إبراهيم شريف سيرة الأرقام

إبراهيم شريف

تحضر في سيرة إبراهيم شريف سيرة الأعداد أكثر مما تحضر سيرة الكلمات، أحبَ الأعداد، وتمثل روحها الدقيقة، وصرامتها المنضبطة، وإيجازها المختصر، وحقها المنصف، ودلالتها على الحقيقة، ولعبتها الذهنية، جعل سيرته عدداً مفتوحاً على الحياة، فكان رقماً يصعب تجاوزه.

حضور الأعداد في سيرة إبراهيم شريفة، أحالني إلى احتفاء الفلسفة الفيثاغورثية بالأعداد، وكان أخوان الصفا خير من تمثل هذه الفلسفة في رسائلهم. لقد كانوا يرون أن الروح عدد متحرك ذاتياٌ ينتقل من جسم إلى آخر، وأن كل الأشياء أعداداً، وأن صور الأشياء مطابقة لصور العدد، وأن الأشياء كلها تركبت بحسب طبيعة العدد، ولمكانة العدد التي يعوِّل عليها أخوان الصفا في فهم العالم، كانوا يعبرون عنه بمجازات: مفتاح العلوم، والحاكم الأعظم، ومصباح المتفلسفين، وهلال العارفين([1]).

لقد ظل إبراهيم شريف، يحتفي طوال سيرته بروح الأعداد، ويرى السياسة من خلالها، كيف تُصرِّف شؤون الناس بالأعداد؟ كيف تحل مشاكلهم الإسكانية بالأعداد؟ كيف تكشف فساد العالم بالأعداد؟ كيف تفضح غير الشرفاء بالأعداد؟ من غير العدد لا يمكنك أن تملك مفتاح السياسة، ولا أن تحكم عالمها بحكمة الفلاسفة، ولا أن تدير لعبتها المخاتلة بالكلمة.

كان أخوان الصفا يرون أن مهمة العدد تتمثل في أنه يحدِّد لنا النسبة الشريفة التي وفقها ينتظم العالم وأشيائه بالجمال والعدل والحكمة. متى فقدت هذه النسبة فقد العالم جماله وعدله وحكمته وشرفه. وهذه النسبة الشريفة هي تماماً ما شغل سيرة شريف. كان يريد لهذا العالم أن يكون بالأعداد وفق هذه النسبة الشريفة، كي يكون العالم وطناً يحتفي بالعدل والجمال والحكمة.

§ الاقتصاد المكثف

أحبَ الأرقام وأحبَ السياسة، الأرقام جعلته سياساً ملتزماً، والسياسة جعلته رقماً متحركاً، الأرقام فتحت له الحياة المصرفية، فكان الرجل الثاني في بنك طيب من غير أن تكون لديه شهادة أكاديمية، لمح البنك في عينيه ضوءاً يشير إلى برعاته في ملاعبة الأرقام، كانت ساحة البنك ملعب تحدِّيه، فسجَّل فيه إنجازاته الرقمية في الاقتصاد.

لقد تمثلت سيرة إبراهيم شريف مقولة “السياسة اقتصاد مكثف” فراح يفهم السياسة من خلال الاقتصاد، الاقتصاد كما يتجسد في قيم الحق والعدل، وهي القيم التي تحكم علاقات الناس وتحقق استقرارهم السياسي، وجمالهم الوجودي. ظل مشغولاً بهذا الاقتصاد، يفكر فيه من خلال الناس، ويقترح حلوله من خلال الأرقام، يقول إبراهيم: “أحد الشباب البسطاء العاملين في موقف سيارات مستشفى السلمانية أوقفني ذات يوم من عام 2005، على خلفية مقابلة أيَّدتُ فيها فكرة السكن في الشقق بديلاً لأزمة السكن، فقال “يا أستاذ أنت تطالب بأن نسكن في بيوت الحمام – يقصد الشقق- وهم ينهبون الأراضي”. مساء ذلك اليوم ذهبت للبيت وأنا مهموم بما قاله الشاب فجلست وبجانبي آلة حساب، وأجريت عملية حسابية حول مساحة الأراضي المطلوبة لإعطاء أرض لكل عائلة بحرينية، فوجدت بأن المساحة لا تتعدى 30 كيلومتراً مربعاً، أي أقل من نصف أراضي البحر المدفونة خلال الثلاثين عاماً الماضية. استنتجت، كما استنتج الشاب البسيط قبلي، بأنه لا يوجد نقص في الأراضي ولكن ما هو موجود لدينا هو فساد واحتكار في توزيع الأراضي وجشع لا حدود له لدى بعض المسؤولين. تقديرنا هو أن الفاسدين يستولون بغير حق على ألف مليون دينار سنوياً، ولو استطعنا أن نوقف الفساد في الحكومة فإن دخل كل عائلة بحرينية متوسطة أو محدودة الدخل سيرتفع بمقدار 15 ألف دينار سنوياً”

