هل يمكن تعريف الدولة؟ هل للدولة منطق تعرف به؟
المعنى عرضة دوماً لإرادة المصلحة والمعرفة، حتى معنى الدولة، كل ما له معنى، فمعناه خاضع لهذه الإرادة، والدولة هي قبل كل شيء فكرة، أي معنى. هناك 145 معنى للدولة في الأدبيات الماركسية فقط، وهناك ربما أكثر في الأدبيات الرأسمالية.
نعرف الدولة بالعرض لا بالجوهر، ليس لنا حيلة في تعريف الأشياء إلا بالعرض، وأقرب عرض لوعينا هو التجربة، ما نجربه هو الأقرب إلى فهمنا، السلطة تقع في نطاق تجربتنا، فنحن نسمع باسمها ونعرف أعوانها ونتعامل مع أجهزتها ونحفظ أسماء أعضائها ونعرف تواريخ أحداثها. لكن الدولة ليست هي السلطة، فالسلطة تزول وتتغير وتسقط والدولة باقية “كل الأنظمة زائلة لكن الدولة باقية” (تطور الدولة بالمغرب، محمد شقير،ص118)
الدولة فكرة مجردة، لكنها لا يمكن أن تتحقق وتوجد إلا في تجربة مجسدة في مصالح، الفكرة تتيح للتجربة أن تنمو وتتجاوز مآزقها وأخطاءها، والتجربة تتيح للفكرة أن تكون وتتحقق وتتجاوز أوهامها التنظيرية.
كان ابن خلدون يدرس تجارب الدولة المجسدة في سلطات العوائل والعصبيات والقبائل، كان يسميها دولاً، لكنها تسمية أقرب إلى المجاز، فالسلطة هي الأكثر تجسيداً للقوة والهيمنة والقدرة والإدارة، لذلك فهي الأكثر تجسيداً لفكرة الدولة، لكنها ليست الدولة بالمطلق، فهي جزء من الدولة أو جانب من جوانبها أو مكون من مكوناتها أو تجل من تجلياتها.
ما يتجسد ليس هو الدولة، فالدولة تبقى فكرة مجردة، تخضع إلى تجسدات مختلفة، وكل تجسد يمثل جانبا منها وتجربة فيها، لذلك نحتاج إلى استخدام التجريد.
إن ظهور الدولة في أي مجتمع سياسي لا يرتبط فقط بوجود العنصر المادي أو الحدود السياسية، بل يشترط أيضا وجود عنصر معنوي يتمثل على الخصوص في تبلور منطق للدولة. وبحسب هنري لوفيبر “الدولة تحكم وتسير، تحمي وتدافع، وتعاقب وتقال باسم منطق الدولة”. ويتمثل هذا المنطق في المصلحة العليا للدولة، وهي فوق كل مصلحة، وهي المصلحة الأسمى والأعلى.(شقير،ص131)
هناك فرق بين منطق الدولة ومنطق السلطة. بل قد يتعارض منطق السلطة ومنطق الدولة، فالسلطة تبقى في النهاية مجسدة في أشخاص أو عوائل أو عصبيات أو أحزاب أو جماعات. وهذه التجسيدات لها منطق مصلحة خاص بها، وكثيراً ما يتعارض مع فكرة الدولة، أو مع منطق مصلحتها.
وحين تلبس جماعات السلطة منطق مصلحتها بمنطق مصلحة الدولة، فإنها في هذه الحالة تختطف الدولة، وتتحدث باسمها بوصفها الممثلة الرسمية لشرعيتها. بل إنها تحتكر هذه الشرعية، لها وحدها. وكأن الدولة هي السلطة فقط، الدولة هي السلطة بأقسامها الثلاثة المستقلة، والمؤسسات الإدارية والمواطنين والجغرافيا والقوانين والدستور والعلاقات التي تحكم كل ذلك. الدولة هي جزء من سلطة الأفراد، لكنها فوق سلطتهم وفوق منطق مصلحتهم، هي منهم وأكثر.
منطق الأَثَرة والطفيليين
يقول جون لوك في كتابه الحكم المدني “فسلطة الدولة إذن لا تختلف في جوهرها عن السلطات (أو الصلاحيات) التي كانت للفرد في ظل المجتمع الطبيعي، وكل ما في الأمر أن الدولة (أو المجتمع المدني) تصلح المساوئ التي قد يتعرض لها المرء، بحكم أنانيته وأثرته”.
