ناشرة أول مجلة عربية في الإيروتيكا.. جمانة حداد في حوار صريح مع «الوقت»:
نعم أنا مع إباحية «أونفري» وضد المقاربات السلمية للجسد «٢-٢»
الوقت – بيروت – علي أحمد الديري:
تصنعها في بيتها، في زاوية صغيرة لا تتجاوز مساحتها الـ «2م*2م»، ومن هناك تدير مراسلاتها الخاصة، تشرف على تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، ثم تأخذها إلى المطبعة حيث التنفيذ والإخراج. الشاعرة والصحافية اللبنانية جمانة حداد، صاحبة «عودة ليليت» وأنطولوجيا الشعراء المنتحرين في القرن العشرين، هي مؤسِّسة مجلة «جسد» ورئيس تحريرها، هذه المجلة الجدلية التي ولد عددها الأول في ديسمبر/ كانون الأول ,2008 والتي تقدم نفسها على أنها ثقافية متخصصة في آداب الجسد وفنونه وعلومه. تراهن جمانة حداد على مشروعها أن يكون منبراً رحباً لثقافة عميقة للجسد. وتتحدث في حوار خاص مع «الوقت» عن هذه المجلة التي صدر منها حتى الآن ثلاثة أعداد، وعددها الرابع على وشك الصدور: عن أسئلتها وموضوعاتها ومضموناتها ومحمولاتها، عن طموحاتها، وعن ردود فعل الداخل والخارج عليها.
معاني «الإباحية» راقية معجمياً لكنها خطفت نتيجة العقد والمحرمات
في العدد الأول للمجلة كان هناك لقاء مثير جدا أجريته أنتِ مع الناقدة والكاتبة الفرنسية كاترين مييه قالت فيه، في ما قالت ‘’إن التحرر الجنسي لا يعني بالضرورة الهيدونية (أي الفلسفة القائلة بأن اللذة هي المبدأ الرئيس في الحياة)، وأنه يمكن أن نرى إلى الجنس بمعزل عن منطق المتعة’’. وهي تحدثت بكثير من التحرر عن مغامرتها الحميمية في كتابها ‘’حياة كاترين م. الجنسية’’ الذي ترجم إلى أكثر من ثلاثين لغة.
– صحيح، وهي ستأتي في المناسبة إلى معرض الكتاب في بيروت في شهر ديسمبر/ كانون الأول، لتوقع الترجمة العربية لكتابها هذا، الصادر عن سلسة ‘’جسد’’.
كانت كاترين امرأة عاملة ومتزوجة، وإحدى القارئات لفتتها إلى أن ما كتبته يتعارض مع كونها امرأة عاملة ومتزوجة. مع الفارق بينكما في جرعة الجرأة أسألكِ: أنتِ أيضاً امرأة عاملة، ومتزوجة، وعربية. فكيف تنبثق منك مجلة صادمة كمجلة ‘’جسد’’؟
– إن الغالبية في العالم العربي تعشق التعميمات، وحصر الناس في تعريفات محددة وضيقة، لأن المتفلت من التبويب يقلقها. ينطبق هذا خصوصا على نظرة تلك الغالبية إلى المرأة. فالمرأة التي تكتب عن جسدها بأريحية، من دون خوف أو مراعاة لأي رقيب مفروض عليها، هي حكماً، بمعايير تلك الغالبية السطحية، امرأة فاجرة وخارجة تماما على سلم القيم. بمعزل عن كوني أحتقر هذا التصنيف، ولا أجد نفسي معنية بشفاء ‘’المرضى’’، كوني كاتبة ولستُ طبيبة، يهمني أن الفت إلى أننا جميعا، رجالا ونساء، نملك الحق المطلق، كبشر، في أن نكون أحرارا في الفكر وفي التعبير. الرقابة إهانة لنا كراشدين وكمثقفين. من هو هذا الذي يظن أنه يملك الحق في أن يقول لي: هكذا يجب أن تفكري، وتتكلمي، وتكتبي؟ حدودي أقررها وحدي، ولا احتاج وصياً علي. أنا مع العدائية في هذا الموضوع، ولست مع المقاربة السلمية.
