ندوة حوارية حول كتاب الدكتور باقر النجار (الديمقراطية العصية)
الجزء الأول
مجتمع مدني عصي.. إذن ديمقـراطيـة عصيــة
جريدة الوقت العدد 1325 الأربعاء 18 شوال 1430 هـ – 7 اكتوبر 2009
http://www.alwaqt.com/index.php
فريق مركز الحوار: علي الديري، باسمة القصاب، أحمد الساري
ضيوف مركز الحوار: د. باقر النجار- د. إبراهيم غلوم- د. حسن مدن- منى فضل- عباس المرشد- حسين مرهون:
هل يصح القول إن الديمقراطية ما تزال عصية على التحقق في المجتمعات الخليجية؟ وهل المسؤول عن هذا الاستعصاء هي الأنظمة السياسية وحدها؟ وإلى أي مدى يمكن أن تكون مؤسسات المجتمع المدني قادرة على تحقيق عمليات التحول الديمقراطي في المنطقة العربية وتحديداً في الخليج؟ وما دور منظمات المجتمع المدني في عمليات التحول الديمقراطي في العالم؟ وما مفهوم المجتمع المـدني؟
أسئلة يحاول مركز حوارات (الوقت) إثارتها من خلال كتاب ”الديمقراطية العصية في الخليج العربي” للباحث السيسيولوجي باقر النجار، الذي حاز على جائزة الشيخ زايد للكتاب فى مجال التنمية وبناء الدولة هذا العام .2009 ومن خـلال هـــــذا الحــــوار أيضــــاً، يحاول تقديم قـــراءة نقديــة للكتـــاب مــــــع مجموعـــــة من الباحثـــين والمهتمين والمثقفين
فرضية الكتاب
*الوقت: ما هي الفرضية التي بني عليها الكتاب؟
– النجار: هناك دراسات تقوم على فرضيات، وهناك دراسات لا تقوم على فرضيات. الدراسة في الكتاب تحاول أن تختبر مقولات متعددة تناولت دور منظمات المجتمع المدني في عمليات التحول الديمقراطي في العالم، حيث ركزت على تجارب موجودة في شرق أوروبا وأخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية، وذلك لاختبار مدى إمكانية مقاربة مفهوم المجتمع المدني (الجمعيات الأهلية) في الحالة الموجودة في الخليج بها. التساؤل الآخر: إلى أي مدى يمكن أن تكون هذه المؤسسات قادرة على تحقيق عمليات التحول الديمقراطي في المنطقة العربية وتحديداً في الخليج؟
حتى تختبر ذلك، ذهبت الدراسة إلى البحث أولا في مفهوم المجتمع المدني ومقارباته المختلفة للحالة العربية، ثم تطرقت إلى حالة المجتمع المدني والدولة في الخليج، وإلى أي مدى يقترب هذا المفهوم الحداثي إلى حالة الدولة – وهي حالة في طور التشكل، تماما كالمجتمع المدني- بحيث تقاس العلاقة بين الاثنين من خلال البحث في المنظمات المختلفة في منطقة الخليج، مع التركيز على حالة البحرين والكويت بشكل أكبر.
اختتمت الدراسة باستنتاج مفاده أن عمليات التحول الديمقراطي تتطلب تغييراً في ثقافة الدولة وآليات الدولة ولكنها تتطلب بذات القدر تحولاً أساسياً في ثقافة المجتمع.
* الوقت: عنوان الكتاب، ما الذي يربط بين هذه التساؤلات والمقولات التي حاولت أن تختبرها وتطبقها على مؤسسات المجتمع ومنظماته وثقافته وجماعاته واختيارك لعنوان الديمقراطية العصية؟
– النجار: تحقيق الديمقراطية ليس بالعمل السهل، وتحديدا في المنطقة العربية إلا أنه ليس بالمستحيل. أتيت بالتعبير لأرسم الصورة الصعبة لحالة الديمقراطية لعموم المنطقة العربية.
أهمية الكتاب
* الوقت: حسن مدن، باعتبارك من المتابعين للإصدارات والكتب، إلى أي حد نحن نمتلك أدبيات سسيولوجية قادرة بالفعل على أن تقرأ مجتمعنا الخليجي والبحريني خصوصاً بعمق في السنوات الثلاثين الماضية وهل يندرج هذا الكتاب ضمن هذه الأدبيات؟
– مدن: عدد قليل جدا من الباحثين تصدوا لهذا الموضوع، كان منهم على سبيل المثال خلدون النقيب في كتابه الذي جاء ضمن إطار مشروع مركز دراسات الوحدة العربية حول قضايا الدولة والمجتمع في الخليج العربي، ما يعني أن الموضوع الذي يناقشه الكتاب فيما يتصل بقضية بناء الدولة والمجتمع المدني وإشكالات وأفق التحول الديمقراطي في هذه البلدان بحاجة للمزيد من البحث، ومن هنا تأتي أهمية الكتاب. السبب في ذلك هو أن مسألة التحول الديمقراطي في الخليج قياساً بالعالم، تعتبر موضوعا حديثاً، فهو آخر منطقة خرج منها الاستعمار. الإمبريالية انحسرت من العالم قبل ذلك بكثير، لذا فقضية التحول الديمقراطي أتت متأخرة في هذه البلدان، وعليه فإن حقل البحث هو حقل جديد أيضاً. الدكتور له خبرة في العمل بمؤسسات المجتمع الأهلي حين لم يكن المجتمع المدني دارجاً. هذا المفهوم انتعش خلال العقدين الأخيرين، وصار ما يشبه الموضة في ضوء التحولات الذي حدثت في أوروبا الشرقية، فأصبح كثير التردد وخصوصا في المنطقة المغاربية (تونس المغرب) ثم وجد صداه في المشرق والخليج.
