أجرى الحورا في مايو 1995: عبدالإله رضي.
يشكل الحدث السيرة؛ فتروي الذات حدث تشكيلها باستعادته في زمن مفارق لزمن الحدث، إنها تتخذ من هذا الزمن المفارق فضاء لحكيها؛ لأنها لا تروي الحدث بقدر ما تروي وعيها بالحدث.
لكن ذاتي – العجولة – لم تنتظر الزمن المفارق؛ لتروي وعيها الكامل ؛ فقد فضلت أن تروي حكايتها في أتون زمن الحدث الذي تشكلت فيه؛ ذلك لأنها لا تروي وعياً كاملا ؛ فالوعي دائماً، ناقص، ويتوق إلى الاكتمال بتصحيح حقائقه الخاطئة .
ما هو هذا الحدث ؟
اقرأ هذا الحوار – غير المنشور- الذي أجراه معي صديقي عبد الإله يوسف رضي ، في مايو عام 1995م ، ففيه جزء كبير من ذاتي ، ما زلت أحتفظ به، وأخطط لنسفه .
عبد الإله : في إطار السعي نحو تشكيل أطر واضحة المعالم للفكر الحداثي كمشروع يحاول الخروج بالمجتمع العربي من نفق الأزمة التـــي يعيشها، ومن خلال السعي لتشكيل معالمفكر حداثي واضحة المعالم لدى الفرد الذي يتبنى الرؤية الحداثية تأتي هذه الأسئلة:
1- ماذا يعني لديك أن تكون حداثيا؟
الحداثة كمصطلح برز في الساحة الثقافية العربية، يثير الكثير من الإشكالات المتعلقة أولا: بالبيئة التي انبثق منها، وثانيا: بالمدلول المفهومي الذي يحيل إليه. ورغم هذا الكم الكبير من الآراء المتضاربة حول مشروعية ومدلولية هذا المصطلح ـ خصوصا بعد مجيء مصطلح ” ما بعد الحداثة “، فقد اتخذت لنفسي تعريفا إجرائيا أحاول أن أجعل منه ممارسة عملية فكرية. فالحداثة في سلوكي اليومي رؤية وموقف.
رؤية تستمد أفقها البعيد من كل الكتابات والنظريات المعاصرة المتجاوزة للأطر الكلاسيكية التي ظلت ترسخ قواعدها الجامدة في كل موطئ قدم، وهذا الاستمداد الفكري يتجاوز الطرق التقليدية التي تتلقى الأشياء بقدسية انبهارية، تقع أسيرة لمنتجاتها الفكرية، وهذا التجاوز يضعني دوما في الضفة الأخرى، لأطلق سهامي النقدية التي تحاول تفكيك وتقويض ما كان مبنيا أو ما يحاول أن ينبني بداخلي من مسلمات ومتعقدات إيدلوجية .
إنها رؤية تعيش دوما قلقا معرفيا ينظر دائما إلى الأمام.وهي موقف عملي يرتبط بشعائرية ما كنت أظنه حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش، ويرتبط أيضاً بالكيفية التي أزاول بها أنشطتي الثقافية في البيئة الاجتماعية والمهنية التي أعيش فيها وأرفض أن أتنفس هواء أفكارها.
و إنها موقف يستمد من الرؤية ما يجعلني في حالة خصام دائم مع الفاعلين الاجتماعين، الذين يمثلون سلطات قمعية ضد كل من يحاول أن يكون خارج سلطتهم.
ومن خلال الموازنة مابين الرؤية والموقف تبرز شخصيتي .
2- هل كون الفرد مسلما حداثيا يتعارض مع الممارسة العملية للإسلام كأيدلوجيا؟
أقدر دقتك الفكرية في طرح السؤال ، بشكل يستفسر عن التعارض بين الذات المسلمة والممارسة العملية لفكرة الإسلام ، بدلاً من الإسلام ذاته.
ولكن اسمح لي أن أعتبر السؤال قد طرح في البداية بشكل تقليدي على النحو التالي :
” هل هناك تعارض بين الإسلام وفكر الإنسان الحداثي ؟
هذا الطرح سيتيح لي توضيح نقطة في غاية الأهمية .ـ أظنك قد تجاوزتها منذ مدة ـ فمحاورتك اليوم معي ـ كما أفهم ـ هي محاورة إشكالية، لا استفهامية.
