السيد محمد حسن الأمين: الخطاب الشيعي يشكِّل عامل تجاوز وتحد ومغامرة داخل التراث الإسلامي

 

محمذ حسن الأمين (2003)
محمذ حسن الأمين (2003)

أجرى الحوار/ علي أحمد الديري، الشيخ فضل مخدِّر، فاضل عنان

سماحة العلامة السيد محمد حسن الأمين، من الشخصيات الإسلامية الثقافية البارزة على الساحة اللبنانية والإسلامية، ولد عام 1946 في جنوب لبنان في بلدة شقراء، وهو من أسرة دينية تليدة، تلقى الدروس في مدرسة شقراء حتى نهاية المرحلة المتوسطة، حيث سافر إلى النجف الأشرف بالعراق لتلقي العلوم الدينية وذلك عام1960 وقضى في النجف الأشرف 12 عاماً، وعاد عام 1972 بعد تلقي العلوم المقررة في جامعتها وفي كلية الفقه. بعد عودته إلى بلده قضى في مسقط رأسه (الشقراء) سنتين وبالمنطقة للقيام بالمهمات الدينية الطبيعية لعالم الدين، ثم تولى وظيفة القضاء الشرعي بعد ذلك في مدينة صور ثم في مدينة صيدا، ويتولى الآن مقام المستشار القضائي في محكمة الاستئناف العليا في بيروت.

في هذا الحوار الذي أجريناه معه في منزله بصيدا، تحدثنا عن المؤسسة الدينية وإشكاليات تحديث الخطاب الديني

علي الديري: كيف ترون مشكلة تحديث الخطاب الديني؟

محمد الأمين: الكلام عن تحديث الخطاب الديني يرتبط إلى حد بعيد بما يشكل موضوعاً أساسياً وهو التراث وعلاقتنا بالتراث. إنَّ رؤيتنا وعلاقتنا بالتراث ذات تأثير فاعل على موضوع الخطاب الديني الحديث أو المعاصر. ذلك أن التراث يشكِّل أحياناً عائقاً أمام الخطاب المعاصر أو الحديث. دون أن يعني ذلك أنَّ التراث يمكن الاستغناء أو الانفصال عنه. لأن كل عملية تجديد لا بدَّ وأن يكون لها تواصل مع هذا التراث. بمعنى أنَّ هذا التراث كائن حيّ ينمو في الاجتماع الإنساني وفي التاريخ الإنساني. هذا التراث لا توجد حلقات منه تفرض التوقف عندها بصورة نهائية. لأن كل الكلام عن أنَّ المعرفة والسلوك والعلوم  قد تمَّ إنتاجها في الماضي، هو كلام أخطر من أشكال الانفصال الكلي عن التراث. 

يوجد لدينا مستويان في النظر إلى التراث الإنساني، مستوى يرى أنَّ التراث في الماضي قد أنجز مهمات العلوم والمعرفة والأدب وما شاكلها من ما ينتجه الإنسان، واتجاه آخر متطرف يرى أنه لا يمكن أن ننتج المعرفة وأن ننتج تراثنا الراهن إلا بقطع العلاقة الكاملة مع التراث، لأنه يشكل إعاقة. إنَّ الإعاقة التي نتوهم أنها تأتي من التراث هي ليست من التراث، وإنما هي من التعاطي مع التراث والاعتقاد بأن التراث في الماضي قد تمَّ فيه إنجاز كل المهمات التي تطمح الأمة في إنجازها، وأنَّ على الأمة في الوقت الحاضر استعادة هذه الحلقات من هذا الإنجاز. والآن نحن نتساءل هل يوجد عندنا نحن المسلمين أو المعنيين بهذا الخطاب الديني مشكلة في هذا المجال؟ وما هي هذه المشكلة؟ بالطبع أنا لا أنفي أنَّ المرحلة الراهنة ومنذ عقود متعددة بدأت تتبلور فيها الإمارات والسمات لإنتاج خطاب إسلامي معاصر، ويداهمني شعور بأن هذه العملية ما زالت محفوفة بمحاذير كثيرة وبمخاطر كثيرة. وأهم هذه المخاطر ناجمة عن علاقة التقديس غير الطبيعية بالتراث، أي عن علاقة التمجيد الذي يتجاوز حدوده الطبيعية بالتراث، بما يجعلنا نشعر بالكثير من المغامرة والحرج، بأننا مسئولون عن إبداع ما يضيف لهذا التراث وينفصل عنه. لأن كل عملية إبداع في الحقيقة هي تتضمن عنصرين، عنصر الاتصال وعنصر الانفصال أيضاً. إنك لن تستطيع أن تبدع، وأن تضيف للتراث إلا إذا مارست عملية انفصال آنية مع هذا التراث. عملية الانفصال عن التراث تبدو عملية صعبة ومحرجة، وربما كانت هذه الحلقة بالذات هي التي تشكِّل حلقة الشعور بالحرج وبالعجز عن إطلاق الخطاب الإسلامي المعاصر في مداياته الرحبة والكثيرة أمام هذه التحديات الصعبة التي تواجهنا.

