للعنف صُوره… للهوية صورتها. بين الصور والصورة، نسأل: هي للعنف هوية؟ بصيغة تبدو مراوغة نسأل: هل تمارس الهوية عنفها الضروري؛ ولماذا يكون ضرورياً؟ هل تتغذّى بعض الهويات على العنف؟ ماذا عن الهويات المصطنعة؟ هل تُصنع الهوية كأي سلعة؟ كي تحمي مثل تلك الهويات نفسها؟ هل تحتاج إلى العنف لتضمن ذلك؟ هل هو عنف مقابل عنف؟ أم عنف ضروري لضمان استقرار؟ ويظل استقراراً مصطنعا ومؤقتاً في نهاية المطاف.
وبالعودة إلى الصورتين: صورة الهوية وصورة العنف. ما الذي يثبت ويَقَّرُّ في نهاية المطاف؟
يُطرح موضوع الهوية في حال من التناقض… يترافق مع ذلك عنف أيضاً. عنف مصدره السلطة – يحدث عنف مضاد هنا – في محاولة لجرّ المكونات إليه لتخرج من الصورة. صورة المغذّي والمشجّع والمطوِّر لذلك العنف. والعنف يسعى أحياناً لتثبيت الهوية. هل ينجح في ذلك؟
كيف يمكن النظر إلى الهوية في هكذا صور متعددة… واقع متعدد؟! كيف يمكن النظر إلى الهوية في واقع اصطناعها من جهة، وتهميشها من جهة أخرى؟
ثلاثة محاور، تشكّل موضوعات ثلاثة لكنها لا تنفصل في تشكّل أي منهما.
جمعت «الوسط» في هذا الملف كلاً من: أستاذ علم الاجتماع في جامعة لوند – السويد عبدالهادي خلف، الباحث والأكاديمي، علي الديري، الباحث والأكاديمي نادر كاظم، الكاتب والصحافي حسين مرهون، والقاص، الروائي، الفوتوغرافي حسين المحروس.
يستهل عبدالهادي خلف رؤيته لمحور الملف في الشق المتعلق بعنف الهوية من أطروحة فرانز فانون (فرانز فانون ولد في 20 يوليو/ تموز 1925 وتوفي في 6 ديسمبر/ كانون الأول 1961، طبيب نفسانيّ وفيلسوف اجتماعي أسود، من مواليد فور دو فرانس – جزر المارتنيك، عرف بنضاله من أجل الحرية وضد التمييز والعنصرية. أشهر كتبه «معذبو الأرض»): «من الصعب مناقشة علاقة العنف بالهوية دون البدء بما طرحه فرانز فانون. فهو يرى العنف حجر الزاوية التي لابد منها لنشأة النظام الاستعماري وانتشاره. إلا إن ذلك العنف الاستعماري لم يكن عنفاً عبثياً، على رغم ما بدا في ظاهره من عشوائية وتخبّط وإسراف. قد يتوارى العنف المادي في حقبة ما لتحل محله أشكال العنف الأخرى إلا إنها جميعاً تهدف إلى تمكين النظام الاستعماري من فرض إرادته وإقناع المغلوبين بعدم جدوى المقاومة؛ علاوة على فرض اقتناع المغلوبين بدونيتهم. فاستبطان الدونية هي نقطة البداية التي لابد منها كي يتمكن النظام الاستعماري من فبْركة جوهر الهوية الدونية (وتفريعاتها) التي ينشرها الغالب بين المغلوبين».