إن صيغة السؤال المعدل تفترض وجود إسلام لا تاريخي يعيش فوق الزمان والمكان ، ويبتعد عن الممارسة العملية ، وهذا النوع من الإسلام لا أقبل ـ الآن ـ مناقشته لإني لا أؤمن بوجوده أو على الأقل لا أستطيع أن أراهن عليه، فكل ما هو مطروح من مماحكات تستمد رؤاها من هذا الإسلام التاريخي المؤدلج، ولا علاقة لها بهذا المفهوم النظري الذي تحاول أن تثيره بعض العقليات التبجيلية، إذن ما سنتحدث عنه هنا هو التجربة الإسلامية التاريخية ، لا الرمزانية الإيحائية لمحتوى الوحى التي تشكل رأس المال الرمزي لكل الحركات.
لنعد لسؤالك، ونناقش إمكانية وجود هذا التعارض، بشكل مباشر، يمكن القول إن هذا التعارض موجود وبشكل واضح بين هذين الانتماءين. انتماء المسلم إلى الحداثة، بالمفهوم الذي أتبناه، والانتماء إلى الممارسات الإيدلوجية للإسلام، بل إن هذا التعارض يكاد يشكل تقابلا حادا بين الاتجاهين، فكون المسلم حداثيا يعني أنه يرفض الهالات القداسوية لكل الممارسات التاريخية لـلإسلام، بل ويرفض كل الثوابت المنتجة من العقليات التي تبنت الإسلام كأيدلوجيا، وبتعبير أكثر شمولا إنه يعني الوقوف من هذا الكم الهائل المنتج الذي يردف دائما بمشتقات الإسلام وقفة نقدية إشكالية تشكيكية، وهذا يتطلب حفرا أركولوجيا يعري كل الممارسات من فاعليتها المخدرة، من أجل إعادة بناء هذا المنتج الثقافي الضخم، وهذا يستدعي نزعا لكل الأقنعة التقدسية المغلفة للرموز.
وهذا الطرح ما لا يمكن أن يقبله الممارسون للإسلام ، لا ، لأنهم يرفضون مكتسبات الحداثة ولكن لأنهم عاجزون عن هضمها، إنهم مازالوا يفتقدون هذه النظرة التاريخية، ومازالوا يعيشون مخلفات الحروب الدينية الطائفية، وهذا ما يجعل خطاباتهم للماضي دائما تتسم بالتبجيل البعيد عن الممارسات النقدية التي تتيح للإنسان أن يرى الأشياء خارج دائرته الذاتية . إنهم غير مدركين أن الواقع التاريخي الذي يحضر دائما في خطاباتهم في صورة صراع، قد تحول منذ زمن بعيد إلى نصوص، نحتاج في قراءتها إلى منهجية علمية حديثة تتيح لنا مقاربات نقدية أكثر تمثلا واستيعابا لهذه النصوص. من جانب آخر، هناك الاعتقاد اليقيني بوجود الحقيقة المطلقة المحتكرة لدى هذا التيار، وهذا لا يتفق أبدا مع مبدأ التعددية الفكرية والحقيقة النسبية غير المملوكة التي يعتقد بها الفكر الحداثي.
3- لو شئنا أن نعقد تقابلا ما بين الإطار الأيدلوجي الذي كنت تعيش فيه والإطار الحاثي الذي تحاول التموضع فيه الآن، فما هي نقاط التقابل ؟
التقابل بين هذين الإطارين تقابل بين نظامين مختلفين، نظام أيدلوجي تسيطر فيه (الفكرة ) ونظام ابستملوجي (معرفي ) يسيطر فيه ( المنهج ) الذي يولد الفكرة والفرق بينهما شاسع كبير.