‘’أنا أدافع عن الإباحية التي تنشد الحرية والمساواة والمشاركة. لكني ضد الإباحية الرأسمالية التي تمارس قوتها على الفقراء’’ هذا ما قاله الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري في حواره مع ‘’جسد’’. هل أن خطاب المجلة يدافع بدوره عن هذه الإباحية، أم أنه يتحرج من الكلمة؟
– لا أملك ألا أشعر بالغضب عندما أفكر في كل الكلمات الجميلة التي تم تشويهها في لغتنا العربية، عبر إثقال كاهلها بمحمولات وإيحاءات سلبية ظلماً، نتيجة العقد والمحرمات.
من هذه الكلمات مفردة ‘’إباحية’’. إذا عدنا إلى المنجد، فسنجد أن معاني هذه الكلمة راقية جدا، لكننا شوهناها بالاستخدام، مع التردي الخطير في ثقافتنا في الأزمنة المعاصرة، وبات معناها مهينا. أرى أنه ينبغي لنا إعادة اختراع هذه الكلمة وسواها من تعابيرنا ‘’المخطوفة’’. ورداً على سؤالك، أقول إن ‘’جسد’’ تدافع قطعاً عن الحرية التي تحدث عنها اونفري، والتي تحدث عنها قبله كثيرون من كتابنا وفنانينا ومثقفينا.
هل سيكون أونفري بدوره ضيفا لـ’’جسد’’؟
– سيكون ميشال أونفري صاحب الكتاب الثاني في سلسلة ‘’جسد’’، عبر الترجمة العربية لعمله المعنون ‘’في سبيل إيروتيكيا مضيئة’’. من جهة أخرى، سوف أحاوره في معرض الكتاب الفرنسي في بيروت في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، حيث سأدير ندوة معه حول هذا الموضوع.
أخيراً حصلنا على جسد «رجل» صالح لصورة على غلاف!
لاحظتُ أن أغلفة ‘’جسد’’ الثلاثة تحمل كلها صور أجساد لنساء، رغم أنكم تحتفون بالرجل أيضاً، مثلما فعلتم في العدد الثاني مثلاً. فما سبب غياب جسد الرجل عن الغلاف؟
– هي محض مصادفة فحسب. فالفنانات الثلاث اللواتي اخترتهن في الأعداد الثلاثة الأولى، صدف أنهن يعملن على تيمة الجسد الأنثوي لا الذكوري. وكنتُ وجدت للعدد الثالث فنانة لبنانية صورت عري الرجل بشكل رائع، وكانت وافقت على نشر الصور، لكنها طلبت مني أن لا أنشر أسمها، فرفضتُ رغم جمالية أعمالها، لأن الأسماء المستعارة تتعارض مع مبدأ المجلة (كفانا اختباء وراء إصبعنا). أما غلاف العدد الرابع، فهو، أخيراً، يحمل صورة جسد لرجل. في أي حال، الأجساد الذكورية موجودة بكثافة داخل المجلة منذ عددها الأول.
لو أردنا أن نربط بين مجلة ‘’جسد’’ وخطابها، وتجربة جمانة حداد الشعرية، فسنلاحظ بينهما تواصلاً وانسجاماً..
– فعلاً. فلطالما كان الجسد تيمتي الأثيرة في كتابتي الشعرية، والفضاء الذي تتحرك فيه تعبيراتي وتخيلاتي وأفكاري، ولأجل ذلك أعتبر المجلة، ‘’طفلتي’’ الجديدة هذه، قصيدة من قصائدي، وإن مكتوبة بشكل آخر. هي قصيدةٌ ذاتُ تمثل مختلف على الأرض، لكنها حتما قصيدة. هكذا أعيشها وأتعامل معها. هناك خيط واضح يربط كتاباتي وقراءاتي ودراساتي واهتماماتي الشعرية والأدبية والصحافية، وحتى الحياتية، بموضوع الجسد، وأنا أرى أنها أجزاء متكاملة ومنسجمة مع نفسها، تحت سقف جامع هو أنا.
