الروائية أهداف السويف لـ«الوقت» بعد مشاركتها في نشاط بمركز الشيخ إبراهيم:
أنا واحدة من هؤلاء.. بسبب «رشدي» وآخرين لم أواجه جفاء لندن المعهود
الوقت – حوار: على الديري – تحرير: حسين مرهون:
قد لا تكون حظوظ القارئ العربي من الاطلاع على تجربة أهداف السويف كبيرة. فهي تكتب باللغة الإنجليزية، وعيشها وتجربتها ارتبطا معاً بالعيش والتجريب ضمن حدود هذه اللغة. لكن العزاء، أنها هناك؛ حيث تصطخب ترددات اللغة الأكثر عالمية في عصرنا، حفرت اسمها. الكاتبة الإنجليزية من أصل مصري، والتي ربطتها وشاجة استثنائية بالمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، هي اليوم واحدة من قلة من الأسماء العربية التي تكافح على أرض ثقافة الآخر. باسم الأدب حيناً، وباسم القضايا العربية حيناً آخر. وهي واحدة من قلة من المثقفين أيضاً، الذين لم يكتفوا بجعل الآخر ”آخر” فقط، ويستريحون إلى المسافة البرزخية بينه وبينهم. فكان هذا الآخر إغناء للذات، وجزءاً تلقائياً منها، حتى لتكاد تمّحي آخريته تماماً. ”الوقت” التق أهداف السويف على هامش مشاركتها في سيمينار عن تجربتها مع جمهور مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث. وفيما يلي مقتطفات:
حين تحدثت في محاضرتك عن ترجمة ”في عين الشمس” من قبل والدتك فاطمة موسى (1927 – 2007) التي هي أحد أبرز الأكاديميين و نقاد الأدب في مصر والعالم العربي، بدا وكأن في صوتك نبرة من الحزن والعتب، حزن على والدتك وعتب على المترجمين، وكأن ذهاب والدتك، ضياع للغة يمكنها أن تترجم رواياتك.هل تشعرين أن فرص ترجمة رواياتك قل بذهاب والدتك؟
– في الواقع، هناك عروض عدة لترجمتها. لكن المشكلة تكمن فيّ شخصياً. فأنا متلقية جيدة للعربية، الأمر الذي يخلق نوعاً من الصعوبة في قبولي للترجمة المقترحة. فأنا عربية أولاً وأخيراً. صحيح أنني لا أكتب بهذه اللغة، وربما لا أعرف حتى كيف يكون ذلك، ولكن لديّ حساسية حيال اللغة العربية، وأريد، حين تكون هناك ترجمة إليها ألا تجيء وكأنها عمل مترجم. عندما تتم ترجمة أعمالي إلى اليابانية أو الإنجليزية أو الألمانية، لا توجد أية مشكلة لديّ، فأنا في الأقل لا أعرف بهذه اللغات، وليست هناك فرصة لأن أفكر بها أو أعيش إحساسها، ولكن حين يتعلق الأمر بالعربية فإن الأمر مختلف، حيث إن لي رأياً هنا، ورأيي صعب جداً.
ألا تشعرين بأن حضورك في العالم العربي ليس بالقوة التي هي لك في العالم؟
لولا أمي لما أصبحت
– من جهتي، لا أرى الأمر بهذه الطريقة، كل مافي الأمر أنني غير متواجدة بالحجم المناسب بسبب ظروف كتابتي باللغة الإنجليزية. الأمر الذي يجعل من حضوري غير متاح، كمثل ذاك الذي يمكن أن يكون لو كنت كاتبة باللغة العربية.
