البيت الحاكم

http://www.awan.com.kw/node/46542

يقول “نوبوأكي نوتوهارا” أستاذ الأدب العربي في جامعة طوكيو ومترجم الكثير من الأعمال الأدبية العربية إلى لغته الأم اليابانية، في كتابه “العرب وجهة نظر يابانية”: “إن الحاكم العربي يخاطب الشعب بكلمة، يا أبنائي وبناتي.

عندنا نعتبر هذه الكلمة إهانة بالغة إذا استعملها مسؤول مهما كان كبيراً، نحن لا نقبل بهذه الصيغة، نحن نقول لرئيس الوزراء أنت حر في بيتك، ولكن خارج البيت نحن لا نسمح لك. نحن نعرف أن مكانة الأب شبه مقدسة في البلدان العربية داخل الأسرة استناداً إلى الدين والأعراف والأوضاع الاجتماعية التقليدية، ولذلك فالأب خارج البيت رجل آخر”.

مجاز البيت والأب والأسرة يحيل إلى التدبير المنزلي، وتلك سياسة الخاص، أما سياسة العام فتحيل إلى تدبير المدينة والمجتمع والدولة. والسياسة بمعناها العام هي ممارسة العام، العام الذي يقع خارج الأسرة والبيت والدم والأبوة والبنوة. هل نحن نمارس العام؟

السياسة لدينا هي ممارسة الخاص. هذا ما تقوله وجهة نظر “نوتوهارا” اليابانية، وهذا ما تفضحه مجازات واستعارات وتشبيهات الخطاب السياسي الحاكم. وهنا أنا أستخدم الخطاب السياسي الحاكم، وليس الخطاب السياسي للحاكم. ما الفرق بينهما؟

الأول يشير إلى عموم الخطاب الذي يحكم السياسية العربية، والثاني يشير إلى الخطاب الخاص للحاكم العربي، ورؤية “نوتوهارا” تشير إلى الثاني، وأنا أعمم إشارته إلى ما يتجاوز خطاب الحاكم العربي، بل إن خطاب هذا الحاكم هو جزء من هذا الخطاب العام، وإذا كانت الحكمة العربية تقول “كيفما تكونوا يولَ عليكم” فإننا يمكننا أن نقول كما يكون خطابكم يكون خطاب من يتولى عليكم . فخطاب اليابانيين يقول للحاكم أنت لست في بيتك ولا نسمح لك أن تخاطبنا بخطاب البيت والأسرة والأبناء. فيكون خطاب من يتولى عليهم وفق إرادة خطابهم. ونحن نقول للحاكم، الوطن بيتكم ونحن أسرتك ونسمح لك أن تخاطبنا بخطاب الأبناء والبيت المفتوحة أبوابه.

هذه عينة مما نقوله في صحافتنا اليومية “أعتقد أن الغالبية تثق ثقة مطلقة في حكوماتها، وتثق في أنها ترفض أية ممارسات تضر بأوطانها من خلال التجاوزات أو استغلال المال العام، بالتالي فإننا نتمنى أن تكون الحكومات كرب الأسرة الذي يحاسب أعضاء أسرته إن أخطؤوا، ويعاقبهم عقابا شديدا لو كان الخطأ أحدث ضررا جسيما بحق الأسرة الواحدة”.

حين يتولى علينا هذا الخطاب، ينغلق العموم، ويصير فضاء السياسة مغلقاً في حدود البيت. فيكفّ الخطاب عن ممارسة العموم، لممارسة الخصوص. فيكون الخطاب السياسي خطابا عائليا وتكون ممارسته ممارسة عائلية، فتضيق ساحة تداوله، ويضيق مجتمعه، لأن المجتمع يتسع باتساع ساحة التداول العامة.

الخطاب السياسي العائلي لا يُنشئ ساحة تداول عامة، وليس فيه مجال حر مشترك لمختلف المواطنين، ولا فضاء عمومي، فكل ما فيه يحيل إلى الغرف، إلى غرف البيت التي لا تتسع إلا إلى المجتمع الخاص.

في الغرف المغلقة

المجتمع العام لا يمارس حقه في الغرف المغلقة التي هي غرف البيت، هو يمارس حقه واحتجاجه واختلافه في ساحات الحرية العامة، وغرف البيت حتى لو صارت بلاطات قصور كبيرة، فإنها لا يمكنها أن تكون ساحات لممارسة العموم، حتى لو كانت مساحة جغرافيتها ضعف مساحة جغرافيا ساحات المدينة العامة.

على هذا النحو تستحيل الممارسة السياسية، ممارسة مقدسة، لأنها تستحضر أعراف الأب المقدس في الثقافة العربية، ولعل هذا ما عناه “نوتوهارا”: “نحن نعرف أن مكانة الأب شبه مقدسة في البلدان العربية داخل الأسرة استناداً إلى الدين والأعراف والأوضاع الاجتماعية التقليدية، ولذلك فالأب خارج البيت رجل آخر”، فهو قد تجوَّل أربعين عاماً في هذه الثقافة، وخبر مكانة الأب شبه المقدسة، أو لنقل مكانة الأب السماوية، كما أنه خبر الأرض العربية بتضاريسها المختلفة.

