيل من خزانة القلب حتى صارت رواية في خزانة الورق.
*كاتب بحريني مهاجر، مقيم في كندا.