؟ كيف هو حضور والدتك ”فاطمة الموسى” في وعيك وأيضاً في وعي عالمك الروائي، وذلك بوصفها شخصية ثقافية وأكاديمية ونقدية وأدبية ورائدة من الرواد الذين فتحوا الشرق على الغرب؟
لو لم تكن هناك أمي، فاطمة موسى، لما أصبحت ما قد أصبحته الآن. قد تكون ملكة الكتابة موجودة لدي، فالإنسان يوجد بملكة معينة، وكنت سأكون كاتبة، لكن ربما لم أكن لأشتغل في حدود ما أنا مشتغلة به الآن. فقد تعلمت الإنجليزية منذ كان عمري أربعة أعوام، وذلك بسبب ظرف تحضير أمي للدكتوراه في لندن، وكنا معها. ولو لم يكن ثمة هذا السبب لما أصبحت الإنجليزية لغتي الأولى، وربما كانت ستصبح الثانية أو الثالثة، ولم أكن لأكتب رواياتي بالإنجليزية. أي أن المسار كان سيختلف تماماً. مع تنويهي هنا، إلى أنني لا أرى أن ثمة أفضلية للغة على أخرى، أو لأدب على أدب، كل ما في الأمر أن المسار كان سيكون مختلفاً. وأمي هي من أكسبتني عادة القراءة، فقد كانت تجلب لي الكتب، وقت لا أكون في المدرسة، من أجل إشغالي وجعلي أمكث جنبها في الوقت الذي تنهمك هي بأداء واجباتها المنزلية. وهكذا حتى ساعة عودة والدي. وكنت كلما أنهيت كتاباً ناولتني غيره. وحين كانت تنفد كتب الأطفال، تناولني بعفوية عادية أياً من الكتب الأخرى خاصتها. فكانت بذلك تكوّنني من حيث لم تكن تدري أو تقصد ذلك. حين أنهت الدراسة وعدنا إلى مصر، كنت في السابعة من عمري. ولم يكن متاحاً لي شيء آنذاك غير القراءة في مكتبتها، والقراءة، والمزيد من القراءة. فكانت هي تكتب النقد في الجرائد، وكنت ساعة إيابي إلى المسرح أقرأ المقالة التي كتبتها.
ماذا عن التكوين النضالي الذي ربطك بقضية فلسطين والعرب وإدوارد سعيد، هل هو جو العائلة الذي جعل من أختك الوسطى ليلى أستاذة الرياضيات في جامعة القاهرة، ناشطة حقوقية يسارية معروفة؟
لقد نشأ معظم أفراد عائلتي في فترة إرهاصات الثورة. فليلى كما ذكرت ناشطة يسارية. وأبي سجن نحو السنة الواحدة إبان الملكية. كما سجن خالي سنتين بسبب نشاطه في التنظيمات اليسارية. ولكن من جهتي لم أكن أكترث إلى السياسة وقت كنت طالبة، كنت أشارك فيها نظرياً، في النقاشات التي تجري، سواء في المدرسة أو على الغداء حين أجتمع وأهلي. ولكن عملياً، لم أرتبط بالنشاط السياسي على نحو مباشر كما فعلت أختي ليلى. ونشاطي في الخارج لأجل القضية الفلسطينية، بالكتابة في الصحف والأشياء الأخرى، جاء بسبب رغبتي في ملء فراغ شاغر يتعلق بالقارئ الغربي، كان ثمة الكثير هناك من يشغلونه. فكانت وجهتي بهذا الصدد.
في لندن كان حظي جيداً
في كتاب عبدالفتاح كليطو ”لن تتكلم لغتي” يطرح إشكالية إتقان لغة الآخر، وفكرته تقوم على أنك إذا أتقنت لغة الآخر لدرجة أن تكون قد امتلكت كل أدواتها وتفاصيلها الصغيرة، يشعر الآخر كأنك استوليت عليه، كأنك لم تترك له شيئا، فتتولد حالة من الامتعاض والضيق، وكأن الآخر، يقول لك تعلم لغتي لكنك لن تتكلم لغتي كما أنا أتكلمها، هو لا يريد الاعتراف لك بأنك تتكلم بجدارة لغته. هل الخمسون عاما التي عشتها مع الآخر وتكلمت لغته منذ كان عمرك 4 سنوات، شعرت خلالها أن هناك من يقول لك: (لن تتكلمي لغتي)؟
لا، في الفترة التي جئت فيها إلى لندن كان حظي جيداً. كان ثمة كتاب أصبحوا ذوي شهرة مثل سلمان رشدي وغيره. كان هناك نحو ست أو سبع شخصيات مثقفة ذات صيت، وقد أتت جميعها من مجتمعات وثقافات مختلفة. فاستحوذت على انتباه القراء كما حازت على كثير من الجوائز. لذا كان من الصعب تهميش هؤلاء، في حين تكتسب الإنجليزية صفة العالمية. الأمر الذي لم يكن ينطبق عليّ، ولا على هؤلاء، الحال الذي ذكرت. فإذن، كما أسلفت كان حظي جيداً.