الهوية والوعي الذاتي بالخصوصية
الأكاديمي نادر كاظم، ينطلق من نزعة «التفتيش»، … الهوية وارتباطها بالوعي الذاتي بالخصوصية: «البشر مجبولون على التصنيف، هذه حقيقة إلى درجة أنه حتى لو انقرض كل من على وجه الكرة الأرضية ولم يبقَ من بينهم سوى 100 شخص، ستجد بعض هؤلاء ينزعون إلى التفتيش عمّا يميّزهم عن مجموعة سيجري تصنيفه على أنها «آخر». وهذه آلية متمكنة في الحياة البشرية وهي تتم، أحياناً، بغرض التعرّف على الذات واكتشاف خصوصيتها؛ بحكم أن الهوية هي وعي ذاتي بالخصوصية، إلا أن هذا التعرف قد ينقلب، في سياق آخر، إلى سعي إلى التميّز، وأي تميّز يفرز بالضرورة ضحاياه لأن التميّز سيتم على حسابهم. التميز في الأصل ليس منفعة أتحصّل عليها وفقط، ولكنها منفعة أتحصل عليها وحدي بحيث تتولى رسم حدود التراتب بيني وبين الآخرين. هناك إذن حاجة متمكنة لدى البشر اسمها الحاجة إلى التميّز الذي يترجم في صورة إرادة الاختلاف عن الآخرين. لكن الأهم والأخطر من هذا أن هناك مآرب لها صلة مباشرة بسياقات القوة والهيمنة، فدخول الدولة على خط الهوية/ الآخرية جعلها متورطة في هذه المسألة، والجماعة الماسكة بالسلطة تعرف بخبرتها أن اختلاق هويات/ آخريات يؤدي دورا مهما في التشويش والإشغال كآلية من آليات التحكم في البشر وإدامة هذا التحكُّم».
الهوية والاعتراف والصراع: من هو البحريني؟
في السياق المحلي، يذهب الأكاديمي علي الديري إلى الاستدعاء التاريخي. الشواهد لا تنضب. بعضها يظل ماثلاً كأنه لم يبرح الممارسة والمخيلة. الممارسة خصوصاً؛ ولكن في صور وتناولات وإجراءات شتى. يبدأ بتعريف الهوية استدراجاً إلى الشواهد: «الهوية بما هي تعريف بالذات الفردية والجماعية تعريفاً يفرض واجبات واستحقاقات، هي محصّلة الاعتراف، والاعتراف هو محصّلة الصراع. دعونا نشرح ذلك.
من هو البحريني؟ هو من يحمل الجنسية البحرينية، ومن يحمل جوازاً بحرينياً، ذلك هو البحريني من وجهة نظر السلطة التي تحكم وتشرع القوانين وتطبقها.البحريني بهذا المعنى هو من تعترف به قوانين الدولة، لكن هذا الاعتراف يمر بصراعات مريرة، ويتعرض لإجحافات ظالمة، ولا يتحقق للفرد ولا للجماعة بدون نضال سياسي.
عن الحبّ.. مكر الهوية
يحضر الشاهد… السؤال عن الحب. الهوية يمكن أن تكون بيت الحب. يمكن أن تكون بيت الكراهية. يذهب القاص والروائي والفوتوغرافي حسين المحروس إلى الصورة. يبتغيها مدْخلاً وشاهداً صاعقاً على ما يُراد التعمية عليه ونفيه. يسأل: «هل ثمّة ضروري غير الحبّ»؟… يقودنا إلى الشاهد/ الصورة… الصورة/ الشاهد: «كنت أسأل شابين حديثي الزواج، ولد من أبوين بحرينيين مهاجرين. أبوان مهاجران بغير رغبتها وبقوة ما جرى عليها من الظلم. كنت أسألهما في بلد ولادتهما ونشأتهما أوروبا: ماذا تعني لكما البحرين؟ فاتفقا على جواب واحد: جدّي وجدتي هناك ولا شيء غيرهما.
هل كان هذا السؤال مهماً؟ هل هذه الألفة بيني وبينهما ألفة هوية العرق والنسب لا أكثر وليس انتماء الأرض؟ في ماذا أشترك معهما؟ في تاريخ جنسهما وتاريخ مكان والدهما لا هما؟ في الدّين؟ في القومية؟ ينتميان إلى هنا لا هناك؟ مكان واحد فقط؟ لماذا يضحكان بعد أن أنجزا إجابتهما؟ هل وقعت دون أن ألتفت في مكر السؤال أم مكر هذه التي تسمى «الهوية»؟ هل كنت أحطّ من قدرهما بسؤالي لهما عن هوية الانتماء إلى مكان والديهما وجديهما؟ ليس في بالي أن أفعل ذلك».
