علي الديري متحدثا عن كتابه الفائز بجائزة التميز 2008 “طوق الخطاب”:
أنا خارج طائفتي.. والخروج على «الأطواق» هو الرابط بين كتبي
النص حمّال ظواهر ولكل ظاهر طوق دنيوي
الاشتغال على تحليل الخطاب، لتحرير منظور الإنسان إلى العالم..
أجرت الحوار: أفراح الهندال
ما الذي يجعل ناقد مختص بتحليل الخطاب، مثل علي الديري، يذهب في كتابه الأخير “طوق الخطاب”، إلى دراسة رجل شريعة، مختص بعلم أصول الفقه، مثل ابن حزم؟ كيف بدأت العلاقة بينهما؟ وكيف نشأت؟ وكيف تطورت؟ وكيف أمكن للديري المناكف دفاعاً عن تشعيب الأنفاس وتعدداتها وتنوعاتها، أن يتذوق جماليات خطاب ابن حزم بحدته وحقيقته وبحسمها ويقينياتها؟ كيف يمكن لمزاج ابن حزم الذي يقول بأن “النص يعطيك ما فيه”، أن يكون مستمرَءاً من قبل مزاج ناقد، يرى أن النص يعطيك ما فيك وما في أفق عصرك وسياقك وجماعتك وآلياتك التأويلية؟ كيف تذوق الأخير ظاهرية خطاب ابن حزم الأصولي؟ وهو القادم (سوسيولوجيا)، من تكوين عقائدي يحمل ابن حزم منه ومن مصادر معرفته موقفا سلبيا؟ وأخيراً كيف يفهم الديري شخصية صاحب طوق الحمامة الرحبة، من خلال شخصية صاحب (الإحكام في أصول الأحكام) الفقهية المتجهمة الحادة الأصولية؟
كان هذا بعض ما أخذنا إليه الحوار مع علي الديري. صاحب كتاب “طوق الخطاب” الصادر في 2007، عن مركز شيخ إبراهيم للدراسات والبحوث.
* تركز على الرمز والاستعارة والمجاز، ما وجه تركيزك هذا؟
الديري: أنا أرى أن الخطاب هو حقل من المجازات والاستعارات والتشبيهات والحكايات، بمعنى أن مكوّن أساسي من مكونات الخطاب، هي المجازات والاستعارات، وعبر المجازات والاستعارات يبني الخطاب مقدّماته ويرى العالم ويخلق نسبه، ويُقيم استدلالاته، ويبني حججه، فأنا معنيّ بالمجاز وبالاستعارات باعتبارها تشكل هوية الخطاب، وتخصصي الأساسي هو تحليل الخطاب، وبالدرجة الأولى أنا معنيّ في تحليل الخطاب بمكوّنه المجازي والاستعاري.
الذهاب إلى ابن حزم
* من أي زاوية درست ابن حزم في كتابك طوق الخطاب؟
الديري: درست ظاهرية ابن حزم. لقد ذهبت إلى ابن حزم على وجه التحديد، لكي أرى إسهام ابن حزم من خلال علم الأصول في تحليل الخطاب أو ما تسميه اللسانيات اليوم بعلم تحليل الخطاب. كنت أريد أن أرى ما الذي أسهم فيه هذا التخصص أو ما الذي أسهم فيه هذا العلم العربي القديم (علم أصول الفقه)، وهو يعتبر بالمناسبة من العلوم الإسلامية الأصيلة، بمعنى إنه من العلوم التي لم تستوردها الحضارة الإسلامية من حضارة أخرى، وإنما أنشأتها هي إنشاءً، لكي تضع مجموعة من القواعد النظرية لدراسة الخطاب الديني المقدس، وهو خطاب القرآن وخطاب الحديث، ولكن هذه القواعد ممكن أن ننظر إليها اليوم، بأنها قواعد غير محدودة فقط بخطاب القرآن والحديث النبوي، وإنما هي قواعد تصلح لقراءة أي خطاب من الخطابات البشرية، فهي تصلح لقراءة أي خطاب من الخطابات الاجتماعية والسياسية والإعلامية.
لقد ذهبت أنا إلى ابن حزم في البداية لهذا السبب الأكاديمي، ولكني وجدت فيما بعد في طريق الذهاب إلى ابن حزم، أهدافا أخرى، ووجدت غايات أخرى ووجدت موضوعات أخرى في هذا الطريق. وربما يكون ما كتبته في هذا الكتاب، جزءاً مما وجدته، ويبقى الجزء الأكبر والأهم يتعلق بما لم أكتبه، لكنه حاضر في أفقي.
دليل ابن حزم
* ولكن كيف تحددت الهوية، هوية الخطاب من خلال دراستك لأصول الفقه عند ابن حزم؟
الديري: لن أقول هوية الخطاب، لكي لا نستعمل مصطلحات قد توقعنا في لبس، سأقول ما هو مقوّم الخطاب، مقوّم الخطاب يعني ما هو الشيء الذي يقوم عليه الخطاب ويعتبر ركنا أساسيا من أركان الخطاب؟ أنا وجدت أن المجازات هي أحد هذه المكونات، لكن دراستي لابن حزم لم تكن اشتغالا على هذا المكون، فهذا المكوّن لم يشتغل عليه ابن حزم، هذا موضوع اشتغلتُ عليه تاليًا بعد انتهائي من ابن حزم.
