الجماعات الوظيفية
من أهم المفاهيم التي تناولها المسيري في موسوعة مفهوم (الجماعات الوظيفية) وهو يحاول عبر هذا المفهوم أن يفهم الصهيونية والجماعات الوظيفية اليهودية، في إطار نزعة العلمنة الشاملة في الحضارة الغربية.
الجماعات الوظيفية هي مجموعة بشرية صغيرة، يقوم المجتمع بإسناد وظائف معينة إليها.وهي وظائف يرى أعضاء المجتمع أنهم لا يمكنهم الاضطلاع بها لأسباب شتى. مثل أن يعتبر المجتمع هذه الوظيفة مشينة، كوظيفة البغاء، أو التنجيم، أو الربا. هذه الوظائف أشبه أن تكون بمهمات قذرة في وجهة نظر المجتمع، لذلك الجماعات الوظيفية هي التي تقوم بهذه المهمات القذرة.
الإنسان الوظيفي
في المجتمعات التقليدية التراحمية التي يسودها التقديس، الناس لا تريد لنفسها أن تتلوث بهذه الوظائف، لذلك فهي تسندها إلى مجموعة قليلة ليست منها لتقوم بها. بهذه الطريقة تحافظ الجماعة الوظيفية على البعد التراحمي والبعد التقديسي للمجتمع الذي تعمل فيه، فهي تتولى القيام بالوظائف التي تعرّض طاهرة المجتمع للمس.
لكن لو أخذنا هذه الجماعات الوظيفية في إطار أبعد من ذلك، في إطار العلمنة الشاملة، سنعثر لها على تأصيل في مفهوم الإنسان الوظيفي والإنسان الطبيعي الذي قد بلورته العلمنة الشاملة.
الإنسان الوظيفي هو الذي يقوم بمهمة محددة، ومعزولة العلاقة عن بقية المهمات وبعيدة عن أي إطار مرجعي متجاوز، سواء تجلى في شكل أخلاق غائية أو إله مفارق أو قيم ثابتة أو أي شيء يتجاوز الأرض. هو إنسان يقوم بوظيفة محددة وغير ملتبسة بأي شيء خارجها. ينظر هذا الانسان إلى وظيفته بشكل عقلاني بارد أدواتي رشيد دون أن يربط هذه الوظيفة بأي شيء خارج النطاق الدنيوي المادي.
الإنسان الطبيعي
يطلق المسيري على هذا الإنسان مصطلح (إنسان طبيعي) بمعنى أنه محكوم بطبيعة المادة البسيطة الأحادية المحايدة التي لا ذاكرة لها أو تركيب ذهني معقد، وليست محكومة بغاية تتجاوز طبيعتها أو أخلاق توجه سلوكها، وليست لديها وجهة نظر أو مواقف مبدئية. هذه المادة الطبيعية هي إطاره المرجعي الذي يستند إليه في وظيفته التعاقدية مستبعداً أي عنصر يتجاوز إطاره المرجعي، أي أن وظيفته تستند إلى عقد مجرد من أي شيء آخر، على عكس الإنسان التراحمي الذي هو دائماً يستند إلى إطار مرجعي متجاوز، فهو يضع أمامه رضا الله ومرجعيته الأخلاقية والغاية التي يستهدفها العمل وتقبل المجتمع.
الإنسان الوظيفي يقوم بهذه الوظيفة وفق قواعد العقل الرشيد، إذ هو يرشد حياته في ضوء وظيفته، ويختزل تعدديته وتركيبته المعقدة في بعد واحد، علاقته تعاقدية لا تراحمية مع المجتمع. لذلك نجد أعضاء الجماعات الوظيفية يقومون بمهمتهم في سياق منعزل عن المجتمع، لا يشعرون أنهم يقعون في وطن هذا المجتمع. هم يفهمون تماماً أن وظيفتهم تقودهم إلى أن ينعزلوا عن المجتمع، ويبقون في غيتوات مغلقة، وجيوب معزولة، يؤدون مهماتهم ببرود تام، ويجدون أن الولاء هو لوظيفتهم التي يؤدونها فقط، لذلك يتعاملون بموضوعية باردة مع وظيفتهم.
حرفة البغاء مثلاً، تتطلب من الإناث الممارسات لها أعلى مستوى من مستويات الموضوعية, والبعد عن أي تآلف أو تراحم أو عواطف. البغي تستخدم جسدها الطبيعي بكل طاقته التشغيلية، دون أن تفكر في أي بعد يتجاوزه، لذلك فهي تفكر في إطار المرجعية المادية الكامنة، كل شيء يكمن في هذا الجسد، وليس هناك ما هو أبعد منه، وهذا نموذج لاختزال النشاطات الإنسانية المعقدة والمتعددة في بعد مادي أحادي.
