أحببت في هذا العام أن أستعيد إحياء تقليد جميل يعود إلى خمسة عشر عامًا، حين كنت أعمل بشكل سنوي على حصاد ثقافي لأنشطتي وقراءاتي حول ما يجول في الساحة الثقافية. والعودة إليه هنا ليست بغرض المباهاة أو الاستعراض؛ فالحصاد السياسي والثقافي والاقتصادي يحفزنا على مراجعة ذواتنا وإنجازاتنا، بالإضافة إلى مراجعة السنة الثقافية التي مررنا بها، كما يشجع الآخرين على القيام بالعملية نفسها، وربما يحفزهم.
افتتحت هذا العام بقراءة كتاب الصديق الدكتور محمد السلمان “سمات الحكم البرتغالي في الخليج العربي وعمان (1521-1622م)”، وهو كتاب غني يقدم قراءة عميقة لمضيق هرمز الذي كان ميناءً للعالم كله، وعبره كانت تدخل البضائع لتصل إلى الخليج وتمر عبر البحرين والبصرة إلى أوروبا. تفاعلات هنا الهويات والأسواق والسياسات، وما زال هذا المضيق يشكل إلى اليوم أهمية كبيرة بالنسبة للعالم، وأي ضرر أو إي إخلال يصيب هذا المضيق، يمثل تهديدًا عالميًّا، وكأنه رحم العالم الذي منه تنبعث الحياة.
بهذه الخلفية التاريخية التي ترجم فيها الباحث السلمان أرشيف البرتغال، تمكنت من قراءة رواية الصديق أحمد رضي “حنين الخرائط”، وهي رواية تعود إلى العصر نفسه، أي إلى العصر البرتغالي، ويُذكر فيها كيف يفر راسم الخرائط “روبيرو” من أتون الحرب بعد انهزام البرتغاليين، ويصل إلى البحرين في القرن السابع عشر الميلادي، ويلتقي مع جامع وناسخ وصديق الشاعر أبو جعفر الخطي “الغنوي”.تجري بينهما حوارات حضارية معمقة عن الشرق والغرب والاستعمار والشعر والتاريخ والبحرين، وعن الشخصية الملهمة الكبيرة لأبي جعفر الخطي.
لقد كانت تجربة عميقة وجميلة وفريدة، فلعلها من قلة من الروايات التي تحكبك أحداثها من تاريخ البحرين وشخصياته.
لا بد أن أشير إلى أن برنامج “وُرْق” الذي أقدمه على بودكاست الميادين قد أتاح لي قراءة الكثير من الكتب الصادرة حديثا خلال العامين أو الأعوام الثلاثة الأخيرة، خصوصا وأني أظل غالبا مشغولًا بقراءات الكتب القديمة بحكم أبحاثي واشتغالي بقضايا التراث.
وعلى صلة بتاريخ الخليج والبحرين، قدمت ضمن حلقة بودكاست حول كتابٌ “بداية حكم العتوب” للدكتور سلطان القاسمي، حاكم إمارة الشارقة في الإمارات العربية. أحدث هذا الكتيب زوبعةً سياسية، لما قدمه من سردية مضادة لسردية “فتح البحرين” التي تفاخر بها العائلة الحاكمة.
استند الكاتب فيما يمكن أن نسميه صراع السرديات إلى الأرشيف البريطاني، بالإضافة إلى أرشيفه العائلي، فهو ينتمي للقواسم الذين كانوا على خلافٍ شديدٍ وصراعٍ طويلٍ مع العتوب.
يُعتبر هذا الكتاب فتحًا في هذا المجال لسببين؛ أوّلًا لأن كل ما لدينا من روايات حول غزو آل الخليفة للبحرين تحمل شيئًا من التشويش والنقص، وثانيًا لكونها روايةً من حاكمٍ عربيٍّ على مستوى الخليج وتؤيد ما يتبناه السكان الأصليون للبحرين.
وعلى صلة بصراع السرديات، قدمت حلقة بودكاست تحت عنوان (لماذا تكره السلطات البحرينية الصحابي صعصعة بن صوحان؟ ولماذا يحبّه شعب البحرين؟)
والجواب هو لأنه يذكرها بكذبة سردية الفتح التي بنت عليها تاريخها، كما أنها للسبب نفسه كرهت وانزعجت من كتاب القاسمي، لذلك سعت لمنع الكتاب ومنع الناس من الوصول إلى مقام صعصعة بل قامت بغلق بوابته بالطوب وشككت في صحة مدفنه هنا.
مسجد صعصعة بن صوحان، هو واحد من المعالم التاريخية في منطقة عسكر في المحافظة الجنوبية، والشاهد التاريخي على أصالة البحارنة وأسبقيتهم في البحرين قبل غزو آل خليفة والمذابح التي قاموا بها.
ولعلها من المصادفات العجيبة أن يرى النور هذا العام ديوان الشاعر البحراني السيد شبر المشعل (ت ١٨٨٠) بعد أن كان في حكم المفقود أو المنسي، هذا الديوان الضخم الذي تبلغ صفحاته ٨٠٠، أرّخ لنا الصراع مع غزو العتوب وهو بمثابة الصرخة ضد جرائمهم ورفض لتقبل حكمهم وتحريض على دحرهم.