عندما كنت بالمرحلة الثانوية والسنوات الأولى من الجامعة أتلقى الشحن الأيدلوجي المفعم بالحماس الثوري ، لم تكن الرؤية واضحة بعد ، فقد كانت تحركني مجموعة من الأفكار الدوغمائية المغلقة التي لا تستطيع أن تحفر لها قواعد سليمة، ولم تكن مسألة كيفية نشؤء الأفكار وتأثيرها في نفسيات وعقليات المتلقين لها قد اتضحت بعد عندي، لذا فقد كنت أحاكم الأشياء من حولي وفقا لهذه الأطر المستمدة كلها من أدبيات التيارات الإسلامية التي انبثقت منها، وهنا لابد أن أشير إلى أن هذه التيارات لم تكن تمثل جمودا تقليديا كما هو الحال بالنسبة للجماعات السلفية، بل كانت تمثل أقصى التيارات الإسلامية حداثة في نظريتها وتأويلها للإسلام، إلا أنها لم تكن ترقى لتكون لها نظاما معرفيا حداثيا، وذلك بسبب كثرة التناقضات الابستملوجية التي تحملها وعدم قدرتها على هضم مكتسبات الحداثة.
ربما يكون هذا الانتماء الأيدلوجي الذي وُجدْتُ فيه المهد لخروجي من الإطار الأيدلوجي إلى الإطار الحداثي. إن المرحلة السابقة حقا كانت تجربة مفيدة بالنسبة لي تمثلت _فيما أتصور _ أجمل وأفضل ما فيها وهذا ما قد أكسبت شخصيتي نمطا خاصا ، يعده البعض نوعا من (الازدواجية ) السلوكية المعرفية.
أعود مرة أخرى لأتحدث عن هذا الإطار الحداثي الذي أحاول أن أتموضع فيه ، فقد بدأ هذا الإطار في التشكل في السنة الأخيرة لي في الجامعة، وقد أخذ ينمو بعد ذلك ويتطور في صورته الحالية نتيجة لالتقاء أمرين. الأول هو الهم المعرفي التجديدي الذي ظل يلازمني ويتطور ببطء طوال مرحلة التكوين الأيدلوجي، والثاني هو التقاء هذا الهم بالكتابات الفكرية الحداثية، وقد بدأت بكتابات الجابري حول بنية العقل العربي وتطورت بشكل ملحوظ بالاصطدام مع كتابات محمد أركون حول (نقد العقل الإسلامي ) الذي وجدتُ فيه ضالتي المنشودة .
مع هذا الكتاب بدأتُ الرؤية الحداثية لبنائي الذاتي تتضح بصورة قوية جدا، وأصبح القلق الذي يراودني دائما وأنا أفكر في شق طريق جديد يفتح لي أفاقا معرفية جديدة تتعلق بالموروث الإسلامي الأقل حدة.
من هذه الرؤية الحداثية للعقل الإسلامي بدأت أشكل إطاري المعرفي ، فأصبحت نظرتي إلى الأشياء أكثر اتساعا وانفتاحا، وأعمق فهما، وشرعت أعيد بناء ذاتي وأصيغ علاقتي بالأشياء صياغة جديدة، لا تقبل التسليم، ولا تعرف مكانا ممنوعا من التفكير، في هذا التموضع الحداثي أجد نفسي مهموما في البحث من جديد في كل المسلمات اليقينية، وقد فتح لي الاطلاع على منجزات العلوم الإنسانية الحديثة، بابا واسعا، لإدخال كل المواقف والاعتقادات والممارسات اليومية إلى ميدان البحث من أجل الخروج بنسق جديد يربط كل هذه المدخلات بعلاقات علمية تستمد مشروعيتها من آخر اكتشافات هذه العلوم.
4- ما هي القطعيات المعرفية التي تخلفها الحداثة كنظام ابستمولوجي راهن مع الفهم السائد للإسلام؟
ينبغي هنا الالتفات إلى أن الحداثة لا تعني أبدا قطيعة معرفية مع المورث، بل على العكس من ذلك فالحداثة تبدأ من قراءة الموروث، ولكن بشكل مختلف.
الأطر الابستملوجية الحديثة تقترح مقاربات علمية معاصرة، لمعالجة المسائل التراثية، وهذه المقاربات تستمد وجودها من مختلف إنجازات العلوم الإنسانية الحديثة التي طورت الكثير من الأدوات العلمية المستخدمة لقراءة التراث.
ولكون الإسلام يتاقطع في قسمة الأكبر مع هذا التراث، فقد أصبحت القراءة الحديثة للإسلام ، تستلزم تعمقا كبير ا وواسعا لتاريخ الحضارة الإسلامية، ولن تتم هذه القراءة بدون أدوات علمية حديثة تؤمن للقارى ء على الأقل الحد الدنى من الموضوعية والانفصال عن الذات . وهنا يمكن أن نرصد _معتمدين على هذه الأدوات _ مجموعة من القطعيات المعرفية مع الفهم السائد للإسلام.