مهمات التحديث
لكن ليس بالضرورة أن تكون مهمات الجماعات الوظيفية قذرة، ربما تكون في المجتعات التقليدية كذلك، لكن حين تتعقد المجتمعات، فإنها تصير في حاجة إلى جماعات وظيفية، لأن بعض الوظائف تتطلب بشرا تكون تركيبتهم أحادية لا تعرف بعداً آخر غير الوظيفة، كي تؤدي دورها على أتم وجه، فمهمات الجماعات الوظيفية ليست من نوع واحد، وقد تؤدي أدوراً تاريخية غير مقصودة.
تتميز كثير من الجماعات الوظيفية، بأنها قد تكون من أكفأ الناقلين للأفكار التحديثية والمسهمة في علمنة المجتمع، بل إنها قد تكون من أهم مكونات تحديث المجتمع. لأنهم غير مرتبطين بتراث هذا المجتمع الذي عادة ما يعمل ككابح أو كمعيق لعملية التطور، فهم متخلصون من هذا البعد، فيعملون على دفع المجتمع نحو مناطق جديدة تتطلبها وظيفتهم ومصلحتهم.
يذكر المسيري شخصية محمد علي كنموذج فقد قدم إلى مصر ضمن جماعة وظيفية قتالية، هم الألبان. كان ينظر إلى مصر نظرة محايدة. خلاف الانسان الذي عاش فيها فينظر إليها نظرة غير مجردة، فهو يرى عمليات التحديث اقتلاع لجذوره وخيانة لذاكرته واستعمار لثقافته. لم يكن (محمد علي) يعرف لغة أهلها وتقاليدها، لكنه كان يدرك أن في مصر إمكانات عالية، فاستولى على الحكم وبدأ واحدة من أكثر عمليات التطوير والعلمنة في العصر الحديث. كذلك كمال أتاتورك، وربما يكون رضا بهلوي شاه إيران كذلك، هؤلاء دفعوا بحركة المجتمع إلى حيوات جديدة.
العلمنة المركبة
من هناك فاليهود كنموذج للجماعات الوظيفية، قاموا بعمليات طوال التاريخ معقدة ولا تنتمي إلى نوع واحد، وهم يختلفون من بلد إلى بلد آخر. وربما يكون مدخل الجماعات الوظيفية، لدراسة اليهود يجنبنا الوقوع في الأحكام الإطلاقية والأيديولوجية والعرقية. لذلك لا يستخدم المسيري مصطلح اليهود، بل يستخدم مصطلح الجماعات الوظيفية، لأنه ينظر إليها أنها جماعات مختلفة السياقات، مختلفة الوظيفة التعاقدية التي تؤديها في كل مجتمع، لذلك كان يدرس كل جماعة على حدة، كل جماعة وتاريخها ومجتمعها وشأنها ووظيفتها التي أسندت إليها في مجتمع من المجتمعات.
علينا أن نلاحظ هنا أن المسيري حاول أن يفهم الجماعات الوظيفية اليهودية في سياق العلمنة الشاملة. وهذا السياق وفرّ له ضمانة علمية كي لا يقع في تحيزات عرقية أو دينية أو إيدلوجية، تقرأ الجماعات اليهودية قراءة مغلقةعلى ذاتها، أو قراءة محكومة فقط بصراعها الفلسطيني الصهيوني الحديث، لا شك أن هذا البعد حاضر، لكن الجهد العلمي الذي يبذله المسيري، يجعل من اللحظة الحاضرة لحظة متولّدة عن تاريخ طويل، وليست لحظة حاكمة ومسيطرة على رؤيته على هذه الجماعة.
أقول ذلك أنا أشير هنا، إلى مجموعة من الملحوظات التي تؤكد هذا المنحى الذي نحاه المسيري في دراسته لليهود كجماعات وظيفية.