علي الديري: ماذا عن مشكلة تحديث التراث الشيعي؟ ما العقبات التي تواجه تحديثه؟

محمد الأمين: هنا أود أن أكون صريحاً بالقول إنني لا أعتقد أن هناك إمكانية لإنتاج خطاب شيعي مذهبي ومعاصر ومستقبلي. لا بدَّ أن يكون الهم متوجهاً إلى إنتاج الخطاب الإسلامي الشامل، ذلك أن اللون الشيعي داخل الحضارة الإسلامية لم يكن منفصلاً إطلاقاً عن البنية الكاملة لإنجاز الخطاب الإسلامي الشامل. إذا كان ثمة عناصر إيجابية في الخطاب الشيعي، فهو أنه شكَّل في مراحل متعددة من مراحل نشوء التراث الإسلامي، عنصراً يدفع إلى التحوُّل وإلى التغيير داخل البنية الإسلامية العامة. لذلك لم ينفصل التراث الشيعي أو المسار الشيعي داخل التراث الإسلامي عن مجمل هذا التراث الإسلامي، لقد ميَّزه التشيع ومنحه سمات وألوان مختلفة، ولكنه ظل ضمن التراث الإسلامي. أعتقد أنَّ إنتاج خطاب إسلامي لا بدَّ أن يتم باستحضار عناصر التحوُّل والعناصر الديناميكية داخل التراث الإسلامي، وسوف نجد أنَّ التشيع ونشوء التشيع داخل التراث الإسلامي يشكِّل عناصر ديناميكية فعلاً، وعناصر تحوُّل. أسبابها التاريخية معروفة ويطول الكلام عليها. ولكن أهم ما يلفتني في هذا المجال أنَّ التراث الشيعي إلى حد كبير ظل خارج سيطرة التحكم الخارجي في المعرفة، بسبب الموقف السياسي للشيعة ولعلماء الشيعة الذين لم يدخلوا تماماً في هيكلية السلطة الإسلامية. والسلطة هي محاولة لتثبيت الرائد في الواقع، فعندما جاءت السلطة واختارت من المذاهب الفقهية الإسلامية الأربعة، وكرستها كمذاهب نهائية لتشكِّل مرجعية كاملة للخطاب الفقهي، ومنها يتفرع الخطاب الفقهي وكذلك في الإطار السياسي أيضاً، أي تجنيد لحظة ما وفقاً لمقتضيات الثبات السياسي.

 من هنا كان الخطاب الشيعي يشكِّل عامل تجاوز وتحد ومغامرة داخل التراث الإسلامي. وكل من درس عناصر الثبات والتحوُّل في تراثنا، وجد أن التشيع كان عنصراً فاعلاً في الحيلولة دون تحويل عناصر التحرك وعناصر التحوُّل في التراث إلى عناصر ثابتة.  