§ حليب السياسة

عاش إبراهيم شريف أجواء محرق الستينيات حيث يتقن الإنسان درس السياسة مبكراً، ويرضعها مع حليب والدته. السياسة في هذه البيئة تعني أن تكون عروبياً مناهضاً للمستعمر البريطاني، يقول إبراهيم عن حضور هذه البيئة في سيرته: “عندما يكون منزل عائلتك لا يبعد إلا بضع مئات من الأمتار عن القاعدة الجوية البريطانية RF (الآريف) فإن احتكاكك بالمستعمر يكون حدثاً عادياً ويومياً. في كل نزهة (كشتة) لأهل المحرق للبرك المنتشرة على ساحل قلالي والدير يخترق الباص منطقة الآريف “المحتلة” فترتفع أصوات النسوة والأطفال لإغاضة الإنجليز بصيحات “يسقط يسقط الاستعمار” و “الله أكبر فوق كيد المعتدي” و “يعيش جمال عبدالناصر”. في هذه البيئة الوطنية كانت لي التجربة الأولى الميدانية في شهر مارس الخالد من عام 1965 حيث خرجت مدارس المحرق عن بكرة أبيها، وكنت آنذاك طالباً لم يبلغ الثامنة من عمره بمدرسة خالد بن الوليد، خرجنا جميعاً في تظاهرات عارمة تأييداً لعمال بابكو بعد تسريحهم من الشركة البريطانية”.

§ فريج التعدد

ولد إبراهيم شريف عام 1957 بفريج محطة السيارات القديمة في المحرق (فريق استيشن)، كان الشخص في المحرق يولد على فطرة التعدُّد العرقي والمذهبي، وليس لديه الخيار ليكون شيئاً واحداً في دينه أو عرقه أو مذهبه، وجد إبراهيم نفسه في مدينة يضيع فيها كل شيء، ولديها القدرة على استيعاب كل شيء، وعائلة السيد شريف استجابت بسرعة لحس هذه المدينة، لم تجعل المدينة على صورتها، بل صارت هي على صورة المدينة.

جاء الجد الأكبر من قرية (بهدة) بفارس، قبل 100 عام في بداية القرن العشرين، لا ليضع مولوده في البحرين فقط، بل ليعود به إلى بيئته العربية، حسب الرواية التي تقول إن الهولة قبائل عربية تحوَّلت إلى الساحل الفارسي بفعل الهجرات، وعادت منه إلى بيئتها العربية بفعل الهجرات العكسية.

الأرقام المختلفة يمكنها أن تأتلف متى ما عثرت على نسبتها الشريفة، كذلك الأعراق والأديان المختلفة يمكنها أن تأتلف متى ما عثرت على نسبتها الإنسانية الشريفة. وجدت عائلة السيد نسبتها الشريفة في المحرق، فراحت تأتلف معها وفق نسبتها، فصارت مدينتها وهويتها ومكانها الذي يمنحها معناها.

يقول إبراهيم: “ولدت في عائلة عروبية متدينة والدي ووالدتي ولدا بالبحرين، أمي فاطمة رحمها الله من عائلة المير، ووالدي السيد شريف رحمه الله من عائلة السيد، مع جيلهما بدأ العرق الهولي بالمحرق يستعيد هويته العربية، الجيل الذي ولد في الخمسينيات لم يكن يعرف له هوية غير العربية، جدي سيد عبد الرحيم الذي كان رجل دين يقرأ على المرضى ليتعافوا، كان مؤيداً لجمال عبد الناصر ويقود تياراً عروبياً، وكانت المظاهرات المؤيدة له تخرج من المساجد. كانت اللغة المستخدمة في بيتنا هي العربية، ولم يكن والدي ووالدتي يتكلمان الفارسية إلا حين يريدان أن يقولا شيئاً لا يرغبان أن نعرفه. لذلك لم أعرف أنا ولا جيلي تقريباً اللغة الفارسية، ولم نكن نعي هوية غير العربية لنا. الهولي بالمحرق ليس لديه إحساس بفارسيته، ولن تجد أحداً بالمحرق يقول لك إن أصله غير عربي. كل هجرة كانت تستوعب من قبل السابقة لها، فتستعيد عروبتها. إن هجرة الهولة إلى البحرين أقدم حتى من مجيء آل خليفة، إنها تمتد إلى ما يقارب 300 سنة”.