* الوقت: هل هو ضمن أدبيات سوسيولجية كتبت عن الشأن البحريني والخليجي؟
– منى فضل: الكتاب بمضمونه المعلوماتي ومنهجيته التحليلية وبالنتائج التي استخلصها وتوصل إليها، هو إضافة جديدة بالنسبة لمجتمعنا في البحرين، هناك إصدارات وكتابات كثيرة لمراكز البحوث، ولكن إلى أي درجة هي قريبة من المنهج العلمي الذي يأخذ المجتمع كبنية متكاملة ويحللها ضمن علاقاتها المتشابكة ويفككها ويحاول إعطاء رؤية أقرب للموضوعية؟ لا نستطيع أن نصف الخلاصة بأنها موضوعية تماما ولكن الكتاب حاول أن يقترب قدر الإمكان من الموضوعية. صحيح أن مصطلح المجتمع المدني مصطلح جديد، بدأ يتردد كثيراً، لكن الكتاب عندما أتى ليحلل مؤسسات المجتمع المدني، وضّح وفصّل البناء والتطور المتسلسل لهذه المؤسسات والمنظمات التي تجاوزت الخمسين عاماً. أنا شخصيا في دراستي للماجستير (جزئية الجمعيات النسائية نشأتها وتطورها ضمن سياق العمل الأهلي)، لم أجد من المراجع ما أستطيع أن أستند عليه كدراسة علمية، اللهم إلا بعض المقالات في المجلات وغيرها، لذلك فالتركيز على هذا الكتاب تكمن أهميته بالنسبة للباحثين باعتباره مرجعاً يمكن أن يفيد في ذلك.
* مداخلة الوقت: هناك كتب مثل كتاب ”القبيلة والدولة” يعالج ربما هذا الموضوع، وكتاب ”البحرين: التطور السياسي في مجتمع متحدث” لأمين نخلة.
– فضل: بالنسبة إلى مقاربة الكتاب مع نتائج كتاب القبيلة والدولة لفؤاد الخوري، فأنا أعتقد بأن هناك بونا شاسعا بين النتاجين، رغم أهمية نتاج الخوري. ما يوضح هذا الفرق هو أولاً: أن دراسة النجار متتبعة للمجتمع بشكل متراكم. وثانياً: أن النجار معايش لهذه التجربة، فهو يكتب ويحلل لا من بنات أفكار ومفاهيم جامدة، ولكنه متعايش مع الوضع، مختلط فيه، متنقل بين البحرين وقطر والإمارات والكويت، وهو قادر على أن يميز ما هو مختلف في المجتمع الخليجي، وهذه نقطة مهمة، تتجاوز ما تستخدمه الدراسات خارج المجتمع من تعميم أفكار وآراء معينة على المجتمع الخليجي بحيث يعتبر بشكله ومضمونه حاملاً لنفس السمات والصفات والخصائص، بل إن النجار أكد بنفسه في بداية الندوة تركيز الدراسة على مجتمعي البحرين والكويت خصوصاً ضمن المجتمع الخليجي، لأنه كان يجد أن التجربة في هذين المجتمعين تتقدم في نواحٍ وتتأخر في نواحٍ، مقارنة بالمجتمعات الخليجية الأخرى. أما كتاب أمين نخلة، فهو يركز على الجانب النظري فيما يتعلق بالدولة، وجزء من المقاربة إيدولوجي في بعده الفكري، وما يهمنا نحن هو الواقع. ميزة كتاب باقر النجار أنه عندما يتحدث عن علاقة المؤسسات بالدولة في سياق مشروع دمقرطة المجتمع، ويطبق هذه المفاهيم على الواقع بتفكيكه للقوى والعناصر المتفاعلة في المجتمع، وبمنهج علمي دقيق، لكن هذا لا يعني أني سآخذ الكتاب كله على ما هو عليه.
الديمقراطية ثقافيـــــاً وسسيـــولوجيــاً
* الوقت: إبراهيم غلوم، كتابك ”الثقافة وإنتاج الديمقراطية” وكتاب ”الديمقراطية العصية”، لا بد أنهما يشتركان في موضوع الديمقراطية، ولكن ما هو الفارق أو زاوية النظر المختلفة التي ربما تجعل من كتاب باقر عملا سسيولجيا وكتابك عملا ثقافياً؟
– غلوم: هذا السؤال مهم جدا ولم يخطر في بالي، أجد أن هناك أرضية مشتركة واسعة بين هذا الكتاب وكتاب ”الثقافة وإنتاج الديمقراطية”، وأساس هذا الموقع المشترك، هو أن ما ذهبتُ إليه في الكتاب كان يوضح أن كل ما يتصل بالسياسة والمجتمع المدني الحديث والمواطنة، وكل هذه القضايا المفصلية الخاصة بالديمقراطية، هي أساس يتم إنتاجه داخل المجتمع بشكل ثقافي، كلها في نطاق الأفكار، وقد تعرض النجار لهذا في نقاشه لمفهوم المجتمع المدني الحديث، بوصف اختلاف المفهوم بين مجتمع وآخر، أي بأن هذا المجتمع ينتج هذا الشكل من أشكال المجتمع المدني الحديث الخاص به، ولو لم يتوصل لهذه النقطة لوقع في مزلق من مزالق البعد الثقافي في هذه الدراسة. دراسة النجار لا تنفصل كثيرا عن دراسة الثقافة وإنتاج الديمقراطية، لأنه واعٍ للمنظور الثقافي لمفهوم المجتمع المدني الحديث. تكفي هذه الإشارة التي كررها وأكدها الدكتور في نقاشه لمفهوم المجتمع المدني الحديث: وهي أن هذا المفهوم متغير، وهو ليس فكرة ثابتة أو قارة أو نموذجا ينتقل من المجتمع البولندي أو الصومالي أو الأمريكي أو غيرها، إنما يتشكل حسب عوامل مختلفة، وعوامل ثقافية بشكل أساسي، وحينما أقول ثقافية أعني ما يتصل بالمجتمع والسياسة والاقتصاد.