الملحوظة الأولى هي أن المسيري لا يفسر ظهور العلمانية، كما هي عند بعض متبني نظرية المؤامرة، بأنها ظاهرة يهودية، أو ظاهرة نشأت بسبب أن هناك جماعة من اليهود أرادوا شراً بالعالم، فوجدوا في العلمانية مدخلاً لهذا الشر. بل هو يرى أن العلمنة الشاملة هي حركة مركبة تاريخية وفلسفية واجتماعية واقتصادية وحضارية، لا يمكن أن ترجع إلى جماعة أو إلى فرد أو إلى تاريخ معين. هي حركة مركبة من فكر الاستنارة وحركة الاصلاح الديني وظهور فكرة الدولة المطلقة، وظهور القومية، وعصر الصناعة، وتطور حركة العلم. هذا الكل المركب، لا يمكن أن نعزوه إلى فرد أو جماعة أو تخطيط معين، إنما هي حركة متدافعة من عدة مراكز قادت في النهاية إلى العلمنة الشاملة، لذلك نجد أنها بالنسبة للمسيري عملية لا تتم في فترة معينة وإنما أخذت لها فترة تاريخية طويلة.
هذه الملاحظة الأولى التي تجعلنا نثمن عمل المسيري وجهده العلمي في هذا المنحى ولا نرده إلى تحيزات فجّة إيدلوجية أو عرقية.
السياق السسيولوجي
الملحوظة الأخرى أنه يتحدث عن الجماعات اليهودية من نواحي سسيولوجية اجتماعية، لا يتحدث عنهم فقط من نواحي عقائدية، كأن يكتفي بالإحالة إلى التلمود، وكأن هذه النصوص التلموذية العقائدية هي مرجعه في النظر إليهم وتفسيرهم. إنما نجده يحيل إلى الأبعاد السسيولوجية لهذه الجماعات وهي أبعاد مختلفة، نشأت في بلدان وفي تواريخ مختلفة. الأبعاد السسيولوجية أكبر من أن تكون خاضعة إلى إرادة جماعة معينة، إنما هذه الجماعات تشكل وتتشكل ضمن هذه النواحي الاجتماعية التاريخية السياسية المركبة.
الملاحظة الثالثة، سنجد أن المسيري وهو يفسر ظهور العلمنة، يلجأ إلى الأطروحات الغربية كأطروحات مدرسة فرانكفورت وأطروحة (ماكس فيبر) ويناقشها بعمق ويبين وجه استفادته منها، ويطرح بدائل تفسيرية قبالها، تقدم تفسيراً أكثر أو أقل للظواهر التي يقرأها. لذلك نجده يصرّ على أن يصف النماذج المعرفية التفسيرية، بأننا نحكم عليها بأنها نماذج تفسيرية أكثر أو أقل، ولا يحكم عليها بمعايير الصحة والخطأ.
فالمسيري مثلا، بعد أن يستعرض أطروحة (ماكس فيبر) التي تذهب إلى أن التوحيد اليهودي الذي يتحدث عن إله مفارق، هي أحد عوامل نشوء الرأسمالية الغربية، ويربط (فيبر) هذه العقيدة بتزايد نسبة الترشيد العقلاني، باعتبار أن الايمان بفكرة اله متجاوز هو إيمان عقلاني وترشيدي يقود الانسان إلى الدخول في العقل الترشيدي. المسيري يضع نموذجه التفسيري المخالف للنموذج التفسيري الذي يقدمه (ماكس فيبر) لنشأة العلمانية الشاملة ودور الجماعات اليهودية في ذلك تأثراً وتأثيراً.
الحلولية الكمونية
يرى المسيري أن الحلولية الكمونية المادية، والحلولية الكمونية الروحية لا تختلفان، في الحلولية الكمونية الروحية ينزل الإله إلى العالم ويسكن أو يحل أو يكمن في الإنسان وفي الطبيعة، وتبقى روحه المفارقة حالة في الأشياء.
والحلولية الكمونية المادية تُنزل الإله إلى الكون والمادة وتسلب منه اسم الإله فيتحول إلى القوة المطلقة أو الطاقة أو الطبيعة أوالمادة. المسيري يقول إن العلمانية الشمولية وُلدت من هذه الحلولية، وليست من التوحيد اليهودي الذي يؤمن بإله مفارق، كما هو الأمر مع النموذج التفسيري الذي قدمه ماكس فيبر. لكن كيف تمّ ذلك؟
هو يرى أن حلول وكمون الإله في المادة أو الطبيعة، وليس تجاوزه لها، جعل المادة أو الطبيعة تكتفي بما فيها، أي تكتفي بعالمها الطبيعي المادي، هي تكتفي بما تعلمه في عالم هذه الطبيعة، كذلك مجالات الحياة الأخرى، كالاقتصاد، والسوق، الأدب، كل واحد منها يكتفي بعالم مادته وما يحل فيه أو يحايثه (حيث هو فيه) ولا يحتاج إلى شيء خارجه يفسره. فالسوق مكتفية بقوانينها الداخلية، وليست بحاجة إلى قوانين إلهية أو قوانين أخلاقية غائية، تجعلنا نحكم على السوق بهذه الأخلاق. فالأخلاق الرأسمالية تعلمنت بهذه النزعة الحلولية التي أصبحت لا تقيم مسافة بين الأرض والسماء، ولا تقيم ثنائيات بين الروح والجسد والشكل والمضمون واللفظ والمعنى والدال والمدلول والإله والإنسان. كل شيء صار واحداً يفسر وفق إطار الأحادية المادية.