لم يعش إبراهيم في سيرته صراع الهويات، ولا اللغات ولا الانتماءات، لقد تشبعت سيرته بالمد القومي العروبي، وراح يعي العالم من خلال هذه الهوية. لقد خلقت هذه الهوية مبكراً نسبتها الشريفة التي منحته وجوداً منسجماً في محرق الستينيات.

§ العمة شريفة

تفتَّح وعي إبراهيم شريف على القراءة من خلال عمته شريفة السيد، معلمة اللغة العربية، كانت تحضر له القصص العالمية قصص همنجواي ونجيب محفوظ ودستوفسكي وتشارلز ديكنز. القراءة في ستينيات المحرق تعني الثورة، من يقرأ يعي ومن يعي يعرف أنه يجب أن يفعل شيئاً، ولم يكن هذا الفعل غير تغيير العالم. على الرغم من أن شريفة كانت قريبة من حس الحركة الوطنية، لكنها لم تفتح أفقه عليها، كانت تكتفي بأن تجعله يقرأ، لم يقرأ إبراهيم مطولات هؤلاء الأدباء العالميين، فحبه للأعداد أفقده نهم القراءة، لكن لم يفقده معنى القراءة، لم يكن يقرأ الكتب من الجلدة إلى الجلدة، وهي عادة ستظل ترافقه حتى مع كتب الأعداد والاقتصاد، كان يقرأ فحاوي الكتب، ويعمل بها.

§ رفقة المدرسة

استوعبت سيرة إبراهيم درس العدد في المدرسة، كان في مدرسة خالد بن الوليد بالمحرق، في المرحلة الابتدائية، وجد نفسه واحداً ضمن خليط مختلف، وكي يكون واحداً ضمن فريق متعدِّد، كان عليه أن يجد (نسبة شريفة) تجعله يأتلف مع هذا المختلف، لقد وجد في الصداقة ما يجعله منسجماً مع هذا الكل، فكان إبراهيم بن فخرو صديق درجه، وكان المحامي محمد أحمد صديق منافسته، تعلم الرقم واحد من منافسته لمحمد أحمد على المركز الأول، ظل محمد يفوقه حتى الصف الثالث، قبل أن ينتقل إلى المنامة.

في الصف الخامس، تغادر عائلة السيد المحرق، وتستقر في السلمانية عام 1966م، فيلتحق بمدرسة العلاء الحضرمي، وهناك يتعرَّف على تجربة جديدة لا تقل في تنوعها عن مدينة المحرق، وهذا ما عزَّز من حضور أشكال التعدُّد في سيرته.

وكي يستوعب تماماً درس (الأول)، راح يبحث في الثانوية عن أكثر مدرسة تضم متفوقين، كي ينافسهم على المركز الأول، فوجد مدرسة المنامة، وهناك يعقد صداقة جديدة مع نادر المؤيد الذي سيكون فيما بعد وكيل وزارة الصناعة. يتصدر إبراهيم المرتبة الأولى على مدرسته في نهاية المرحلة الثانوية، لكنه يكتشف خطأه الفادح في استيعاب درس (الأول)، لم تكن مدرسة المنامة هي مدرسة الأوائل الذين كان يبحث عنهم ليتحداهم، كانت الهداية هي مدرسة الأوائل. لم يكن إبراهيم هو الأول على مستوى البحرين، كان الأول طارق عبد الغفار من مدرسة الهداية، وكان الثاني عبد اللطيف شريف (أخو النائب عثمان شريف) من مدرسة الهداية أيضاً، والثالثة كانت أنثى هي ابتسام العلوي، والرابع كان إبراهيم شريف. ظل يبكي طول ذالك اليوم، لأنه أخفق في درس (الأول).

§ فريق اشتراكي

حين تنتقل العائلة إلى السلمانية، ستشكل السنوات السبع التي سيقضيها في هذه المنطقة قبل رجوعه مع عائلته إلى المحرق على إثر وفاة والدته، خبرات حياتية وثقافية وعملية، لن يكون مصدرها كتاب ولا مدرسة ولا معلم، إنه فريق كرة القدم. لقد أحب إبراهيم كرة القدم حباً كان يغلب حبه للقراءة، ولن يشبه هذا الحب شيئاً سوى حبه للإعداد.