 

علي الديري: لو أننا وسعنا مفهوم السلطة وأخذناها بمفهومها الأوسع، حيث السلطات الرمزية التي تقف على العقل رقيباً وعلى الروح حسيباً، حين تتجاوز حدودا معينة. فلو أخذنا التحديث الذي بدأنا به بمعنى أنه مقاومة لأية سلطة من هذه السلطات وتحد لها ومحاولة لتجاوز سلطتها. فسنجد أن الخطاب الشيعي أيضاً له سلطته الثقافية التي ترفض محاولات التحديث، ذلك لأنَّ الخطاب الشيعي يتضمن مؤسسات لها بُناها الصلبة التي تعيق عملية التحديث. فكيف يمكن تحديث هذا الخطاب بلحاظ هذه التعقيدات؟

محمد الأمين: أوافقك تماماً على ما تفضلت به. أنا أعتقد أنَّ السلطة هي أوسع من الإطار الشيعي الذي هو أحد تجليات هذه السلطة. يوجد كما أشرت هذا النوع من السلطة في التراث. التراث هو سلطة. الفقه في تجلياته وإنتاجه عبر عصور الازدهار هو نوع من السلطة. أستطيع أن أستذكر هنا      في تاريخنا الشيعي بالذات فترة من الفترات الحية من هذا التاريخ أيضاً، وهي ما بعد الشيخ الطوسي. فالشيخ الطوسي اقتحم مجال الفقه والاجتهاد وحقق نقلة نوعية في هذا المجال. وبدأ بعد الطوسي بحوالي مائة عام أن إمكانية تجاوز الطوسي وتجاوز آرائه الفقهية والاجتهادية بدا وكأنه مسألة مستحيلة تقريباً، لقوة السطوة التي شكَّلها في مهماته الإبداعية التي حققها في هذا المجال، فصار الطوسي سلطة أيضاً إلى أن جاء بعده ابن إدريس واستطاع أن ينتج مدرسة جديدة ويعمل على إقامة تحوُّلات جديدة في الفقه الشيعي وفي الاجتهاد الشيعي. 

السؤال الآن الذي يواجهنا في التراث الشيعي نفسه هو: هل حقاً ما زال باب الاجتهاد مفتوحاً؟ وماذا يعني أنه مفتوح أمام الشيعة؟ أنا أعتقد أنه يجب أن لا نبالغ وأن لا نذهب بعيداً بالقول أنَّ باب الاجتهاد ما زال مفتوحاً، وأن لا نمارس عملية استلاب ضد الاجتهاد الحقيقي.

 نعم يوجد اجتهاد ولكنه محدود جدً، ولا توجد فروق كبيرة بين مجتهد ومجتهد. توجد فقط اختلافات جزئية واختلافات ذات طابع فني وأصولي وله علاقة بعملية الاستنباط بمعناه التقليدي، لا يوجد لدينا اتجاهات ولا يوجد لدينا تيارات مختلفة وإذا صحَّ التعبير متصارعة داخل هذا الاجتهاد. أعتقد أنَّ عملية الاجتهاد صارت تعني استنباط الحكم الشرعي بصورة آلية، إننا أوجدنا الآليات التي نستنبط بها الحكم الشرعي، واعتبرنا أن هذه هي مهمة الاجتهاد وحدها، فيما أنَّ عملية الاجتهاد كما أظنها وكما أحدس بها في إطارها الأوسع والأشمل، هي عملية تتجاوز موضوع استنباط الحكم الشرعي إلى إنتاج موضوعات وإنتاج اتجاهات فكرية في قراءة النص وفي استعادة النص وفي التواصل مع النص.

 هنا تأتي السلطة التي أشرت إليها، لتشكِّل عائقاً دون نشوء هذه الاتجاهات، فيـأتي علم الأصول وتأتي قواعد الفقه، هذه التي تمَّ إنتاجها ببراعة عالية في الماضي، لتشكِّل الآن إعاقة، تجاوزها وتجاوز التفكير فيها والاجتهاد في الاتجاهات الفكرية التي تشكَّلت على قاعدتها هذه القواعد، تبدو هي المهمة المطروحة أمام الفكر الشيعي الحديث. فالفكر الشيعي الحديث تواصل مع حركة الاجتهاد ولكنه الآن مطالب بأن يوسع إطار حلقة الاجتهاد، لكي تشمل ما هو أوسع من استنباط الحكم الشرعي بالآليات المتتابعة والمعروفة لدينا.  