إنه «العنف» يا سيّدي
الكاتب والصحافي حسين مرهون، في مداخلته عن العنف، التقط عبارة في جزء من حوار مع الشاعر البحريني القدير قاسم حداد، معلّقاً على الربيع العربي. كان في جزء منه حواراً تناول العنف. مدخل مرهون لا يرمي إلى شخصنة هنا بقدر ما هو «ترطيب للذاكرة» يشفعها بإحصاءات، ثم قراءة لما بعدها. قراءته هو، واطمئناناً لقراءة آخرين: «صرّح قاسم حداد مرّة في أحد حواراته حول انتفاضات العالم العربي بأنه «لايعرف ربيعاً دموياً بهذا الشكل». وكتبت متسائلاً، ما إذا كان قاسم قد سمع عن أعداد القتلى في أكثر الثورات «تقدميّة» في العالم، ووضعتُ أرقاماً، هي كالآتي:
ــ 30 ألفاً، عدد القتلى في الثورة الفرنسية (1789 – 1799) التي أطلقت عصر الأنوار، وبعض مؤرخيها قال 45 ألفاً.
ــ 13 مليوناً، عدد قتلى الثورة البلشفية (1917 – 1923) التي قادها لينين متأثراً بماركس، سقط أكثرهم في الحرب الأهلية التي تلتها.
ــ 141 ألفاً سقطوا كلهم في الثورة الأميركية (1861-1865) التي تعرف أيضاً بـ»حرب الاستقلال».
الأرقام لا تتحدث عن أعداد الجرحى والمصابين أو من شُرّدوا ويُتّموا، وهي تغني لوحدها عن ذكر أمثلة أخرى. مع ذلك أذكر مثالين قريبين زمنياً، أحدهما من الجزائر في المغرب العربي، وآخر من إيران في المشرق.
فقد قتل 1.5 مليون شخص في ثورة التحرير الجزائرية؛ حتى لقب الجزائر بـ»بلد المليون ونصف شهيد»، و70 ألفاً قتلوا كلهم في الثورة الإيرانية التي مدحها أدونيس وفوكو، على رغم أنها جاءت بحكم ديني!
ماذا تقول لنا هذه الأرقام؟ ببساطة، إنها تشير إلى ما أسمته حنة آرنت (ولدت في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1906 وتوفيت في 4 ديسمبر/ كانون الأول 1975. منظرة سياسية وباحثة يهودية من أصل ألماني) ذات مرة «الدور العظيم الذي لعبه العنف، دائماً، في شئون البشر».
تعميم توصيف فانون للعنف الاستعماري
التعميم الذي يرمي إليه أستاذ علم الاجتماع في جامعة لوند – السويد عبدالهادي خلف هنا في الممارسة والمآلات، باعتباره أداة ضرورية بالنسبة إلى الأنظمة التي تستخدمه: «يمكن تعميم توصيف فانون للعنف الاستعماري وأهدافه على العنف الذي تمارسه أنظمة الاستعباد الأخرى في البلدان التي تخلصت من الاستعمار. فجميع تلك الأنظمة تستخدم العنف كأداة ضرورية لتشكيل هوية الرعايا الدونية وإقناعهم باستبطانها. ويُعاد في ظل هذه الأنظمة إنتاج إيمان المغلوبين بكمال من غلبهم فيتشبهون به (في ملابسهم وشاراتهم و الكثير من عوائدهم وأحوالهم)؛ بحسب ما لاحظ ابن خلدون. استناداً إلى فانون تختلف علاقة المغلوب والغالب التي ينتجها النظاميْن الاستعماري والاستعبادي عن تلك العلاقة الجدلية التي تخَّيلها هيغل بين السيد والعبد. فتلك العلاقة تقوم على الاعتراف المتبادل وتتجه في آخر الأمر إلى تحقيق المساواة فعلياً فلا يبقى العبد عبداً ولا السيد سيداً. فما هو المخرج»؟
إعادة إنتاج الانقسامات