شكَّل إبراهيم فريقه، كان فريقاً خليطاً من مجتمع (السلمانية) العجم والهولة والسنة والبحارنة، من الذين ينتمون إلى عوائل مختلفة، العليوات والمسقطي والسيد والمهزع والمحري. كانت أسماء الفرق الرائجة ذات دلالات سياسة، من نوع: الكفاح والنهضة والوحدة، أطلق إبراهيم على فريقه اسم “التحرير” ولكن الاسم الرائج كان فريق إبراهيم شريف.

سيتولى إبراهيم مسئولية الفريق بشخصيته التي أخذت من الأعداد صفات الدقة والانضباط والالتزام والصرامة، وسيضيف إلى شخصية الأعداد فيه، شخصية أبيه الذي تعلم الانضباط من عمله في بابكو ودراسته في بريطانيا. سيكون إبراهيم بهذه المؤهلات هو الرئيس والمدرب والكابتن وحافظ تجهيزات الفريق.

كان الفريق يأتلف بنسبته الرياضية الشريفة، ويحقق إنجازاته على قدر تمثله لهذه الصفة، هناك عند حوطة (أبل) في المنطقة الأقرب من السلمانية إلى الزنج، كان إبراهيم يتعلم دروس التنظيم والإدارة مبكراً، أتاحت له هذه التجربة أن يتقن دروس تأليف الجماعات المختلفة وقيادتها وفق نسبة روحية مشتركة، كانت درساً في الاشتراكية من غير نظرية ولا أيديولوجية.

§ صدمة بيروت

الرابع على البحرين يصل في 1973 عن طريق بعثة حكومية إلى الجامعة الأمريكية في بيروت طالباً في كلية الهندسة، شكَّلَت له بيروت صدمة حضارية، وهو يرويها على النحو التالي: كنت أصغر طالب في الجامعة إذ إن عمري لم يتجاوز 16 عاماً، مثّلت لي بيروت صدمة حضارية، فلأول مرة أرى تربة حمراء، وطقساً بهذا اللطف، وأزياء بهذا الجمال، واختلاطاً بين الجنسين بهذه الحرية الكبيرة. كان كل شيء مختلفاً، فأنا الذي أقمت يوماً ما الدنيا على أختي الصغيرة التي لبست كعباً رفيعاً، أرى اليوم كل شيء رفيعاً، حتى تنانير الفتيات رفيعة (الميني جوب). كانت بيروت صدمة لشخصيتي المحافظة. لقد فتحت أفقي على حياة جديدة، وكانت أجمل أيام حياتي، لكنها لم تتمكن من فتح سلوكي أبداً، بقيت شخصيتي محافظة في علاقاتها خصوصاً مع الجنس الآخر

كانت بيروت كعبة لجميع التيارات السياسية والأيديولوجية، وحين لاحظ الأخوان المسلمون أني كنت شخصية محافظة في سلوكها، وأني كنت حريصاً على الصلاة، بدأوا يفاتحوني في 1974 بشأن الدخول في تنظيمهم، رفضت بحزم قاطع، ذلك لأني كنت أحمل صورة سيئة عنهم، فسمعة الأخوان في البحرين لم تكن مشرفة، حين كنا نمر بالقرب من نادي الإصلاح، نتحدث باستهجان عنهم، فهم موالون للحكومة ومحافظون ومواقفهم غير مشرفة من الهيئة الوطنية في الخمسينيات.

شكَّل الجانب الثوري في شخصيتي بأفقها الوطني العروبي، حماية لي من الدخول في تنظيم الأخوان المسلمين. ولأني كنت مهيأ لدخول أي تنظيم يحمل هذا الأفق، كانت استجابتي سريعة للعرض الذي تقدم به أحدهم لي للدخول في التنظيم. فدخلت تجربتي الأولى في العمل السياسي المنظم. شاركت في نشاطات الاتحاد الوطني لطلبة البحرين وفي التيار السياسي الواسع الذي كانت تمثله الجبهة الشعبية في البحرين”.

قد سبق جيل إبراهيم هناك، جيل مؤسس، جيل يضم عبد الرحمن النعيمي وعبد النبي العكري، وعبيد العبيدلي، وليلى فخرو.

