الديمقراطية العصية الجزء2

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=182425

ندوة حول كتاب "الديمقراطية العصيــة فـي الخليــج العــربي"
الديمقراطية العصية الجزء الثاني والأخير

فريق مركز الحوار: علي الديري، باسمة القصاب، أحمد الساري

ضيوف مركز الحوار: د. باقر النجار- د. إبراهيم غلوم- د. حسن مدن- منى فضل- عباس المرشد- حسين مرهون:

NED_8824

هل يصح القول إن الديمقراطية ما تزال عصية على التحقق في المجتمعات الخليجية* وهل المسؤول عن هذا الاستعصاء هي الأنظمة السياسية وحدها* وإلى أي مدى يمكن أن تكون مؤسسات المجتمع المدني قادرة على تحقيق عمليات التحول الديمقراطي في المنطقة العربية وتحديداً في الخليج* وما دور منظمات المجتمع المدني في عمليات التحول الديمقراطي في العالم* وما مفهوم المجتمع المـدني*

أسئلة يحاول مركز حوارات (الوقت) إثارتها من خلال كتاب ”الديمقراطية العصية في الخليج العربي” للباحث السيسيولوجي باقر النجار، الذي حاز على جائزة الشيخ زايد للكتاب فى مجال التنمية وبناء الدولة هذا العام .2009 ومن خـلال هـــــذا الحــــوار أيضــــاً، يحاول تقديم قـــراءة نقديــة للكتـــاب مــــــع مجموعـــــة من الباحثـــين والمهتمين والمثقفين

تبيئـــة المفهـــوم

· الوقت: ألم يُبيّأ في هذه الدراسة بشكل يجعله مفهوما قابلاً لقراءة وتفسير التحول في هذه المجتمعات؟

– فضل: النجار يشير إلى نقطة مهمة في الكتاب، وهي أن هذه المجتمعات تأخذ صفة الحداثة في جانب، وتتناقض مع ذلك في جوانب أخرى، أي أنها تظهر بأنها مجتمعات حديثة في ممارسات معينة، وفي نفس اللحظة بممارسات أخرى تظهر بأن بينها وبين الحداثة بون شاسع، وهذا التناقض يعكس نفسه حتى على مستوى مقاربة مفهوم المجتمع المدني لهذه المؤسسات. أنا أعتقد بأن النجار كان فعلاً يمر بحقل ألغام في هذا الجانب، خصوصا عندما يستعرض أي مؤسسة من مؤسسات المجتمع ويحاول تصنيفها إلى مؤسسة اجتماعية أو أهلية أو عندما يقف على المؤسسات الدينية وإمكانية تصنيفها كمؤسسات مدنية، فعلى سبيل المثال تعرّض النجار بشكل واضح للجمعيات الخيرية، فهي ذات طابع خيري، وهي في نفس الوقت محل تنازع بين مجموعة قوى سياسية، وبعضها واجهة للدولة، فأين يمكن أن تصنفها*

· مرهون: يبدو لي أن المنهج الذي استخدمه النجار هو الذي يقوده ليتبنى مفهوماً واقعياً للمجتمع المدني، وهو منهج معروف في العلوم الاجتماعية يقوم على الجداول الإحصائية أكثر من قيامه على نظرية يشتغل بها ومن ثم يثبتها أو ينفيها في المجتمع، هو اشتغل على الجداول الإحصائية والأرقام المتوافرة ومن ثم نظر إليها بشكل واقعي وصاغ مفهومه منها، بدلا من أن يستحضر مفهوماً ناضجاً أو جاهزاً ومن ثم يحاول أن يقرأه قسراً في المجتمعات محل البحث، ويبدو لي بأن هذا المنهج هو الذي قاده إلى أن يبني مفهوماً للمجتمع المدني أقرب لما هو قائم وواقعي.
– غلوم: لا شك أن هذا الموضوع هو المفصل الجوهري في الكتاب. في البداية أحب أن أقول إن مفهوم المجتمع المدني الحديث الذي انتهى إليه النجار على الأقل، ومن ثم قام بإسقاطه على مجموعة من المحصلات التحليلية المباشرة على الواقع، هذا المفهوم يتفق مع الحالة الراهنة الواقعية، الحالة الطبيعية التي تشكل فيها مفهوم ليس هو المفهوم الحقيقي للمجتمع المدني، وإنما هو نسبياً الحد الأدنى المقبول في فهمنا للمجتمع المدني الحديث، وهذا ما اعترف به النجار حقيقةً، هو تدرج قليلا قليلاً إلى أن حاول في نهاية الأمر أن يأخذ بتعريف سعد الدين وقنديل على اعتبار أن المجتمع المدني الحديث هو فضاء عام لهذه الحريات النسبية في عمل الجماعات الفردية التي تحاول أن تؤسس لها مصالح مشتركة في المجتمع، هذا المفهوم خطير جداً للمجتمع المدني الحديث إذا ما ربطناه ربطاً ميكانيكياً بالديمقراطية، لأنك في نهاية الأمر إذا قمت بتحليل ذلك ووصلت إلى أن هذا المفهوم لم يستطع أن يقدم شراكة حقيقية بين هذا المجتمع وبين الدولة في تأسيس الديمقراطية، فمحصلة الديمقراطية إذن هي صفر! وهذه هي المشكلة الآن أمام مثل هذا الكتاب. السؤال هو: ما هو المفهوم المتكامل أو الرصين للمجتمع المدني الحديث الذي نستطيع على الأقل أن نؤمّن معه تحقيق الحد الأدنى من الديمقراطية فيما بعد* إذا ذهبنا إلى الجانب الأنضج في هذا المفهوم، فسيكون ذلك متمثلاً في الأحزاب السياسية أو التنظيمات التي تستطيع أن تشكل معارضة واضحة ومن ثم تستطيع أن تدخل في علاقة تبادلية مع مؤسسة الدولة، أما المؤسسات التي تدخل في نطاق ما سماه النجار نفسه التضمانيات أو تعبر عن الخطوط الموجودة داخل المؤسسة الرسمية وما إلى ذلك، فذلك يناقض المفهوم الأساسي للمجتمع المدني الحديث.

· المشكلة أو الخطورة تقع في افتراض أن مؤسسات المجتمع المدني الحديث في مفهومها الضيق ستجيب لنا على المسألة الديمقراطية بوصفها قرينة لها، لذلك لا بد أن ننقد مفهوم المجتمع المدني الحديث أولاً، وأن نختبره أكثر، حتى نختبر بعد ذلك مآلات الديمقراطية المصاحبة له. أنا لا أزعم بأنه من الممكن أن نحقق وصفاً دقيقاً وتفصيلياً للديمقراطية، ولكن عندما نأتي ونتحدث عن وصفات مرتبطة بالديمقراطية بهذا الشكل هنا تقع الخطورة في عدم تدقيق المفاهيم وكأننا نحكم على الديمقراطية بما نضيفه حولها من مفاهيم لا بما نوسعه ونطلقه.

