علي ولي الإنسانية

لماذا الكتابات الأكثر أهمية عن علي كتُّباها مَنْ هم خارج دائرة التشيُّع؟ لماذا الكتابات التي تجعل علياً مشتركاً إنسانياً لم يكتبها شيعته؟
أسألُ عن علي، وفي ذهني – على الأقل – كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، وموسوعة علي صوت العدالة الإنسانية لجورج جرداق.
من خلال هذين النموذجين سأفترض جواباً قابلاً للمراجعة، وهو أن الذين كتبوا عن علي من دائرة التشيع كتبوا عنه بوصفه ولياً أو ”إماماً مفترض الطاعة”، والذين كتبوا عنه من خارج دائرة التشيع كتبوا عنه بوصفه ولياً مفترض المحبة. إنها الولاية إذن، فما الفرق بين أن تكون الولاية ولاية محبة، وأن تكون ولاية طاعة؟073
ولاية الطاعة هي ولاية الأتباع الذين يشكلون جماعة تنتظم في شكل طائفة تُغلق وليَّها على ذاتها، فلا يعود الولي حاضراً إلا فيها وبها، تُخضعه إلى ما تريده هي، وتدعي أنها تَخضع إلى ما يريد، تستعدي الآخرين به، ومن لا يوافقها في شكل الطاعة التي تريدها تضعه في خانة العاصين والضالين والمخالفين، تشق به الناس، وهي تزعم أنها تريده لكل الناس. ولاية الإمام المفترض الطاعة، لم تجعل لعلي حضوراً كونياً، هو حاضر في شيعة أو جماعة أو طائفة، وهو بهذه الولاية مفترض الطاعة التشريعية التي تنتظم في شكل مذهب وطائفة وأئمة وفقهاء ومراجع وفتاوى.
يقول جورج جرداق ”وهكذا أخذتُ أقرأ ما كتب عن الإمام في مؤلفات السابقين والمعاصرين .. تبين لي أن معظم ما قرأته يدور حول أمور تاريخية محدودة بزمان ومكان معينَين، وقد تعني فئة من الناس .. وأكثره يدور حول حقه في الخلافة ومقدار هذا الحق في نظر المؤلفين، ولكل منهم دوافع تحركه ولا علاقة متينة لها .. بنظرة الإمام إلى معنى الوجود ونواميسه الثابتة، وشروط الحياة التي لابد من إجرائها في المجتمع الإنساني ليكون مجتمعاً سليماً في تركيبه، معافى في مسيرته، كريماً في غايته”.[1]
ما الذي رآه جورج جرداق في علي ولم يره شيعته فيه؟ هذا هو السؤال، السؤال عن العمى الذي أصاب شيعته، فلم يعودوا يرون وليَّهم ولا يسمعونه، هم واهمون إن ظنوا أن شهادة (جرداق) هي تصديق على ولايتهم، ولاية الطاعة، بل هي نقض لشهادتهم، هي تقول لهم: إنكم لم تشهدوا علياً، ودعوني أريكم إياه، هي ليست من قبيل وشهد شاهد من أهلها، هي من قبيل وشهد شاهد بما عمينا عن مشاهدته.
هو ليس شاهداً على ولاية الطاعة التي ترى في (علي) خليفةً اغتصب حقه في الطاعة، طاعة الناس له، وهو ليس شاهدا على ولاية ترى أن علينا ألا نطيع غيره؛ لأنه ليست هناك طاعة شرعية إلا له، إنها الطاعة السرمدية المؤسسة على خلاف تاريخي غير سرمدي، خلاف محدود في زمان ومكان، هي ولاية لا تستطيع أن تقرأ علياً إلا في بؤرة الطاعة، وتنصت إلى كلّ ما قاله علي من منظار الطاعة.
ولاية (جورج جرداق) هي ولاية المحبة، وهي ولاية الأفراد الذين لا ينتظمون في جماعة يقودها إمام مفترض الطاعة، بل هم أفراد ضلوا جماعاتهم الضيقة وراحوا يلتقون بأمثالهم مَنْ هم خارج جماعتهم وفوقها وأكبر منها. هي ولاية المحبة التي مكنته من أن يرى علياً ”الصيغة الكونية المثلى للفكر الإنساني المستمد من نواميس ثابتة لا يبدل المكان من جوهرها كثيراً أو قليلاً، ولا الزمان! كما أنه الصيغة الكونية للضمير العملاق والشعور العميق بوحدة الكائنات المتكافئة المتفاعلة المتكاملة”.[2]
اشتغل (جرداق) في هذه الولاية الكونية التي تجعل عليا حاضرا في المشهد الكوني كما سقراط حاضر في المشهد الكوني، هما حاضران معاً بمحبتهما للحكمة، والفلسفة هي محبة الحكمة، ومن يشترك في هذه المحبة يغدو صديقاً لا تابعاً، من يوالي الحكمة يصادق الإنسانية، فيكون وليّها بالمحبة، هكذا خرج علي من مجتمع الصحابة وخلافاتهم حول ولاية الطاعة (من له الطاعة)، ودخل مجتمع الفلاسفة ومحبي الحكمة واختلافاتهم حول الصيغ التي يعبرون فيها عن الحقيقة والعدل والجمال والخير.
في بحثه عن محن علي الثلاث (محنة التاريخ ومحنة التشيع ومحنة الإنسان) يتساءل علي شريعتي ”لماذا نذكر كل هذه المكارم والفضائل والمدائح عن علي، ونسمع ونطيع، ولكن لا نسمع علياً يتحدث معنا أبدا؟”.[3]
لأننا لم نحب حكمة علي ولم نوالِها، فولاؤنا لخلافات علي التاريخية، وهي ليست خلافاته بقدر ما هي خلافاتنا، محبتنا له متأسسة على هذه الخلافات، فنحن لا يمكن أن نسمعه خارج ما تتأسس عليه طائفتنا، أي خارج هذه الخلافات. هل يجرؤ أحد أن يخرج بعلي من ولاية الطائفة إلى ولاية الإنسانية. قلت يخرج ولم أقل يجمع بين ولاية الطاعة وولاية المحبة لعلي، والذين يمكنهم أن يجمعوا ولاية الطاعة التي تنتظم في شكل طائفة، وولاية المحبة التي تنتظم في شكل إنسانية، لم يسمعوا علياً يتحدث إلى الإنسانية بقدر ما سمعوه يتحدث إلى الطائفة.

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11622
هوامش
[1]، [2] انظر: حوار مع جورج جرداق. http://www.14masom.com/leqaa/02/02.htm
[3] الإمام علي في محنه الثلاث، علي شريعتي، ص109
– من أسرة تحرير «الوقت»

اترك تعليقاً