موضوع ابن حزم في تحليل الخطاب ، كان الدليل ، وابن حزم يفهم الخطاب والدليل وفق إطار المنطق الأرسطي، فبالنسبة له أن علم المنطق الأرسطي هو العلم الذي يمكن من خلاله وضع قواعد نظرية لتحليل الخطاب، وهنا أريد أن ألفت إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن علم أصول الفقه علم يجمع عدة علوم مع بعضها ويستثمرها لتوليد علمه، فعلم أصول الفقه هو علم مكوّن من علم المنطق والفلسفة واللغة والبلاغة وعلم الكلام وعلم النحو، بل وحتى علوم الطبيعة تدخل فيه. جميع هذه العلوم يستثمرها هذا العلم ويولّد هو من خلالها أدواته فيما بعد
إحدى المكونات الرئيسية التي أسهم فيها ابن حزم في تشييد هذا العلم، وكتاب ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام) يعتبر رابع أربعة كتب في تأسيس علم أصول الفقه في الحضارة الإسلامية، وقد أسهم إسهاما كبيرًا في إدخال المنطق الأرسطي ليكون مكوّنًا من مكونات علم أصول الفقه.
* على الرغم من استفادة ابن حزم من منطق أرسطو إلا أنه كان معروفًا بحدته وحدة كلماته، حتى كان يُضرب بها المثل بمقارنتها بسيف الحجّاج. كيف تفسر ذلك؟
الديري: فعلا لغة ابن حزم لغة على مستوى الحِجاج لغة حادة وحاسمة ويقينية ولا تقبل بفكرة تعدد الحقيقة، وأنا أُرجع ذلك إلى المنطق الأرسطي الذي يستند إليه ابن حزم في مفهومه للحقيقة. المنطق الأرسطي يعتمد على الحقيقة الموضوعية بمعنى الحقيقة التي هي موجودة خارج الذات، فنحنُ نصل إلى هذه الحقيقة الموجودة خارجنا بتجردنا من كل هوىً، من كلّ ميْلٍ، من كلّ خطأ، من كل ضعف نظرٍ أو ضعف ذهنٍ، فأنت إذا توفرت على هذه الخصائص المتجردة من هذا الكل، استطعت أن تصل إلى هذه الحقيقة الموجودة خارجك أنت، وستصل بطريقة موضوعية وسليمة ويقينية.
هذا المنطق اليقيني الذي استند إليه ابن حزم في فهم الحقيقة جعل من لغته لغة حادّة لا تقبل أنصاف الحقائق ولا تقبل ما يسميه هو بالمغالطات والتشغيب والتي في حقيقتها هي آراء أو حقائق أخرى لا يقرها دليله الظاهري. هناك قواعد منطقية تحدّد الحقيقة تحديدا صارمًا في المنطق الأرسطي، وقد صاغ ابن حزم من خلالها مفهومه للدليل الذي يحدد وفقه معنى الخطاب، وقد بلغت حدّة ابن حزم درجة أنه كان يقول: إن الذي لا يعرف أو لا يتقن المنطق الأرسطي لا يمكننا الثقة في علمه أو في فقهه، حتى لو كان فقيهًا. لكن علينا أن نقرأ هذه الحدة بإيجابية أيضا، فهي تستند إلى انفتاح ابن حزم على علوم الغير، وأقصد هنا المنطق الأرسطي الذي هو منطقٌ نشأ في حضارة غير الحضارة الإسلامية بل وفي بيئة غير دينية إذ هي بيئة وثنية لا علاقة لها بالدين السماويّ.
كشف التلاعبات
كأن ابن حزم يريد أن يقول إنه لا يمكننا أن نفهم النصوص الدينية إلا باعتماد هذا المنطق، لذلك فأنا أفسّر حدّته بهذا الجانب العلمي. أيضا هناك مكون آخر بطبيعة الحال يتعلق بالجانب الاجتماعي وهو الجانب المتعلق بالمعارضات التي كان يواجهها ابن حزم من المذاهب الأخرى، وهذه المعارضات كانت ناشئة من كون أن الظاهرية التي يمثلها ابن حزم هي منهج جديد بالنسبة إلى بلاد المغرب والأندلس التي اعتادت الفقه المالكي، فحين يأتي فقيه بمدرسة جديدة هي المدرسة الظاهرية وهي مدرسة من المعروف أن أصلها مشرقي وكان ابن داوود الظاهري هو المؤسس لهذه المدرسة في القرن الثالث قبل أن يتسلمها ابن حزم ويتسلم معها كتاب ابن داوود (الزهرة) وهو كتاب في الحب. لقد تسلم ابن حزم ظاهرية الخطاب وظاهرية الحب وذهب بها بعيدًا في القرن الخامس الهجري.
تنشأ معارضات عند دخول نظرية جديدة أو مذهب جديد على حقل قد رتّب أوضاعه وأعرافه مصالحه ورتّب قواه وعلاقاته، وهذا ما توضحه نظرية “بروديو” في الحقل الاجتماعي وهي نظرية تفسّر الصراعات الاجتماعية في الأوساط العلمية والثقافية، سواء كان الأمر في حقل الأدب أو الفقه أو السياسية أو الوجاهة.