استعارات العائلة

إن الخطاب السياسي للحاكم أو للمعارضة أو للناشطين في الحقل المدني، حين يبني ممارسته الخطابية على استعارات الأب والأخ والعائلة، فإنه يحيل ممارسته الدنيوية إلى ممارسة شبه غيبية، لا تحكمها قوانين الأرض، بقدر ما تحكمها أعراف السماء. هنا تضيق الأرض وتتسع السماء، فيضيق فضاء التحرك الحر للمواطن الذي ينتمي إلى الأرض لا إلى السماء. بقدر ما يكون الخطاب ينتمي إلى الأرض، فإنه يقترب من موطن الإنسان، لأن موطن الإنسان الأرض المكدسة بالأخطاء لا السماء المقدسة بالفضائل.

ليس خطاب الدين وحده من يحيل ممارسة السياسية إلى السماء، بل حتى خطاب العائلة والقبيلة والحزب، يفعل ذلك، لأن السماء المقصودة هنا ليست هي السماء المرصعة بالنجوم، بل المرصعة بالتقديس. البيت بالنسبة للأب العربي، هو سماء أخرى، لأن البيت حاضنه المقدس.

سقوط من السماء

وحين يقع الأب العربي خارج البيت، يكون كأنه قد سقط من السماء. وصار يمشي في الأرض من غير هالة تقديس.

وهذا ما يعنيه (نوتوهارا) بقوله “فالأب خارج البيت رجل آخر”. ممارس الخطاب السياسي لا يريد أن يمارس سياسته خارج البيت، كي لا يكون هذا الرجل الآخر الذي يفقد قدسيته. لذلك يظل يحيل إلى هذه السماء (البيت والعائلة) كي تمنحه مكانته المقدسة التي فيها يجد شرعيته. أما خارج البيت فلا شرعية له. يكون سَقْطاً.

بهذا الاحتواء

“نحن نقول لرئيس الوزراء، أنت حر في بيتك ولكن خارج البيت نحن لا نسمح لك” في البيت لا يجد الأب من يقول له: لا نسمح لك. لا مكان في البيت للمعارضة، فالمكانة كل المكانة للتقديس. لذلك يريد الرئيس أن يأخذ معه البيت إلى الخارج، وهو هنا لا يأخذ البيت بمعناه الفيزيائي، بل يأخذه بمعناه المجازي، أي يأخذ مكانته المقدسة فيه، ويأخذ موقعه الآمر فيه، ويأخذ تفرده فيه، تفرده الذي لا يقبل الاعتراض عليه.

إنه يأخذ كل ذلك كي يحتوي به العام الذي هو مكان ممارسة السياسية، فيصير هذا العام بيتاً آخر وسماء أخرى ومكانة مقدسة.

بهذا الاحتواء، نصبح نحن في بيته وسمائه ومكانته، فنفقد أرضنا ومواطنتنا التي تسمح لنا أن نقول له: لا نسمح لك. يصبح هو في بيته، ليقول لنا: لا أسمح لكم. إنه يقول ذلك باسم البيت الحاكم. حينئذ لا يكون أمامنا إلا الطاعة، الطاعة الخاصة لرب البيت، لا الطاعة العامة للقانون العام الذي يحكم خارج البيت.

وإذا كنا كلنا محكومين بهذا البيت، فإننا لن نستطيع أن نقول له: لا نسمح لك أن تكون أباً. فأنت “أبانا” الذي تقدس في السماء.

27 تعليقا على “البيت الحاكم”

  1. تهانينا لك هذا المد الجغرافي في نثر الرأي…. كما عودتنا في أغلب مقالاتك إن لم تكن كلها المزج اللوني وإقتباس الإنجازات وتطبيقها على الواقع الجزئي في أقليمك الجغرافي ..إيمانا منك (بإعتقادي ) أن العطاء الإنساني وتراكماتة هو واحد..سفينتك تمخر عباب بحر الثقافة ..أنتبه للتيارات التي تتحرك تحت خشب فلكك …أتمنى لك المزيد من التقدم يا بن عربي (حاضرنا)…تحياتي

  2. نتفق حول هذه الأطروحة. يوما كتبت مقالة نشرت في جريدة الاتحاد الاماراتية حول عيد الأب اذ تنادى المحتفون بالأب الى تلقيب رئيس الجمهورية العتيد لحود بالأب!!!! الناس أيضا تجر رجال السلطة الى هذا الموقع المرغوب منهم كأبويين وذكوريين للأخير.. تحياتي

  3. ابن الديري

    تسلم على هذه الكتابة الذكية الرائعة ككل كتاباتك …

    شكرا لك امتعتنا جميعا وأوجعتنا

اترك تعليقاً