· الخيارات التي ذهبت إليها الدراسة في استخلاصات الدكتور باقر لمفهوم المجتمع المدني الحديث، فيما أعتقد، ضيقة ولا تتناسب مع الحالة التي بلغتها مجتمعات المنطقة في الخليج، وهو يعترف بذلك، فهذه الحالة فيها ما هو تقليدي حتى النخاع، وفيها ما هو حداثي حتى النخاع، وفيها ما يقع فيما بعد الحداثة حتى النخاع، وربما توجد ظواهر أكثر تخلفاً مما يتصل بالتقليدية، كلها مجتمعة موجودة في الحالة الاجتماعية التي تنتمي إليها الثقافة في مجتمعات الخليج العربي! إذن كيف يمكن أن يستقيم هذا المفهوم المحدد والمصغّر للمجتمع المدني الحديث مع هذه الحالة المعقدة، هناك زمن نحتاج فيه لأن ينضج مفهوم آخر للمجتمع المدني الحديث، حتى نستطيع أن نقايسه مع الديمقراطية، وحتى يكون مؤشراً للديمقراطية، وأعتقد أن الجانب الغائب الأكبر في هذا التحديد، لا يتصل بهذه المؤسسات، من حيث تعبيرها كما قالت أماني قنديل عن فضاءات تتصل بالجماعات ومنافعها ومصالحها المشتركة القريبة من الجماعية، وإنما الأمر يتصل بما هو مهني، أو ما يتصل بفضاء المهنة من الناحية الاقتصادية والأخلاقية.
هذه المؤسسات، مؤسسات المجتمع المدني الحديث، عندما نشأت، لم تنشأ في الحقيقة لكي تجمع طوائف ونخب وشرائح ذات أصول قبلية أو غير قبلية، إسلامية أو ليبرالية،..الخ، وإنما أساس قيامها هو المحافظة على المهن، والمحافظة على قيم اختصاص محددة. أريد أن أقول أن ما غاب في تحديد هذا المفهوم المختزل للمجتمع المدني الحديث، هو ما يتصل بالجانب المهني فيها، وهو في الحقيقة الذي يشكل الآن فيما بعد كتاب النجار، أكبر الثغرات في مؤسسات المجتمع المدني الحديث. الفساد الأكبر في ممارسة المهن وأخلاقياتها بات يشكل الحلقة الأضعف في هذا المفهوم بمنطقة الخليج هو هذا الجانب، أي أن هذه المؤسسات نحّت تماماً الجانب المهني الخاص بها، واهتمت بمعايير النخبة، وهذا المأزق هو الذي وقع فيه منهج الكتاب، ولذلك مآل التحليل السوسيولجي الذي اجترحه النجار إلى رؤية ماركسية في الأخير، أو إلى تحليل ماركسي مباشر للنخب، أصبح المعيار الأساسي في قياس العلاقة بين المؤسسات وهذا المفهوم الذي تحدد وتصغّر فيما لخّصته أماني قنديل في الثلاثة نقاط الأساسية وهي: التنظيم، وإرادة الأفراد، والاستقلالية.

· أتصور أن هذه النقاط التي تختزل هذا المفهوم في هذه الحالة جعلت التحليلات الداخلية في متن الكتاب تؤول إلى تحليلات اجتماعية للنخب فأصبحت النخبة هي معيار التحليل الخاص بهذا المفهوم، ولذلك أصبحت معايير زاوية النظر لدى النجار محدّدة بشكل متواتر وميكانيكي، فكلما دخل على تنويعة من تنويعات المجتمع المدني الحديث، دخل إليها من إطار النخبة، والمعيارية النخبوية، هل هذه الطائفة حافظت على نفسها* هل عبرت عن مواقف معينة* وغيرها. ولكنه لم يتطرق نهائياً إلى حدود محافظتها على المهنة، ولا إلى الطبيعة الأساسية التي نشأت هذه الجمعيات من أجلها، ولم يحلل أي فعل مباشر يتصل بإنجاز هذه المؤسسات لما هو مهني خاص، فحتى على سبيل المثال، الجمعيات النسائية، وماذا صنعت للحركة النسائية كحراك تاريخي* حتى هذا لم تلمسه في التحليلات بشكل مباشر. ما أعنيه به في طرحي لهذا الإشكال ضرورة أن نتجاوز المعيارية الخاصة بالنخبة والحداثة، لأن الدكتور ركّز على مفتاح الحداثة والنخبة، وهو مفتاح لا يكفي وحده لفك هذه الصورة المعقّدة لمفهوم المجتمع المدني الحديث.

الدولة والمجتمع السياسي

-مدن: قلت سابقاً يجب اعتماد أكثر من ثنائية في التحليل، فثنائية الدولة والمجتمع المدني هي إحدى الثنائيات وهي غير كافية للإحاطة بكل هذه الخريطة المعقّدة في مجتمع الخليج، فعلينا أن نبحث عن إطار مركّب يمكن أن يسع كل ذلك. تنبّهت إلى سؤال من حديث الدكتور إبراهيم أود أن أطرحه على الدكتور النجار: عند الحديث عن الأحزاب أو التيارات السياسية، فالنجار تحدّث عن أن هذه الأحزاب أقرب إلى ”المجتمع السياسي”، في حين أن هيجل مثلاً كان يعتبر الدولة هي ”المجتمع السياسي” مقابل المجتمع المدني، فما هو سر حذرك في التعاطي مع الأحزاب السياسية أو التيارات السياسية (في الكويت مثلاً)* شخصياً شعرت بأنك تحاشيت الاقتراب من هذا الموضوع، رغم أني أتفق معك في أن الأحزاب السياسية في هذه البلدان هي أقرب للمجتمع المدني، فما الذي جعلك تقفز على ذلك*

– النجار: لم يكن لدي شك حول انتساب مفهوم المجتمع المدني إلى الحداثة، كل التعريفات التي مررت بها وكل الدراسات تشير إلى ذلك، إلا أنني وجدت في الكثير من التعريفات التي جاءت ليس فقط على منطقة الخليج بل على المنطقة العربية بشكل عام، لم أجد هناك ثنائية الدولة والمجتمع المدني بالصورة التي تطرحها التجربة الأوربية أو حتى بالصورة التي تطرحها تجربة أمريكا اللاتينية وآسيا، هناك الثنائيات الدينية المعروفة بانقساماتها المذهبية والطائفية بين شيعة وسنة ومسلمين ومسيحيين، والثنائيات العرقية المعروفة عرب وغير عرب أو اصايل وبياسر، هذه الجماعات في بعضها قد شكّلت هياكل وجمعيات هي خارج الدولة، وبعضها قادرة على أن تحدث تغيير في سلوك الدولة، بل أن هذه الجماعات قد أصبحت من القوة بحيث تهدد الدولة. صحيح أنها تقف قبالة هذه الجماعات، لكنها تدخل في هذا الفضاء العام. أنا لا أستطيع أن أنفي وخصوصاً في حالة مجتمعاتنا أن هذه الجماعات لها بشكل أو بآخر قدرات تأثيرية على ممارسات الدولة تفوق قدرة المجتمع المدني فضلاً عن التنظيمات الحزبية أو السياسية، وقد أشرت في الدراسة إلى أن بعض المنظمات في الخليج وحتى في البحرين تنتسب إلى المجتمع المدني، إلا أنها تمثّل الطّائفة أو تمثّل القبيلة أو أنها تمثل الجماعة الأثنية (كما في حالة الكويت) إلا أنها تنتسب من حيث الشكل ومن حيث الممارسة الداخلية -كانتخاب الرئيس، وعقد الجمعية العمومية- إلى عالم منظمات المجتمع المدني، وأنا لم أستطع أن أنفي أو أستبعد انتسابها للمجتمع المدني. وهي ثنائيات يجب ألا نأخذها في بعدها الانفصالي وإنما في حقية تشابكها وتداخلها مع الجماعات الأخرى في المجتمع.
فيما يتعلق بالأحزاب، فقد ناقشت الأحزاب من خلال مناقشتي لواقع منظمات المجتمع المدني، ولربما كنت لا أريد في مناقشة الأحزاب كجزء من المجتمع المدني، متأثراً ببعض المدارس التي تفصل بشكل واضح بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، ((مع اعترافي بأن حالة الأحزاب السياسية في عموم المنطقة العربية ونتيجة لغياب أي شكل من أشكال تداول السلطة، ممكن أن تنتسب إلى عالم المجتمع السياسي أسما، إلا أنها تنتسب عمليا في هذه الحالة إلى المجتمع المدني)). المشكلة في منطقتنا العربية بشكل عام أن الاحزاب السياسية وخصوصا تلك المعارضة ونتيجة لغياب أي شكل من أشكال المشاركة في القرار أو حتى الحرية في التعبير عن أطروحة سياسية معارضة لأطروحة الدولة، وهي بهذا تقف في خانة المقابلة لمفهوم منظمات الغوغوز أي المنظمات التي اسما ممثلة للمجتمع المدني إلا أنها فعلا ممثلة للدولة.