يمكننا أن نفسر حدّة ابن حزم بأنها نوع من ردّة الفعل على خصومه الذين كان يشنّعون عليه ويواجهونه ويحاولون أن يؤلبوا عليه الناس ويؤلبوا عليه ملوك الطوائف في تلك الفترة، وبالتالي نشأت لديه حدّة في مواجهتهم والرد عليهم من أجل الدفاع عن مذهبه ومنطقه، أي من أجل أن يموضع نفسه في الحقل العلمي الذي كان يكتب فيه.
أيضا هناك سبب ثالث يمكننا أن نفسّر من خلاله هذه الحدّة، وهو السبب المتعلق بأن ابن حزم كان شاهدًا على حكم الطوائف وكان أبوه شاهدًا على حكم استقرار الخلافة الأموية في الأندلس وقوتها، حين اهتز هذا الحكم وهذا الاستقرار، وجاءت ملوك الطوائف، وأخذ كل ملك ينشئ مملكته في طائفة أقل، حدث نوع من التشرذم في القوى التي كانت تحكم الأندلس، وهذه التشرذمات التي حدثت دفعت ابن حزم ليعبّر عن سخطه على التشرذم الموجود، أو لنقل هو يريد أن يدين أحد أسبابه، هذا السبب هو أنّ هذا التشرذم الموجود على المستوى السياسي والذي تبدى على مستوى ضعف الدولة العربية الإسلامية في الأندلس، يأتي من أنّ كل أمير أو كلّ ملكٍ استقلّ بطائفة كان يستند في حكمه السياسي إلى حكم فقهي، والحكم الفقهي يضعه فقيه، لذلك لابدّ أن يكون هناك فقيه يتكيف أو يكيّف الناس لكي يُعطي مشروعية لهذا الحاكم، فوجد ابن حزم أن جزء من التلاعب في قراءة النصوص الدينية وتأويلها، يأتي ليحقق هذه المشروعية. هذا التلاعب هو المسئول عن التشرذم السياسي الموجود، فهو كأنه أراد أن يجعل من منهج الظاهرية منهجًا يفضح ويكشف هذه التلاعبات في قراءة النصوص.
دنيوية الظاهرية
ينبِّه إدوارد سعيد في كتابه (العالم والنص والناقد) إلى ما لدى المدرسة الظاهريّة من أفكار في تفسير النصوص لا تعزل النص عن تفاعلاته الواقعيّة والبشريّة والثقافيّة، فالنص ظاهرة تعبيريّة ظرفيّة، يقترن معناها باستعمال وظرف محدّدين أي بوضع تاريخي وديني.
وتحقق ظاهرية ابن حزم ذلك بأن تجعل للنصوص والأشياء في العالم كيفيات بدل أن تكون لها جواهر باطنة وأسرار خاصة. وكيفيّات النصوص هي ملفوظاتها، وأبنيتها، وتراكيبها، وظروفها السياقيّة، وطرق إنتاجها، ومدلولاتها. تمثل هذه الكيفيّات ظواهر النصوص التي على العقل الاشتغال عليها، من أجل فهمها. وظاهريّة ابن حزم في قراءة الخطاب تمثل اجتهاده الخاص في قراءة هذه الكيفيّات في الدنيا. لذلك فالظاهرية قراءة دنيوية للنصوص، وهي حمّالة ظواهر، لأن في الدنيا لا يوجد غير الاختلاف.
جماليات ابن حزم
لذلك ابن حزم لم يكن متصالحًا مع السلطات السياسية في عصره وتعرّض أيضًا إلى محاكمات قادته إلى سجن، وكان يقول دائمًا إنه ما كتب كتابًا أو ما كتب ورقة إلا وهو على قلق بسبب أنه إما أن يكون في سجنٍ أو يكون على هجرة أو يكون على هربٍ أو يكون على قلاقل سياسية.
هذه التركيبة أسهمت في تكوين مزاجه الحاد في الكتابة وفي الدفاع عن وجود حقيقة للنص واحدة ومعنى للنص واحد ظاهر لا يقبل التأويل، أي لا يقبل اللعب، ولا قبل التوظيف السياسي، ولا يقبل ميوعة في المعنى. ولعل جملة ابن حزم المكثقة “النص لا يعطيك إلا ما فيك” تخلص ظاهريته وموقفه من المرجعيات غير النصية التي تعطي معناها الخاص .
أنا أفسّر حدية مزاج ابن حزم بذلك، ومع ذلك أقول أنا قد استمرأتُ هذه الحدية ووجدت فيها جمالية أخرى، هي جمالية القلق المعرفي. وهذا جعلني متفهما لمزاج ابن حزم وعصره ولقلقه المعرفي الذي كان يشغله. المفكر أو الفيلسوف أو العالم، هو ليس فقط حصيلة علمه، وإنما هو أيضا خلاصة عصره وخلاصة القلاقل السياسية والاجتماعية التي يخوضها، والمفكرون العظماء أو العلماء العظماء تفكيرهم دائمًا يكون تفكيرا خارج الأطر الضيقة للعلم، فبالتالي هو يفكّر من خلال سياق العصر الذي يعيش فيه.
* كيف راقتك هذه الحدية وأعجبتك؟ هل هي ما جعلك تستند وتخرج من دائرة النصوص الشيعية والمنهجية الشيعية في بحث أمور الأصول والفقه وهذه الأمور.
