حين عرفت بوفاة المفكر العربي فؤاد زكريا، كنت ثملاً بقراءة ترجمته للتساعية الرابعة من تاسوعيات أفلوطين، والتي نشرها في 1970 مع مقدمة ودراسة مطولة قيمة.
قرأت نص التاسوعيات في ترجمة فريد جبر، وقد بذل فيها عشرين عاماً من حياته. وطبعها بعناية بالغة، لكني وجدت صعوبة في الدخول على تاسوعيات أفلوطين عبر هذه الترجمة التي لا أشك في دقتها وجودتها وأعلمية صاحبها التي ترجم لنا كذلك منطق أرسطو عن اللغة اليونانية مباشرة. لكن الدقة والجودة والترجمة عن النص الأصلي ليست شرطاً للدخول على النص.
فرحت كثيراً حين عثرت على ترجمة فؤاد زكريا، مع أنه لم يترجم غير التاسوعية الرابعة، لكنه على عادته في الاحتفاء بالنص المترجم وحرصه على تمكين القارئ من الدخول عليه بحميمية، فقد قدم للترجمة بمقدمة ودراسة مطولة. شعرت أني أدخل قلب النص عبر عتبة رفيعة.
النص المكتوب في القرن الثاني الميلادي مازال ينبض بحيوية أفلوطين الذي كتبه في سياق إعادة الاعتبار للفلسفة اليونانية عبر استعادة أفلاطون (347 ق.م) وروحانيته التي وجد فيها أفلوطين رداً على المسيحية التي أخذت تبسط نفوذها على الساحة العامة «أجورا» بعد أن كانت ساحة للفلاسفة اليونان.
المهمة التي انتدب أفلوطين نفسه لها في سياق عصره، هي المهمة التي انتدب فؤاد زكريا نفسه لها، وهي إزالة الغموض عما يحجب العقل، العقل الذي وجده أفلوطين مهدداً بالعقائد المسيحية التي تدعو إلى التسليم والطاعة والامتثال والخضوع للنص والأمر.
لقد انتدب فؤاد زكريا نفسه لإعادة الاعتبار للفلسفة في الثقافة العربية عبر الترجمة والتأليف والتدريس، بعد أن ضاقت بها الساحة العامة. لقد كانت الثقافة العربية الإسلامية قد ترجمت ملخصاً لتاسوعيات أفلوطين ونسبته إلى أرسطو تحت تسمية «أثولوجيا أرسطو»، وذلك لشدة افتتانها بأرسطو، وهذا ما جعل مناخها العام الثقافي منفتحاً على الفلسفة، ووجدت فيها مصدراً لبناء خطابها عن الربوبية «أثولوجيا» بناءً عقلياً نقدياً.
كان أفلوطين يعبر عن مفهومه الفلسفي للربوبية بقوله «فحاذر من حد الإلوهية بموجود واحد، فعندما نراها، كما يظهرها لنا الله نفسه، متعددة، نكون قد عرفنا قدرة الله.. أن تكاثر من الآلهة التي إليه رباطها وبه وجودها ومنه مصدرها».
إن قدرة الله في أن يكاثر من الآلهة لا تعني الشرك ولا تعني وجود أكثر من الله، بل تعني تعدد تجلي صورة الله، وهذا ما أبرزه خطاب المتصوفة في حضارتنا، وعلى رأسهم ابن عربي الذي اتسع قلبه لكل صور الألوهية، وصار كاهناً للعالم وفق مقولة الفيلسوف الأفلوطيني بروقلس «على الفيلسوف أن يكرم آلهة الأمم جميعاً، وبذلك يصير كاهنا للعالم كله».
كان فؤاد زكريا مناضلاً ضد كل ما يحجب العقل ويحول دون ممارسته لدوره الفعّال النقدي في الساحة العامة. كان ضد تحويل الفلسفة إلى خطاب ملغز أو خطاب يبرر للسلطة ممارسة استبدادها وتضليلها.
وقد جسّد ذلك في مواقفه العملية، وعلاقاته الشخصية، ففي بداية الستينات أرسل لمطاع صفدي قبل أن تطبق شهرته الآفاق، رسالة تضمنت إعادة صوغ لموضوع كتبه صفدي كتابة معقدة يصعب فهمها ونشرها في مجلة الآداب البيروتية. أعاد كتابة الصفحة الأولى من الموضوع كتابة واضحة ومبسطة وأرسلها للكاتب فرد عليه بلطف أنه يقدر وجهة نظره ويستوعبها جيداً. لقد استعاد هذه القصة في نهاية التسعينيات في مقال له تحت عنوان «الغموض والوضوح في الكتابة»[1] نشرها في مجلة الفلسفة والعصر.
يقول عن صفدي «يبدو لي بعد ما يقرب من أربعين سنة لم يستوعب وجهة نظري بالقدر الكافي» ويستدل على ذلك بمقال نشر له بعد ثلاثين سنة وفيه يصف صدام حسين بالقائد التاريخي والقائد الضرورة في سياق جمل معقدة من نوع «إن المايحدث لا يقتصر على المعرفي، بل هنا المعرفي متحد ومعارض للقوى في ذات الوقت».
إن هذا النمط من التعقيد يحجب الفهم ويصفّد العقل، ولا يسمح للخطاب الفلسفي الذي تخصص فيه مطاع صفدي أن يمارس نقده في كشف التضليل الذي يمارسه المستبدون.
وهذا ما جعل فؤاد زكريا محارباً فذًّا ضد أي خطاب يحجب الحقيقية ويعطل فاعلية النقد، كما في موقفه النقدي من سلطة خطاب محمد حسنين هيكل في كتابه «كم عمر الغضب؟ هيكل وأزمة العقل العربي»[2] وفيه أوضح أن خريف الغضب يتجاوز فترة السادات ويشملها ويمتد إلى حيث تمتد أزمة العقل العربي مع الحرية المصادرة من قبل أنظمة الحكم السياسية وحيث تمتد أزمة العقل العرب مع التفكير العلمي المصادر من قبل الخطاب الديني، وقد واجه بمفرده خطاب القرضاوي والغزالي والشعراوي. الغضب ليس من حكم واحد ولا من حقبة واحدة ولا من جهة واحدة، إنه الغضب من هذا الكل المركب الذي صنع أزمة العقل.
لقد رحل فؤاد زكريا، لكن لا ندري كم به من غضب الآن؟
[1] هكذا تكلم فؤاد زكريا، كتيب صادر مع الملف المخصص للاحتفاء بفؤاد زكريا، في مجلة إبداع، العدد .2009 ,12
[2] فؤاد زكريا، كم عمر الغضب؟ هيكل وأزمة العقل العربي، ط ,2 دار القاهرة .1984