في العمل على إنتاج وإعادة إنتاج الانقسامات الطائفية، والتي من دون شك ستستدعي أشكالاً وصوراً من العنف، لتثبيت الهوية أو جعلها غالبة، يتناول الأكاديمي نادر كاظم ما اسماه بـ «الكبح الاستباقي»: «أنا أكاد أجزم أنه لا يوجد من بين الأنظمة العربية نظام طائفي واحد، طائفي حقيقي وصادق مع نفسه، إلا أن هناك أنظمة تعمل على إنتاج وإعادة إنتاج الانقسامات الطائفية لاستخدامها كأداة في الكبح الاستباقي لأية مطالبة وطنية عادلة. وفي سياق هذا الكبح الاستباقي كانت الديكتاتوريات العربية المشرقية تحديداً تسرّب فسادها وظلمها وقبحها بطريقة مهندسة جماعياً. الديكتاتوريات بطبيعيتها تنتج الفساد والظلم، ولكن الديكتاتوريات العربية تعرّف جيداً أن تعميم الظلم على الجميع يمكنه أن يشتغل كعامل توحيد للمجتمع، وفي هذا خطر عليها، ولهذا تعمد إلى التوزيع المزدوج والمبرمج للحقوق والخيرات العامة في صورة تمييزات تخص بها جماعة معينة، وامتيازات تكون من نصيب جماعة أخرى، والنتيجة هي: حرمان مزمن لجماعة مقابل تمكين مزمن لجماعة أخرى، وليس مهماً من تكون الجماعة الأولى ولا الثانية، لكن المهم فقط هو أن يفعل هذا التوزيع المزدوج للحرمان/ التمكين فعله بحيث تتوهم الجماعة الأولى أن النظام يستهدفها بشكل طائفي مقصود، وتتوهم الجماعة الثانية أنها أصبحت هي النظام سواء بسواء، وأن مصالحه هي مصالحها، وأن بقاءه هو بقاؤها، وانهياره يعني انهيارها. هذه لعبة مزدوجة قائمة على الحرمان والتمكين، إلا أنه لا ينبغي لأحد أن يتوهم أن أياً من الفعلين مقصود لذاته، بل هو مقصود لغيره، وتحديداً ليؤدي وظيفته في لعبة التأجيل المستمر لاستحقاق التحول الديمقراطي. والأصل في هذه اللعبة هو التمكين بحيث تنطلي اللعبة على الجماعة المستهدفة وتتحول إلى جماعة وظيفية، أما حرمان الجماعة الأخرى فهو، في الحقيقة، فعل غير مقصود، ولكن اللعبة لا تنطلي على الجماعة الوظيفية إلا عبر حرمان الجماعة الضد من حقوق عامة حوّلها هذه النظام إلى امتيازات خاصة بالجماعة الوظيفية، وعندئذ تتيّقن هذه الأخيرة من أن النظام بالفعل نظامها».
في سؤال الهوية: من البحريني مرة أخرى؟
في استدعاء التعاطي والتعامل مع الهوية، يكمل الأكاديمي علي الديري قراءة التعاطي والتعامل مع الهوية اليوم استناداً إلى اللامتغيّر في شكل من أشكاله: «فيما طرحت سابقاً، ذلك يعني أن حاكم البحرين ليس له سلطة قضائية على غير البحرينيين، فصار رعايا بريطانيا والهند وألمانيا وأميركا والسعودية وتركيا والرعايا العرب من غير البحرينيين تحت إشراف ومسئولية المعتمد البريطاني في المنامة.
لم يكن هناك تحديد واضح للبحريني، لكن كانت هناك رؤية واضحة للقضاء العادل نسبياً، من كانوا يبحثون عن سلطة قضائية تحقق لهم حداً أدنى من العدالة، نسبوا هويتهم لغير البحرين، كي يضمنوا أن يحاكموا تحت سلطة قضاء البريطانيين. الذين جاؤوا من أصل نجد طالبوا معاملتهم كرعايا سعوديين، والإيرانيون من السنة والشيعة طالبوا معاملتهم كإيرانيين وبعض الشيعة العرب كذلك طالبوا بمعاملتهم كإيرانيين.
الدِّين المعاملة، والهوية أيضاً المعاملة، معاملة القضاء الانجليزي كانت نموذجاً للإنصاف، وهذا يعني أن الهوية تبحث دوماً عن الإنصاف والعدالة، والإنسان يبحث عن انتماء يحقق له ذلك، يريد أن يُعرف عبر نظام ينصفه كإنسان. كانوا بين خيارين نظام المجالس العرفية التابعة إلى القبائل ونظام السلطة القضائية الانجليزية.