هل أخذتك هذه التجربة بعيدا عن تجربتك الشعرية؟
– من الصعب، بل من المستحيل أن يسرقني أي شيء من الشعر. الشعر يفرض وقته فرضاً. هو رجل ذو عنفوان وأنانية هائلين، يخلع الباب عندما يشاء ويخبط قدمه بالأرض وينهرني قائلاً ‘’الآن الوقتُ وقتي. اتركي كل شيء واتبعيني’’. فأطيع على الفور. أنا الآن في الواقع في صدد إنجاز مجموعتي الشعرية الجديدة، وعنوانها ‘’كتاب الجيم’’، وهي نوع من الأوتوبيوغرافيا الشعرية بخمسة فصول مختلفة تصوراً وشكلاً، لكنها منصهرة في ما بينها. أعمل عليها منذ نحو السنة، ولست مستعجلة على الإطلاق حيال إنهائها ونشرها. تعلمتُ مع الوقت الرضوخ لإيقاع الشعر المزاجي، وعدم الرضوخ في المقابل لإرهاب ‘’ضرورة النشر’’. ثم إنني نشرت كتابي الأخيرين في أواخر العام ,2008 أعني الأنطولوجيا والديوان اللذين أنجزتهما حول تيمة الشعراء المنتحرين، وكانا تطلبا مني أربع سنوات متواصلة من الكد والجهد. كتبي الشعرية، خصوصاً الأخيرة منها، لم تعد عملية جمع لقصائد متنوعة تدور حول تيمات مختلفة، بل هي كتاب متكامل حول موضوع واحد: أي أن حركتها باتت حفرا عموديا بدلا من أن تكون توسعاً أفقيا. أحاول أن أحفر في تيمة واحدة، في فكرة محددة، قدر الإمكان، حتى ‘’أمص’’ دماء هذه الفكرة كلها. من جهة أخرى، أنا على وشك إنهاء كتاب ثان يصدر في أوروبا السنة المقبلة، وهو عمل نثري حول المرأة العربية، انطلاقاً من تجربتي وحياتي الخاصة، أنجزته بناء على طلب من الناشر، وعنوانه ‘’قتلتُ شهرزاد’’.
الداعمون العرب أدركواالخطورة والماركات تخوفت.. والجميع هرب
في العودة إلى المجلة، هناك فلاسفة فرنسيون فتحوا موضوع الجسد مبكرا في الثقافة العالمية، مثال على ذلك ميرلو بونتي (1908-1961)، وهو من أكثر الفلاسفة الذين حفروا للجسد في الفلسفة، وكان قال في كتابه ‘’فينومينولوجيا الإدراك’’، الذي صدر العام 1945 ‘’جسدي ليس أمامي، في مواجهتي. ليس موضوعا قائما بذاته أو شيئا مستقلا عني. بل أنا جسدي’’. لماذا لم أجد لميرلو بونتي وفلسفته حضورا في مجلة ‘’جسد’’؟
– أنت على حق. ولكن علينا أن نعي أن ‘’جسد’’ مجلة فصلية، وليست كتاباً يصدر مرة واحدة. أي أنها بالكاد بدأت تقول ما تريد قوله، وشرعت تناقش ما تريد مناقشته. هي مجلة ستعيش وتستمر وتكبر طوال سنوات آتية كثيرة، وتيماتها أكثر تشعباً وغنى من ن تستنزف ذاتها في بضعة أعدادأنأن تستنزف ذاتها في بضعة أعداد. صدقني، هناك أمور وظواهر وفلسفات عديدة موجودة على أجندتي الصغيرة هذه، من التي أتشوق، بل أتحرق للتطرق إليها في المجلة. لكني أقول لها انتظري. سيأتي دوركِ. لا يمكن أن يتحقق كل شيء في عدد أو عددين أو ثلاثة. سيكون مضحكاً، بل محزنا جدا، أن أزعم أن المجلة قالت في ثلاثة أعداد كل ما كانت تريد قوله.
قلت إن لديك تصوراً لعشر سنين مقبلة للمجلة، في ردك على من يعولون على نفاد موضوعات الجسد بعد ثلاثة أعداد..
– حداد: فعلاً. ولم أكن أبالغ.
هل هناك أي دعم مادي لـ’’جسد’’؟
– لا للأسف. ليس هناك أي دعم مالي حتى الآن. أنا استثمرت مبلغا من مالي الخاص لكي تولد، ولم أرغب بأي شريك كي لا أساوم على حرية التعبير فيها. لقد منيتُ بخيبات أمل كثيرة حين بحثتُ في البداية عن شركاء ماليين في العالم العربي. إذ واجهتُ أمرين، كل منهما أشد سوءا من الآخر: إما لم يُرد أحدٌ التورط في هذا الموضوع بسبب ‘’خطورته’’، وإما ثمة من وافق على خوض المغامرة، لكنه أراد أن يفرض شروطاً حول الخطاب والمادة التحريرية، وهذا طبعا ما لا يمكن أن أساوم عليه على الإطلاق. كنت أضع أيضا آمالا كبيرة في الإعلانات، لأن كل ما نراه ونشتريه اليوم، كل ما يسوق له، هو على علاقة بالجسد، من ثياب أو منتجات أو ماكياج أو عطور الخ. لكن بسبب المعايير المزدوجة التي نعيشها، حتى الماركات العالمية تخشى النشر في مجلة ‘’جسد’’ خشية خسارة أسواق مثل السعودية مثلاً، على ما قالته لي إحدى شركات الإعلان. سأظل أحاول تقديم طلبات منح إلى مؤسسات ثقافية يمكن أن تدعم مشروعا من هذا النوع، وإذا حصل ذلك فسيساعدني الأمر كثيرا في استعادة التوازن على المستوى المالي. ولكن إذا لم يحصل، فستستمر المجلة بعرق جبينها ومبيعاتها ونسبة الاشتراكات فيها، رغم الصعوبات والتحديات، علما أني أصر على أن أدفع للكتاب مكافآت، ولو متواضعة، نظير مساهماتهم.