دخل إبراهيم التنظيم بروحه الانضباطية الالتزامية المنظمة، فراح يعمل بكلّه من أجل رسالة هذا التنظيم، غير أن هناك تحولاً هاماً على المستوى الأيديولوجي، أكسب شخصيته مرونة أكبر، هذا التحوُّل تمثل في انتهاء فكرة العصبية القومية أو الشوفينية القومية العربية، لقد أصبحت الفكرة القومية فكرة أكثر إنسانية وانفتاحاً وتقبلاً للآخرين وأقل حدة، وهذا ما جعل من روحها تناغي روح إبراهيم، فقد كانت شخصيته تحمل التنظيم الملتزم والمنضبط وفي الوقت نفسه تحمل الروح الإنسانية، وهذا ما جعل من روحه منفتحة على اليسار في ثوريتها من أجل إشراك الآخرين في الثروة ومساعدة الضعفاء.

كان انخراطه في التنظيم استجابة إلى روحه العاشقة إلى العمل الجاد والملتزم، لذلك كان حريصاً على حضور الاجتماعات وتنظيم الأتباع والقيام بالتبرعات، وغيرها من الأعمال التي تتطلبها التنظيمات السياسية.

§ جامعة تكساس

بعد الحرب الأهلية في لبنان نقلت الحكومة الطلاب إلى جامعات تكساس بالولايات المتحدة، فتمت إعادة تكوين الاتحاد الوطني لطلبة البحرين هناك. في بيروت كان الطلاب المنخرطون في الاتحاد كتلة واحدة في مكان واحد، أما في تكساس وهي أكبر ولاية أمريكية، فقد توزعت الكتلة على خمس جامعات، وكانت الحكومة تقصد توزيعهم، لتشتت نشاطهم السياسي المعارض، يقول إبراهيم: “مع صعوبة الاتصال بيننا إلا أننا انخرطنا في كتلة أوسع فقد ساهمنا مساهمة فعالة في نشاطات منظمة الطلبة العرب. وكان الطلاب البحرينيون في الصفوف القيادية، لم تضف تكساس أفقاً حضارياً جديداً على ما فتحته بيروت، لكنها أتاحت لي أن انخرط أكثر مع القضايا العربية”.

تجربة إبراهيم شريف في بيروت وتكساس، لم تشكِّل له خصومات سياسية وأيديولوجية مع جبهة التحرير التي تمثل الخصم التقليدي للجبهة الشعبية، وذلك لأن الغلبة في هذين المكانين كانت للجبهة الشعبية، على خلاف الأمر في القاهرة مثلاً. مع ذلك لم يخل الأمر من خلاف، لقد اصطدم تيار الشعبية مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في موقفها المؤيد للاتحاد السوفيتي في احتلال أفغانستان، و في وقوفها مع الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (جبهة بوليساريو)، والتي تأسست في 20 مايو/ أيار 1973 بهدف إقامة دولة مستقلة في إقليم الصحراء الغربية.

سيكمل إبراهيم شريف في تكساس تجربته السياسية بفتحها على أفقها العربي، لكنه لن يكمل تجربته الدراسية، في أبريل 1980 أبعدته السلطات الأمريكية بعد أن ضبطت المخابرات الأمريكية معه في طريق عودته من معسكر شبابي ثقافي في كندا، أزراراً تحمل شعار ثورة ظفار وإعلاميات فلسطينية وشيكاً يحمل تبرعات، لقد خضع لتحقيق طويل من عملاء في مكتب الـ إف بي آي، يبدو أن أمريكا كانت تعيش حالة من الهلع بعد انتصار الثورة الإيرانية وقضية الرهائن الأمريكيين في سفارتها بطهران. لقد حُرم من إنهاء سنته الأخيرة في دراسة الهندسة الميكانيكية.

§ 15 يوماً

إن ختم المنع الأمريكي كان قوياً حدَّ أنه لم يتمكن من دخول بريطانيا، كان ينتظره في البحرين، غضب الأب وعذاب المخابرات، يقول إبراهيم: “في يونيو 1980 اعتقلت لمدة 15 يوماً بتهمة الانتماء إلى الجبهة الشعبية، وسحب جوازي لمدة ثلاث سنوات. لكن في مقابل ما كان ينتظرني، كنت أحمل معي مهمة تنظيمية، فالانخراط في التنظيم يعلمك الالتزام بعملك مهما كانت الظروف، كان علي أن أشتغل على تنظيم طلاب الكلية الجامعية بالبحرين، غير أن امتداد تيار الصحوة الدينية لم يُمكّني من إنجاز هذه المهمة”.