إذن هناك رؤية مشتركة، بل إن الكتاب لمس الكثير من خلجاتي الخاصة بموضوع المجتمع المدني الحديث، وقد وجدت نفسي كثير الانسجام معه ومع ما وصلتُ إليه سابقاً، وأعتقد بأن النجار لديه نفس الرأي، وكما قلت سابقاً فالكتاب لا يبدأ من الصفر، ولكنه يأتي نتاج تراكم يستفيد منه فيبني عليه، هذا التراكم هو جهود النجار العلمية المتراكمة وجهود علمية متراكمة لزملائه في الساحة الفكرية والأدبية. وفي سياق الإشارة لبعض النقاط التي تشكل مزايا رئيسية في كتاب الديمقراطية العصية، أعتقد أن هذا الكتاب له مزية من عدة جوانب:
– الجانب الأول الرئيس: أن النجار اشتغل في مجال سسيولجيا المجتمع الخليجي على مدى 15 سنة أو أكثر، واشتغل في موضوعات متعددة، وكان يلمس هذه الموضوعات لمسة عميقة أحياناً ومقاربة أحياناً وسطحية في بعض الأحيان. ولكن في هذه الدراسة استجمع كل قواه العلمية واستحضر مصداقيته وحساسيته المرهفة في موضوع محدد وبالتالي عبر تعبيرا دقيقاً عن مجمل تجربته في هذا الكتاب. لو طرحنا هذه المزية في نطاق المجهود العلمي المترابط المتكامل للدكتور فسوف يكون هذا الكتاب بدون شك جماع ومحصلة وخلاصة تجربته وإنتاجه وما بحثه وما طرحه من أسئلة في أعوام طويلة، لا محصلة عام واحد قضاه في منحة التفرّغ الدراسية. هو حصيلة بحث بدأه منذ سنوات طويلة ثم تراكم وتراكم حتى وصل لهذه الخلاصة. هذه نقطة مفصلية وأساسية، حتى اسم الكتاب هو تركة لتسميات استخدمها في دراسات سابقة، حيث جاء وانحدر من بنية لغوية في تفكير النجار، تكررت فيها مفردات الولادة العسيرة والعصية والصعبة، ووقف فيها متحاذرا ومتخوفا من الأمور التي يجري فيها التطبيق المتسرع للديمقراطية. الكتاب هو خلاصة هذه النظرة المتأنية المتراكبة المتراكمة، وهذه مزية أساسية في عقل وتفكير الدكتور النجار.
– المزية الثانية: في هذا الإسهام العلمي: أنه عندما جاء ليناقش مفهوم المجتمع المدني، أقام دائرة واسعة جدا لهذا المفهوم ووضع في هذه الدائرة خطوطا لا تخرج عنها لكي يموضع مفهومه الخاص في وسط هذه الدائرة، وبالتالي يؤِّمن لمفهومه ولعلميته المصداقية المطلوبة. فقد درس تجارب عربية عديدة، وتأمل دراسات سابقة، واستخلص منها أبرز ما وصلت إليه، وخاصة عزمي بشارة وأماني قنديل وسعد الدين إبراهيم وخلدون النقيب وغيرهم، حيث أخذ منهم بطريقته، ثم ركب بطريقته العلمية سياقاً خاصا بفكرة التوسع في مفهوم المجتمع المدني الحديث. وهذه النقطة ستكون إحدى المشكلات الأساسية أيضاً في سياق مناقشة المجتمع المدني بصورة عامة وليس بالشكل المحدد في الكتاب، فهي قضية أساسية ومفصلية فيما يتصل بمآل علاقته بالديمقراطية، وهذه نقطة جوهرية عالج الدكتور جوانب عديدة منها بدون شك، لكنه غفل جوانب أخرى سأوضحها فيما بعد.
– المزية الثالثة: وهي صفة من صفات البحث العلمي المتعمق والدقيق، وهي الحذر والخوف من التطبيقات السابقة، وأنا لم أجد النجار سابقا بهذه القدرة على القفز من مستنقعات الانزلاق في التعميمات والتطبيقات السابقة، وهو في حذره هذا أشبه بحذر القطط الماهرة في القفز بعيداً عن المستنقعات بطريقة إيجابية، حيث استبعد كثيرا أية نمذجة سابقة وحاول أن يحذّر منها، فاستعرض تطبيقات أوروبية وإفريقية وعربية، ونبّه إلى المحاذير التي تحيط بها، وهو في معرض تحديده لمفهوم المجتمع المدني. وهو في تجنبه للنمذجة السابقة يحاول أن يضع لنفسه نموذجه بطريقة وسمت هذه الدراسة بالتماسك وجعلت لها حبكة علمية يمكن بالفعل الإشارة إليها على أنها من أدق ما يميز هذا الكتاب.
– الميزة الرابعة: هي الرهان على المجتمع المدني الحديث، وهو في نفس الوقت السؤال الجوهري، فإلى أي مدى يمكن أو يصح لنا أن نراهن على أن مفهوم المجتمع المدني الحديث يكفل لنا على الأقل مقايسة مكتملة لتحقيق الديمقراطية، أو لاستعصائها أو عدم تحققها؟ فنحن نقرأ الكتاب ونفهم أن هذه الديمقراطية العصية لم تكن عصية إلا لأن مفهوم المجتمع المدني هو المفهوم العصي، فهناك إذن حالة قرينة بالديمقراطية: المجتمع المدني-الديقمراطية، المجتمع المدني عصي إذن الديمقراطية عصية. مفهوم المجتمع المدني هو الذي يختزن في داخله مجموعة كبيرة من التناقضات والتضاربات وقد وجدت الدكتور يبذل مجهودا صعباً جدا في تذليل هذا المفهوم ليكون حاضراً بصفته مفهوماً عصياً يؤدي لأن تكون الديمقراطية عصية هي الأخرى، وهذه النقطة جدُّ دقيقة، وقد ظلت متوترة في الدراسة حتى آخر سطر فيها.
– الميزة الخامسة: مقدمات الكتاب وخواتيمه، تكاد تكون طارئة حول مسألة الديمقراطية، وما بينهما تحليل سوسيولوجي مباشر أساسي وميداني لقصة المجتمع المدني الحديث. إلى أي مدى يمكن التسليم بشكل مطلق بأن هذه المحصلات التحليلية هي التي وصفت الحالة الديمقراطية في المنطقة بالاستعصاء؟ وهنا تثار أسئلة كثيرة، هل يمكن الذهاب بعد كتاب الدكتور إلى نفس المفهوم واستكمال رحلة البحث في الحالة العصية للديمقراطية؟ أم أن هناك جوانب أو مساحات مغفلة في هذا التحليل وهذه الحبكة التي صاغها الدكتور؟
أنا أعتقد بأن منهج الدكتور (وهذه هي النقطة الأخيرة) كان أميناً في نطاق التأسيس المفاهيمي الخاص به، ولكن هناك خيارات منهجية أخرى، قد تكون قادرة أكثر على أن تضع عتبة أخرى بعد عتبة الدكتور باقر النجار، وأرجو أن نناقش هذه النقطة لأنها أساس من الأسس التي تتداعى في هذا الكتاب المهم.
