يحلل فؤاد اسحاق الخوري، في كتابه “الذهنية العربية: العنف سيد الأحكام” الحس اللاشعوري العربي الذي يثير الإنسان للتحرك والعمل بشكل عفوي (= الذهنية)، وهو حس يعمل من خلال أربع قواعد(1):
1. التصور اللاهرمي للكون والمجتمع.
2. الضعف يكمن في الانفراد أو الاستفراد.
3. القوة تكمن في الجماعة والتجمع، أو في الإجماع والاجتماع.
4. الأولية في التعامل والتفاعل بين البشر تعطي للتكتيك والقدرة على التحرك والمناورة.
تعمل هذه القواعد عبر استراتيجية يسميها الخوري (الأول بين متساوين) عبر هذا الاستراتيجية يهيمن الواحد. ما هي هذه الاستراتيجية؟ وكيف تعمل؟
تقوم هذه الاستراتيجية عل التفاعل مع العالم وكأنه مجموعة من الأخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأبناء العم. كلهم متساوون كحبات المسبحة وأسنان المشط وأحجار طاولة الزهر. تستعمل ألفاظ النسب والحسب لإقامة المساواة بين الناس. العالم عائلة واحدة، عالم الدولة، عالم الطائفة، عالم الملة، عالم الجماعة، عالم الإدارة، عالم الجمعية، عالم القرية، عالم المدينة، عالم الدائرة الانتخابية. وعالم العائلة الواحدة أو البيت الواحد هو عالم المساواة.
كيف يسعى المرء أن يكون الأول بين متساوين؟كيف يصبح إماماً أو أميراً أو باباً أو حاكماً في هذه العوالم؟
عليه أن يجعل من هذه العوالم عوالم جماعات، أفرادها أخوة متساوون، وهذه المساواة هي عينها التي يفترضها السعي لاحتلال المركز الأول بين متساوين. عليك أن تساوي الأفراد وتنزع خصوصيتهم وتمايزهم وتجعلهم صفاً واحدا، وعليك أن توهمهم بأنك تساويهم.
من يحاول أن يهيمن ليحتل المركز الأول بين قومه، يسعى أن يكون قريبا منهم متساويا معهم ويدافع عنهم ويحميهم، هو في آن معهم وضدهم وهذا مصدر القلق.
هذا المسعى المتناقض -كما يصفه خوري- أي أن يكون الأول بين متساوين، يفرض على المرء أن يكون لين العريكة يتأرجح بين هذا الموقع المهمين وذاك الموقع الأليف، وأن يساوي بين الناس ثم يسعى أن يكون أولهم.هو يساوي بين الناس بالتقرب منهم ومعاملتهم وكأنهم عائلة واحدة من الأنساب. التقرب من الناس طلباً للمساواة خطوة أولى للسعي وراء المركز الأول. والقوة والسلطة لا تستمد إلا عن طريق السيطرة على المتساوين.
المهم أن نحتل المركز الأول بين متساوين، نطلب المساواة سعياً وراء السيطرة والسلطة. عالم المساواة هو عالم القربى العائلة الواحدة الأمة الواحدة، كلما أردنا أن نسيطر ونهيمن ونتحكم في عالم أو في حقل من الحقول الاجتماعية، طابقناه بعالم العائلة. فهو العالم الذي تبدو فيه السلطة مبررة بـ”مقتضى الفطرة والهداية لا الفكرة والسياسة”( ) كما يقول ابن خلدون. هكذا تكون أعراف الحقول الاجتماعية والسياسية مبررة بمقتضيات الفطرة لا الفكرة والهداية الربانية لا السياسة الإنسانية.
عالم السياسة هو أكثر العوالم استخداماً لعالم العائلة، وذلك لأنه يقوم على الهيمنة، هيمنة الواحد الأول بين متساوين.كلما كثرت الإحالة في الخطاب السياسي والإعلامي إلى عالم العائلة توسعت أشكال حضور الهيمنة وتعددت مراوغاتها.
يقول خطاب العائلة ” أعتقد أن الغالبية تثق ثقة مطلقة في حكوماتها، وتثق في أنها ترفض أية ممارسات تضر بأوطانها من خلال التجاوزات أو استغلال المال العام، بالتالي فإننا نتمنى أن تكون الحكومات كرب الأسرة الذي يحاسب أعضاء أسرته إن أخطأوا ويعاقبهم عقابا شديدا لو كان الخطأ أحدث ضررا جسيما بحق الأسرة الواحدة”( )
عالم العائلة، عالم الثقة والمحافظة على مصالح الأخوة المتساويين في عقوبة الإضرار بأسرتهم أو استغلال مالها أو تجاوز مصالحها، وهو العالم الذي يحتاج إلى رب يعاقب المتساويين عقاباً شديدا كي يحمي عالم الأسرة من الخطأ، والرب محل الثقة فهو يعاقِب ويحاسب، ولا يُعاقَب ولا يتجاوز ولا يستغل مال الأسرة العام. هكذا تكون الأسرة عالم المساواة وعالم الربوبية وعالم الخطيئة وعالم العقاب، فمن أراد أن يكون رباً ويساوي الناس ويعاقبهم على خطيئتهم عقاباً شديداً فعليه أن يجعلهم عائلة واحدة.
ليس بين الرب والمتساويين في عالم الأسرة مناصب وتدرجات يتم على أساسها توزيع السلطة، فالرب في أسرته ومملكته لا يحتاج إلى سلطات تنازعه تفرده بالسلطة أو تحاسبه وتراقبه. إنه لا يحتاج إلى مناصب تقترب من تفرده بـ(الأول). لابدّ أن يتفرد هو وحده بالأول، أن يكون الأول بين متساوين.الذي يصلك مرتبة الأول هو العائلة، والذي يجعل من الآخرين متساوين في دنوهم من مرتبتك العالية هو العائلة، والذي يجعل من هيمنتك بَدهية لا تحتاج إلى مساءلة هو العائلة. العائلة هي أصل العالم، ولا جماعة تخرج على هذا الأصل، لذلك كلنا من عائلة آدم المبتلاة.العائلة هي الابتلاء، الابتلاء بالسلطة بالإرادة بالتحكم بالطاعة بالعصيان بالمساواة بالاختلاف.
كلما أردنا أن نقول الشيء وضده أحلنا الشيء وضده (الأول والمتساوين) إلى العائلة الأولى آدم وحواء.
يقول خطاب القبيلة الموالي للأول بين متساوين “وعبَّرت القبيلة عن استنكارها لكل ما يسيء بالمصلحة الوطنية أو يفرق بين مجتمع الأسرة الواحدة”( ).
ما يفضح حقيقة ما بين الأول والمتساوين، هو ما يهدد المصلحة الوطنية في منطق القبيلة، ومنطق القبيلة المدافع عن الأسرة الواحدة ، هو نفسه الذهنية العربية، وهو نفسه الحس اللاشعوري العربي، وهو نفسه ما يثير الإنسان العربي للتحرك والعمل، وهو نفسه منطق القواعد الأربع التي هي عينها: الأول بين متساوين.
وهو نفسه منطق الأخوة الذي يهدد الديموقراطية كما يحذرنا جاك دريدا في كتابه «مارقون»voyoucratie «لا خطر على الديموقراطية القادمة إلا من حيث يوجد الأخ، ليست بالضبط الأخوة كما نعرفها، ولكن حيث تصنع الأخوة القانون، وتسود ديكتاتورية سياسية باسم الأخوة»( )
المصدر: جريدة الوقت
(1) فؤاد اسحاق الخوري،الذهنية العربية: العنف سيد الأحكام، ص8.