السلطة القضائية البريطانية، تعترف بالمتخاصمين كطرفي نزاع في حين أن السلطة القضائية التابعة إلى الحاكم لم تكن تعترف بالمتخاصمين بقدر ما تعترف بانتماءاتهم القبلية. المعتمدية البريطانية كانت تحتكم إلى القوانين المدنية والجزائية الهندية، فكان المتخاصمان يقفان معاً أمام قضاء المعتمدية، في حين كان قضاء مجالس القبيلة لا يمكن أن يقبل أن يقف ابن القبيلة بمساواة مع من لا قبيلة له».
وضع الآخرين في الهوية بالقوة
حسين المحروس وانطلاقاً من قصة/ صورة الشابين حديثي الزواج، يذهب إلى «الإكراه» في مثل وضع أولئك في هوية بالقوة: «الحطّ من قدر الآخرين قد يبدأ بوضعهم في هوية ما بالقوة، ووضعهم في مكونات اجتماعية مختلفة، ثمّ ترتيب تلك المكونات على قدر ما في نفس الواضع بحسب وضعه ووضاعته أيضاً. لقد وقع في ذلك معلمون وكتّاب وشعراء وفنانون وأنثربولوجيون وأكاديميون يُظن أنهم محصنون من مكر الهوية. لا لا … ليس في بالي ذلك حتماً، إنّما كنت أبحث عن ذلك الشيء وربما الأشياء التي تجعلني أحبهما. وعن شراكتي الإنسانية بهما، وعن هذا الذي يسهم في هذه العلاقة الإنسانية الدافئة. وكنت كلّما التقيت بهما قفزت إجابتهما أمامي: جدي وجدتي ولا شيء غيرهما.
أي كفاءة أحتاج لأفهم ذلك؟ وأي ادّعاء ذلك الذي يحيط بي وبكفاءتي أيضاً؟ كنت أريد أن أعرف لماذا أحبهما؟ هل كان ذلك السؤال ضروريا؟ هل ثمّة ضروري في الشخص غير الحبّ؟ دخلني ملل عظيم عندما رأيت شيئاً يسيراً من تلك القائمة الطويلة التي يصنف الناسُ الناسَ وفقها إلى انتماءات وهويات يتخذون بعدها إجراءات لضبط المسافة، ثمّ تفعيل مكنة الرفع من شأنهم أو الحطّ من قدرهم وفق مقتضى الحال ووفق وهم الأفضلية ونيّة إسناد الصفات بالقوة تمهيداً للاحتقار. ساعتها وفي حال مشوّه كهذا تأكد لي أنّنا نحتاج شخصاً ووحشاً، يخرّب كلّ شيء، لنتخلى عن هذا (الشيء) الممل: الهوية».
سلسلة المتاعب… نمط العقلانية
كرين برينتون (كرين برينتون ولد العام 1898 وتوفي 7 ديسمبر/ كانون الأول 1968. مؤرخ أميركي من فرنسا، مؤرخ الأفكار. عمله الأكثر شهرة، في تشريح الثورة، ديناميات الحركات الثورية. كان رئيس الجمعية التاريخية الأميركية وكذلك الجمعية الفرنسية للدراسات التاريخية) يحضر في استشهاد الكاتب حسين مرهون، وصولاً إلى «نمط العقلانية» كما يسمّيها: «قبلها قد لاحظ في دراسة عن الثورات الأربع الكبرى، الإنجليزية، الأميركية، الفرنسية والروسية، بأن «الطور الإرهابي»، هو ركن ركين جامع بين كل هذه الثورات. لكن ذلك حصل بعد قيامها بفترة.
وأنقل عنه من كتابه «تشريح الثورة»، قوله: «إن فترات هذه الثورات الأكثر عنفاً وإرهاباً لا تحدث إلا بعد أن تمهد سلسلة من المتاعب السبيل». ويقول أيضاً «إن الإرهاب لا يحدث فجأة في بداية الثورة بل تسبقه فترة من المشكلات».