مفهوم أوسع للديمقراطية
* الوقت: عباس المرشد، أنت متابع لكل ما كتب عن البحرين والخليج من ناحية سسيولجية وسياسية، ففي أي سلسلة تضع كتاب الدكتور ضمن الدراسات التي كتبت من بداية السبعينات وإلى اليوم؟
– المرشد: اثني على مداخلة الدكتور غلوم فقد أورد العديد من الملاحظات التي اتفق معه في كثير منها، أتصور أنّ كتاب الدكتور باقر يمثل طفرة حقيقية في مجال الدراسات الاجتماعية أو السياسية الخاصة بمنطقة الخليج، في نواح عدة، ولكن أبرزها كما أكد الدكتور إبراهيم، مراهنته على المجتمع المدني ولكن بسياق مختلف. الاختلاف الذي قدمه كتاب باقر النجار ينبع من ناحيتين، الأولى: رؤيته لمفهوم المجتمع المدني وكونه تنازل كثيرا عن التنظيرات الغربية أو المستوردة التي تحاول أن تدمج المجتمع المدني بسياق آخر مختلف عن خصوصيات المنطقة والصيرورات التاريخية التي مرت بها، هي والعالم العربي. فرهانه على أن المجتمع المدني له مفهوم خاص في هذه المنطقة يقترب من الدولة ولكن لا يندمج معها، وله استقلالية ولكنها ليست بالاستقلالية التامة، أتصور بأنه أحدث قفزة جديرة بالانتباه والملاحظة، بحيث نبتعد عن الأخذ بتعريف المجتمع المدني من المفكرين الغربيين أو الدراسات الأجنبية أو المهتمة بالمنطقة، حتى لا ننطلق من محاور خارجة عن إطار التجربة التاريخية لهذه المنطقة.
الجانب الثاني من الاختلاف: تناول مسألة الديمقراطية من خارج الأدوات السياسية السائدة. أغلب الأدبيات التي تناولت الديمقراطية أو تناولت المجال السياسي كانت مضطرة جدا في أن تفهم الديمقراطية كمسألة تخص نظام الحكم أو شكل السلطة، إلا أن معالجة النجار لهذه الديمقراطية العصية كانت من زاوية مفهوم أوسع للديمقراطية أو ما يمكن أن نسميه حامل الديمقراطية وهو المجتمع المدني، وأتصور أن اختياره عنوان الكتاب ليكون الديمقراطية العصية رغم كون عنوانه الأصلي ”المجتمع المدني” كان من هذه الزاوية أيضاً.
الدراسات التي تناولت حقبات واسعة من التاريخ بما فيها الدراسات الأجنبية، لم تحاول أن تفهم هذين الجانبين من الاختلاف في معالجة شؤون المنطقة. بعد ذلك هناك مجموعة آليات حاول النجار أن يعملها، هي غائبة وقد تكون منعدمة، في العديد من الدراسات المختصة بالمنطقة وهي الدراسة الميدانية أو الممارسة العملية لمفاهيم وآليات السلطة وكيف تشتغل. ربما لم يتعمق فيها من ناحية فلسفية أو من ناحية معرفية بحتة جدا، بمعنى أن يسأل: ما هي السلطة؟ وما هي أدواتها؟ وغير ذلك مما يبحثه الفلاسفة الغربيون كميشيل فوكو وبيير كورديو، لذا فإن النجار تنازل عن هذا الإرث، وحاول أن يبدع منهجا ملامساً لمشكلات المنطقة كما هي. ليس من المعقول طرح مفاتيح بحثية لظواهر غير متراكمة، أو منقطعة، أو ما زالت في بدايتها، أتصور بأن هذه المعالجة الميدانية أو الممارسة الميدانية لأدوات البحث هي ما يتميز به جهد الدكتور النجار في هذا المجال. طبعا لا يخلو الكتاب من ملاحظات تتصل بالمنهجية وتتصل بالرؤية نفسها حيث أن مفهوم المجتمع المدني وإفراغه من طاقته الثورية التي دخل بها المنطقة العربية قد يسهم في تعزيز اتجاهات محافظة أو ربما يبلور رؤية مهادنة مع تحديات الديمقراطية وهذا ما يمكن نقاشه لاحقا.
تلكؤ النحول إلى الدولة الحديثة
* الوقت: الدكتور باقر النجار، كتاب ”القبيلة والدولة” لفؤاد إسحاق الخوري يوجد ضمن المراجع الأجنبية، ولكن لا إحالات كثيرة له في الكتاب. هل تجد أن عملك يتصل بعمله في مناطق مشتركة؟
– النجار: في الدراسة، رجعت لكتاب الخوري وكتاب أمين نخلة مرة أو مرتين، وأنا أعتقد بأن هذه الأعمال أعمال رائدة، أنتجت في مطلع السبعينات. بعض تنظيراتها لا تزال تحمل المصداقية، لكن أهميتها تكمن في تأريخها لبداية التحول السياسي بعد عملية الاستقلال في البحرين. أنا أتفق مع بعض تحليلات الخوري حول المسائل المتعلقة بتلكؤ عمليات التحول نحو الدولة الحديثة، وهي عمليات مازالت قائمة، ولم تكتمل مقوماتها بالشكل الذي نعرفه في مفهوم الدولة الحديثة.