أولى هذه القطعيات، تتمثل في تعرية جوانب القداسة المحيطة بالأفكار المربوطة بالرموز البشرية، التي ظلت لفترات طويلة تمارس فاعليتها في نفسيات وعقليات المتلقين بصورة عاطفية غير مدركة لحقيقة وكيفية ولادتها. وهذه القطيعة تتطلب حفرا أركولوجيا في كل المنظومات الفكرية والشعائرية الممارسة في الوقت الحاضر كثوابت لا يمكن الخروج عليها. ولن يتم ذلك دون حدوث انشراخات حادة ومؤلمة في نفسيات الجماهير التي لا تحب أبدا أن تصطدم بالحقيقة وتفضل الترضيات النفسية.
وثاني هذه القطيعات تتمثل في فتح ساحات التفكير المغلقة أو كما يعبر عنها أركون ساحة “اللا مفكر فيه” هذه الساحات تزداد يوما بعد آخر بسبب هيمنة الروح القداسوية المفروضة من قبل المجتمع ورموزه الدوغمائية ، لقد كانت هناك حركة علمية نشطة إبان عظمة الحضارة الإسلامية ولم تكن هذه الحركة تغلق ساحات التفكير ، بل على العكس من ذلك كانت دوما مسكونة بهاجس البحث والمساءلة للمناطق المحظورة التي تمثل مسلمات اجتماعية صاغها المتخيل الجماعي.
إننا اليوم بحاجة لفتح ساحات النصوص المحظورة، من أجل إعادة قراءتها من جديد في ضوء هذا الكم الهائل من الاكتشافات المنهجية الحديثة.
هاتان القطيعتان هما الطريقان لاستشراف فهم جديد للإسلام يتجاوز البعد الاختزالي الذي يحصر تأويل لإسلام في مجموعة من الممارسات السلوكية المتشددة والقناعان الفكرية المنغلقة، التي تتخذ لها فيما بعد تطبيقا اجتماعيا يولد تنميطا سلوكيا يحُاكم من خلاله الأفراد. و قد قلص هذا الاختزال البعد الثقافي الروحي للإسلام، كما هو حاصل في أغلب الكتابات الموجودة الآن البعيدة عن البحث عن روح الإنسية العالمية في موروث الإسلام الثقافي، وتحول الأمر إلى البحث عن الفرقة الناجية من النار باستدعاء مجموعة من النصوص المقروءة قراءة أيدلوجية.
5- ما هي الخطوات الأولى برأيك للدخول إلى عالم الحداثة كمشروع فكري راهن؟
سؤال بهذا المستوى من الضخامة، ليس بمقدوري الإجابة عنه، لاعتبارات عدة، يأتي في مقدمتها، وضعيتنا نحن الثقافية وأعنى بـ “نحن ” الجماعة المنبثقة من رحم التيارات الإسلامية التي ظلت لفترة طويلة تتشبع بروحها، و تبني أفكارها، إنها أنا وأنت وبقية الشباب الذين يتقاطعون معنا في هذا الخط الحداثي المبني على إرث الأيدلوجيا الإسلامية.
فنحن ما زلنا في طور التشكل ، وما زالت الرؤيا بعد لم تأخذ نسقها المنظم الذي يتيح لها أن تبرز كمشروع قادر على الظهور_ على الأقل _في ساحتنا الثقافية التي تعج بمختلف التوجهات.
إن وضعية ثقافية كهذه لا يمكن لها أن تقترح مشروعا متكاملا لدخول هذا العالم الحداثي ، هناك الكثير من الطروحات المقدمة من قبل كبار المفكرين في العالم العربي، تتعلق بدخول عصر الحداثة بل بعضها تجاوز ذلك للحديث عن عصر ما بعد الحداثة ، ورغم ذلك ، فما زالت هذه الطروحات متعثرة وغير قابلة للتنفيذ، وبعضها يعاني من أخطاء منهجية وضعف تشخيصي لأمراض الواقع .
