أتعثر أحيانًا في الإجابة على هذا السؤال، ربما بسبب شدة وضوح جوابه في قلبي وعقلي، أو كما يقال في التعبير التقليدي “توضيح الواضحات من المعضلات”.
هذه محاولة لصياغة إجابة أظنني لن أكون راضيًا كثيراً عنها، وربما لا تكون مقنعة للسائل الذي يريد إجابة تشبه الإجابة على سؤال: ما هي آثار الإصابة بفيروس كورونا؟
تشدني السمات الشخصية للملايات ومعلمات القرآن، لم أشتغل على سيرة إحداهن من دون أن أقع في حبها، حب شخصياتهن الحقيقية والمفهومية، الحقيقية كما عاشوها وتفاعلوا بها في مجتمعهم، والمفهومية كما عاشوا وتفاعلوا في مخيلتي. وجدتهم قويات قياديات مفعمات بالحب والعاطفة، لديهم فائض من الحماس لممارسة فنونهن في القراءة الحسينية وتعليم القرآن وتمكين (لوليدات) من إتقان القراءة واكتساب مهاراتها التمثيلية.
أحببت كثيراً شغفهم بالكلمات، يقدسن الخط المرسوم باليد، كريمات في عطائهن لكنّهن ضنونات بمخطوطاتهم، يلاحقن النسّاخين لإنجاز مجاميعهم. أحببت مصطلح (مجموع) حين عرفت أن الملايات يطلقنه على كتبهم. المجموع مخطوط يجمع مجموعة أشعار أو مرويات أو سرديات حول حكاية أو شخصية أو حادثة.
شدني شعار الملاية سعدة بنت مزعل (1915-1998) “كتبي حجاب صوني” تردده باستمرار، لا تقبل أن ينزع أحد كتاباً من كتبها، تعتبره كأنه ينزع حجابها أو يُفقدها أحد مصادر قوتها وتميزها، بهذا الشعار وضعت حداً صارماً لحرمة كتبها، ولتأكيد هذا الحد تكتب على الصفحة الأولى ديباجة تملكها “أوقفته سعدة بنت يوسف مزعل إلى المأتم الذي يخصها في بيتها”.
لقد أنارت الكلمات مجاميع الملايات وشخصياتهم ومآتمهم وتجمعاتهم النسائية قبل أن يصل نور التعليم الحديث، العتمة بددتها هذه الشخصيات قبل أن تبددها المدارس، لذلك نحن بحاجة لرواية هذه السير والاحتفاظ بما تركته لنا من مخطوطات وتاريخ شفاهي، إنها تحكي التاريخ الاجتماعي من منظور النساء.
أشرت إلى ذلك في مقدمة سيرة عمة والدي (تقية بنت حجي عبدالله بن عيسى 1919-2018) قلت: في القرية نساء قويات صنعن فرادة خاصة تستحق أن تروى، وأنا أستمع لشهادات الرجال الذين تتلمذوا على يد المعلمة تقية لاحظت الإعجاب والإكبار التي تركته هذه الشخصية النسائية في نفوسهم. يفخرون أنهم تعلموا عندها. لاحظت كيف يسرد الرجل تاريخ إعجابه بما صنعته المرأة في عقله وروحه. لم يكونوا يتحدثون عن سيرة حب نسائية بل تحدثوا عن سيرة تكوين ثقافية. شخصيات نساء الدير وغيرها من المناطق في قلب تاريخ القرية ولم يعشن على الهامش، ولابد أن ينصفهن السرد ويعطيهن حيزاً مميزاً في تاريخ القرية.
لفتتني معلمة القرآن الملاية أم السادة، إلى مقطع من الزيارة الجامعة “وآثاركم في الآثار” أذهلتني من طريقة تفاعلها مع هذا النص وتأويلها له وتسييله في كلامها. رحت أفهم كتابتي لسير الملايات من خلال هذا النص، وجدت أني أقتفي آثارهم في التاريخ والهوية والمجتمع وتقاليده الثقافية. الآثار عادة لا تكون واضحة المعالم، تحتاج إلى إنصات عميق، تحتاج إلى رهافة في الحس ورقة في المقاربة، كي تكتشف ما وراءها. وكي تقدم السيرة آثار هؤلاء الملايات نحتاج أن نبتعد عن الأحكام الحادة والقاسية، أذكر أحد الأصدقاء قال لي: هؤلاء كانوا في زمن الظلام والجهل والثقافة التي يمثلونها هي مجموعة من الخرافات. قلت له لو سمعك أحد علماء الانثروبولوجيا المهتمين بدراسة ثقافة الإنسان لانتحر أو غرس قلمه في عينك لتفتح بصيرتك على آثارهن فيك وفي جيلك وهويتك.
ذكرني جوابه، بموقفي من ملايات مأتم جدتي، كنت أراهم بقايا التخلف ويجب إزالتهم وإلقاء مجاميعهن الخرافية في مزبلة الجهل، ما كنت قادرًا على الإنصات لآثارهم، ولم أملك رهافة الحس في تقدير علاقتهم بالأوراق والكلمات والكتب في زمن يُحرم على المرأة الذهاب للمدرسة وقبل ذلك في زمن لا توجد فيه مدرسة. لذلك أنا أكتب سير الملايات اليوم كنوع من الاعتذار لملايات مأتم جدتي: الحاجية مريوم، والحاجية صفوي، والحاجية شروف. وأفتخر بما تركنه من مخطوطات تحمل آثار جيلهم وآثار الأجيال التي سبقتهم.
أنا أكتب هذه السير، بحثًا عن آثار تُرى بالبصيرة لا بالبصر.