يصلح هذا التقديم لفهم سياق العنف، وتاريخه؛ لكن ليس لتبريره. لا أتبنى العنف وسيلة للتغيير تحت أيّ ظرف، وآمل أن يتخلّى عنه من يتبناه، وله في ما يحدث بسورية من فظاعات منذ سنتين عِبرة.
واحدة من الخلاصات التي يمكن الخروج بها مما قد يصح تسميته (نمط العقلانية) السائد في عصرنا، هي أن كفاح (اللاعنف)، غدا أيديولوجية العصر الحديث، للتغيير.
إذا كان العنف قد قاد التحولات السياسيّة الأهم في التاريخ، فذلك لأنه ارتبط بنمط للعقلانية مختلف إلى حد كبير، عن العقلانية التي تشتغل في عصرنا. وكما عبّرت آرنت أيضاً «إن الحروب التي كانت منذ غابر الأزمان، الحكم النهائي والذي لا يرحم، في الصراعات الدولية، قد فقدت الكثير من فعاليتها، كما فقدت مجدها الباهر كله تقريباً».
هذا الكلام يصلح في العلاقات الدولية، وفي قضايا التغيير الديمقراطي على السواء».
لم يعد العنف مضموناً، ولا آمناً. والعنف يصلح أن يكون موضوعاً للدرس، أو «الفهْم»؛ وربما «التفهّم»، لكن ليس للوصول إلى «نتائج مضمونة». يمثل كفاح اللاعنف الوجه الأبرز والمفضل لنوع العقل الفاعل في عصرنا. فيما يمثل العنف حنيناً للماضي الذي راح.
وقد حدَّثنا جين شارب (ولد في 21 يناير/ كانون الثاني 1928 لأب يهودى وأم مسيحية وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس في دارتموث. ارتبط اسم شارب بالكتابة والتأليف في الموضوعات الخاصة بالكفاح السلمي، وقد استقت من كتاباته عديد من التحركات المناهضة للحكومات حول العالم) بأن العنف (نقطة القوة) لدى الأنظمة التي يُراد تغييرها، أو دمقرطتها. فهي الجهاز المنظم، والأمثل، لاحتكار وسائل العنف والذي تتكدّس فيه مصادر القوة. وهو لعبتها، والشيء الوحيد الذي تجيد استخدامه».
مخرجان لفانون وغاندي ومكونات الهوية
يعرض الأكاديمي عبدالهادي خلف مخرجيْن هنا يراهما «متكامليْن على رغم ظاهر اختلافهما – أولهما لفَانون والآخر للمهاتما غاندي. كلاهما يريان إن علاقة المستعبِد بالمستعبد قامت على ممارسات عنف صاغت مكونات هوية كل منهما ورسمت أشكال العلاقة بينهما. وكلاهما يريان أن الخروج من ربقة الاستعباد ومواريثه يتطلب مواجهات متواصلة ومكلفة مع سلطة الاستعباد لا تعيد صوغ العلاقة بين الغالب والمغلوب فحسب؛ بل وتزيلها وتلغي مواريثها.
ما يختلف فانون وغاندي فيه هو أساليب المواجهة, هل هي عنفية أو لا عنفية. فالأول لا يرى سبيلاً للتخلص من موروث الاستعباد إلا عبر ممارسة المغلوبين لعنف مضاد فيما يشبه طقوس التطهير. ينطلق فانون من تشخيصه لاستبطان المغلوبين لدونيتهم باعتباره مرضاً لا يمكن علاجه إلا بممارسة عنف مضاد يكون طريقاً مزدوجاً للتحرر الفردي والجماعي. عندها سيتمكّن المغلوب من إزالة موروث سنوات الاستعباد وسيبدأ في إعادة بناء ذاته وهويته. ففي كل مواجهة مسلحة وفي كل نصر في معركة تتطهّر الذات التي دنسها الاستعباد. وفي الوقت نفسه تتشكّل شيئاً فشيئاً الهويات الجديدة؛ أي الهويات المتطهرة من دنس الاستعباد ومواريثه.