في ”عين الشمس” كان يقال إنك كنت تداخلين عالمين مع بعضهما، كأنك كنت تكتبين العالم المصري العربي للإنجليزي، وتكتبين العالم الانجليزي للعربي، كأنك تتيحين لكل عالم أن يرى نفسه من خلال العالم الآخر. أنت تعرفين من خلال صلتك بعمل إدوار سعيد، أنه اشتغل على حقل ما بعد الاستعمار، وكان يتساءل عن المتبقي منه في الوعي. هل واجهتك هذه المسألة في أعمالك الروائية؟
بداية تشكل الوعي
– بالنسبة لي، فقد تشكل وعيي في فترة كان الاستعمار فيها يغادر المنطقة العربية. صحيح أنه كان موجوداً، ولكن لم أعايشه بشكل مباشر أو أحس به. جئت في زمن الثورة، وكان ثمة إحساس سائد آنذاك أننا قد انتصرنا عليه، أو أننا شعوب منتصرة ونعيش في عصر مغاير يحتم علينا أن نأخذ من ثقافة الآخر وأن يأخذ هو أيضاً من ثقافتنا.
ألم تراودك مسألة ما الذي بقي من الاستعمار؟
– نعم، بيد أن الاستعمار الذي لحق بمصر كان من النوع الذي يمكن وصفه بـ ”الخفيف”. صحيح أنه كان ثمة تدخل فظيع على المستويات السياسية والاقتصادي، وكان ثمة ظلم ومشانق، ولكن على المستوى الثقافي كان تأثير الاستعمار هو الأقل. حين وطأ المستعمر أرض مصر، كان موجوداً آنذاك مثقفون مثل محمد عبده وغيره. لذا فإن هؤلاء هم من كانوا يؤثرون في الثقافة، بأكثر مما هو الاستعمار في الحقيقة. لكن على المستوى الشخصي، فأنا متأثرة بالعالم الغربي كثيراً، ذلك بسبب طبيعة وجودي في لندن، وحين تقرأ رواية ”عين شمس” لن تستشعر أن ثمة مشكلة هناك بين منطقتنا ومنطقتهم.
ماذا عن التقائك بادوار سعيد؟
لقد التقيته وقت كنت أهم بكتابة ”خارطة الحب”. وقد تأثرت بلقائه كثيراً، إلى حد أنه يمكنني الزعم إن هذا العمل كتب على خلفية المشاعر التي تشكلت لدي في غضون هذا اللقاء. وكنت في أوقات كتابتي له دائمة التفكير في إنهائه، كيما يتمكن من قراءته. وهناك مقالة كتبتها ممثلة مصرية رأت فيها أن الشكل النهائي لمشروع ادوار سعيد قد تمثل في روايتي هذه.
رواية (رأيت رام الله) لمريد البرغوثي، هو العمل الروائي الوحيد الذي ترجمته إلى الإنجليزية وكتب مقدمته إدوارد سعيد، لماذا هو الوحيد؟
في الأصل، كان مريد البرغوثي على علاقة شخصية بإدوارد سعيد ويعرفان بعضاً منذ زمن. وحين شرعت بترجمة الرواية، لم أكن أعرف أن إدوارد سيتولى، في النهاية، عملية كتابة المقدمة. كما لم أكن أعرف أن كتابته للمقدمة كانت على أساس أنني أنا من قمت بترجمة الرواية، بما يمثل نوعاً من الرضى عن الترجمة. لكن في النهاية، كان ما حصل، وقد انتشرت الرواية انتشاراً كبيراً بسبب مقدمته. كانت هذه ربما إحدى مظاهر الالتقاء بيننا.