– المرشد: أتصور أن مؤلفات مثل الخوري أو نخلة، تعالج جزئيات، أي لا يمكن النظر إليها كدراسات مكتملة. ورغم خصوصية منطقة الخليج من ناحية الوفرة النفطية أو الموقع الاستراتيجي أو غيرها من المؤثرات التي تجعل الأنظار متوجهة لها، إلا أن هناك افتقارا شديدا جدا وربما انعدام لدراسات تخص الدولة والمجتمع المدني أو الأفراد أو طبيعة الحراك السياسي أو الاجتماعي أو حتى الاقتصادي، وبالتالي فإنه لا يمكن التعويل على أن الخوري مثلاً أنجز ما يتعلق بمفهوم القبيلة في المنطقة نهائياً، هو عالج مسألة القبيلة في إطار تحولها أو اندماجها مع الدولة، هذا ما كان يشغله من بداية الكتاب إلى نهايته، وتوصل إلى استنتاجات مهمة تتعلق بمدى ملاءمة الدمج بين القبيلة والدولة والتحولات التي شهدتها تجربة البحرين وما أفرزته من خلل في البنية الدولتية وبنائها على إرث قبلي أكثر من مجهود الحداثة السياسية ، أما الأمور الأخرى المتعلقة بالمجتمع وحيثياته وانتقالاته، فهو لم يكن مهتما بها وإن كان قد عالجها في بعض الفصول أوفي ثنايا الكتاب. أمين نخلة كان يهتم بالعلاقات الخارجية أو كيف يمكن للضغوط الخارجية أن تؤثر على مسار البلد، كان يهتم بالتطور الإداري أكثر من أي شيء آخر، هنالك كثير من الدراسات الأجنبية تحاول أن تركز على جزئية فقط وليس أكثر. تراكم هذه الدراسات مع بعضها البعض، يحتاج إلى اختراق. ما وفره كتاب النجار أنه اخترق السوق الأهلية السياسية بالمصطلح، الكل كان يتوجه لترويج مصطلحات أو جزئيات معينة في البحث، هو استطاع أن يدخل التجار، المثقفين، والمؤسسات الأهلية كقوى فاعلة تؤثر في هذا الإطار العام إذا أردنا أن نبحث فيه، ولا شك بأن كتاب باقر النجار لا يمثل النهاية، ولا يستطيع أي أحد أن يدعي أنه أغلق المجال لدراسات أخرى من هذا النوع، من أجل تراكمها ومن أجل استفادة أكثر، ومن أجل دراسة للممارسة بوعي أكثر وبآليات أكثر نضوجاً أو أكثر ملائمة. فالفئات التي تناولها بالدراسة تحتاج إلى مزيد من التأصيل العلمي والتحديد المعرفي إضافة إلى ضرورة اكتشاف دورها البطيء أو حتى دورها المثبط للعملية الديمقراطية.
مفهـــــوم المجتـمــــــع المـــــــدني
* الوقت: مفهوم المجتمع المدني هو من المفاهيم الرئيسية التي يقوم عليها الكتاب، هو ”يدعو إلى رؤية أكثر ديناميكية إلى الكيفية التي يشكل بها الناس تاريخهم، وبتعبير آخر فإن تاريخ الناس كل الناس في بناء مجتمعاتهم وتجاوز معضلاتها يمثل حالة من حالات تاريخ نشوء وتطور المجتمع المدني في هذه المجتمعات”، وهو بذلك يرفض أن يتبنى مفهوماً محدداً أو نظرياً للمجتمع المدني بعيداً عن الرؤية التي يشكل من خلالها الناس تاريخ مجتمعاتهم، لكنه يعود ليتبنى كما قال مفهوم سعد الدين إبراهيم للمجتمع المدني وهو أنه: مجموعة من المنظمات التطوعية الحرة، أو المستقلة نسبياً، والتي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، لتحقيق مصالح أفرادها، أو تحقيق منفعة جماعية للمجتمع ككل. الدكتور حسن مدن، هل تجد أن مفهوم المجتمع المدني بهذه المراجعة النقدية التي قام بها الدكتور النجار يقربنا أكثر من الطريقة التي يرى من خلالها الناس في مجتمعنا الخليجي (أو البحريني والكويتي) تاريخهم وتاريخ تحولاتهم؟
– مدن: الدكتور باقر في هذا الكتاب ضحية هذه المفاهيم المتعددة للمجتمع المدني، فهو استعرض العديد من التعريفات والمفاهيم، وكما تفضلت بأنه مال بشكل من الأشكال إلى التعريف الذي يصف المجتمع المدني بأنه استقلال الحياة العامة استقلالاً ذاتياً شاملاً بعيداً عن سيطرة الدولة، حتى مع احتواء المجتمع المدني على مجموعات ذات مصالح وأهداف شديدة الاختلاف. أنا شخصياً ميّال لأن ينقل مفهوم المجتمع المدني قدر الإمكان إلى ما يمكن أن نطلق عليه ”البنية الفوقية”، كما فعل غرامشي، أي أن ننظر إليه كفضاء مستقل عن الدولة، وهو أحد مجالات اختبار الصراع بين الدولة وما سواها من مكونات، ليس الصراع بمعناه المبتذل، وإنما بمعنى التجاذب الضروري الحيوي الديناميكي الذي لا بد منه في العلاقة بين الدولة والمجتمع، ومن هذا المجال، أنا أرى علاقة المجتمع المدني بمفهوم المجتمع الحديث أي بفكرة الحداثة، ولا أرى سياقاً للمجتمع المدني خارج فكرة الحداثة، وسبق أن جرى الحديث حول ضرورة التفريق بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني. لأن بعض الأطروحات فيها قدر من الابتذال لمفهوم المجتمع المدني حين تضع كل ما هو خارج الدولة في خانة المجتمع المدني، القبيلة والطائفة وأشكال التعبيرات أو البنى التقليدية السابقة للدولة، والتي تدخل لسبب أو لآخر في صراع مع الدولة أو يستعصي على الدولة أن تخترقها أو تكسب ولاءها، هي توضع أيضاً في خانة المجتمع المدني. في رأيي، أن الدولة تكوين حديث، ربما يكون ذلك مسلمة، فالدولة تكوين متقدم على ما قبله، والمجتمع المدني على صلة بنشوء الدولة، إذن فهو على صلة بمقابل حديث للدولة، وربما الدكتور حاول في الكتاب أن يثبت أنه يتوجب علينا أن نبحث عن تعبيرات أو تجليات خاصة للمجتمع المدني بحيث لا ننساق إلى الفهم الغربي.
– فضل: الدكتور يرفض العلاقة التصارعية ويركز على العلاقة التبادلية بين مؤسسات المجتمع المدني والدولة.
