«أنا خارج الطائفة» ليس إعلان براءة كما فهمها كثير من المتلقين، بل هي إشكالية معرفية ووجودية واجتماعية وسياسية، وأحاول عبر سلسلة هذه المقالات أن أفهم من خلال هذه الإشكالية «أنا خارج الطائفة» أناي ومجتمعي ودولتي وجماعاتي التي أعيش معها.
في «كتابه إمامة الشهيد وإمامة البطل: التنظيم الديني لدى الطوائف والأقليات في العالم العربي»، يحلل فؤاد إسحاق الخوري علاقة الطوائف والأقليات في العالم العربي بالسلطة المركزية في الدولة، وهو يدرس وضع ست طوائف: الأباضية، الإمامية، الدروز، الزيدية، العلويون، اليزيدية، والموارنة.
يضع (الخوري) الطوائف في مقابل السنّة. فالسنّة ليسوا طائفة، هم من الناحية السوسيولوجية جماعة الأكثرية، وأهل الحكم والسلطة، فهم يمثلون الحكم والمركز، وعلاقتهم بالسلطة علاقة تطابق، في حين تبدو علاقة الطوائف بالسلطة من الناحية السوسي ولوجية والسياسية، علاقة مزدوجة وملتبسة. ولخبرة إسحاق الخوري بالبحرين، فقد خصها منذ كتابه (القبيلة والدولة)، بما يشبه دراسة الحالة، حتى غدا مختصاً بالوضع الاجتماعي والديني والسياسي لهذه الجزيرة.
وكتاب الخوري (القبيلة والدولة)، وإن كان ممنوعاً من التداول، إلا أنه يحظى بمكانة خاصة ومقروئية عالية في أوساط الجماعات السياسية التي لا تنتمي للمولاة، إلا أن هذا الحضور يبدو حضوراً انتقائياً، فهو يقرأ ما يدين خصمه ويظهره صاحب القوة والظلم ولا يقرأ النقد الموجه له، فهو يبحث عن ظالم ومظلوم ولا يقرأ التحليل الذي يقدمه لبنية هذه العلاقة والأطراف الفاعلة فيها.
كتاب خوري عن القبيلة والدولة في البحرين، على خلاف الكتب الأخرى التي كتبت البحرين، وتناولت الشأن السياسي في البحرين، فهي لم تحظَ بالمكانة التي حظي بها كتاب إسحاق الخوري. ربما يعود ذلك إلى المنهج الانثروبولوجي والاجتماعي الذي مكّن الخوري من مقاربة تفاصيل الحالة البحرينية، لكن هذا السبب وحده ليس كافياً، وربما يكمن السبب الأكثر قوة في تحليله لنظام السلطة القبلية، وهذا التحليل أظهر تسلط نظام القبيلة في الحكم واستفراده بالثروة والقوة، وأظهر من جانب آخر مظلومية الطائفة الشيعية. الأمر الذي ربما أشعر معارضتها بشيء من الإنصاف العلمي والتاريخي. وهذا ما جعل للكتاب حظوة كبيرة وأهمية معرفية وتاريخية.
وهو الأمر نفسه الذي جعل على الكتاب لعنة من قبل السلطة، وهي لعنة ما زالت إلى اليوم تطارده وتمنع تداوله. وذلك لأن تحليل الخوري وتفسيره بشأن ممارسة السلطة يبدو مازال فاعلاً، وقادراً على أن يفهمنا بدرجة تفسيرية عالية مآلات السلطة اليوم.
لقد أخذنا بتشخيص الخوري للسلطة، واعتبارنا كلامه حجة على ظلمها وعدم ديمقراطيتها وقبليتها، لكننا لم نأخذ بتشخيصه لطبيعة السلطة الدينية وإدارتها الاجتماعية وعلاقتها بالسلطة. بل ولم نستفد منه في تقريره لكثير من مآزقها، خصوصاً وأنه باحث معني بمسار العلاقة بين الدولة والدين.
في كتابه «إمامة الشهيد وإمامة البطل»، يلفت الخوري أنظارنا إلى أهمية أن تفهم الطوائف الدينية مآزق سلطتها. كما لفتنا في كتابه «القبيلة والدولة» إلى أهمية أن تلتفت السلطة السياسية إلى مآزقها، وإن كان هو في الحقيقة يحلل السلطتين في الكتابين، لكنه يبدو في كتابه الأول معنياً بالسلطة السياسية ومأزقها القبلي، كما هي في البحرين، أكثر مما هو معني بنقد السلطة الدينية ومأزقها الطائفي. والطائفي هنا لا يعني ممارسة التمييز والإقصاء، بل يعني الوجود ضمن إطار الطائفة، واعتبارها مرجعاً في ممارسة السياسية.
ولطبيعة المقاربة الانثروبولوجية والسوسيولوجية، فقد بدأ الخوري باحثاً يريد أن يفهم الظواهر، أكثر من أن ينقدها أو يصلح أوضاعها، لكنه في كتابه «إمامة الشهيد وإمامة البطل»، يتخلى عن هذه المحافظة الأكاديمية وينخرط بحرارة في مشكلات السلطة والدولة والطائفة. لذلك نجده يوجه رسالة رجاء في مقدمته يحرض فيها القارئ على أن لا يكتفي بقراءة الفصول الخاصة بطائفته في كتابه، بل يرجوه أن يقرأ فصول الطوائف الأخرى ليعرف المآزق المشتركة التي تعاني منها السلطة في تنظيمات الطوائف المختلفة.
لقد كتب الخوري كتابه تحت وقع الأزمة التي تعاني منها الدولة في العالم العربي وعلاقتها بالطوائف والأقليات والدين. وهو بحكم تخصصه الأكاديمي كان معنياً بشكل السلطة التي تتبدى في الممارسة الاجتماعية والتنظيمية، بعيداً عن المصادرات الأيديولوجية أو الأحكام الدينية التي تتبادلها الطوائف عن بعضها.
كان يصغي بعمق لأشكال التنظيم الاجتماعي، ويحاول أن يفهم رؤية هذه التنظيمات لذاتها وأشكال علاقتها بالدولة. الدولة حاضرة في مجال اهتمامه، ليس بصفتها المجردة، أو بشخصيتها القانونية والسياسية، بل الدولة بما هي شكل تنظيم اجتماعي وسياسي، تدير جماعات مختلفة في عرقها ودينها وطائفتها وتراثها.
كان السؤال المقلق بالنسبة له هو كيف يمكن أن تنتظم العلاقة بين الدولة وهذه التنظيمات بشكل لا يُقصر هذه التنظيمات قسراً يجبرها فيه على الانصهار في الدولة، بل كان يسعى لفهم هذه التنظيمات فهماً يعينها على إعادة تشكيل سلطتها التنظيمية لتكون في الدولة. كما أنه لم يكن يدافع بحسه الانثروبولوجي عن بقاء الطوائف في شكل فسيفساء غير قادرة على أن تتمثل في جسد دولة.
لقد وجد إسحاق الخوري من منظوره الانثروبولوجي والسوسيولوجي في العلمنة حلاً لبناء دولة مجالها العام ليس فسيفساء الطوائف، فما هو هذا المنظور؟ وما مفهومه للعلمنة؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عليه في المقالات المقبلة.