الديري: دعيني أوضّح أولاً بأني لم أجد أن حدّة ابن حزم تتناسب معي، فأنا لستُ حادًّا في نقدي، ولستُ حادًّا في نظرتي للمسائل، ولست ممن يقولون بوجود حقيقة واحدة للنص، فالنص في مفهومي لا يعطيك ما فيه كما يقول ابن حزم، بل يعطيك ما فيك وما في أفق عصرك وسياقك وجماعتك وآلياتك التأويلية، النص يعطي ما في أنفاس الخلائق. فأنا مختلف تمامًا في هذا المزاج، ولكن استطعت أن أتفهم هذه الحدّة، وأن أتذوق جمالياتها التي تحمل في داخلها قلقا معرفيّا وقلقا وجوديا وقلقا سياسيا للوضع الكائن في العالم، وجوانب من هذا القلق يمكن أن تفسر حدّة ابن حزم ضد التلاعب بالنصوص وبالحقيقة وبتوظيفها. استطعت أن أستوعب ذلك في هذا السياق، واستطعت أن أقرأ جماليات فيها أيضا وأن أتفهمها وأن أتذوقها بهذا المعنى. ولعل من المفيد أن أذكر هنا بعبارة شبنهاور “إن لم أجد شيئاً يقلقني، فهذا في حد ذاته يقلقني” التي يرددها دوما الصديق الأديب كريم هزاع، في سياق تبيانه لسيكيولوجيا المثقف.
هوية المثقف
* أنت نشأت في بيئة دينية شيعية، وأَلِفْتَ مدوناتها التأسيسية، فما الذي جعلك تخرج من دائرة النصوص الشيعية والمنهجية الشيعية في بحث أمور الأصول والفقه؟
لماذا لم أذهب إلى المدونات والنصوص الشيعية بحكم قربي من هذه المدونات؟ أريد أن أوضح هذه المسألة الهامّة جدّا بالنسبة لي، أولاً أنا لم أدرس في الحوزات الدينية، كانت هذه أمنية من أمنياتي التي رافقت تكويني المعرفي والفكري فترة من الفترات. كانت لدي رغبة مقدسة للذهاب للدراسة في الحوزة، وهذه الرغبة أستطيع أن أقول إنها قد انتهت بعد السنة الأولى من تخرجي من مرحلة البكالوريوس في العام 1993، فقد دخلت مرحلة معرفية جديدة خرجت فيها من أطري الأيديولوجية والدينية والطائفية وبدأت أنفتح على العلوم الإنسانية بما هي أدوات لفهم الدين والتاريخ والمعرفة والحقيقة خارج المذهبيات والتحزبات والطوائف.
بهذا الخروج انتهى مشروع ذهابي إلى الحوزة، ولكن بحكم تكويني السابق على هذا الانفتاح، اقتربت من أجواء الحوزة واقتربت من كتبها، ودرست بعض مقدّماتها.
خروجي من هذه الأطر، جعلني أنظر إلى تراثي الإسلامي العربي الحضاري نظرة شمولية، لا يمكن أن أنظر إليه بعد هذا الخروج نظرة ضيقة، بأن أذهب إلى الكتب الشيعية وأبحث فيها، وكأنها تؤسس لحقيقة خاصة ومستقلة عن البقية، أو كأن لديها المنهجية الحقّة، وكذلك أصبحت لا أحمل دافعًا لخدمة مذهبي بأن أشتغل على تراثه بشكل خاص، لقد انتفى لديّ هذا الدافع الرسولي الذي كان حاضرا بقوة كما كان خالقا فيّ الرغبة المقدسة في الذهاب إلى الحوزة.
كما أنني لم أكن أيضًا أحملُ همّا، يتعلق بإبراز تفوّق علماء مذهبي، باعتبارهم هم السبّاقون أو المؤسسون أو الذين وضعوا أسس كل معرفة جديدة. لقد تخلصت من هذه الهواجس، وأصبحت لدي كل كتب حضارتي متساوية من حيث الأهمية، وأصبحت لدي كلّ الشخصيات الفكريّة في تراثنا متساوية، كلّها متساوية بمعنى أن كلّها لدي مسافة نقدية واحدة منها، ولديّ مسافة أيضا علمية واحدة، ولديّ إحساس بأنها تشكّل جزءًا من هويتي ليس لأحدٍ منها تكوين يفوق التكوين الآخر في هذه الهوية، وهذا شرط معرفي لمقاربة تراثنا. وإذا لم يكن لديك هذا الأفق الذي يجعلك ترى تراثك كلّه على مسافة واحدة، فأنت تُخلّ بشرط معرفي، ولا يمكّنك أن تقترب من هذا التراث، وتعرف حقيقته.