نعم يمكن الحديث عن هذا العالم الحداثي من زاوية ضيقة تتعلق بوضعيتنا الثقافية الإسلامية ، و لتكن الشيعية بصورة أضيق و لنتخذ الساحة البحرينية نموذجا.
الملاحظ هنا وجود نمطين ثقافيين يختلفان في الدرجة فقط ، و يتفقان في الآلية المنتجة لكل منهما. هناك النمط التقليدي المحافظ جداً ، و يمثله رجال الدين القدماء، وفي هذا النمط تختفي الطروحات السياسية والتجديدات الفقهية، ويكاد ينحصر هذا التيار في كبار السن.
وهناك النمط الثاني وهو الأكثر شهرة واتساعا، والأكثر راديكالية ، و رغبة في تغيير الواقع، وهذا التيار يسعى لإكساب الأحكام الشرعية صفة عصرية عن طريق التأويل البسيط أو عن طريق توسيع ساحة الطرح ؛ ليدخل المستجدات العصرية ساحة الأحكام الفقهية، و يتلقى هذا النمط مصادر ثقافته من الرموز الثورية لرجال الدين _ فالساحة تعاني من شحة المنظرين الأيدلوجيين _ ويضم تحت لوائه مختلف القطاعات المتعلقة بمختلف تخصصاتها، ويتراوح أتباع هذا الخط في درجة التشدد والانفتاح ، ولكن يجمعها شعار واحد هو “الإسلام هو الحل الوحيد ” أو ” الإسلام هو البديل “.
إن هذا الشعار الذي يستمد منه محركو الجماهير الطاقة لتجييشها ، لا يتم تحليله وتفكيكه بصورة عقلانية مقنعة تستطيع الصمود أمام الاعتراضات والإشكالات النقدية ؛ لذا فهم يكتفون بتركه فضفاضا، ليدغدغ مشاعر جماهيره .
إن هذا التيار رغم كل تناقضاته الابستمولوجية ، و تشدداته الأيديولوجية، إلا إنه يمكن الدخول في حوار معه من أجل تطويره ودفعه للأمام، وتجربتنا هي خير دليل على ذلك، فقد استطعنا أن نهضم مقولات الحداثة ، ونبلور خطا جديدا يصعب الآن إطلاق أي تسمية عليه.
إذن فالرهان الذي يمكن أن نساوم عليه هو هنا في هذا التيار . إننا لا يمكن أن نرفض كل ممارسته الاجتماعية، فالحداثة لا تعنى الرفض أبداً، ولا يمكن إحداث قطيعة معرفية أو وجودية كلية معه، فالموقف الحداثي يفرض فينا قدرة على التعايش معه من أجل تحليله وتفكيكه بطريقة عقلانية بعيدة عن اتخاذ المواقف الانفعالية المتشددة.
إذن فدخولنا عالم الحداثة يبدأ من هنا، الاشتغال على كل هذه المعتقدات المترسخة في المتخيل الجماعي لأفراد هذا التيار وهذا يتطلب منا قدرة على تحديد الآليات المعرفية التي تنتج هذا المتخيل وتغذيه.
6- من خلال حديثي معك حول الحداثة وهمومها، تبين لي أنك تعرضت لبعض الحملات القاسية حول توجهك الجديد فما موقفك أمم هذه الحملات؟
حين تكلمت عن الإطار الأيديولوجي الضيق الذي يميز غالبية الحركات الإسلامية، أشرتُ إلى صعوبة الخروج من سور الأفكار المغلقة التي تكون هذا الإطار، لذلك يمكن القول أن الأحادية تعتبر صفة أساسية لهذا الفكر. من هنا فالخروج يعني المجازفة والمغامرة _ لا بالرأس فهذا لم نصله بعد _ ويعني أيضا التنحي عن الدور التنويري الذي يمكن أن تمارسه مع أي عقلية كانت.
لقد عشت فترة ومازالت أخاف من البوح بحقيقة الرؤية المتشكلة لدي ؛ لذا فقد كنت أقرأ وأفكر وحدي ، أحيانا كثيرة كنت التقي ببعض من يحملون التوجه نفسه ، وهم قلة قليلة جداً نتبادل النقاش لساعات طويلة، لقد كان لهذه النقاشات أثرها الكبير في بلورة الكثير من المواقف العملية والفكرية.