– مدن: لم ألاحظ ذلك بشكل قاطع، هو دعا إلى الشراكة بينهما، ولكنه تحدث عن مخاطر إقصاء المجتمع المدني، وسطوة الدولة عليه، ولم ينف التجاذب بينهما.
– حسين مرهون: من الممكن أن يستوعب مفهومه للمجتمع المدني تكوينات أو مفاهيم ما قبل حديثة، هو يبدي خصوصية للمجتمع المدني بطريقة أعطتني انطباعاً بأن صياغته للمفهوم من مجمل التعريفات هي صياغة لما هو قائم في الأساس، أنا شعرت بأنه لا يترك أي أفق، هو دقيق جداً عندما يتكلم عن المفهوم الغربي الذي عبر عن المجتمع المدني بأنه مستقل عن الدولة فيضيف هو عليه (قليلاً أو كثيراً)، وهذه الإضافات تعطي دقة لهذه الخصوصية، حتى تراه قد صاغ مفهوما لما هو قائم، بحيث تشعر بأنه لا يوجد أفق آخر، وأن هذا هو الموجود، وليس لنا إلا نسير بفهمنا وفقه.
– مدن: استكمالاً لفكرة مرهون، أنا كنت أتمنى من النجار أن يذهب أبعد في الحسم بين المفاهيم المتعددة التي درجها للمجتمع المدني، هو تحدث عن عدة تطورات، عدة رؤى، وعدة مواقف للمجتمع المدني، لكنه لم يبين انحيازه الواضح إلى أي مفهوم يتبناه وينطلق منه، وأعتقد بأن هذا اللبس انسحب على بعض المعالجات في الفصول اللاحقة، أعتقد بأن بعض البنى وبعض الهياكل وبعض الفئات الاجتماعية التي تحدث عنها في الكتاب تنطوي على قدر من الحيرة في مكان تبويبها وتصنيفها، أين تقف وأين يضعها الدكتور في مفهومه للمجتمع المدني؟ مثلا يتحدث الدكتور عن أن البعض يضع حتى جمعيات الحفاظ على رقصة العرضة والتراث الشعبي في تصنيف المجتمع المدني وهو يشير إلى ذلك في سياق نقدي، حيث شعرت بأنه لا يتبنى هذا المفهوم، لكنه لم يقطع بذلك. كانت هناك حاجة إلى الإشارة بأن الموضوع تحكمه أكثر من ثنائية، هناك ثنائية الدولة والمجتمع المدني من جهة وهي إلى حد مطلق ثنائية حديثة، وهناك ثنائيات أخرى في مجمتعات الخليج كثنائية الدولة والطائفة، ثنائية الدولة والعشيرة، ثنائية الدولة والقبيلة، وغيرها، وهي جميعاً حاضرة بقوة ثنائية المجتمع المدني والدولة، وقد يكون ذلك مطلب السياق المختلف لكتاب القبيلة والدولة لفؤاد إسحاق الخوري.
* الوقت: ضمن هذه الحيرة، مفاهيم مثل المجالس، المجالس التي فيها بقايا من القبيلة، وبقايا من العائلة، والمآتم التي اعتبرتها منيرة فخرو من مؤسسات المجتمع المدني في دراستها المنشورة في (عالم الفكر) في حين أن الدكتور كان يعتبرها من شكل المؤسسات التي تنتمي إلى الطائفة.
– فضل: أعتقد بأن هذه إشكالية تتعلق بالمفهوم، ومقاربة هذا المفهوم على مستوى الواقع، وكما ذكر مدن أننا يمكن أن نكون أقرب إلى المجتمع الأهلي من المجتمع المدني، وأنا أعتقد بأن ذلك يجب أن يخضع لمعايير، وأعتقد بأن كل من يكتب ويبحث في هذه المؤسسات تعترضه هذه الإشكالية، لأن المفهوم أصلا لم يخلق في هذه المجتمعات وهو مفهوم مستورد من الخارج.
عرض كتاب للديمقراطيةالعصـــية فـي الخليج العـربي
منى عباس فضل:
هل يصح القول إن الديمقراطية ما تزال عصية على التحقق في المجتمعات الخليجية؟
ربما تكون الإجابة ”بنعم أو لا” هي أسهل السبل للوصول إلى الخلاصة أعلاه، بيد ان الكتاب الذي صدر للباحث وأستاذ علم الاجتماع البحريني ”د.باقر النجار”، لا يكتفي بابتسار هذه الحقيقة أو تلك في إجابة مختصرة، لاسيما وهو يقوم بعملية الكشف والتحقق التي نشرها في كتابه الأخير، المعنون بـ ”الديمقراطية العصية في الخليج العربي”. صدرت الطبعة الأولى منه عن ”دار الساقي” بيروت في ,2008 وهو يعد استكمالا لما سبقه من كتاب بعنوان ”الحركات الدينية في الخليج العربي” نشرته نفس الدار في .2007
الكتاب في مجمله يتضمن عرضاً مفصلاً للمجتمع الخليجي، يبحث فيها طبيعة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني الخليجية. يستند على دراسة ميدانية اعتمدت البيانات والجداول الإحصائية التي تتناول الهيئات ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والدينية وميادين نشاطها ووسائل تمويلها وأساليب عملها، إضافة إلى رصده لما طرأ عليها بعد أحداث سبتمبر في ضوء مظاهر العولمة، وهو في هذا الإطار يستشرف مستقبل الإصلاح السياسي. ويشير في المقدمة إلى أن المتغيرات الظرفية دفعت البعض إلى الاعتقاد بأن قدرة الأنظمة العربية على التكيف مع الظروف والمتغيرات الدولية والمحلية العاتية تفوق الخيال، إلا إن المسألة المطروحة في الكثير من الكتابات الغربية وبعض الكتابات العربية، هي أن هناك عداءً متأصلاً في المجتمعات العربية نحو الحداثة والديمقراطية. وهناك من يذهب من بعض الكتاب الغربيين إلى أبعد من ذلك في قولهم: ”ان التكوينات الاجتماعية والثقافية والروحية للمجتمعات العربية والإسلامية تحمل ”مكونات جوهرية”essential elements components لا تعمل مع الوقت لمصلحة نشأة أو تبني مؤسسات وتطبيقات تؤكد مبدأ سيادة القانون، أو الأخذ بقيم حقوق الإنسان والمواطنة والعدالة الاجتماعية واقتصاديات السوق، يضاف إليها ما يعتقدونه بأن الدين الإسلامي يتميز عن الأديان الأخرى في مقاومته لمسألة الديمقراطية والمجتمع المدني، وهي نتيجة لذلك – أي المجتمعات العربية – رافضة لأي شكل من أشكال الحياة العالمية أو العصرية غير المرتبطة بالخطاب الديني.