– غلوم: من خلال مطالعاتي للكتب التي بحثت في المجتمع المدني الحديث، لم أجد أحداً على الإطلاق في الحالة العربية من تناول الجانب المهني لمنظمات المجتمع المدني، وذلك ينسحب على كتاب الدكتور باقر النجار، مما خلق فراغاً واضحاً في معالجته لمفهوم المجتمع المدني، ودائماً ما ينظر إلى المجتمع المدني الحديث على أنه نخب تدافع عن مصالحها الضيقة، وأعود لأقول إن خطورة هذا الموضوع أنه يكرّس الشتات، يكرّس المفهوم الضيّق للمجتمع المدني الحديث، وبالتالي يكرّس نتائج غير دقيقة عن الجانب العصيّ للديمقراطية، فكلما أمعنّا النظر لهذه المؤسسة على أنها نخب تحمي نفسها كأفراد وكجماعات، معنى ذلك أننا أقصينا ونحّينا تماماً كل ما يتصل بالفضاءات الثقافية الخاصة بها، وممارساتها المهنية. أضرب مثالاً قريباً، وهو إدانة جمعية الصحفيين لأحد الوزراء، هل أطلقت هذه الجمعية مثل هذا الموقف لكي تصقل المهنة والحرفة وميثاق الشرف الخاص بممارسة الكتابة الصحفية* أم أن ذلك يتّصل بالدفاع عن الصحيفة والمؤسسة والأفراد والجماعة* هذا سؤال مهم جداً، فإذا كانت إدانة الوزير للسبب الثاني، فهذا هو جوهر المأزق الذي نعيشه، هذا يعني أن تحليلنا وتأصيلنا لمفهوم المجتمع المدني الحديث يفتقر لمساحة عريضة لم ندمجها بعد ولم نوظفها في تحديد هذا المفهوم! ولذلك فإننا نعيش اليوم حالة من الفساد وانعدام المصداقية في ممارسة المهنة، وما يمكن أن يوصف باللا أخلاقية الممعنة في ممارسة الكثير من المهن ومثال الكتابة الصحفية حاضر في ذلك بقوة، وقد أشار الدكتور إلى الجانب الأخلاقي في ذلك، وهذا جانب لا شك بأن له علاقة قوية ومتينة بالتأسيس للديمقراطية.

– النجار: صحيح أنني تناولت النخب، فهذه المنظمات منظمات نخب وليس منظمات عموم، وأنا اعتقد بخلاف بعض التنظيرات التقليدية أن للنخب، وتحديدا تلك الممثلة للطبقة الوسطى في أي عمليات التحول المجتمعي. ربما أكون قد عالجت النخبة وممارساتها وتشتتها بشكل واضح عندما تطرّقت للطبقة الوسطى، فهذه النخب لا تمثل طبقة عليا، وإنما هي جزء من الطبقة الوسطى. شتات وتفرّق هذه الطبقة، هو جزء من ضعف أداء منظمات المجتمع المدني، وهو نتيجة لحالة التشتت الذي تعيشه الطبقة الوسطى، وقد أشرت إلى ذلك بشكل واضح. أما فيما يتعلق بالمنظمات المهنية، فقد أشرت إلى سلوك هؤلاء المهنيين التي قد تعتبر ممارسات لا أخلاقية، ونزوعهم نحو تراكم الثروة، وممارساتهم الممعنة بالفساد، أشرت إلى ذلك بشكل واضح في الفصل الخاص بالمنظمات المهنية.

المجتمع العصي

· الوقت: إذن لدينا حالة مجتمع ودولة ومنظّمات، وأفراد فاعلة في هذا المجتمع وفي هذه المنظّمات، ولدينا مفهوم يريد أن يفسّر هذه الحالة، هو مفهوم المجتمع المدني، كما يبدو بأنه ليس هناك تطابق بين هذا المفهوم وبين هذه الحالة في وضعها الراهن، فالحالة التي يريد أن يفسرها هذه المفهوم لا زالت تعمل في مؤسساتها تضمانيات قبلية وعائلية وطائفية وهي دون المجتمع المدني، كما أن الدولة في الحالة التي يشتغل عليها المفهوم هي السلطة الممسكة بكل شيء مستخدمة تلك المؤسسات لصالحها بإعطائها صبغة مدنية شكلية في حين أنها تتبعها في مضمون ممارساتها، وعليه فإننا يمكن أن نصف هذا الواقع بالنسبة إلى مفهوم المجتمع المدني الذي اشتغل عليه الكتاب، بأنه حالة عصيّة على هذا المفهوم.

· من الملاحظ بأن الكتاب حين يأتي إلى محاولة تفسير أو دراسة أي ناحية من نواحي هذه الحالة، يبدأ بفرز كل التعاضدات الموجودة في مؤسساتها، فهل متطلبات هذا المنهج السوسيولوجي تفرض أن يعرض الباحث لدى دراسته لتجمّع كتجمّع أسرة الأدباء لتصنيف أعضائها إلى ذوي الأصول الريفية أو الشيعية أو السنية* أو أن يقسم أعضاء غرفة التجارة إلى فئة العجم وفئة البحارنة وفئة السنة وفئة الهولة، وهكذا بقية المنظّمات والمؤسسات* فهل هذا المنهج يفرض علينا أن ندرس هذه المكونات، تعاضداتها وانتماءاتها وأصولها، وهل الدراسة بهذا الشكل تثبت بأن حالة المجتمع خاضعة لهذه التعاضدات* أم أنها تكشف لنا شيئاً آخر لا نريد أن نراه؟

· مدن: أنا أعتقد بأن هذه التصنيفات التي قام بها النجار مهمة ولها مغاز، ولكنها ربما كانت بحاجة إلى تحليل وشرح. أنا كناشط سياسي يمكن أن أسأل لماذا كانت حركة القوميين العرب قد نشطت في المناطق السنية أكثر من المناطق الشيعية* حتى حديث النجار عن غرفة التجارة. ورغم الالتفاتة الذكية والمهمة فيما ذكره عن ”الأثرياء الجدد” أو الطارئين في الغرفة، إلا أن تعداده للتبويب العائلي ومن ثم الإيدلوجي (الطائفي) للأعضاء كان بحاجة لوقفة، كانت هناك حاجة للإجابة على سؤال لماذا* وأنا أعتقد بأن الدكتور جدير بهذه المهمة بلحاظ الإحاطة والمعرفة التي تميّز بها في دراسته البحثية. مع ذلك، وكما أشار الدكتور إبراهيم، يبدو لي أنه كان هناك إسراف في تفكيك هذه المكونات في بعض الحالات بدون مغزى، ومثال على ذلك، ما أشار إليه الكتاب عن انتشار اليساريين في قرية باربار! هناك واحد أو اثنان من النشطاء في هذه القرية استطاعوا أن يؤثّروا، وهذا لا يحمل أي مغزى، أعتقد بأن هناك أمورا حمّلها الكتاب أكثر مما تحتمل.

· نعم، هناك حاجة إلى مثل هذه التصنيفات أو التفكيكات لهذه المكونات وردّها إلى أصولها الطائفية أو الإثنية، ولكن بغرض البحث عن المغزى، أو الظروف التي أدت إلى أن تنشأ مثل هذه الظاهرة، ودلالاتها، فلماذا هناك غالبية سنية أو غيرها في هذه المؤسسة أو تلك هو سؤال يبحث عن إجابة* ولكن هناك أمور أخرى فيها تعسّف أو لم يكن لها ضرورة، وهذا ينطبق على المثال الذي أشرت إليه، وينطبق كذلك على أسرة الأدباء، فبرأيي ليس هناك أهمية تذكر لكون بعض الأدباء أو الشعراء البحرينيين (من أعضاء الأسرة) ينتمون إلى المدن والبعض الآخر ينتمي إلى القرى، فهذه ظاهرة طبيعية في أي مجتمع، الحركة الثقافية والأدبية الإبداعية في مصر على سبيل المثال هي الآن أهم في الأرياف منها في المدن الكبرى. برأيي أن الإشكال ليس في هذا المبدأ أو المنهج التفكيكي ولكن فيما يمكن أن يوصف بالتعسّف أو الإسراف في استخدامه.

التصـنيفـات العصيــة

· الوقت: في السياق نفسه، الدراسة تقول، إن جل أعضاء نادي العروبة ينتمون إلى الطائفة الشيعية، وتحديداً من العوائل التجارية الشيعية التقليدية المقيمة في مدينة المنامة. هذا واقع سوسيولوجي موجود، ولكن لأي درجة هو صادم، أو لأي درجة هو يتناقض مع (العروبة) التي سعت لأن تجمع الكل بعيداً عن الانتماء الطائفي أو العائلي.