اتخاذي من ابن حزم موضوعاً أشتغل عليه، يأتي في هذا السياق، وبالمناسبة لم أدخل على ابن حزم بوصفه أديبا ولم أدخل عليه بوصفه أشهر من كتب في الحبّ، وإنما دخلت عليه من الشقّ المتعلق بالفقه، فهو الشق الأكثر تحدّيا بالنسبة إلى أي باحث يريد أن يتأكد فعلاً أنه غير متورط بأي انحياز مذهبي، أقول ذلك ونحن نعيش اليوم سُّعارا طائفيا بلغ أوج اشتعاله بعد حرب العراق، وأنا آتٍ من بيئة هي بيئة البحرين وهي البيئة القريبة من بيئة العراق، وهما البيئتان الأكثر حدّة في المسألة الطائفية، إذا ما وضعت هذا السياق في الاعتبار، فهذا يشعرني بشيء من الرضا لأنني قد ذهبت إلى ابن حزم، من دون أي اعتبار لموقفه الحاد من الشيعة ولموقف الشيعة الحاد منه، ودون اعتبار للحساسيات الطائفية المشتعلة اليوم. مع أني قد ذهبت إليه قبل هذا السُّعار، فأنا أنجزت هذا الكتاب في عام 2002 ، ونشرته في 2007.
* هذا سيجعلك تقع في دائرة أخرى، وهي دائرة النقمة من أهل مذهبك بتهمة الانتصار للمذهب الآخر؟
الديري: أنا خارج طائفتي من الناحية المعرفية، والمثقف إذا لم يكن خارج طائفته لا يعول عليه، المثقف ليس ناطقا باسم طائفته، عليه أن يكون ملعوناً من طائفته، كما كان الأمر مع الفيلسوف اسبينوزا.
خارج الشحن العقائدي
دعيني أستكملُ لكِ الإجابة على سؤالك، أنا ذهبت لابن حزم وكنت أريد أن أرى إسهام علم أصول الفقه في مجال علم تحليل الخطاب، ولم أكن معنيًّا بهذه الهواجس كلها، وبالفعل وأنا أقرأ ابن حزم، لم تستوقفني جمله أو عباراته التي كان يظهر فيها موقفا مشنعاً من المذهب الشيعي، ومن مصادره المعرفية المعتمدة، حاولت أن أتفهم هذا الموقف في سياق عصره وفي سياق العلاقة بين الشرق والغرب وفي سياق الاحتدامات السياسية والصراعات المذهبية والجدل الكلامي، ولم تتحرك فيَّ بتاتًا نوازع الدفاع أو التصحيح أو التأثر بأن هذا ضد مذهب أنتمي إليه في مرحلة تكويني العقائدي، أو أنتمي إليه سوسيولوجيًّا حاليا. أنا وجدت نفسي خارج هذا الانتماء الديني الضيق، وإن كان هذا الخروج المعرفي لا يخرجك سوسيولوجيا، ولكنه لا بدّ أن يُخرجك على المستوى المعرفي، وهذا أقوله اليوم باعتزار، أن تستطيع أن تخرج عن تكويناتك الضيقة، وأن تذهب إلى الأشياء لتقرأها بتجرّد أكبر وبحقيقة أطلق (أي أكثر طلاقة) وبأفق أوسع. أقول هذا الكلام اليوم وأنا أعيش هذا الشحن الطائفي بشكل يثبت أن التاريخ انقطاعات وتراجعات وانه لا يسير إلى الأمام دوما ولا يصل إلى نهايته.
سألني أحد الأشخاص بعد أن قدّمت محاضرتي حول هذا الكتاب في مركز الشيخ إبراهيم للدراسات والبحوث: كيف يمكن أن يكتب شخص من قرية الدير الشيعية عن ابن حزم؟ فابتسمت له، وقلت له: أنا لم أذهب إليه بصفتي شيعياً، ذهبت إلى ابن حزم بصفتي محلّل خطاب، ومحلل الخطاب لا يحلل الخطاب من منظور مذهبي أو منظور ديني أو أي منظور ضيق، محلل الخطاب بقدر ما هو يُخضع تحليله لأدوات معرفية، فإنه يتحرر من هذه الأطر الضيقة التي تفرض عليه منظورات خاصة، كذلك جاءتني اعتراضات كثيرة كلها تصبّ في هذا المنحى، فأحدهم كتب لي: كيف تكتب عن هذا الناصبي؟!! إنه مصطلح مشحون بتاريخ الخلافات المذهبية، وإذا لم تخضع هذا المصطلح إلى تحليل نقدي وتاريخي، يجعلك على مسافة من الخطاب الذي يمثل بيئته العقائدية، فإنك لن تكون أكثر من مجادل عقائدي يهدر وقته في الانتصار لمذهب يعتقد أنه سينجيه يوم القيامة.
قواعد الإحكام
* طوق الخطاب يُشير إلى طوق الحمامة بينما الكتاب لا يتناول هذا المنحى ولا هذا الكتاب، فما الرابط بينهما؟
الديري: موضوع طوق الخطاب ليس طوق الحمامة، موضوع طوق الخطاب هو كتاب ابن حزم في أصول الفقه وهو الإحكام في أصول الأحكام، هذا الكتاب يتكوّن من ألف صفحة تقريبا، موضوعه علم أصول الفقه، وما هو علم أصول الفقه؟ الأصول تعني قواعد أو قوانين، الفقه هو الفهم وأصول الفقه تعني قواعد الفهم أو قوانين الفهم، فهم ماذا؟ قواعد فهم الخطاب، الخطاب القرآني والخطاب النبويّ، فأصول الفقه هي أصول بمعنى قواعد وقوانين فهم خطاب القرآن وخطاب الحديث النبوي، منظورًا إلى الخطاب هنا بما هو مجموعة من الأوامر التي تحدد للإنسان ما يجبُ عليه وما لا يجوز له وما يستحب أن يقوم به وما هو مكروه، بمعنى أنه علم قواعد فعل الأمر الموجود في الخطاب، وهذا فعل الأمر يأتي تارة للمنع والنهي، وما بين النهي والأمر يأتي المستحب والمكروه، فكل هذه القواعد تحاول أن تقرأ هذا الفعل – فعل الأمر وفعل النهي – في مدوّنة كبيرة جدا هي القرآن والحديث.