ورغم هذه المحاولات لإخفاء حقيقة التوجه الجديد ؛ فإن خيوطا كثيرة بدت تتسرب الأمر الذي يضطرني في أحايين كثيرة _ بسبب المراهقة الفكرية _ إلى الخوض في جدال عقيم مع الممثلين الاجتماعيين للفكر المتأدلج ، وهذا ما سبب لي إحراجات كثيرة اضطرتني إلى الانسحاب من ساحة العمل، لأعكف على ذاتي من أجل استكمال بقية المسيرة التغيرية .
وكم كنت موفقا حين التقيت مجموعة من الشباب الذين يحملون التوجه نفسه، وأنا مازلت مصرا على المضي في الطريق نفسه.
7- إلى أي مدى يمكننا هنا في مجتمعنا مقاربة الرؤية الأركونيه كرؤية حداثية تتلمس المناهج الألسنية والعلوم الإنسانية بغرض الخروج بالفكر العربي من مأزقه؟
الرؤية الأركونية لمسائل التراث الإسلامي ، تعتبر من أحدث المشروعات النقدية الحديثة في العالم الإسلامي ،ولست أعرف باحثا ذا أصول إسلامية ،يعيش هم التغيير ،والإنتاج في مجال العقل الإسلامي كأركون ،فأنا شخصيا لا أستطيع أن أخفي إعجابي به ،ولا يمكنني أن أخفي الثأثير الكبير الذي أحدثه في منهجيتي العقلية التي باتت تدين له بالكثير .
أرجو ألا يفهم من هذا الإطراء ،إنني أقف من أركون موقفا تبجيلياً تقديسيا، فهذا ما لا أقبله أبداً ،وما لا تقبله منهجية أركون أصلا ،إنها ترفض تقديس الأشخاص والأفكار ، والاستسلام للطروحات الفكرية دون تمعن وتحض على التعامل النقدي دائماً ، مع الأشياء،لذا ففي الوقت الذي أبدي فيه إعجابي الشديد بتوجهات هذا الرجل فإنني أمارس النقد _معكم_ ضده ،وأقرأ بتلهف الدراسات النقدية الموجهة لمشروعه.
ينبغي هنا الالتفات إلى أن التطبيقات الأركونية للمناهج الألسنية والعلوم الإنسانية على مسائل الفكر الإسلامي ،لا تستمد أصالتها من إبداعاته الذاتية ،فأغلب النظريات والمنهجيات والأدوات العلمية التي يستخدمها ، هي من صنع كبار الفلاسفة الأوروبيين أمثال”فوكو وهيدجر وباشلار ودريدا” وأركون إذ يقوم باستثمارها في مجال التطبيقات الإسلامية ،فإنما يقوم بنوع من أنواع التناص الفكري الذي يساعده على توفير مدخل كلي يفيد من كل الإنجازات المنجزة في مختلف العلوم ،وهذا لا يعني أبداً غياب كلي لشخصية أركون لأنه يتمثل هذه المنجزات ويعيد صياغتها من جديد في صورة حديثة ،وهذا ما يتفق مع نظريات التناص الحديثة التي ترفض فكرة الإبداع الخالص النقي.
لنعد مرة أخرى للرؤية الأركونية،وكيفية الإفادة منها في الساحة العربية ،الرؤية الأركونية لا تختلف عن بقية الرؤى المتبنية من قبل كبار المفكرين في العالم العربي كثيراً فكلها يدعو إلى التحديث ،ولكن الرؤية الأركونية تتميز عن الكل في أنها أولا تفيد بشكل مباشر من تطورات العلوم الإنسانية في الغرب وذلك بحكم وجود صاحبها في فرنسا وكتاباته الفرنسية وثانيا أعادت الاعتبار ووجهت الاهتمام إلى مسألة الدين هذه التي حاولت أغلب التيارات تجاهلها ،وعودة أركون لمسألة الدين وبحثه الدائب في تأثير الإسلام في عقليات ونفسيات المجتمع الإسلامي ،أكسب مشروعه خصوصية معينة لم تتوافر في المشاريع النهضوية ،خاصة إذا وضعنا في عين الاعتبار الكيفية التي تمت بموجبها هذه المعالجة .