· – غلوم: بالنسبة إلي، بعد قراءتي للكتاب، كان هذا الموضوع هو أكثر الموضوعات التي أقلقتني، سواء فيما يتصل بمنهج الكتاب، أو ما يتصل بالمحصّلات التي راكمها، أو ما يتصل بالربط بين الديمقراطية والمجتمع المدني الحديث، ذلك أن هذه الآلية المنهجية التحليلية أربكتني، وأعطتني صورة مخالفة للكثير من المسلّمات والقناعات والتأسيسات التي بدأ بها الكتاب. على سبيل المثال، انتهى الكتاب في تحليله لمفهوم المجتمع المدني الحديث، إلى أنه سيسير في اتجاه محدّد بالتعريف الذي تحدّثنا عنه، وهو الفضاء العام الذي يعبّر عن حريّة نسبية ومصالح مشتركة لفئات في المجتمع، تتفق على احترام الاختلاف فيما بينها وما إلى ذلك. ورغم اتفاقنا على ذلك، إلا أننا إذا دخلنا إلى متن التحليل، فسنجده ينقض ذلك، ويعود إلى الإثنيات، والأصول القبلية، أو الطائفية، وكأنه يعود إلى مقايسة مفهوم آخر للمجتمع المدني الحديث، وهذه في الحقيقة مشكلة. هذا في الجانب المنهجي، أما الجانب الأخطر فهو ما يتصل بالتأسيس لفكرة الديمقراطية. أنا لا أشك في أن أنبل هدف لهذا الكتاب هو أن يؤسس للديمقراطية، ولكن هذه النقطة أوقفتني كثيراً، واعترضتني لي فيها مسألة أخلاقية، فكيف يمكن أن يستقيم التأسيس للديمقراطية مع الحفر في هذه المنابت المغلقة والتحيّزات الثقافية والتي تشكل الأساس الأول في تدمير مفهوم المجتمع المدني الحديث، فلم يفشل تأسيس مجتمع مدني حديث في هذه المنطقة إلا بسبب هذه المنابت والرواسب، التي اتخذتها التحليلات داخل الكتاب كأسس معيارية في تقييم هذه المؤسسات.

· هذه مسألة جدّ دقيقة، وهي تتصل بغرام الدكتور باقر في بحث الأسس والدوافع الاجتماعية، باعتبار أنه سوسيولوجي، ولذلك هو يحاول أن يفكك الأبعاد الثقافية لهذه التجمّعات من هذا الجانب. ولكن هذا الأمر – حسبما أعتقد – تجاوزته الدراسات السوسيولوجية بمسافات بعيدة، فليست هذه هي الآلية المنهجية الأفضل والأحدث والأنجع في دراسة حالة مثل حالة مؤسسات المجتمع المدني الحديث في الخليج. بالإضافة إلى ما ذكره الدكتور حسن، هناك مسائل كثيرة استعصت على فهمي، فوجدتها جميعاً من باب التعميم المطلق، فمجتمعنا البحريني وحتى مجتمع الكويت ومجتمع قطر، مجتمعات متعددة، ورغم اختلاف نسبة التجانس فيما بينها، إلا أن التوغل في ربط هذا التعدد بتكوين هذه المؤسسات فيه خلل كبير! وكنتيجة لهذه المحصلة أو الصورة التحليلية التي وجدناها أمامنا لا يمكن أن تنهض ديمقراطية في هذا المكان من الأرض أي في الخليج العربي، أقول لا يمكن وليست تستعصي. نحتاج في هذا الموضوع أن نراجع فيه أنفسنا، هناك أحكام هي من قبيل التعميم، عندما نأتي لجمعية الإصلاح الإسلامية ونقول إن أعضاءها من العرب الهولة أو إلى الجمعيات الإسلامية السلفية ونقول إن أعضاءها من القبائليين، يصعب علينا أن نقبل هذه الافتراضات كمسلمات تعزز النخبوية المعاكسة للديمقراطية.

·

· فضل: أنا أيضاً أختلف مع الدكتور في هذا الجانب إلى حدّ ما، فبرأيي هناك مغالاة في الطريقة التي شخّص بها الكتاب القوى الاجتماعية، تفاعلاتها وما يمكن أن تعطى من مسميات، بحيث تؤدي بنا إلى اللاديمقراطية، وربما يكون لها مفعول معاكس للهدف الذي جاء لأجله الكتاب، وربما كان في ذلك إجحاف كبير بهذا الإنتاج العلمي. حسن مدن ينطلق في رؤية تحليله لهذا الموضوع من كونه سياسيا محترفا، ولكني حين أضع نفسي مكان النجار في الجانب المهني من دراسته كمحلل سوسيولوجي، فإنني أعتقد بأنه من الضروري سوسيولوجياً أن نشخّص حالة أي مجتمع بهذا الاستعراض، فأي تشخيص سوسيولوجي لحالة معينة في المجتمع أو ظاهرة ما تتعلّق بمؤسساته، فإنه لا بد سيستعرض القوى الموجودة في هذه المؤسسات وكيف تتفاعل مع بعضها البعض، وما تفرزه العلاقات المتشابكة والمعقّدة فيها. بالنسبة إلينا، هذا الكتاب من الكتب النادرة التي تسمي الأشياء بمسمياتها، رغم تحفظي على أن الدكتور لا يذهب في تفاصيل تحليله بحيث يروي شغف المتلقي، فالمتلقي في البحرين (مثلاً) قارئ سياسي باحتراف، يريد أن تنحو كل التحليلات باتجاه الموقف السياسي في نهاية المطاف، ونحن لم تعوّد بعد على قراءات مختلقة، وبالتالي يكون حكمنا على الموقف بأن الدكتور لم يكن واضحاً في هذه النقطة، أو لم يستوف بعض الجوانب، أو أنه كان يلف ويدور! أعتقد بأن هذا الكتاب والكتاب الذي سبقه أيضاً يتميز بوجود تشخيص للحالة التي لدينا، حتى لو كانت صادمة، فهذا هو مجتمعنا، منقسم أفقياً بطوائفه وإثنياته وغيرها، وهذا هو مجتمعنا كما يتفاعل وكما ينتج إلينا من واقع متأثّراً بكل ذلك، هذا ما هو موجود فعلاً. وهذا الواقع فعلاً لن يؤدي إلى ديمقراطية حقيقية، لكن إذا لم يكن لدينا القدرة على استيعاب هذا التشخيص أو التحليل فهذه إشكالية أكبر! قد نختلف مع الدكتور في أنه شخّص حالة ما أكثر مما يجب، ولكن الواقع هو هو، فنادي العروبة ليس فيه غير الفئات التي أشار إليها، وقرية باربار أكثر قرية في شارع البديّع تواجد فيها اليسار حتى لو كان عدد الناشطين فيها ثلاثة! ربما أتفق مع حسن مدن في أننا نحتاج إلى تفسير أكثر للدلالات التي يحملها هذا النوع من التشخيص، وأننا يجب أن نسأل لماذا*

·
– غلوم: اتفقنا بشكل حازم على أن هذه المؤسسات فضاءات حرة لجماعات تدافع عن مصالح مشتركة، فعلى سبيل المثال، عندما أسست جمعية أوال النسائية، كانت هناك مجموعة من النساء أسسوا هذه الجمعية وفق معايير وأهداف اجتماعية وايدلوجية متّفق عليها، فحينما نحاول أن نحلل ممارسات هذه الجمعية، لماذا عليّ أن أقول بأن بعض أعضائها من الهولة أو العرب أو من الشيعة أو السنة* هذا بحد ذاته إشكال! لماذا لا ننظر إلى ما فعلته وأنتجته هذه الجمعية في المجتمع على صعوبة اختصاصها* أو كيف شاركت وتفاعلت مع الدولة أو السلطة أو مع الدين والأخلاق والقيم والحياة العامة في المجتمع* وكيف شاكست كل هذه المكوّنات* أو كيف حمت نفسها كمجموعة* بدلاً من تصنيف أعضائها إلى 6 من الهولة و10 من القبائليين و10 من الشيعة وما إلى ذلك!!
عندما استعرضت الدراسة أسرة الأدباء والكتّاب، تمنيت من النجار أن يوحي لي أنه حلّل ولو شيئاً من النتاجات الأدبية لأعضاء الأسرة، وكيف دافعت هذه عن مهنتها الإبداعية، وعن فلسفتها في الحفاظ على رسالة الالتزام والأدب والفن والكلمة والإبداع! ما الذي جمعنا في الأسرة غير ذلك* نحن نريد من أي أحد أن يحلل ما إذا ساهمنا بشيء في صنع التغيير الذي حدث في السنوات الأخيرة أم لا* نحن بقينا داخل البلاد على مدى ثلاثة عقود أو أكثر نواجه الدولة، بوزرائها، وأوضاعها الداخلية، مباشرة وبشكل يومي، هل تطرّقت الدراسة إلى ذلك* هل استعرض الكتاب ذلك بشيء من التحليل* كل أعضاء الأسرة في الستينات والسبعينات دفعوا ثمناً باهظاً من أجل مؤسستهم ورسالتها* منهم من سجن، منهم من حوصر، ومنهم من فقد احترامه في المجتمع ومؤسسات الدولة، لماذا* لأنهم أبدوا موقفاً واضحاً ورؤية خاصة تجاه كل ما كا يحدث. فهل يجوز بعد ذلك، أن يستحضرني الكتاب والآخرون من أعضاء الأسرة وبقية المؤسسات الفاعلة على أساس أصولنا المناطقية (الريفية أو المدينية) أو على أساس أصولنا الطائفية أو الإثنية* نحن والآخرون في الخمسينات والستينات لم تجمعنا إلا الظروف الفكرية والأهداف المشتركة، وكادت تجمّعاتنا وقتئذ أن تذهب تماماً بتلك التقسيمات الفئوية إلى البحر، وأن تستعيد الحالة النادرة التي تأسست في المجتمع البحريني، ممثّلة في هيئة الاتحاد الوطني، التي تلاشت فيها كل هذه الفوراق والتصنيفات. وكذلك هي مؤسسات الستينات التي اختلطت فيها الأعراق والإثنيات والطوائف تحت تأثير المد القومي العربي دونما أن تضع اعتباراً لكل هذه التقسيمات، ونادي العروبة يشهد على ذلك، بمن كانوا فيه من عرب القبائل، والهولة، والشيعة، وغيرهم. هذه نقطة أساسية جداً، إذ عندما نركّب ميكانيكة تحليلية تعود بنا إلى هذه المنابت، فما الذي ستؤسس له علمياً وتخلفه على مجتمعنا وعلى مصير ديمقراطيتنا، غير مزيد من الشتات، ومزيد من الاستعصاء* وذلك سؤال مؤلم جداً يعترض هذا المنهج بلا شك.