نحن هنا بحاجة إلى قواعد تبيّن لنا وتفسّر لنا صيغ الأمر لهذا الخطاب، فلذلك عنونت الكتاب بعدة عناوين قبل أن أستقر على العنوان الأخير، منها “قوانين تفسير الخطاب” ” قواعد تفسير الخطاب” “قوانين الإحكام” ” قواعد البيان” ” أصول البيان” لأن الفقه عبارة عن بيان، فعندما تفقه الشيء تستبين ما فيه، أي تطلب بيانه، وأيضا ممكن أن نقول إنها أصول تفسير الخطاب، تسميات كثيرة ممكن أن تعبّر عن موضوع هذا العلم، لكنّي فضلتُ أن استعمل عنوان ” طوق الخطاب”، فلماذا استعملت هذا العنوان؟
هناك سبب أوليّ يتعلق بطوق الحمامة، أردت أن ألعب على عنوان كتاب ابن حزم طوق الحمامة وأشتق منه وأفهم من خلاله عمله في علم الأصول، وهنا أريد أن استرجع حادثة وقعت لي في أوّل مرة وقعت فيها على كتاب ابن حزم في علم أصول الفقه (الإحكام في أصول الأحكام) وجدت أن لغته وموضوعه غريبان على صوة ابن حزم التي في مخيلتي. انتابتني لحظة شك، هل اسم ابن حزم المكتوب على هذا الكتاب هو نفسه ابن حزم صاحب كتاب (طوق الحمامة) الذي يتحدث عن الحبّ بلغة أدبية جميلة وبحرية ليست محكومة بقواعد الأمر والنهي.
بين طوقين
كنت أقارن شخصية صاحب طوق الحمامة الرحبة كما رسمتها مخيلتي، بشخصية صاحب (الإحكام في أصول الأحكام) التي بدت لي شخصية عالمية فقهية متجهمة وحادة وأصولية، رحت أراجع سيرة ابن حزم حتى تأكدت أن صاحب ذلك الكتاب (طوق الحمام) هو نفسه صاحب هذا الكتاب (الإحكام في أصول الأحكام)، ولكن بقى هذا التساؤل لدي من دون إجابة. ولم أسع للإجابة عليه، لأنه لم يكن ضمن حدود بحثي، كان حدود بحثي فقط هذا الكتاب بغض النظر عن ذاك الكتاب، فذاك الكتاب يخصّ الدراسات الأدبية أكثر، هذا الكتاب وجدته خاصا بالدراسات المتعلقة بدراسات تحليل الخطاب.
بعد انتهائي من الكتاب بفترة، حاولت أن أفهم معنى الطوق، الطوق هو علامة تدل على الجمال، وتدل على القدرة، وتدل على الطاقة.كيف يمنحك قدرة؟ لأنه يعطيك قوة ويجعلك متماسكا، فحين تطوّق شيئا تجعله متماسكا، فكأن طوق الحمامة يُماسك الناحية الجمالية لديها، فيعطيها الزينة، ويعطيها القدرة لكنها تبقى مقيدة به.
هذه المعاني وجدتها أيضا حاضرة في كتاب الإحكام، ما هو الإحكام؟ الإحكام هو عبارة عن تقييد الشيء، فأقول أنا أحكمت الطوق، وحين تحكم الشيء تعطيه قوة، وأيضا في إحكامك تعطيه جمالا، لأنك تبرزه وتظهره بشكل ما، فكأنك أظهرت تماسكه، فوجدت أنا إن قواعد ابن حزم لتحليل الخطاب أو أصول ابن حزم هي عبارة عن طوق للخطاب، بمعنى أنها تقيّد فهمك وقراءتك للخطاب وفي الوقت نفسه هذا القيد يمنحك قدرة، لأنها مجموعة من الأدوات التي تعينك لقراءة الخطاب، وهي تمنحك قدرة بمعنى طاقة، والطوق من فعل الطاقة والطاقة هي عبارة عن قدرة، قدرة على قراءة الشيء أو على التمكّن من الشيء، وفي الوقت نفسه أرى أنها تمثل ناحية جمالية لجهد إنساني، وأي جهد إنساني نحن ننظر إليه من ناحية جميلة، لأن الجهد الإنساني جميل بالمعرفة التي ينتجها، فأنا سميت طوق الخطاب دراسة في ظاهرية ابن حزم وكنت أعني بذلك مجموعة الأدوات التي وضعتها الظاهرية لقراءة الخطاب، نظرت إلى هذه الأدوات على أنها تعينك وتمنحك قدرة قراءة الخطاب، وتقيّد قراءتك للخطاب وأيضا هي عنصر جمالي بما هي جهد إنساني. بعد ذلك عليّ أن أرجع إلى قواعد التفكيك التي هي أيضا جزء من ممارسة تحليل الخطاب، وقواعد التفكيك، لأن علم تحليل الخطاب ليس محصورا في منهجية معينة، ولا في أدوات معينة، هناك أدوات كثيرة في تحليل الخطاب، ومدارس كثيرة وعلوم كثيرة ومنهجيات كثيرة فأنا أيضا أخرج على طوق ابن حزم لكي أقرأ طوقه، وفي قراءتي لطوق ابن حزم حاولت أن أفسر أيضا هذا الإحكام أو هذا الطوق في القراءة. لماذا كان ابن حزم يقيد قراءة النص بالدليل الذي لا يسمح إلا لحقيقة واحدة أن تظهر؟
مقاربة مختلفة
* قمتَ بتقديم كتابك في مركز الشيخ إبراهيم للدراسات والبحوث، لماذا لم تقدم كتابك في كلية الشريعة أو مكان ينتمي للشريعة باعتبار دراستك تعني المعنيين بدارسي أصول الفقه، وهل تعتقد بأنهم مهتمون بالإطلاع على هذا الكتاب؟
الديري: أنا أتمنى أنهم غير مهتمين وأتمنى أن لا يُفهم كتابي أنه متعلق بعلم الشريعة بتاتا، هو ليس كتاب في الشريعة.