هل هناك مشاريع أو أنشطة معينة تم ترتيبها بينكما باعتباركما تشتركان في مهام ثقافية مشتركة؟
نعم، كانت أول رحلة لي قمت بها إلى فلسطين في العام 2000 قمت بها تحت غطاء من إدوارد سعيد. فهو أول شخص كلمني في الأمر. كما رشحني من جانبه لكتابة مقدمة أحد كتبه، لدى طباعته مرة ثانية. وهي من التجارب التي مازلت راضية عنها.
المنفى كان أختياري
ماذا عن زواجك من أزين هاميلتون وهو شخصية نقدية وشعرية إنجليزية معروفة؟
– لم أكن لأحب زوجي وأرتبط به فيما بعد لولا حبي للأدب الإنجليزي. وقد أحببته فعلاً بعد قراءة ديوان شعره. لقد جرى لقائي به من خلفية أدبية.
هل تبلورت مشاريع مشتركة من خلال هذا الزواج؟
– لا، ولكن زوجي كان قارئي الأول. كنت أكتب كي يعجب بما أكتب ويقول لي هذا رائع. كان لي بمنزلة الناقد الأدبي. فكان حين يقرأ الفصل الذي أنجزه، كنت أترقب من جهتي ردة فعله لأعرف ما إذا كان جيداً أو رديئاً. كان يصارحني بالأمرين معاً. وكانت هذه نقطة مهمة جداً على صعيد تجربتي.
وكيف كان طلاقك منه؟
– أنت تعرف أن الزواج قيد على المبدع، لكن على رغم من ذلك فقد بقينا أصدقاء وزملاء نحترم بعضنا. ”زمالة أدبية” كما صرت أسميها. لم يكن هناك طلاق بالمعنى التقليدي للطلاق، فقد استمرت الأسرة، ولكن كان هناك ثمة فراغ غير مملوء فيها. ذلك كان حالنا. إنني أفتقده الآن، فقد رحل منذ العام 2001 بعد سنة واحدة من ذهابي إلى فلسطين. وقد كان ذلك سبباً في جعله يكثف من اهتمامه بهذه القضية. وبدأ يراسل أصدقاءه في العالم الأدبي شارحاً لهم أبعادها. لكن لم يقدر له العيش ليواصل هذا الجهد. في الرؤية إلى الشرق، كان كمثقف بريطاني، مستعداً بشكل كبير لتغيير قناعاته. وقد ساعدته خلفيته اليسارية على ذلك. حتى تشكل رأي عام أنه من المساندين لقضية فلسطين.
؟ أخيراً، هل تعتبرين نفسك خارج المكان كما كان إدوار سعيد؟
– لا، لأن إدوارد كان فعلا خارج المكان بسبب كونه فلسطينيا. أما أنا فقد كنت دائماً متواجدة في مصر. أي لم تختف الأرض من تحت رجلي. هناك شعور بالمنفى، ولكن هذا المنفى اختياري تماماً. فأنا التي قررت أن أحب وأتزوج في لندن. وأنا التي وضعت نفسي في هذه الوضعية، في حين أن الأمر مختلف بالنسبة لإدوارد.
ببلوغرافيا أهداف السويف
– هي أديبة مصرية تكتب بالإنجليزية وتعيش بين القاهرة ولندن.
– تخرجت من كلية الآداب – جامعة القاهرة عام 1971 بقسم الأدب الانكليزي ونالت الدكتوراه في العام .1978
– قامت بالتدريس في آداب القاهرة في بداية السبعينات ، ثم سافرت الى لندن للدراسة واستقرت هناك حيث تزوجت من الشاعر الإنجليزي المعروف أزبن هاميلتون.
– صدرت لها أول مجموعة قصصية في العام 1983 وهي باللغة الانكليزية بعنوان ”عائشة” ثم صدرت لها الرواية ذائعة الصيت ”في عين شمس” العام .1992
– ومن مؤلفاتها أيضاً ”زينة الحياة” و”زمار الرمل” و”خريطة الحب”، والأخيرة تتحدث عن بدايات الاستيطان اليهودي في أرض فلسطين.
أحدث إصداراتها هي «في مواجهة المدافع.. رحلة فلسطينية»، وهي مجموعة من المقالات الأدبية، وقد منحت الدكتوراه الفخرية من جامعتين بريطانيتين.