في هذا الشأن يعتقد المؤلف، أن المسألة أكبر وأكثر تعقيداً من التبسيط المخل المطروح أعلاه، والذي يتسم باطنه بالعداء المبطن والازدراء للآخر لأسباب ثقافية أو دينية، فطبيعة الدولة العربية وهيمنتها المطلقة على المجتمع والحكم على السواء، إضافة إلى طبيعة علاقاتها التحالفية مع الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية، لم تعطل إمكانية إحداث تغييرات وإصلاحات سياسية واقتصادية أساسية في المنطقة العربية فحسب، وإنما دفعت الأمور نحو تعميق الفجوة بين الدولة والنخب السياسية من ناحية والمجتمع من ناحية أخرى، إلا في القليل من الحالات العربية النادرة والضئيلة التأثير في محيطها العربي العام. فالدولة العربية، أو جل حالاتها على الأقل، قلما تكون وافية بوعودها، وإن فعلت فإنها إما أن تأتي بأقل القليل مما وعدت به، أو تفرغ فعلها من محتواه وجوهره الحقيقي. مضيفاً، أن البعض يرى بأن التحولات الكونية الهائلة في مجالات الدولة والسوق هي تحولات مفرغة من مضامينها وأهدافها السياسية والثقافية، بيد إن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية والمواطنة والديمقراطية برأي المؤلف، هي من القيم الكونية التي تمثل ركنا أساسيا في التحولات الكونية، وهي تمثل شرط من شروط قيام المجتمع المدني، وبالتالي فأن سيادة قيمها مع قيم التسامح والقبول بالآخر بكل معانيها وممارساتها تمثل الوعاء الحافظ لأي تجربة ديمقراطية من السقوط والانهيار.
يحدث ذلك إلى جانب الحضور المسبق لثقافة المجتمع المدني، مضافا إليهم قدرة المجتمع على تقويم وليس تقييد ممارستها، وصبر الناس والدولة عليها وحتى إن جلبت إليهم بعض الألم أو الضيق أو تقلص المصالح، فكل ذلك يشكل الضامن الآخر لاستمرار التجربة وتلافي زوالها أو تعرضها لهبات التراجع والتقهقر والانهيار، على اعتبار قناعته بتأكيد حقيقة أن المجتمع المدني ليس بديلاً من الدولة أو مطيحاً بها فالعلاقة بينهما يجب أن تكون علاقة تعاون أكثر منها علاقة صراع، وهي علاقة تبادلية أكثر من كونها هيمنة الأولى ”الأقوى” على الآخر ”التابع” و”الأضعف”.
مفهوم المجتمع المدني
عند مقاربة مفهوم ومصطلح المجتمع المدني، تمحورت خلاصته حول رؤية ”أماني قنديل وسعد الدين إبراهيم”، من أن المجتمع المدني هو مجموعة من التنظيمات التطوعية الحرة أو المستقلة نسبياً، والتي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، لتحقيق مصالح أفرادها، أو تحقيق منفعة جماعية للمجتمع كلل Collective Benefit، وهي في ذلك ملزمة بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والإدارة السلمية للتنوع والخلاف. وبالتالي فأن المجتمع المدني عبارة عن تجمعات ذات هياكــــــــــــــل تنظيمــيــــــــــة Organization وهي تجمعات/منظمات لا تهدف إلى تحقيق الربح المادي المباشر للفرد المنتمي إليها أو الجماعة المشكلة لها. وأعضاءها هم كذلك بفعل إرادتهم الحرة وخيارهم الشخصي لا بفعل انتماءاتهم القبلية أو الإثنية: العرقية والدينية والمذهبية. ومن ناحية متصلة تعمل في الفضاء القائم بين الدولة والعائلة، وهي لهذا لا تمارس العمل السياسي كالأحزاب والمنظمات السياسية، إلا أن السياسة تتقاطع مع بعض أنشطتها، كما لا تأتي على وتيرة أو نسق موحد، إنما تختلف من مجتمع لآخر ومن سياق زمني لآخر، بيد إن جوهر تشكيلها ونشاطها اللاربحي والمجتمعي هو الباعث على تشكلها.
المجتمع والدولة
في الفصل الثاني، جاء بحثه في مسألة المجتمع والدولة، والتحولات غير المكتملة، فخلص إلى القول إن المجتمعات الخليجية برغم حجم التغيرات والتحولات التي حدثت على بناءها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي تبقى مجتمعات انتقالية، حملت أنساقها الاجتماعية قدراً من التغير والاستمرار والمقاومة، فأبنيتها السياسية والاجتماعية تبدو في ظاهرها حداثية.
إلا أنها تبقى في أدائها لوظائفها محكومة بجذورها التقليدية المقاومة للتغير، رغم ضخامة عوامل التغير والضغوط التي تخضع لها من قوى العولمة وآلياتها.
ولأن كانت أبنيتها السياسية الرسمية والأهلية تبدو حديثة في ظاهرها، إلا ان القوة السياسية الممارسة من خلالها غير مقيدة بمؤسسات رقابية قادرة على أداء عملها كما هو في المجتمعات الحديثة.
والجماعات القبلية والمذهبية تتنافس فيها أو من خـــلالها إلى حد العراك للحصول على السلطة والنفوذ والمكانــة.
في مثل هذه الظروف فإن هذه التضامنيات تعمل على نشر الفساد والسعي وراء المصالح الخاصة.