منطق مصلحة الدولة لا يستقيم ومنطق أنانية الفرد وأَثَرَته. ويصبح منطق الدولة مهدداً حين يتغلب منطق الأنانية الخاص على منطق الدولة العام. ويمكن أن نسميه بمنطق الطفيليين، وهو المنطق الذي تحكم من خلاله القوى الطفيلية، وهي بحسب تعريف عبدالإله بلقزيز: قوى لم تنشأ في بيئة الإنتاج والعمل الاقتصادي كفئات أو طبقات وراءها تاريخ من الاستثمار الخاص أو ذات سلطة اقتصادية حقيقية في المجتمع على نحو ما كان عليه دائماً أمر البرجوازيات في المجتمعات الغربية الحديثة والمعاصرة، وإنما هي قوى وفئات حديثة عهد بالتملك والاستثمار لأنها نشأت في أحشاء الدولة وفي أحضان القطاع العام، ونمت مصالحها الفئوية داخل بيئة الفساد السياسي والإداري والمالي، مستفيدة من انعدام وجود مؤسسات الرقابة النيابية والإعلامية والشعبية أو من تعطيل سلطة الرقابة القضائية أو من غيابهما معاً.
تطابق هذه القوى الطفيلية منطق الدولة بمنطقها الطفيلي الخاص حيث مصلحتها الاقتصادية الخاصة، فتفقد الدولة جزءا من قوتها الاقتصادية التي من المفترض أن تصلح المساوئ التي قد يتعرض لها المرء، بحكم أنانيته وأثرته. إنها قوى تعمل ضد منطق الدولة.
منطق الولاء
هناك أيضاً قوى طفيلية أخرى تتغذى من بيئة الفساد السياسي، فتنمي أشكالاً من الولاءات القبلية والشخصية والعائلية وتتمصلح من خلالها وتتقوى بها، وهي تحيل بهذه الممارسة الولاء من أن يكون ولاء عاماً مجرداً ليكون ولاء خاصا مشخصاً. وبهذا المنطق الطفيلي تفقد الدولة أيضاً جزءا من قوتها الولائية، التي يفترض أن تصلح بها انتماءات الفرد الأولية للدم والعائلة والقبيلة والدين، هكذا يتحول الولاء من قوة للدولة إلى قوة ضد الدولة.
هناك أيضا قوى طفيلية أخرى تتغذى من بيئة الفساد السياسي والتمييز الطائفي، فتنمي جماعتها الطائفية وتقدم مصلحتهم الخاصة، على جماعة المواطنين العامة. وبهذا تفقد الدولة قوة الحياد التي تجعلها ملجأ آمناً لمختلف الجماعات المتنافسة أو المتصارعة.
بهذه الممارسات الطفيلية لا يعود للدولة منطق تقنع به الناس ليكونوا مواطنيها، الأمر الذي يفقدها حتى قدرتها على النطق والكلام، فلا تعود تملك حتى قوة خطاب يفصل في المواقف التي تتطلب فصل الخطاب. هكذا تعود الدولة نفسها قوة طفيلية تتغذى من هذه الطفيليات وتعيش عليها. فلا تعود الدولة قادرة على أن تحكم وتسير وتحمي وتدافع وتعاقب، لأنها فقدت منطقها، وفقدت منطق مصلحتها الأعلى، لمصلحة المصلحات الطفيلية الأدنى.
مادام معنى الدولة خاضعا لهذه القوى الطفيلية، فلا يمكن للدولة أن تعرف بمنطقها الخاص.
في الوقت الذي يتهاوى فيه منطق الدولة وتوشك أن تفقد ولاء مواطنيها .. تتحرك القوى الطفيلية باتجاهات مختلفة للحفاظ على مصالحها من خلال ايجاد ما يمكن الدولة من الاتكاء عليه كبديل عن المنطق المتهاوي , شيء لا يتهاوى بتهاوي المنطق وليس أفضل من الدين ليكون هذا البديل .. حيث لا ضرورة لك لتمنطق الأمور أو تقتنع بها المهم أن تتبعها ,كما أنه هو السلاح الأفضل لرد أي محاولة لنقد الدولة ( المقدسة ) أو تعديلها.
إن كل هذا يمر بسلسلة من التقريرات الفكرية التي تعيد هيكلة المنطق ليتماشى مع اللامنطق .. تنتج لنا مفهوم جديد للمواطن الجيد الذي هو صديق للدولة وعدو لنفسه .
فدعنا لا نهتم بتعريف الدولة وتعال ننشغل -كمثقفين صالحين- بتعريف المنطق