تقريب العصمة..
لقد قلت إن النائيني قد حرر إقامة الإمامة من مفهوم السلطة والدولة، كما كان الأمر عند الشريف المرتضى مثلاً وبقية الفقهاء والمتكلمين الذين يرون إقامة الإمامة إقامة للدولة، ولا دولة من غير إمامة كاملة، ولا إمامة كاملة من غير ظهور كامل للإمام المهدي.
ستكون الدولة مفهوماً أوسع من الإمامة وأكثر تعقيداً، لكنها لن تخرج عن غايتها (أي الغاية من الإمامة) المتمثلة في حفظ حقوق الناس وإقامة العدل ومنع الاستبداد. لن يكون هناك تعارض بين أن نقيم عدلا بشرياً بحسب طاقتنا على منع الاستبداد بالقانون والدستور، وبين انتظار إمام يقيم عدلاً إلهياً كاملاً.
تبقى المشكلة، ليست في الإمامة ولا في الانتظار، بل في الفقهاء أنفسهم وفي ولايتهم، ما وظيفتهم في الدولة؟ وما حدود ولايتهم فيها؟ هل تحتاج الدولة إلى الفقهاء؟ ستكون المشكلة في الولاية لا في العصمة، والأمر لن يخلو من استخدام العصمة عتبة لتوسيع الولاية أو تضييقها. وتلك مسألة تحتاج إلى وقفة أخرى تتجاوز استعراض آراء الفقهاء المتباينة في الولاية وحدودها.
لن تكون إقامة السلطة أو الدولة هي نفسها إقامة الإمامة في مشروطية النائيني، سيبقى حق الإمامة وتعيينها وإقامتها مسألة إلهية، لكن إقامة السلطة ستبقى مسؤولية مشتركة بين الحاكمين والمحكومين، سيتبنى النائيني مفهوماً حديثاً للسلطة ”حقيقة السلطة هي الولاية على أمر النظام.. الحقيقة أن السلطة هي من قبيل تولية بعض الموقوف عليهم أمر تنظيم وحفظ موقوفة مشتركة وإيصال كل حق إلى صاحبه، لا من قبيل التملك والتصرف الشخصي الدائر مدار قبول المتصدي وأهوائه ورغباته النفسية[1].
بهذا التفريق بين السلطة بما هي إقامة للإمامة، وبين السلطة بما هي إقامة للنظام، سيحرر النائيني السلطة من مفهوم الغيبة والاغتصاب، وسيحرر الإمامة من مفهوم الدولة الشرعية التي يعيشها الناس في عصر الغيبة، بمعنى أن النائيني قد حرر أفق فهم الانتظار الشيعي من التلازم بين ممارسة السلطة في شكل دولة وممارسة الإمامة في شكل معتقد كلامي. وبهذا التحرير لن تعود ممارسة السلطة اغتصاباً لمقام الإمامة بل تحقيقاً حقيقياً للغاية من فكرة الإمامة، أو للحد الأدنى من حقيقتها، والحد الأدنى هو رفع الاستبداد.
ما قوام هذه السلطة التي غايتها إقامة النظام؟ وهل تلتقي مع الغاية من إقامة الإمامة؟ يجيبنا النائيني ”ويتقوّم هذا النوع من السلطة بالولاية والأمانة، ولذا فهو كسائر الأمانات والولايات مشروط بعدم التجاوز ومقيد بعدم التفريط، والعامل الذي يحفظ هذا النوع ويحول دون انقلابه إلى مالكية مطلقة ويردعه عن التعدي والتجاوز إنما هو المراقبة والمحاسبة والمسؤولية الكاملة، ولذا اعتبرت العصمة في مذهبنا نحن معشر الإمامية شرطًا في الوليّ، فهي أعلى درجة متصورة في مقام حفظ الأمانة والحيلولة دون الاستبداد وتحكيم الشهوات[2].
العصمة بهذا المفهوم المتحرر من الجدل العقائدي اللاهوتي، ليست شيئاً مضاداً لمفهوم أهل الحل والعقد الذي يتبناه أهل السنة، فالغاية المتيقنة من المفهومين، هي رفع الاستبداد ”وأما بمقتضى مذهب أهل السنة، حيث لم يشترطوا في الوالي مطلقًا أن يكون معصومًا، ولا أن يكون منصوبًا من قبل الله سبحانه وتعالى، بل يكفي فيه إجماع أهل الحل والعقد، فإن درجة الحد من الاستبداد الناتجة عن هذا الرأي، وإن كانت لا تبلغ ما يقتضيه مذهبنا، إلا أن عدم تخطي الوالي الكتاب والسنة النبوية هو من الشروط التي اعتبروها لازمة الذكر في نفس عقد البيعة عندهم. وأقل عمل ناشئ عن ميل أو هوىً يعدونه مخالفًا للمنصب، واتفقوا على التصدي حينئذٍ لعزله[3].
هكذا تتحرر العصمة من سجون المقولات العقائدية، والتغييبات الدنيوية لمعتنقيها، وتتقرب من مفاهيم العصر(الدولة والقانون والدستور) ومفاهيم الفرقاء العقائديين (أهل الحل والعقد)، هكذا حفظ النائيني للأصل بيضته العقائدية، وللدولة بيضتها الدستورية. وبهذا تتحرر السلطة في نص النائيني من كونها سنية أو شيعية وتصبح إسلامية ”وعلى هذا الأساس فإن السلطة الإسلامية لابد وأن تتحدد بعدم الاستئثار والاستبداد كحد أدنى، مع غض الطرف عن أهلية المتصدي وما يلزمه من العصمة وغيرها من الأمور التي يختص بها مذهبنا، فإن هذا هو القدر المتيقن بين الفريقين والمتفق عليه من قبل الأمة[4].
بل وتتحرر السلطة من عقدة الاغتصاب التي ثبَّت تهمتها الفقهاء طيلة قرون الغيبة الطويلة، لقد ظل مفهوم الاغتصاب يعمل في أذهان الفقهاء كخطيئة لا يمكن اقترافها، ومن يجرؤ على ممارسة هذه الخطيئة بممارسة السلطة فإنه في الحقيقة يكون قد اغتصب مقام الإمام المهدي. هكذا حرر النائيني بجرأته يد الأمة السوداء من استبداد هذا المفهوم التأثيمي، وهذا التحرير يمثل (الحد الأدنى) وهو ما يحتاجه الناس في واقعهم المبتلى بالاستبداد.
هوامش
[1]،[2]،[3]،[4]: راجع: ”تنبيه الأمة وتنزيه الملة”، المحقق النائيني، تعريب عبدالحسين آل نجف.