من هنا فإن الاشتغال مع هذه المقاربة الأركونية –فيما أعتقد- هي أفضل مشروع يمكن أن ننخرط فيه ،وهذا ما أحاول رغم الصعوبات العلمية التي تعترضني ، والانخراط في هذا المشروع لا يعني أبداً تبينه بشكل حزبي أيدلوجي يدفع بنا إلى الدخول في المهاترات والمماحكات الجدالية غير المفيدة ، فنحن أحوج ما نكون إلى الاقتراب أكثر من التيارات الأخرى والدخول معها في حوارات نقدية تطور من كل المشاريع ،وهذا يتطلب منا أولا تطوير مهاراتنا وقدراتنا الفكرية ؛ لنستطيع هضم هذه المكتسبات الحديثة، فنحن ما نزال في بداية الطريق ،ومراهقتنا الفكرية ما تزال بعد لم ترق إلى مستوى الاشتغال العلمي الخالص .
8- هل لديك خطة واضحة تعمل من أجلها لبلورة معالم حداثية مختلفة تطرح فيها خصوصيات وضعنا الحالي؟
لست لي خطة بهذا الحجم ،ولا أستطيع أن أزعم إمكانية أن تكون لي مثل هذه الخطة، ولكن لدي تــــوجه طموح نحو( تحديث الثقافة الإسلامية ) بشكل عام والشيعية بشكل خاص ، وأرجو ألا يفهم من ذلك ، إني ما زلت أسير هذه التسميات الأيدلوجية. كما أن هذا الاهتمام الخاص لايكشف عن عقلية ما زالت تعيش بمفاهيم قروسطية، بل على العكس من ذلك ، فالاتجاهات الحديثة غالبا ما توجه بؤرة اهتمامها نحو الهامش الذي يظل خارج دائرة الاهتمام الرسمي، وأعتقد إن الثقافة الشعية مازالت تعيش على الهامش، وما زالت مبعدة عن دائرة الاهتمام البحثي وقليل هم الذين برزوا لتحديثها وتطويرها ودراسة ما فيها من خصوصية، وأنا أتحدث عن هذا الجانب المهمل، لا أبشر بإمكانية اكتشاف جزء جديد من العقل الإسلامي فجميع المذاهب الإسلامية تلتقي إلى حد كبير في آليات تفكيرها العقلية ولكنها ربما تختلف فقط في المصادر المغذية لهذه الآليات، إذن ما الجدوى من البحث في هذا الجانب؟
لاشك إن للمخزون الثقافي التراثي الشيعي، أثره الكبير في خطابات الفاعلين الدينين وله أيضا وقعه الخاص عند المتلقين المؤمنين وهذا الموروث إذا لم يتم دراسته وفقا للمناهج الحديثة من أجل استثمار ما فيه من نقاط قوة وتجاوز أخطائه المعرفية، فإنه سيكرس مزيدا من التخلف وسيبقى مصدرا غير نقي يغرف منه الخطباء مادة لخطبهم الني تستحوذ على الكثير من الناس.
من الجانب آخر فنحن لا نستطيع تجاوز هذا التراث وإغفاله ونطلب من الناس أن يبحثوا لهم عن ثقافة حديثة تتناسب مع معطيات هذا العصر، لأنهم يعيشون هذا التراث ويتنفسونه في كل ممارساتهم اليومية، ويتحرك فكرهم وفقا لآلياته، كما أنه مصدر من مصادر اعتزازهم وافتخارهم، أضف إلى ذلك الدراسات الأنثروبولوجية التي تؤكد أهمية فهم سلوك وعادات الناس من أجل التأثير فيهم، والتأثير هنا لا يتم من أجل استغلالهم بل من أجل تطويرهم. وبعد هذا كله فهذا التراث فيه الكثير من الصفحات المشرقة التي ينبغي التأكيد عليها.
لنعد مرة أخرى إلى موضوع الخطة، فأنا شخصيا مولع بهذه الدراسات وأسعى جاهدا لتفهم مناهجها، ولكن تبقى مسألة التخصص العلمي في الدراسات العليا حاجزا يحول دون التركيز ومع ذلك فأنا أسعى إلى البحث عن هذه الاهتمامات مع مجال التخصص الرئيسي خصوصا أن الحواجز الفاصلة ما بين العلوم بدأت تتلاشي، لتلتقي مختلف التخصصات في مصب واحد