الثقـافــــة العصـيـــة

· الوقت: حسين مرهون، ما مدى تحليل الكتاب للمؤسسات الثقافية؟

· مرهون: لا أختلف مع الدكتور إبراهيم غلوم، في أن اشتغال الدراسة بهذه المؤسسات، اعتمد على وصف ما هو واقع فقط، فلا يوجد أي جهد تحليلي أو تفسيري للإشكالات الحقيقية في هذه المؤسسات. أضف إلى ذلك، أنه اعتمد في مقاربته للمنظّمات الثقافية، على الخبرة في التعامل مع الأرشيف أكثر من الواقع، فعندما نتكلم الآن عن هذه المنظّمات لا نتكلم عن حقبة الستينات والسبعينات، فأسرة الأدباء والكتاب ليست هي المؤسسة الوحيدة في هذا الفضاء الآن، هناك كمٌ من المؤسسات الثقافية استبعدت من الدراسة والتحليل، وتم اختيار الأسرة فقط كمثال للتعامل معه في بحث هذه المؤسسات. إحدى الإشكالات أيضاً، والتي ربما أختلف مع الزملاء فيها، هي ما يتعلق بثنائية الريف والمدينة، نحن في القسم الثقافي، كانت لدينا وجهة نظر خاصة، كنا نفكر بإعداد ملف عنها، وهي ما يمكن أن يسمى ترييف الثقافة، الذي ظهر في السنوات الأخيرة، فمثلاً في الستينات أو السبعينات، لم تكن هناك مؤسسة أو جمعية أهلية أنشأت وفق قانون الجمعيات تستهدف بشكل رئيسي الريف وطاقات الريف والمرأة الريفية والرجل الريفي وما إلى ذلك! حتى البيانات التي تصدرها مثل هذه المؤسسات اليوم وتصلنا عبر الصحيفة، تستخدم هذه اللفظة بشكل صريح في أدبياتها، وحتى إذا اتصلوا بشخصيات لدعوتهم إلى بعض المشاركات، يستدعونهم بوصفهم مثقفين ريفيين أو امرأة ريفية!هذه أمور موجودة، حتى في أسرة الأدباء، فالدكتور مثلاً أشار إلى أن تكوينها ينقسم إلى فئة قادمة من المدن وفئة قادمة من الريف، وأنه حتى الفئة القادمة من الريف متأثرة بتيارات كبرى، والآن الأسرة لا تستقطب بتاتاً فئات مدينية، فالأجيال الجديدة الوافدة على الأسرة لا تأتي من المدن، والمأزق أو الإشكالية في الذين يأتون من الريف، أنهم يعيدون إنتاج سجال حول قضايا حسمها الجيل السابق، وتجاوزها بمسافات، على سبيل المثال مسألة العري في الأدب والفن، فهل من المعقول أن نستبعد كل ذلك عن البحث والتحليل.قضية الريف والمدينة قضية حاضرة في العلوم الاجتماعية منذ زمن ابن خلدون، ومع أنه من الصواب القول إن ثنائية الريف والمدينة ليست متأسسة في مجتمعنا بذلك العمق، تأسيساً على ظاهرة التبادل في الدورة الاقتصادية بهجرة أهل الريف للعمل في المدن، كما أشار الخوري، ولكنهم يصدّرون معهم ثقافة الريف الاجتماعية المختلفة عن الثقافة الاجتماعية في المدينة.أنا أرى بأن الوصف الذي استخدمه توقّف عند لحظة من اللحظات في مرحلة الستينات والسبعينات، وإبراهيم غلوم أشار إلى نقطة مهمة، وهي أنه لا يوجد تعامل مع المضامين الأدبية أو الثقافية التي يتم إنتاجها الآن في هذه المؤسسات، الكتاب أشار إلى الإسلام (المتلبرل)، وغيرها، ولكن هناك قضايا أخرى مختلفة ومهمة، فالأدب الذي ينتج الآن يركزّ كثيراً على قضايا تتصل بالهويّة، فالهوية ظاهرة كثيراً في أدبيات هذه الأجيال الجديدة، وبغض النظر عن كون ذلك سلبيا أم إيجابياً، لكنه شكل من أشكال التعبير عن الهوية لدى الجيل الجديد من الكتّاب، أنا أرى بأن الكتاب أهمل كل ذلك حينما لم يتعاط مع اللحظة الراهنة في هذا الجانب.

الهــويــات العصيــــة

– النجار: صحيح بأن الدراسة تذهب إلى تحليل الإثنيات، وأنا شخصياً يستهويني تفكيك الإثنيات، لأسباب كثيرة، منها أنّ جزءاً من تدريبي الأول يتصل بالعمالة المهاجرة، والتعامل مع العمالة المهاجرة هو تعامل مع إثنيات مختلفة، وربما لا زال ذلك متمكناً مني، إلا أن هذا هو الواقع، وكل إثنية من هذه الإثنيات، بالنسبة لي كما أشرت في إحدى الدراسات، تمثل دائرة أو إطار، هذه الإطارات أو الدوائر سواءً سمّيت هويّات أو إثنيات أو غيرها، تلتقي مع دوائر أو إطارات أخرى في أمور وتنفصل عنها في أمور أخرى، ولكنها نتيجةً للسياق الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي الذي تعيش فيه، تنتج نفسها بصورة مختلفة عن الآخرين، صحيح هي مندمجة في جوانب مع الدوائر الأخرى، إلا أنها تنفصل عنها في جوانب أخرى، ولذلك فهي تنتج خطاباً مختلفاً، فعلى سبيل المثال، من المعروف أن حركة الإخوان المسلمين في البحرين (ممثّلةً في جمعية الإصلاح) جل أعضائها من الهولة (مع الإشارة إلى أنني لم أقل إن أعضاءها ومؤسسيها هم من الهولة فقط)، كما أن الحركة السلفية جلّها من العرب السنّة، وهذا واقع أنتج خطاباً مختلفاً لكل تنظيم. من ناحية أخرى لم يعد التحليل السوسيولوجي قائما على النصوص التقليدية في علم الاجتماع وتحديدا النزوع نحو تبني ما يسمى بالتحليلات الكلية. أنت لا تفهم حركة أي مجتمع من المجتمعات إلا من خلال فهم تكويناته ومكوناته الصغيرة ودخول في تحليل علاقاتها في داخل الجماعة وعلاقاتها مع الجماعات الأخرى وهي علاقات يجب أن لا تفهم دائما أنها في صدام دائم. كما أن تبني هذا المدخل الأنثربولوجي السوسيولوجي في التحليل لا يعني تفكيكا أو تشطيرا للمجتمع. فمن يقوم بهذا العمل هي القوى السياسية النازعة نحو مصالحها التنظيمية أو المصالح الشخصية الذاتية لقياداتها. فتحليل المركبات الصغيرة لمجتمعات الخليج العربي يساعد على فهم أولا شبكات العلاقات القائمة فيه والمعطيات التي في ضوئها تتشكل هذه العلاقات وهذا ما حاول أن يصل إليه الكتاب من خلال تحليل شبكة علاقات هذه القوى داخل تجمعات المجتمع المدني. بالإضافة لذلك فأن الدراسة قد حاولت أن تدخل في ذلك التشابك المعقد لهذه الجماعات. فأنت لا تستطيع أن تفهم حركية أي مجتمع من المجتمعات إلا من خلال فهم الخصوصية الاجتماعية والنفسية لهذه الجماعات المكونة للمجتمع وهذا ما حاولت أن تقوم به الدراسة.