المطلقات
في القرن الثامن عشر، بسبب وجود نوع من الأخلاق المتجاوزة، كان هناك قانون في فرنسا يمنع الإعلانات، باعتبارها نوع من ملاحقة الزبون ونوع من الغش والخداع. هذه الأخلاق ترجع في هذه النقطة إلى أخلاق متعالية متجاوزة. بينما أخلاق السوق التي تتوسع وتريد أن تنتشر لا يمكن أن تعبأ بهذه القيمة الأخلاقية في موقفها من الإعلان، تعتبر أن موقفها من الإعلان لا بد أن ترتبط بحركة السوق نفسها وصيروتها، وهي ما أطلقت عليها المسيري (أخلاق الصيرورة)، أي أنه لا بد أن تكون الأخلاق متحركة، في صيرورة، مرتبط بحركة السوق ونشاط السوق وغايتها ثراء السوق وليس شيئاً آخر.
المسيري إذا، يفسر نشوء العلمانية بفكرة الحلول، وعلينا أن نفهم هذه الفكرة عميقاً، لأنها ستكون مسؤولة عن العلمانية الشاملة التي فصلْت الأشياء كلها عن الإله والغايات والأخلاق، وجعلت المادة مطلقة والدولة مطلقة والسوق مطلقة والأرض مطلقة والجسد مطلق والدال مطلق والنص مطلق والفن مطلق والمجتمع مطلق، كل هذه المجالات مطلقة من أي تقييد متجاوَز، ليس هناك مركز أعلى يضبط أو يتحكم في الأرض وما عليها.
تصوف الحلول
نأتي الآن إلى الجماعات الوظيفية اليهودية، ما علاقتها بفكرة الحلول وفكرة الكمون؟ لقد قلنا إن المرجعية المادية والعلمانية الشاملة يرجعها المسيري إلى فكرة الحلول والكمون، وهنا يحيلنا المسيري إلى جانب عقيدي يهودي، يتعلق بمجموعة من المذاهب والعقائد، مثل مذهب القبالاه، واليهودية الحاخامية. الجانب العقيدي في هذه المذاهب أقرب إلى فكرة التصوف الذي يُحل الإله في الكون وفي الطبيعة والانسان. هذا الحلول هو الذي قاد فيما بعد، لأن تصبح مرجعية الطبيعة ومرجعية الإنسان مستقلة، وكأن الإله بعد أن يحلّ في الإنسان والطبيعة، يتمّ الاستغناء عنه، أو هو يستغني عن العالم، ويبقى العالم مستقلاً بذاته أو مكتفٍ بمادته وطبيعته.
لكن المسيري لا يفسرّ العلمانية الشاملة بهذا البعد فقط، بل يحيلنا إلى أبعاد سسيولوجية تتعلق بالجماعات اليهودية في أوربا. فهي لكونها لا تشعر بالانتماء للأوساط المجتمعية والتجارية التي وجدت فيها، فقد ظلت تعيش في كانتونات معزولة، وجيوب هامشية، أتاح لها أن تعيش عالمها وعقائدها الخاصة وعالمها الاجتماعي الخاص، من دون أن تكون للأعراف الحاكمة للمجتمعات التي تعيش في هامشها، سلطة عليها.
حركة السوق
حين تتصل هذه الجماعات بالسوق والمجتمع، هي متخففة من الالتزام بالقيم والأخلاق التي تُلزم من يقيم في هذا المكان، هي لا تقيم في هذا المكان، ولا تشعر بالانتماء إليه، وغير مضطرة للالتزام بأعرافه الخاصة بالمقيمين. لذا هذه الجماعات لا تجد حرجاً بأن تقوم بعمليات تجارية أخلاقياتها لا تتفق مع هذا المجتمع، لأنها لا تنتمي إليه، كما هو الأمر مع أخلاق الربا. لماذا أصبح التاجر اليهودي والجماعات اليهودية هي التي تتعامل مع الربا أكثر من الجماعات الأخرى؟ لأن هذه الجماعة غير منتمية لهذا المجتمع ولا تنتمي لأخلاقياته، لهذا لن تشعر بأنها قامت بأي إثم أو عيب، وهذا ما يفسر لنا لماذا الجماعات الوظيفية تُجلب للقيام بدور المجتمع لا يقوم به.