§ الأعداد المحبة

في الحديث عن رفيقته فريدة غلام كان إبراهيم متجلياً تماماً ومنتشياً تماماً وفخوراً تماماً حدَّ الإعجاب، كان يقول بكل أنواع هذه التماماً: “لم تكن المهمة التنظيمية هي الشيء الوحيد الذي كنت أحمله معي، فقد كنت أحمل معي حباً دفّاقاً وحيداً، جئت حاملاً من كندا قصة حب فريدة غلام، المرأة الوحيدة التي عرفت معها تجربة الحب والحياة، تعرفت عليها في نهاية السبعينيات في إحدى معسكراتنا الطلابية في كندا، كانت تدرس الرياضيات هناك. حين رأيتها للمرة الأولى كانت مجهدة بسبب مرض التلاسميا الذي ورثه دمها، ووجد في برودة كندا منشطاً فاعلاً له. في 1981 كنت مع أبي نسأل أباها الأعجمي الشيعي، هل تفضل أن نعقد القران عند رجل دين شيعي أو سني، فقال لي: لا فرق عندي، لكن لو نذهب عند شيخ عمر أسهل لنا.

ارتبطت بفريدة بعلاقة ندية، وظلت شريكي في العمل السياسي منذ السبعينيات، وهي مرجعي في كل ما يتعلق بالحركة النسوية. أنا وفريدة عددان متحابان، والأعداد المتحابة عند الفيثاغورثيين هي أعداد قواسم كل منها تعطي مجموع الآخر. كلانا نتقاسم الجد والمثابرة والالتزام والانضباط، ومجموع قواسمنا كان أنا وفريدة. وفريدة بالمناسبة كانت الرابعة على مستوى البحرين. إنها امرأة حديدية على الرغم من ضعف حديد دمها”.

§ العقد المر

مع منتصف الثمانينيات، لم يعد للجبهة الشعبية حضوراً في المجتمع، فتيار الإسلام السياسي اكتسح الساحة كلها، هنا بدأ تاريخ جديد للجبهة، سينتهي التنظيم الحديدي، وسيفقد شكل المسبحة بتراتبيتها الدقيقة، سيدخل مرحة أن يكون تياراً عاماً له أتباعه ومحبوه وتاريخه النضالي وأحلامه التغييرية. لن تكون هناك خلايا، ولن يكون هناك مُنظمُّون جدد.

مع بداية التسعينيات سيتداعى رفاق الدرب في الجبهة الشعبية والتحرير بالتزامن مع حركة العريضة الشعبية إلى اجتماعات ليست سرية لكنها ليست مكشوفة في الوقت نفسه، سيكون بيت إبراهيم شريف مركزاً يحضره الداعمون للعريضة الشعبية، هنا سيصاغ الموقف ويبدأ التفكير في أشكال الدعم، وستكون الأسماء البارزة في الواجهة هي إبراهيم كمال الدين والمهندس سعيد العسبول والدكتورة منيرة فخرو وحصة الخميري وأحمد الشملان، وسيقف خلف هذه الأسماء أسماء أخرى داعمة لكنها غير مكشوفة وغير سرية.

§ حرق السفن

في الغرفة نفسها في بيت إبراهيم شريف، سيدرك رفقاء الدرب من الشعبيين والتحرريين أن عصر الأيديولوجيات انتهى وأن الشموليات لا مكان لها، ستبدأ فكرة تعويم الأيديولوجيا تأخذ مساحة من نقاشاتهم غير السرية وغير المكشوفة، وسيتزامن مع هذا التعويم انفتاح أكثر على الجماعات الأخرى الإسلاميين واللليبراليين والتجار، سيكون الجامع ليس الأيديولوجيا، وليس التنظيم الحزبي الحديدي، لكنه برنامج العمل. وهنا ستتم الدعوة إلى حرق السفن كما فعل طارق بن زياد، على الجبهة الشعبية وعلى حركة التحرير أن يحرقا سفنهم التنظيمية والأيديولوجية، وألا يكون لهم ملجأ آخر غير المستقبل الجديد الذي سيأخذ مسمَّى (التجمع الوطني الديمقراطي). لقد تمَّ بالفعل صياغة وثيقة هذا التجمع في 1998 على خلفية الدعوة إلى هذا الحرق من أجل ولادة جديدة.

—————————————————————————–

[1] ) انظر: أخوان الصفا، الرسالة الجامعة، ج5، ص14،15

اترك تعليقاً