مرهون: وكيف ينعكس هذا في الخطاب؟

· مدن: هل كان خطاباً مختلفاً بسبب هذا الاختلاف الإثني، أم بسبب الطبيعة الفكرية والسياسية المختلفة بين التيّارين*

· – النجار: أريد أن أشير إلى أن ذلك لم يكن حكراً على البحرين، وله نسخ مشابهة في مجتمعات أخرى، ففي الحالة الكويتية على سبيل المثال، تتسم حركة الأخوان المسلمين بأن جلّ المنتمين إليها ينحدرون من المدن (أهل داخل السور كما سميتهم) وهم من المتعلمين بشكل متقدّم، وبالتالي فهؤلاء وعلى الرغم من اختلاف تقسيماتهم الإثنية، إلا أنهم يحملون هامشاً من الثقافة المشتركة، أما السلف فجل أعضائهم من المناطق الخارجية، وعليه فهذا التمركز أفرز خطاباً سياسياً وممارسة تختلف في كل تيار منهما. أنت لا تستطيع أن تفهم لماذا اختلفوا إلا من خلال دراسة هذه الثنائية الموجودة، فهي تعينك على فهم هذا الاختلاف.

· النقطة الأخرى: الأفكار لدينا لا تنتشر عبر وسائط حديثة كما يفترض، وإنما تنتشر عبر وسائط تقليدية، فمن المعروف في العراق على سبيل المثال، أن كثيراً من المنتمين إلى الأحزاب الشيوعية ينحدرون من النجف وكربلاء وغيرها، وهي مناطق لا تنتج ذلك بطبيعة الحال، ولكن أسباب انتشار هذه الأفكار أسباب عائلية، وهكذا عندما أقول بأن جلّ أعضاء نادي العروبة هم من الشيعة، ورغم أنني لم أنفِ وجود السنّة، إلا أن هذا هو الواقع، وأسبابه شبيهة بالمثال العراقي، وقد أشرت في الكتاب بشكل واضح، إلى أن الفكر القومي البعثي في البحرين ينتشر في أوساط عوائل معينة، والسبب في هذا الانتشار هو القناة أو الوسيط العائلي، فأحياناً يكون الوسيط هو الجيرة أو منطقة السكن أو القرية، ويجب أن لا نستسهل دور هذه الوسائط في عملية انتقال الأفكار والانتماءات.

– غلوم: أنت لم تصل إلى ذلك في الكتاب، ولم تعالجه !

· النجّار: بلى، هناك إشارة واضحة لذلك في الفصل الأول من الكتاب، حين طرحت تساؤلاً عن سبب انتشار فكر حزب البعث العراقي في أوساط عوائل معينة في النجف. يجب أن أقول هنا إن شبكة علاقاتنا الاجتماعية وبالتالي تبنينا للكثير من الأفكار والمواقف السياسية والاجتماعية إنما تأتي من خلال أطرنا التقليدية أكثر منها من خلال الآليات الحديثة. فالمواقف السياسية وربما الأفكار والمعتقدات تنتشر بسهولة بين الأصحاب والأهل والجيران أكثر منها من خلال الوسائط الحديثة، وهذا ما حاولت أن أشير إليه في الكتاب في الفصول الأولى منه.

– غلوم: لكن ذلك لم يمتد ليفصّل كيف كان انتشار أفكار التيارات المختلفة كالقوميين أو الإخوان المسلمين أو السلف في البحرين، ولم ينتقل إلى تفسيره، وهو فعلاً تفصيل جيد ومهم ومطلوب، إذ لو انتقلت الدراسة إلى ذلك لانكشفت الدلالة في استعراضك للتصنيفات الإثنية والفئوية، ولكان ذلك إجابة على كل تساؤلاتنا السابقة.
النجار: هناك إشارة واضحة إلى ذلك في الفصل الأول الذي يناقش المفاهيم، وهناك تفصيل ذي صلة في كتابي السابق (الحركات الدينية في الخليج العربي)!

– المرشد: حسب تصوري، وكما أسلف الدكتور إبراهيم، كان يفترض أن يدمج ذلك في التحليل، دعني أضرب مثالاً توضيحياً، جمعية الإخوان المسلمين في فترة من الفترات كان العنصر القبلي هو المسيطر عليها، ثم حدث تحوّل في تكوينها حين صار عنصر الهولة هو المسيطر، وبناءً على الرؤية التحليلة التي تعتبر أن خطاب هذا التنظيم (بما فيه العنصر القبلي) اختلف عندما سيطر عليه عنصر الهولة، يمكن أن نتساءل ما هو وجه هذا الاختلاف في الخطاب* من الممكن أن نجد في هذه الدراسة وحتى في الكتاب السابق، أن عناصر الاختلاف ما بين هذين الخطابين كانت مبهمة جداً، وأتصور لو تم بحثها بشكل أعمق، لوصلنا إلى تجاوز الحالة التي وصلنا إليها، وخرجنا من تعريف المجتمع المدني بناءً على جوهره وهو الطوعية، لأن نقحم فيه ثنائيات تعيد إنتاج نفسها داخل المجتمع المدني كإثنيات أو هويّات فرعية. بمعنى آخر أنت تفترض بأن هذه العيّنة هي مؤسسات مجتمع مدني، ويتوفّر فيها الاختيار الطوعي، إذن يبقى أن تتحرر من العنصر القبلي، ومن العنصر الإثني، ومن العنصر المذهبي، ومن العنصر الطائفي، ولكن على مستوى الانتماءات أوالعضويات الجديدة تغيب الطوعية وتحضر الاتجاهات ذات الخلفيات الأخرى! على سبيل المثال، الشيعة أسسوا نادي العروبة وسيطروا عليه، وكان ذلك محل بحث معمّق عند فؤاد إسحاق الخوري، ولكن ما لم يجب عليه الخوري، ولا غيره، ولن يجيب عليه أحد كذلك، ما هو ارتباط الشيعة أو ما هو الهدف الشيعي في نادي العروبة*! لا يمكن تفسير ذلك أبدا، هناك مؤسسون شيعة ثم نقطة على السطر بالتعبير اللبناني، فمؤسسة قائمة على فكر مضاد للفكر الطائفي، ومن ينتمي إليها ينتمي إليها طوعياً، يجب أن يسلك اتجاههم ذاته! إلا أن تكون تلك إشكالية من إشكاليات المجتمع المدني في هذه المنطقة بحيث أن فكرته تزيَّف أو تحرَّف بهذا الأسلوب، وهذا كما أشار الدكتور غلوم يجعلنا في مأزق أخلاقي، يؤدي لأن تعيق طوائف وأعراق معينة حركة المجتمع المدني أو تستولي عليه بالتوافق مع الدولة. إلا أن هناك فرضية أخرى مختلفة جداً، وبعيدة عن هذا الإطار، وهي أن المجتمع يتشكّل كما تتشكل آليات الحكم أو الدولة فيه، فكيفما تحكم الدولة المجتمع، يحكم المجتمع نفسه.