بدايات العمل الأهلي وتجار الخليج
يستعرض في الفصل الثالث، نشأة المنظمات الأهلية الخليجية منذ عشرينات وستينات القرن الماضي، من خلال نشأة الأندية والجمعيات الأدبية والخيرية. أما في الفصل الرابع، فتطرق إلى تجار الخليج وكونهم جماعة لم تستثمر قوتها، ورأى أن المجتمع التجاري بحكم امتلاكه للأسباب الاقتصادية كان على الدوام مالكاً ولو جزء من القوة السياسية وإن انكمشت أو تناقصت بفعل اندماجه في مؤسسة الدولة، في ظل تدفق ريوع الاقتصاد النفطي. ومؤسسات المجتمع التجاري مثلت المؤسسات الأهلية الوحيدة التي سمح لها بالتشكل والنشاط حيث أنشئت في السعودية العام 1944 وقطر 1963 ودبي في ,1965 حيث يبلغ عدد الغرف التجارية الخليجية حوالي 14 غرفة تجارية. كما إنها بصورة عامة لم تتوفر على أي إمكانية لتشكيل القوة الضاغطة ذات الرؤى السياسية. وتتميز الحالة الكويتية عن الحالة الخليجية الأخرى كما يوضح المؤلف، بكون طبقتها التجارية وتحديداً التقليدية منها، قد لعبت أدواراً تنويرية على الصعيد السياسي والثقافي، إلا أن قدرتها الضغطية على مؤسسة الحكم لم تعد بذات القوة والتأثير كما في سابق عهدها قبل النفط. وفي هذا المجال، هناك فئتان يتشكل منهما المجتمع التجاري، تقليدية تشكل الجماعة.
المنظمات والقوى الثقافية
يفرد الكتاب مساحة مهمة في الفصل الخامس، لمناقشة واقع المنظمات والقوى الثقافية في المواجهة بين المثقف والسلطة، فيذكر أن بعض المنظمات الثقافية في الخليج، خضعت للريبة والشك من قبل المؤسسة الدينية، أو للحد من نشاطها الثقافي أو الحل القسري أو تغيير مجالس إداراتها في بعض الأحيان، وذلك أن النشاط الثقافي لهذه المؤسسات بفعل تمثله وتبنيه لقضايا المجتمع وربما قضايا المجتمع العربي، شكل محور الصراع مع مؤسسة الدولة، ومع بعض المؤسسات التقليدية الأخرى، وفي طليعتها المؤسسة الدينية والقبلية، وبذلك كان المثقفون أكثر الفئات الخليجية تمثلاً لإشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة، التي تتجاوز حالاتها أحد أمرين أما الاحتواء أو الرفض.
المنظمات المهنية في الخليج
وتحت عنوان المنظمات المهنية في الخليج في الفصل السادس وضح المؤلف واقع تلك المنظمات وتشكل الطبقة الوسطى وتملكها القوة وعوزها للإدارة والتنظيم. واعترف بأن هذه الفئة/الطبقة/ أو الجماعة المهنية كثيرة العدد وفي تزايد مستمر، وهي على غرار الطبقة الوسطى موضع منازعات إثنية وقبلية ومذهبية وعرقية، وقد يثير أفرادها بعضا من مشاكلهم المشتركة المعيشية والمهنية، إلا انه نوه إلى أن وحدتهم من السهل جداً شقها بمعطيات ذاتية وقبلية ومذهبية ضاربة بجذورها في ذات الفرد وشبكة علاقاته الاجتماعية.
المنظمات النسوية
في الفصل السابع، يرسم خارطة المنظمات النسوية كما يروق له تسميتها، معتمداً على تحليل واقعها من حيث النشأة والمكون الاجتماعي، حيث رأى أن الدعوة لإنشاء المنظمات النسوية قد خرجت من الكويت، إلا ان بدايتها كانت في البحرين، بتأسيس ”نادي السيدات” الذي لم يستمر إلا بضعة شهور، لتتأسس بعدها جمعية نهضة فتاة البحرين، التي وجد أنها مثلت طليعة الجمعيات النسائية المطالبة بالحقوق السياسية للمرأة في مطلع السبعينات، وقاربت في أنشطتها الجانب الرعائي والاستشارات الأسرية وتبنت مشروع الاتحاد النسائي البحريني والدعوة لإصدار قانون للأحوال الشخصية. تطرق أيضا إلى جمعية رعاية الطفولة والأمومة التي أتاحت لها ظروفها التمييز بنشاط رعائي خدم قطاعات اجتماعية وسكانية مختلفة، ثم إلى جمعية أوال النسائية التي مثلت شرائح من الطبقة الوسطى المتأثرة بالاتجاهات الاجتماعية والفكرية والسياسية والليبرالية، وعضواتها يماثلن الجيل الجديد من النسوة الفاعلات في النهضة، حيث مثلت هاتان الجمعيتان حسب تحليله الخط التحرري من حيث الأهداف السياسية والأهداف الخاصة بشؤون المرأة. في السياق تطرق إلى تفاصيل أخرى تتعلق بتشكل الجمعيات النسائية الإسلامية ولجانها ممن تأثرن بالخطاب الديني بشقيه، وعلى نفس القدر من المنهجية تناول واقع المنظمات النسوية في الكويت والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر وعمان، بيد إنه وجد أن بعض الدول الخليجية مثل سلطنة عمان والإمارات تعد حديثة العهد بالعمل النسائي.
المنظمات الخيرية
في الفصل الثامن من الكتاب يتناول المنظمات الخيرية التي يعتقد أن عملها خيري وإنساني محض في الكثير من جوانبه، إلا أن بعضه ينطوي على أهداف ومرام سياسية تتمثل في مظاهر منها بالحضور السياسي المحلي للجماعات الداعمة والقائمة بهذا العمل الخيري، أو على صعيد الحضور الخارجي في دول العوز الاقتصادي العربية منها والإسلامية، أو في دعم التوجه المناهض للوجود الأجنبي، كما يوجد تداخل بين العمل الخيري والممارسات الوعظية وسيطرة جماعات الإسلام السياسي على الأعمال الخيرية.
فاعلية المجتمع المدني وإشكالية علاقته بالدولة
في الفصل التاسع يتناول واقع المنظمات الأهلية وإشكالات علاقتها بالدولة وبالمجتمع. توصل إلى أن منظمات المجتمع المدني قد حققت قدراً من التطور في أداء خدماتها، إلا انها تعاني من ضعف الإمكانات المادية ومن التفكير التقليدي الذي يديرها والهياكل الإدارية الضعيفة، وعجزها عن تحقيق الأهداف التي تسعى إليها.