ما علاقة مفهوم الولاية بالتحديث السياسي؟
الولاية لغويا تعني القرابة، وسياسيا تعني السلطة. كيف صار القرب يعني السلطة؟ القرابة في الدم تعني الجماعة المتصلة النسب، واتصال الجماعة يولد قوة والقوة تفرض سلطة. السلطة القائمة على عصبية الدم هي موضوع ابن خلدون في تحليل جسد الدولة. القرب هنا حقيقي من حيث صلة الدم، لكن ما يترتب على هذا القرب من مقتضيات ليس حقيقيا، بل ثقافيا أي أن القوانين والأعراف التي تشرّع لهذا القرب وتحدد مراتبه ليست حقيقية.
ولاية الفقيه، لا تتحدد بهذا القرب الحقيقي، وإن كانت تعتمده، فهي ولاية قائمة على قرب مجازي، الفقيه قريب من الإمام، والإمام قريب من النبي والنبي قريب من الله. في (ولاية الفقيه) ينوب كل قريب عن قريبه، ويتبادل الأقربون الوظيفة، فالفقيه قريب من الإمام وينوب عنه في غيابه، لكن هناك اختلاف في حدود هذه النيابة وما يترتب عليها. القرب المجازي هو مسافة اعتبارية، يعتبرها ذهن ما أو مدرسة ما أو مذهب ما، وفق تأويل معين، وما تراه جماعة ما قريب، تراه جماعة أخرى بعيدا، وبحسب اختلاف الجماعات في اعتبارياتها التقريبية يختلفون في الأولويات التي يرتبونها على اعتبارياتهم التقريبية. هذا ما حدث بين الإمامية الذين اعتبروا الإمام قريبا من النبي حد النيابة المطلقة عدا النبوة، وأهل السنة الذين اعتبروا الإمام قريبا من الصحابة ولا نيابة خاصة له عن النبي.
شرعية القرب هي ما يستند إليه الفقيه في ولايته، والولاية سلطة، والسلطة نظام حكم وإدارة، والتحديث تغيير في شكل ممارسة السلطة، لقد غيّر الإمام الخميني في شكل ممارسة سلطة الفقيه، فأخرجها من مجال الممارسة الفردية، إلى الممارسة المؤسسية، أي حوّلها من فقيه يفتي، إلى دولة تقرر. كيف فعل ذلك؟ وكيف نقيّم عملية التحويل هذه؟ وهل هي عملية تحديث؟
في كتابه حدود الديمقراطية الدينية، يفرد الباحث الصديق توفيق السيف المختص بمفهوم السلطة في تاريخ الفقه الشيعي، فصلا معمقاً يتناول فيه ( دور الإمام الخميني في تعديل نظرية السلطة عند الشيعة: مقاربة جديدة). في مقاربته الجديدة فعلاً يلفت (السيف) إلى أن الولاية في مشروع الإمام الخميني (الحكومة الإسلامية) قد تمّ تحديثها ومصالحتها مع مفهوم الدولة، وأنهى هذا التحديث القطيعة بين الفقيه والدولة، وبهذا أصبحت هناك دولة لها شرعيتها ويتوافر لها إجماع شعبي عام. فالناس لا ترى في الدولة جهازاً خارجهم ولا علاقة لهم بها، ولم يعدوا يرونها سلطة قد اغتصبت حق الإمام المهدي الغائب. لقد حلّ تأويل الولاية ”مشكلة الإجماع السياسي الذي كان غيابه سبباً في العلاقة المتأزمة بين المجتمع والدولة الإيرانية خلال معظم القرون الخمسة الماضية، ولا سيما منذ انتهاء الثورة الدستورية وقيام النظام البهلوي في ”1920[1]
تستهدف – بحسب مقاربة السيف – فكرة الولاية المطلقة التشديد على الطبيعة الشاملة لسلطة الدولة وخضوع جميع المواطنين لمقتضياتها. بينما يشدد مفهوم مصلحة النظام على أن تشخيص الحكومة للمصالح العامة هو المعيار الرئيس لتبرير عملها، مقارنة بالفهم السائد الذي يذهب إلى أن المصالح المعتبرة هي تلك التي عرّفها الشرع والتي يرجع في تشخيص موارد انطباقها إلى الفقيه. الدولة لها حق شرعي في إنشاء إلزامات قانونية بناء على تشخيصها الخاص، مقارنة بآراء المجتهد غير الحاكم الذي تصنف كفتاوى غير ملزمة على المستوى العام[2].