كان في محاضرتي أستاذ جامعي عراقي قضى أكثر من ثلاثين عاما في كلية الشريعة، ويدرّس المناهج الفقهية فيها، قدّم مداخلة أشاد فيها بمحاضرتي، وقال إن هناك العديد من الأمور التي لا يتفق فيها معي، ولكنه قال إنه يحترم وجهة نظري وأفقي في دراسة ابن حزم.
كنت حريصا أن أبيّن أن مقاربتي لابن حزم مختلفة عن مقاربة علماء الشريعة لهذا الموضوع، هم يذهبون إليه كصاحب مذهب، وأنا أذهب إليه كصاحب طوق، أنا أذهب إليه كعالم لديه مجموعة من الأدوات منبثقة من أفق نظري في قراءة الخطاب، فلست أراه صاحب مذهب في مقابل مذاهب أخرى، أنا معني بإبراز منظومته المعرفية في قراءة هذا الخطاب، لذلك كنت أتحدث عن خلفيته المعرفية والفلسفية والمنطقية وكنت أتكلم عن فهمه، وأحاول أن أعرف في منظومته ما هو الفهم وما هي المعرفة وما هي اللغة وما هو الخطاب وما هو العقل وما هو الدليل.الإجابة عن هذه الأسئلة تحدد لي الأفق المعرفي الذي يشتغل من خلاله ابن حزم، لذلك أنا لست معنيا بالقراءة الشرعية وصحتها.
* هناك من يذهب إلى أن علم أصول الفقه هو علم خاص برجال الدين والحوزات وبالتالي فأنت لست سوى متطفل لا تفقه فيه ولا تفهم. ما رأيك؟
الديري: كما قلت لكِ فحسب تفسير (بروديو) للحقل، كل تخصص يحتكره أصحابه، وحين يدخل شخص من خارج الحقل أو تدخل نظرية جديدة أو مفهوم جديد إلى الحقل، يُستفزّ بعض المشتغلين في الحقل، فيبدؤون يدافعون عن أعرافهم وبعضهم يستوعب الجديد ويكيف آليته وفقه، وأنا أتفهم هذا البعد، لذلك أقرأ الاعتراضات التي أبداها البعض، في هذا السياق، وقد لاحظت أن بعض آلية الدفاع عن الحقل تقوم على آلية التجهيل، وذلك بأن يحاول أن يُجهّل معرفتك أو يحاول أن يبحث عن أخطائك ويقلل من فهمك لهذا العلم، ليُسقط مقاربتك بهذه الطريقة، وهذه مسألة صارت معروفة، فعوضا أن أُستفزّ من خلالها أو أردّ عليها، أحاول أن أفهمها.
فخ الطوق
* إذن أنت أوقعت الكثير في الفخّ، هناك من أخذ الطوق إشارة إلى طوق الحمامة، وهناك من أخذ ابن حزم وكتاب الإحكام إشارة إلى الشريعة والفقه. فهل تعتقد بأنه موجه لدارسي علم الخطاب؟
الديري: الكتاب فعلا يُوقع في هذه الالتباسات والأفخاخ، وكلما كثرت أفخاخ الكتاب، فتح شيئا جديداً، أو لنقل أنه ينقل الجدل إلى منطقة جديدة، وبالفعل حدث ذلك، وأنا بالدرجة الأولى أقول هو يقع ضمن تخصص تحليل الخطاب، ولكن هذا التخصص مفتوح على كلّ التخصصات، الإنثربولوجيا وعلم الكلام والفقه والمنطق والفلسفة واللغة وعلوم الذهن. ولأنه مفتوح على تخصصات معرفية متنوعة، فهو تشكيلة من العلوم، بل هو يدفعك إلى أن تنفتح على العلوم المختلفة وأن تبحث عن تواشجاتها واتصالاتها وحواراتها الداخلية، وترى كيف أن إعطاء معنى للنص هو محصلة التقاء علوم كثيرة وحوارات داخلية ثرية بين علوم كثيرة.
كان ابن حزم يعتقد أن دليله وحده قادر على أن يعطي معنى النص، وأن علم الأصول وحده قادر على أن يعطينا معنى الخطاب، ومع انفتاحنا على مختلف العلوم، سنكتشف أن كل علم يعطينا شيئا من معنى الخطاب. وليس هناك تخصص يحتكر حقل المعنى.