المثقـفـــون العصـيــــون

الوقت: ورد في كتاب الدكتور باقر النجار ما يلي: ”أطروحات الجيل الجديد من الكتاب والنقّاد البحرينيين، تبدو أكثر قرباً إلى الأطروحات الإسلامية المتلبرلة أو الإسلام الحداثي”، أما الدكتور إبراهيم غلوم فيشير في كتابه ”الثقافة وإنتاج الديمقراطية” إلى أن خطاب الجيل الجديد من الكتاب والنقّاد يعطي أيضاً مسحات حداثيّة على أطروحاته الأصولية، وأحيانا يستخدمها كأقنعة وكأداة وصولية ليعطي لخطابه نوعاً من الحداثة، ويستخدمه في نفس الوقت ليصل إلى مواقع في السلطة على سبيل المثال أو مواقع في المجتمع، في حين تعمل من خلاله الخلفيات الدينية الضيّقة والمتحيّزة. السؤال: هل يكون هؤلاء الكتّاب في هذه الحالة إحدى العناصر العصيّة على الديمقراطيّة بدلاً من أن يساهموا في تشكيل المجتمع المدني* ولأي حدٍّ هذا الوصف واقعي وصحيح، أم أن هناك نماذج معيّنة من ذلك في ذهن الكاتب ليس إلا؟

النجّار: أنت عندما تكتب، تستحضر أمامك مجموعة من النماذج وتكتب عنها، أنت لا تنسج شخصياتك من الخيال، ولكن الواقع هو هكذا، والكتاب حاول أن يرصد الواقع كما هو. دون شك أن الجيل الجديد من الكتّاب والمثقفين ينحدر من أصول إسلاموية أو دينية، وفي حين أن بعضهم قد بارح هذا الواقع، بمعنى أنه انفصل عنه، فإن بعضهم الآخر لا زال، وهؤلاء هم الذين يشكّلون الحالة الجديدة، وهي حالة مهة في الدراسة، وهذا ما كنت أشير إليه في الكتاب، رغم أنني لم أتعمّق في دراسته.

غلوم: سيزيح هذا السؤال الحوار إلى مناقشة ومراجعة خطاب استمر لأكثر من عقد، والنجار في حدود المنهج والآلية التي وضعها للكتاب، أجاب على أسئلة الدراسة، ولكن حين نناقش القضية الكبرى التي يبحثها الكتاب، هنا نكتشف المساحات التي تحتاج إلى دراسات أخرى ورؤية أخرى. على سبيل المثال، عندما تحدّثتُ عن مفهوم المجتمع المدني الحديث وحاولت أن أتجاوز فيه المفهوم الذي ذهب إليه النجار، فقد كانت تلك نقطة من النقاط التي تذهب بنا إلى ما بعد كتاب الدكتور باقر، أي إلى ما بعد الحالة المستعصية التي نتحدّث عنها، والشيء ذاته ينطبق على تحليلنا للطريقة التي وصف بها النجار الواقع، فحين يأتي الكتاب ليقول هذا هو الواقع، فذلك يمكن أن يغري العامّة من الناس، لكنه لا يغري المفكّر، بل يستفزّه، لأنه لا يوجد أي مفهوم يمتلك حقيقة كاملة عن هذا الواقع، فنحن ننتج أفكاراً كثيرةً ومتغيرة ويعترف بهذا الشيء في تحليلاته وتأسيساته الأولى. المشكل يقع في تحليل ما قامت به مؤسسات المجتمع المدني طيلة الفترة الزمنية التي ناقشها الكتاب، بوصف دورها تأسيساً لنوع أو لنمط من المشاركة في السلطة مع الدولة، والكتاب يطرحها بهذا الشكل، عندما يحصر مفهوم المجتمع المدني الحديث في هذا الفضاء الذي يضم الجمعيات المهنية والخيرية وغيرها، والسؤال ماذا قدمت هذه الجمعيات من أدوار صقلت بها الشكل الديمقراطي، أو شكل الدولة الحديثة*

الظرف الديمقراطي الذي نعيشه وهو ظرف يصفه الجميع بأنه مستعصي وصعب، لكن هل هذه الإشكالية متصلة فقط براهن مؤسسات المجتمع المدني* أم أننا قبل أن نناقش الصورة المستعصية للديمقراطية، علينا أن نناقش الصورة المستعصية لتكوين المجتمع المدني نفسه* نحن إذا كنا لحد الآن لم نبلور ولم ننضج هذا المفهوم، نحن نتجاوز كل المفاهيم المطروحة في الساحات العربية والدولية، ونذهب لمفاهيم ضيّقة مفصلة علينا فقط حتى نبرر بها للواقع، وهذه نقطة قد تسوق الكثير من الدراسات للتسويغ والتبرير، فعبارة (هذا هو الواقع) هي صورة معلمنة للتبريرية، وهذا أخطر ما في الموضوع! أما بالنسبة لدور هؤلاء المثقفين الذين يأتون من تكوينات إسلامية أو إسلاموية أو ما إلى ذلك، ويدخلون في معترك المجتمع السياسي والتوتر والصراع ويتحولون إلى ضحايا، وهم في هذا السياق لهم ولاءهم وهوياتهم الواضحة التي لا يستطيعون التخلي عنها، ولكنهم يدخلونه بأدوات منهجية وبتكوين علمي رصين ومتين يتجاوز الهويّة الصغيرة لهم، فهم يدخلون في هذا التناقض، وهذا التناقض لا يأتي لهم بخيار واعٍ أحياناً، فهم يدفعون إليه دفعاً يأتي بشكل متعسّف. في الحقيقة، جيل كبير تأسس الآن وأنتج محصلات وأنشأ جمعيات ومدوّنات كبيرة جداً، فمن حلل هذه المحصّلات والمدوّنات ليطالع الصورة المتناقضة في تكوين هذا الصف من المثقفين* بالنسبة لي فأنا لديّ تحليل لهذا الموضوع، لكنه يحتاج إلى جلسة خاصة ودقيقة جداً، وقد يكون قاسياً ومباشراً، لما يتوفّر له من نصوص ومدوّنات ومصادر متنوّعة.

– النجار: نحن نريد من المجتمع المدني أن يكون مجتمعاً يضم كل الجماعات، وأن تنصهر هذه الجماعات – بالتعبير الأمريكي- في بوتقة ثقافية محددة، ولكن هذا ليس هو الواقع لا في منطقة الخليج ولا في مناطق كثيرة في العالم. أنت عندما تذهب إلى الدول المتقدمة ستجد منظّماتٍ دينية ومنظّماتٍ إثنية خاصة بالسود أو خاصة بالآسيويين أو الأوروبيين أو غيرهم، إلا أن كل هذه الجماعات تعمل ضمن الفضاء العام، ولذلك هي جزءٌ من المجتمع المدني! النقطة الأخرى التي استرعتني في دراستي ومطالعتي للمنظّمات في أوروبا، هي أن بعض الحكومات تشجّع على تشكيل منظّمات من فئات إثنيّة معيّنة، والهدف من ذلك ليس تفكيك المجتمع – كما قد يفسّر- وإنما هي طريقة لإدماج هذه الجماعات ضمن العمل الاجتماعي والسياسي العام، لأن هذه المنظّمات ستكون قادرة على الوصول لجماعاتها الإثنية المهاجرة بشكل أكبر من الدولة. ونحن كذلك، نتعامل مع الكثير من المنظمات الخاصة بالعرب في أوروبا وأمريكا، وهذه المنظّمات تمثّل إثنيّة معيّنة، لكننا لا ننفي عنها صفة الحداثة أو الليبرالية أو غيرها، في حين أننا ننفيها عن منظّمات مقاربة لها في مجتمعاتنا!أما فيما يتعلّق بالفصل الخاص بالمؤسسات الثقافية، فأنا لم أتطرّق فقط لأسرة الأدباء وإنما تطرّقت لنادي العروبة ونادي الخريجين وغيرها، وبالنسبة لأعضاء هذه المؤسسات من الجماعات (المشتركة في الإثنية أو المذهب أو أي هويّة أخرى) فقد عالجتها على أنها قوى فاعلة في هذه المنظّمات لا كقوى معطّلة لعملها، ويجب أن تفهم دراستي لها من خلال هذا الإطار.وحين نأتي على المنظّمات المهنية الموجودة في البحرين، فإذا ما بحثنا الخلاف في أي منظمة منها بين الجماعات المتعددة فيها على حصصها داخل هذه المنظمات المهنية كجمعية الأطباء وجمعية المهندسين وغيرها، وهي من المنظّمات المؤثرة وذات الاتساع، فإن الصراع بين هذه الجماعات إما أن يأخذ شكلاً سياسياً (أي بين قوى سياسية) أو يأخذ فرزاً آخر كأن يكون على أساس مذهبي (سنة وشيعة)، وعندما تناقش هذه الحالة وهذا الواقع، ربما يفهم هذا الصراع على أنه معطل لعملية التحول داخل المجتمع، ولكني أعتقد بأنه جزء من الصراع الطبيعي في مخاض التحول في المجتمع، والذي تكون له أشكال تبرز على السطح في مرحلة تاريخية معينة، لأسباب متعددة بعضها من إفراز الداخل وبعضها من إفراز الخارج، إلا أنها جزء من صيرورة المجتمع.