لستُ «سوبر وومن» لكنني امرأة لها ولأنوثتي علي حق
لدي ملحوظة بسيطة وهي أن الكتاب غير مُعرف بهم في المجلة، أي ليس هناك تعريف بهم؟
– غالبية كتاب ‘’جسد’’ معروفون أصلاً في الحياة الأدبية والصحافية العربية، ولكن طبعاً أحب أن تكون هناك صفحة مخصصة للتعريف بهم لمن لا يعرفهم، وقد أبدأ بهذا التقليد انطلاقاً من العدد الرابع. أنا أعترف بأن هناك نواقص في المجلة، وبأن ثمة أمورا قابلة للتطوير والتحسين. ولكن عليك أن تدرك أمراً مهما، وهو أني أقوم بالجزء الأكبر من التفاصيل وحدي. ثم إنني لستُ متفرغة لـ’’جسد’’: فأنا صحافية مسؤولة عن صفحة ثقافية يومية، وكاتبة لها التزاماتها، وشاعرة لها أوقاتها، ومنسقة لجائزة أدبية، فضلاً عن أسفاري الكثيرة لإحياء أمسيات شعرية في الخارج نتيجة ترجمات كتبي. ودعنا لا ننسى أني زوجة وأم أيضاً، ولولدي وشريك حياتي حقوق علي، وأحاول أن أخصص لهم الوقت وسط هذه المشاغل. ثم إني امرأة كذلك، ولأنوثتي ومتطلباتها حق علي بدورها، ولا أطيق إهمالها. إذا فكرت، فستجد أن كل هذه الأعمال تحتاج إلى فريق عمل، بينما يقوم بها في الحقيقة شخص واحد. لستُ ‘’سوبر وومن’’، ولأجل ذلك لا مفر من أن تغيب عن بالي بعض الأمور التي من شأنها أن تحسن المجلة. وأتمنى أن تسمح إمكاناتي في الوقت القريب بتوظيف شخص أو اثنين لمساعدتي. لكن ‘’جسد’’ غنية وأنيقة شكلاً ومضمونا، وهي تريد لنفسها أن تصير أفضل، وأجمل، وأعمق: وفي طموحها هذا، يكمن رهان نجاحها. أي أنها ليست متبجحة ولا منغلقة على منجزاتها. أكرر: هي بيت. والبيت يصنعه أهله، يوماً بعد يوم.
إذاً ليس للمجلة مكتب حتى الآن؟
– لا. بل ‘’أكونها’’ في رحم رأسي وبيتي، وفي أحيان كثيرة أيضا من على كومبيوتري المحمول الذي يرافقني أنى ذهبت. طبعاً، طموحاتي لها كبيرة، لأن ‘’طمعي’’ بلا حدود. لكنها في الوقت الحاضر تتشكل في زاوية صغيرة (2م x 2م) على شرفة منزلي التي أغلقتها بالزجاج لكي أحولها مكتباً صغيراً.
هل من كلمة أخيرة؟
– كلمة شكر وامتنان عميقة وصادقة لكل من يخوض معي هذه المغامرة الرائعة: شريك حياتي ووالداي الذين يدعمونني إلى أقصى الحدود، معنوياً وعملياً على السواء؛ أصدقائي (على قلتهم)؛ أعدائي (بسبب تحريضهم الدائم لي)؛ الكتاب والفنانون العرب الذين يقفزون معي فوق الهوة في كل عدد جديد، بلا خوف من الوقوع والأذى؛ وأخيراً القراء الذين يغذون ‘’جسد’’ باهتمامهم ونهمهم وحبهم. أدين لجميع هؤلاء بالكثير.