هذا الوضع المعزول اجتماعيا للجماعات اليهودية، جعلها في وضع أخف حركة. فثقل الحركة تستمده الجماعة من التراث الذي تنتمي إليه، لأنها لا تستطيع أن تقوم بأية حركة، إلا وعليها أن تراعي الأعراف والتقاليد والمسلمات والأحكام الدينية التي يؤمن بها هذا المجتمع، اليهودي في هذا المجتمع يريد أن يحرك السوق ويربح ربحاً نقدياً، ورأس المال النقدي هو أخف الأشياء، ولأنه ليس لديه عقار، إذ لا يجوز له باعتباره أجنبيا أن يملك عقاراً، لهذا عليه أن يحرّك الأسواق ويوسعها وينتقل بالبضائع بأكبر قدر ممكن، فموطنه السوق والسوق من غير حركة لا يعول عليه، لذلك كان الكثير من الحكام والملوك يعولون في تحريك السوق على الجماعات اليهودية، وحركة السوق ستؤول فيما بعد إلى الرأسمالية التي يرجع جزء من تفسيرها إلى تنشيط حركة السوق وفتحها.
تتمثل في الجماعات الوظيفية شخصية التاجر الذي تحدث عنها (دافيد لو بروتون) في كتابه (انتروبولوجيا الجسد والحداثة) فهو يشير إلى أن التاجر هو المثال النموذجي للفرد الحديث للإنسان الذي تتخطى طموحاته الأطر القائمة، الإنسان الكوني (الكوزموبوليتي) بامتياز الذي يجعل من مصلحته الشخصية المحرك لأعماله، حتى ولو كان ذلك على حساب الخير العام. كانت هذه المصلحة الشخصية التي لا تعبأ بالخير العام، هي محرك السوق، وقد مثلتها الجماعات الوظيفية اليهودية خير تمثيل.
هكذا إذا، الجماعات الوظيفية اليهودية (بملاحظة تفصيلات أخرى يعرضها المسيري)، كانت قد أسهمت (ببعد عقائدي واجتماعي وسياسي) في عمليات ترشيد السوق وترشيد الاقتصاد والدولة، فبالتالي هي لعبت دورا كبيرا في تنشيط العلمنة، بما هي حركة يتخفف فيها الإنسان من حكم المركز الذي يتجاوز أرضه وسوقه وطبيعته ومادته، ويكتفي فيها الإنسان بذاته، لكي يدير العالم.
علمنة اليهودية
حركة العلمنة الشاملة هذه، التي أسهمت الجماعات الوظيفية فيها، سنجد الجماعات اليهودية نفسها ستقف فيما بعد ضدها، حين تبدأ حركة هذه العلمنة، سواء كانت جزئية أو شاملة تضرب اليهودية ذاتها في بعدها الديني العقيدي. سنجد مذاهب يهودية تقف موقفاً عنيفاً وممانعاً، كأي حركة دينية، ضد عمليات الإصلاح الديني، إلى أن أجبرت منتصف القرن التاسع عشر، وزجت في حركة الإصلاح في سياق التدافع العام السياسي والاجتماعي والحضاري في هذه الفترة التاريخية.
وهنا يذكرنا المسيري، بأنه عندما تفاعلت عمليات العلمنة في المجتمع الغربي، أصبحت اليهودية الحاخامية في أزمة، لأن القبالاه الحلولية بدأت تسيطر على الجماهير، هكذا إذا الجماعات الوظيفية أسهمت في العلمنة الشاملة، ولم تكن تدري أن وظيفتها في حركة السوق ستأتي على ديانتها وتعلمنها.
لقد تحدثنا عن الجماعات اليهودية في سياق العلمنة الشاملة، لكن لم نتحدث عنها في سياق ظهور الصهيونية وبناء دولة حلولية في فلسطين. وذلك موضوع آخر، يفصله المسيري في موسوعته.
* هذه المادة التي تنشر على أربع حلقات، تم تفريغها من نص محاضرة علي الديري في 17يوليو 2008، التي أقامتها جمعية مقاومة التطبيع البحرينية، في قاعة فلسطين، في جمعية وعد.