إذن، سلطة الإمام الغائب لم تنتقل إلى فقيه، بل انتقلت إلى الدولة، لكن هل الدولة صارت هي ولياً، أو ولي الفقيه صار هو دولة؟
لقد أعطى الفقيه شرعيته للدولة، وأخذ منها قوتها وإلزامها ووسائل إكراهها، فصار هو وليّها، وشرعيتها تتوقف على ولايته، فالدولة التي لا تخضع لولي فقيه لا شرعية لها.هكذا صار ولي الفقيه دولةً.
يشبه (غابرييل الموند) الدور الوظيفي للشرعية بالروح التي تسري في كل مفصل من مفاصل العلاقة التفاعلية بين المجتمع والدولة، فتضمن كفاءة النظام السياسي في العمل ومتانته في مواجهة التحديات[3].
لقد بثّ الإمام الخميني روح الولاية في جسد الدولة ومفاصلها، فصارت الولاية المطلقة هي الروح التي أخذت تسري في مفاصل العلاقة التفاعلية، والوظيفة التي هي مسؤولة عن الاطمئنان على هذه الروح والتأكد من تمكنها من القبض على مفاصل الدولة هي وظيفة (المرشد الأعلى)، هو ولي هذه الروح وصاحب شرعيتها وبذلك فهو ولي الدولة ومناط شرعيتها معقود به.
لم يتمّ تحديث مفهوم الولاية، بل تمت إعادة إنتاجه في جهاز أكثر تركيبا وتمكُّناً وتأثيرا وقدرة وقوة وحاكمية، إنه الدولة. الولاية صارت سلطة قاهرة. لم تعد الولاية لطفاً إلهياً كما هو الأمر مع تأويل العرفاء والصوفيين، بل صارت سلطة مادية قاهرة وتلك هي الولاية التي يتحدث عنها الفقهاء.
الولاية في مفهوم الإمام الخميني، لم يتم تحديثها، بإجراء تغييرات على مفهومها وأفقها التاريخي وتأويل مقاصدها، كي تلائم مفهوم الدولة الحديث، بل جرى تكييف الدولة كي تكون على مقياس روحها. وهذه إحدى مظاهر مشاكل التحديث في العالم العربي والإسلامي، لا نتغير نحن كي نلائم ما يستجد، بل نكيّف ما يستجد مع أوضاعنا، كي نبقى كما نحن، والشاهد على ذلك القبيلة، فهي قد كيّفت الدولة بالتصرف في جسدها، ولم تتغير هي، كي تتلاءم مع الدولة.
الولاية نظرية في السلطة يحضر فيها مفهوم المؤمن ويغيب عنها مفهوم المواطن، لأنها مشغولة بسؤال: كيف يكون الحكم مطابقا للسماء؟ في حين الدولة الحديثة يشغلها سؤال: كيف يكون الحكم ملائماً للأرض؟
لقد تمّ توليد الشرعية للدولة في التجربة الإيرانية بإعادة إنتاج (الولاية) في شكل دولة، لا بتحديث الولاية. لقد مدتّ القبيلة الخيمة على الدولة فصارت مضرباً من مضاربها، ومدّت الولاية على الدولة عباءة الفقيه، فصارت طائفة من المؤمنين لا جماعة من المواطنين. نحن تحت ظلال الخيمة التي جامع جماعتها الدم والنسب وظلال العباءة التي جامعها جماعتها العقيدة والمذهب.
صار ولي الفقيه دولة يحكمها فقهاء شرعيون، ولم تتحول الدولة ولياً يحكمها فقهاء دستوريون. من هنا لست مع صديقي توفيق السيف، في تقرير أن الاستبداد القائم ليست علته ولاية الفقيه، بل أراها علته، وهي علة تستلزم إصلاح مفهوم الولاية نفسه.
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=11671
هوامش
[1]، [2]، [3] انظر: توفيق السيف، حدود الديمقراطية الدينية، دار الساقي،.2008