أما المهاتما غاندي فيصف سبيلاً مختلفاً لتطهير الذات المستعمَرة/ المستعبَدة ولإعادة تشكيل هوية المغلوبين. فعلى العكس من فانون يرى غاندي أن التغيير يبدأ من الذات – أي الذات التي تعودت على طاعة السلطة المستعبدة. ويتطلب هذا التغيير الجرأة على قطع الارتباط بسلطة الاستعباد تمهيداً لإعلان العصيان عليها والدخول في مواجهات غير عنفية معها. لهذا يشترط غاندي تلازماً تاماً بين إرادة راسخة وجرأة على المقاومة وبين ضبط النفس عن الانجرار إلى العنف بأشكاله. فبدون هذا التلازم تنحدر المقاومة إلى الفوضى، وبدونه أيضاً تصبح دعوات السلمية مجرد تبريرات منمقة لتسويق الاستسلام للأمر الواقع. أسارع لإيضاح أن غاندي الذي يفرق بين نموذجيْن من نماذج اللاعنف. فمن جهة نراه يتهكم من دعوات اللاعنف حين تكون مبرراً للاستسلام وتعبيراً عن العجز عن المقاومة. وهو يدعو بالمقابل إلى ما يسميه «لا عنف الشجعان» الذين يعلنون قولاً وفعلاً رفضهم طاعة سلطة الاستعباد من خلال المواجهات المتواصلة التي يخوضونها ضدها».
فاعلية البنى التقليدية
ينبّه الأكاديمي نادر كاظم إلى فاعلية البني التقليدية (طائفية … قبلية) والعمل على تعميق الانقسامات من قبل الديكتاتوريات: «لا ينبغي لنا أن ننكر أن البنى التقليدية (الطائفية والقبلية …) مازالت فاعلة وبقوة في مجتمعات مثل المجتمعات العربية، ولكن هذا، كذلك، لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن حقيقة خطيرة وهي أن كثيراً من الديكتاتوريات العربية كانت تعمل على تعميق هذه الانقسامات الطائفية والقبلية والدينية والقومية والمناطقية داخل المجتمعات العربية، وإن كانت هذه الأنظمة واعية بالشرط الوحيد الذي يحكم هذه الانقسامات وهو أن تكون هذه الانقسامات تحت السيطرة بحيث لا تخرج عن حدود المسموح به وتنفلت في صورة صدامات أهلية تهزّ النظام واستقرار الدولة. وهذه لعبة برعت فيها هذه الديكتاتوريات جيداً، وكل ذلك تلافياً لليوم الذي تقع فيه ثورة شعبية تصهر القوى المجتمعية في حركة تنتهي بالإطاحة بهذا النظام أو ذاك».
في ندرة فرص الانتماء
في الهوية وتحققها، والاعتراف بها، يقرن الأكاديمي علي الديري الشاهد بالشاهد، لا ينأى عن الشأن هنا في مباشرته كواقع وحدث اتصالاً بحاضر هو نتاج تاريخ بكل إرثه: «لم يكن الجميع تتوافر له فرصة الانتماء أو ادّعاء الانتماء لجهة غير البحرين، وخصوصاً بالنسبة إلى السكّان الذين لا يعرفون لهم أصلاً غير البحرين، بقي هؤلاء يعانون ظلماً مركباً، لم يجدواً نظاماً قضائياً ينصفهم، ولا نظاماً سياسياً يعترف بهم، ظلوا يناضلون من أجل الاعتراف بهويتهم حتى تحققت إصلاحات 1923.
من هو البحريني؟ مازالت السلطة القضائية لا تعرفه مجرداً من انتمائه لطائفة أو قبيلة أو أصل، سيظل البحريني يناضل من أجل أن تعترف به أنظمة الدولة وقوانينها ومؤسساتها اعترافاً من غير تمييز. ذلك الاعتراف هو الضمانة لتأسيس هوية وطنية عابرة للطوائف. أقول ذلك الاعتراف أولاً ثم تأتي الثقافة والتربية والتعايش الاجتماعي».
رابط الموضوع: http://www.alwasatnews.com/4270/news/read/886221/1.html
المصدر: جريدة الوسط