– مدن: بالنسبة إلى إشارة الدكتور باقر إلى تنظيمات المجتمع المدني ذات الطابع الإثني في المجتمعات الأوروبية وفي أمريكا وغيرها، والتي أتى عليها في الكتاب أيضاً لتعزيز فكرته، فإن ذلك يذكّرني بأطروحة لأنور عبد الملك، حول الصحوة والنهوض الديني في العالم، وكيف أنها ليست ظاهرة عربية، وأنها موجودة في العالم كله! وهذه مغالطة خطيرة، فهناك قضايا حسمت في المجتمعات الأمريكية والأوروبية لصالح الفصل بين الدين والدولة، ولا عودة فيها عن ذلك، إذن السياق الثقافي والحضاري هناك مختلف تماماً، وأنت وضّحت بشكل جيد في مداخلتك السابقة كيف تشجع تلك الدول على إنشاء مثل هذه التنظيمات لكي تغطّي فضاءات لا يمكن أن تصل إليها، بينما هي في مجتمعاتنا معيق من معيقات التحول الديمقراطي، وربما كانت الدولة تستخدمها لتحقيق هذا الغرض.

– – النجار: الفارق الوحيد هو الدولة، فالدولة هناك لا توظّف هذه المكوّنات كجزء من الصراع بينها وبين المجتمع، أما في فضاءاتنا العربية فالدولة توظفها في ذلك.

الـنســـاء العصيـــات

· الوقت: منى فضل، ماذا عن الجمعيات النسائية كمكوّنٍ من مكونات المجتمع المدني* كيف حلل الكتاب دورها وهل كانت جزءاً من الحالة العصيّة للديمقراطية أيضاً؟

· – فضل: لتكون الصورة واضحة، تجب الإشارة إلى أن الجمعيات النسائية والحركة النسائية عولجت في فصل واحد فقط من الكتاب، شمل كل الحركات الموجودة في الخليج! ومن وجهة نظري فإن ذلك لم يكن كافياً بالطبع، إلا أننا إذا أردنا أن ندرس كل هذه الحركات والجوانب المتعلقة بها لنصل إلى تحليل بنفس آلية التفكيك وبنفس المنهجية التي استخدمها الدكتور في كتابه بشكل عام، فإن ذلك سيتطلّب ربما كتاباً منفصلاً وفريق عمل خاص.ولكني كمهتمة في قضايا المرأة وكناشطة نسائية، أعتقد أن هناك تغطية معقولة إلى حد ما للحركة النسائية في الإمارات والبحرين والكويت، وهي تتميز بأنها موثّقة. هناك إشارات وإضاءات جيدة فيما يتعلق بعملية التحول من العمل الخيري إلى العمل الحقوقي، رغم أنها كانت في عجالة والمساحة المفردة لها لا تسمح بالدخول في تحليلات أوسع.

· بالنسبة لي، كان هذا الفصل مهم جداً، وقد رجعت له كثيراً، ووقفت فيه عند تحليل ما يتصل بالجمعيات النسائية الدينية، والذي استخدم فيه الدكتور طريقة التحليل والتفكيك ذاتها، فتطرق لجمعية البحرين النسائية على سبيل المثال، وتكلم عن مكوناتها المنحدرة من أسر أرستقراطية، وكان ذلك هو الواقع فعلاً، رغم أني لا أقف مع الدكتور في كل ما ذكره. نحن نحتاج أن ننطلق من هذا الطرح وهذه المحاور التي ناقشها الكتاب إلى تحليلات أكثر، فالكتاب على سبيل المثال، لم يشر إلى مسألة مهمة تخص النقاش الذي ظل مستمراً لدينا من السبعينات إلى اليوم، حول العمل الخيري والعمل الحقوقي في الحركة النسائية. ما إذا كان يصح أو لا* وذلك على ارتباط بالوضع السياسي والقوى الاجتماعية الموجودة، وقد كانت هناك جمعيات دائماً ما تنتقد العمل الخيري حين يكون في صلب العمل النسائي، إلا أنها الآن تتراجع بدعوى أنها لا تستطيع أن تصل أو تنفذ برامجها وتحقق أهدافها إلا إذا دخلت من خلال هذه النافذة، استجابةً لواقعٍ معين! أعتقد بأن هذه الجزئية على الأقل فيما يتعلق بالجمعيات النسائية، هي مفتاح أو نافذة يمكن أن تؤسس لدراسات أخرى أكثر عمقاً، إذ لا نتوقع أبدا أن نحصل على تحليل لكل ما يتعلق بالحركة النسائية في هذا الكتاب.

النظــــام السياســـــي العصــــي

أريد أن أشير إلى نقطة منقوصة في هذا النقاش، تركناها دون أن نعرّج عليها بوضوح، فالدكتور في هذا الكتاب، وخاصة في المقدمات الأولى، استعرض بشكل دقيق ومثير وجميل جداً حالة النظام السياسي العربي، وناقش فكرة لماذا لم تتغير هذه الأنظمة العربية* ولماذا ظلت مستعصية على التغيير وظلت قدرتها على التكيّف والاستمرار تفوق الخيال* وناقش ذلك منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ومن ثم الحروب الثلاث التي حدثت في المنطقة، وعرض آراء وتوجهات بعض الكتاب الذين خابت توقعاتهم بأن ينسحب هذا التغيير في العالم على الأنظمة العربية، وهذه المقدمة الطويلة انتقلت إلى تحليل التحولات في مجتمعات الخليج، وصاغها الدكتور في نطاق هذا النسق الخاص بالنظام السياسي العربي، وكان السؤال الذي يلعب في وعي الدكتور هو: من أين يأتي التغيير* وكانت الإجابة السريعة له، هو من المجتمع المدني الحديث! فإذا كانت التغييرات السياسية العالمية مثل الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفييتي، وما حدث من كوارث عسكرية، وكذلك ظهور الحركات المناهضة للحكومات على الساحة، إذا كان كل ذلك لم يؤثر في الأنظمة العربية، فقد بقي شيء واحد هو المجتمع المدني الحديث، ومؤسساته، لتبدأ الدراسة من ذلك ويكون محل بحثها. الأساس النظري والواقعي -إذا ما أخذنا بفكرة ما يمكن أن يتحقق على أرض الواقع- هو أن هذا المجتمع المدني الحديث، حتى يكون مؤثرا في النظام، وعنصراً فاعلاً في إحداث تغييرات طارئة عليه، لا بد أن تكون التنظيمات السياسية المعارضة عنصراً فاعلاً فيه، ولهذا أنا أسأل نفسي وأسألكم كما أسأل الدكتور باقر باعتباره خاض الموضوع بعمق، كيف تأسست فكرة المعارضة في وسط هذا المفهوم الذي انتهى إليه للمجتمع المدني الحديث* هل تأسست فكرة المعارضة فعلا، وهل تأسس الآخر المقابل للسلطة أو للدولة (كما سماه الكتاب)*نحن نبحث عن ذلك الآخر (المعارضة)، ماذا صنع لفكرة تداول السلطة، ولفكرة المشاركة، ولفكرة تأسيس الديمقراطية* هل نستطيع أن نجد جذور هذا الآخر في هذه المؤسسات التي ناقشها الدكتور وحدها ونهمل تفصيلات كثيرة حدثت في إطار تأسيس هذه المنظمات أو على هامشها أو في إطار المتغيرات السريعة التي حدثت قبل عقد أو أكثر، هذا سؤال مهم جداً، وأنا أعتقد بأننا لم نجب عليه بعد.

الوقت: إذن وصل بنا النقاش إلى أن هذه الديمقراطية عصية، ليس بسبب سياسي واحد، ولكن لأن التضمانيات عصيّة على أن تفكك وتحلل لتضمانيات أخرى، والطبقة الوسطى عصية أن تكون طبقة وسطى بالمفهوم الحديث، والقبيلة عصية على أن تنتج نفسها بشكل آخر لا بشكل وهمي تحافظ فيه على تكويناتها، والدولة أيضاً عصية على أن تتنازل عن تسلطها وأن تحدّث نفسها، لذا فالمجتمع المدني هو أيضاً عصي لكل هذه العراقيل!

اترك تعليقاً