* ما الرابط بين الكتب الثلاثة التي أصدرتها؟
الديري: أنا أجد هناك روابط كثيرة، كتابي الأول ” التربية ومؤسسات البرمجة الرمزية، كيف تُنتج المؤسسة الذت” كنتُ معنيّا فيه بطوق الثقافة بما هي فعل تربية، لأقول التربية بمعناها الأوسع، التربية بما هي صناعة فرد وإقناع ووجهات نظر ومجموعة من القيم المعدة لتطويق الإنسان، التربية بهذه المعاني أجدها طوقا، هي خطاب يطوّق فهمك، ويطوّق فكرك ويطوّق ذاتك، ويطوّق كل ما فيك في إطار معيّن.
كتابي الثاني في الحقيقة هو (طوق الخطاب) الصادر في 2007، وكتاب الثالث هو ( مجازات بها نرى) الصادر في 2006 وهو يحاول أن يقارب المجازات والاستعارات والتشبيهات، بما هي طوق للحقيقة، فالمجاز يطوّق الحقائق ويجعلها تبدو جميلة ومقنعة ومحكمة ولديها القدرة على الإقناع والتنوير والرؤيا، فالمجازات والاستعارات هي أدوات للإقناع وأدوات للرؤيا وأدوات للفهم وأدوات لصناعة القناعة وتشكيل العقل، وهي أدوات كل خطاب، لذلك فالخطاب هو حقل من المجازات.
وهذا الكتاب هو أيضا يرى أن علم أصول الفقه أداة، أي هو طوق يطوق الحقيقة ويطوّق المعرفة ويطوق التأويل والنص. بل يطوّق فهم الإنسان والجماعة وفهم عصر من العصور، فالكتب ثلاثتها ممكن أن نقاربها بما هي طوق على الحقيقة، وطوق على الإنسان وطوق على العقل، فكيف يستطيع الإنسان أن يفهم أطواقه المختلفة في أشكاله المختلفة.
تحرير المنظور
* إلام تريد أن تصل؟ أقصد ما همك الأول، ما الهاجس المسيطر عليك؟
الديري: تحرير الإنسان أو أقل تحرير منظورات الإنسان في النظر إلى العالم والنظر إلى الحقيقة والنظر إلى الإلوهية والنظر إلى ذاته والنظر إلى الموضوعات العامة، تحرير هذا المنظور يحتاج إلى جهد كبير جدا، هذا المنظور ليس جهازا مادياً، فهو جهاز معنوي يتبدى في شكل خطاب، ويتبدى في شكل لغة، ويتبدى في شكل ثقافة، ويتبدى في شكل تربية، ويتبدى في شكل مؤسسة، إذا كنت أريد لهذا المنظور أن يتحرر لابدّ أن أعرف كيف يتجسد في هذه الأشكال، أجد إن علم تحليل الخطاب هو الميدان المعرفي الذي يمكن أن يقدم لي معرفة ما أريده.
* من يعرفك يعرف ابن عربي وتعلقك الشديد به، على الرغم من منهجيته وأسلوبه ومعتقده وفكره المخالف تماما لابن حزم. فكيف تجمع الاثنين ؟
الديري: قراءتي لابن عربي قد جعلتني أستوعب ظاهرية ابن حزم بشكلٍ أكبر. وهذا السؤال سأرجئه لحوار آخر، فهو بحاجة إلى اتساع يليق بحجم الرجلين.
جريدة أوان الكويتية
http://www.awan.com.kw/node/106177
جريدة الوقت البحرينية
هنيئا لك خروجك عن الطوق فاهلا وسهلا بك في دنيا الله الواسعة
لا أظن أن الجدل حول الظاهرية وإسهاماتها في الحقل المعرفي له نهاية، ولكن ألا ترى أن التفسير الظاهري هو الأقرب لفهم النص القرآني من التأويل؟ فقد نزل القرآن في زمن قلّ فيه الاشتغال على التأويل، كما أن العرب لم يكونوا يفضلون التأويل أو يفهمونه، وهم الذين حاربوه عند أبي تمام والمتنبي وغيرهم، ولو كان القرآن يحتاج إلى هذا التأويل البعيد عن العقل والاحتمالات اللغوية التي ذهب إليها كثير من المفسرين الشيعة والمتصوفة لما فهمه المسلمون الأوائل ولا آمنوا به. وبعبارة أخرى فإن كل نص حمال أوجه، ولكن قبل أن نحمل نصا لأي وجه لا بد لنا من النظر إلى زمان النص ومكانه وظروف نشأته إذا كان ذلك النص يطرح منهجا فكريا واجتماعيا وسياسيا وعقديا. فما رأيك؟
الأستاذ علي تحية طيبة لك
ومباركة عليك لعنة الطائفة، ففي لعنتها مكسبا للمعرفة المتفلتة عن أطواق الحصر المذهبي ، والقصر الطائفي ، حيث لا يكون غير الاجترار ، والتكرار ، وفقد الاعتبار. لذلك أثر ،أثمر أمثال سبينوزا ،وفرويد ، وفروم ،وعلي الديري.
وإلى لقاء
خالد المحجوبي
ليبيا
khaled-1972@maktoob.com