وربطًا بموضوع العتوب، يصادف هذا العام الذكرى المئوية للإصلاح السياسي في البحرين الذي بدأ في العام 1923م وهو العام الذي تُوج بعزل الحاكم القبلي عيسى بن علي وبدء شكل الدولة الحديث. وكنت قد بدأت في العام الماضي بالحديث عن موضوع “الشيخ والسخرة”، واستكملته هذا العام عام مئوية الإصلاحات السياسية بالبحرين، بحلقات حول مرسوم البحرين الملكي ١٩١٣ الذي أصدره ملك بريطانيا واستنادا إليه تأسست بلدية المنامة ومحاكم البحرين وإداراتها. وحلقات حول عرائض البحارنة حول الانتهاكات التي كانت تقع عليها من فداوية شيوخ الإقطاع من العائلة الحاكمة. وحلقات حول نتائج هذه العرائض التي تمثلت في عزل الحاكم عيسى بن علي وبدء شكل الدولة الحديثة. ستخرج جميع حلقات المئوية في شكل كتيبات مبسطة تقدم للجمهور العام تاريخ الإصلاح السياسي المغيب بلغة مبسطة وواضحة.
لإيلاف قريش
في امتداد لعادة سنوية بدأتها منذ خمس سنوات في شهر رمضان مع مجموعة خاصة من الأصدقاء، عقدنا الموسم التفسيري الخامس (هوامل التفسير) المخصص لإجراء بحث تاريخي حول سورة من سور القرآن، في المواسم السابقة كانت موضوعاتنا: سورة المائدة، سورة النساء، سورة الأحزاب، سورة التوبة. يتكون الموسم من ثلاثين حلقة تقريبا.
منذ العام الماضي، خصصت النقاش حول سورة “قريش” لبحث تاريخ هذه السورة المؤلفة من سطرين، نحتاج في إلى بحث تاريخي يمتد إلى قرنين ماضيين من زمن البعثة.
ما هو الإيلاف؟ ومن هم الذين أسسوه؟ وما دور هذا الإيلاف وعلاقته بفكرة التوحيد لاحقًا، وبفكرة الحنفية والإسلام، والنبوة، والعوائل القرشية؟ كيف مهد هذا الإيلاف التجاري للإيلاف العقائدي التوحيدي؟
كانت نتيحة العمل على هذه الحلقات كتاب سيصدر في العام 2024 على شكل محاضرات بودكاست، ستجدونها بصيغة صوتية ومكتوبة، كان الغرض منها تبسيط هذا التعقيد التاريخي ليكون في متناول الجميع. وهي أول تجربة لي في إصدار كتاب على شكل حلقات صوتية ومكتوبة.
أتاح لي بحث إيلاف قريش الاطّلاع على كتب تأسيسة تتعلق بتاريخ قريش، ولعل في مقدمتها بل وأهمها على الإطلاق كتاب “جمهرة النسب” لأبي المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، الذي يؤرخ فيه للعوائل القرشية. وأبو المنذر شخصية شيعية يعتد بروايتها التاريخية وليس الحديثية لدى السنة والشيعة، وهو المصدر الرئيس لقراءاتنا لتاريخ العرب قبل الإسلام، إذ إنه بغير هذا التاريخ، لا نستطيع أن نفهم تاريخ الإسلام أساسًا، لأن تاريخ العرب قبل الإسلام هو امتداد لتاريخهم بعد الإسلام، فصراعاتهم العائلية وأحزابهم امتدت في تاريخ الخلافة.
أبو المنذر ألّف كتابًا آخر مهم أيضًا مهم هو “كتاب الأصنام”، يُعرفنا بأصنام كل قبيلة وعائلة وكيف دخلت فكرة الأصنام إلى بيت النبي إبراهيم. وله كتاب “مثالب العرب”، والمثالب هي العيوب، عيوب كل قبيلة أو عائلة وسرد هذه العيوب كان جزءا من الصراع السياسي الذي شكل تاريخ العرب والإسلام طوال القرون الثلاثة التي سميت خير القرون، وكانت موضوع كتابي الصادر العام الماضي (خير القرون.. كيف نفهم الخير في التاريخ؟).
في الربع الأخير من طوفان هذا العام، انشغلت بقراءة تاريخ تكوين إسرائيل، خصصته لقراءة مذكرات أول رئيس لإسرائل وأهم شخصية في طبخ وعد بلفور (مذكرات وايزمن) وقراءة مذكرات نتنياهو (مكان تحت الشمس). وقبلهما قدمت حلقات حول كتاب باسيل دافيد الصادر مؤخرا (السقوط الخامس)
الكتاب بمجمله خطاب لليهود والإسرائيليين، هو صرخة لكي يُنقذوا وضعهم من مصيدة التاريخ اليهودي المحكوم بمزاج التدمير الذاتي والتناحر والانقسام والشتات. هذا الكتاب يكشف الخوف الذي يتخطّف العقل اليهودي والقلق الذي يعيشه من أن تسقط “إسرائيل”. والسؤال الذي يطرحه الكاتب: كيف تستطيع “دولة إسرائيل” الهروب بالمستقبل من مصيدة التاريخ اليهودي؟