علي الديري: يوجد في التراث الشيعي مدونات عقائدية وفقهية وأصولية، لم تتعرض لغربلة ولم يشتغل فيها عقل نقدي ولا عقل اجتهادي، وقد تحوَّلت هي إلى مسلَّمات وقضايا كبرى يقاس الحاضر الآن عليها. أليست هذه المدونات بحاجة إلى تحديث وتفكيك؟ ولماذا أجهضت محاولات شريعتي وأمثاله من المفكرين في قراءة هذه المدونات وطريقة تشكلها التاريخية؟

 

 محمد الأمين:  إنَّ سلطة النص التي تفضلت بالحديث عنها، كانت سلطة أقوى. كان علي شريعتي أو نمط آخر من المفكرين، فهم كمن يقوم بمهمة كسر أو تحطيم صخرة معينة، فيطلق ضرباته في اتجاه هذه الصخرة، فيأتي غيره ويطلق ضربات أخرى وهكذا. ومجموع هذه الضربات سيشكِّل القوة من أجل تحطيم هذه الصخرة. وأنا أعني هنا بالصخرة ما يحول دون تجديد التراث، أي التجديد النقدي، بمعنى القدرة والجرأة على نقده وإعادة تشكيله وفق الحاجات الملحَّة ووفق ما تفرضه عملية الزمن والتطور، تماماً كما اجترح آباؤنا وأجدادنا علومهم وثقافاتهم ورؤيتهم للإسلام، اجتراحاً إبداعياً، ولم يَحِل التراث الذي سبقهم بينهم وبين ذلك، نحن علينا أن نتابع هذه المهمة.

 يوجد لدينا وهذا ما سوف أقوله بصراحة، أي لدى المسلمين ونحن الشيعة من بينهم هول من السلطة الدينية، لفتح أي موضوع من موضوعات الحداثة، هل توجد سلطة دينية؟ أي هل أن الدين ينتج سلطة؟ يقال إن الدين ينتج سلطة لتحمي الدين، فهل هذا صحيح؟ فهل تتم حماية الدين بالسلطة؟ سواء كانت سلطة معرفية أو سياسية؟ أعتقد أنَّ الإسلام تعرَّض عبر تجربته التاريخية لمفهوم السلطة، فكانت هناك سلطة دينية أيضاً. تحرير الدين من السلطة هو أحد تحديات الخطاب الإسلامي المعاصر.   

شيخ فضل: موضوع الاجتهاد التشريعي والاجتهاد المفتوح في الحوزة الشيعية عبر زمن طويل من الطوسي إلى الإدريسي إلى الحلي حتى وصولاً إلى المرحلة الأخيرة في الحوزة العلمية، تطور تطورٌ فاعل، صحيح توجد حالة من التطابق، فلا يوجد نهج عقلي آخر يختلف عما بدأ مع الشيخ الطوسي، ولكن عملية التطور التي تمَّت كإلغاء بعض القواعد بشكل نسبي وتوليد قواعد جديدة ومسائل جديدة فقهية. المشكلة لعلها تكمن في  سلطة هذه القواعد على عملية التجدد وعدم وجود مجدِّد في أصول هذه القواعد. نحن مع حركة تجديد المعاملة مع النص، ولكن عدم وجود المجدِّد الذي يعمل على تغيير أصل القواعد في داخل نفس المدرسة يمثل مشكلة..

محمد الأمين:  إنني أوافقك على هذا الشيء الذي تفضلت به. وأحياناً عبر مرور التاريخ تخرج منارات عاصفة من التجديد، وهذا موجود. الذي أرمي إليه بدقة تماماً أنَّ ميدان الاجتهاد الديني الذي فتحه الشيعة صار لاستنباط الحكم الشرعي، وهذه ميزة إيجابية كبيرة جداً، فيما المسار المذهبي الآخر اقتصر على مجتهدِين محدَّدين في التاريخ، سواء الأربعة أو العشرة، فكانت اجتهاداتهم نهائية وبات من المقرر الرجوع إليها، وإذا لم يكن لهم فتوى في شأن من الشؤون، نعم يرجع إلى فقيه معاصر لكي يستقرئ أيضاً من قواعد المجتهد السابق فيستخرج فتوى معينة.

 عند الشيعة استمر باب الاجتهاد مفتوحاً، لكن مجال الاجتهاد انحصر في مجال  استنباط الحكم الشرعي. أما المسائل الفكرية والمسائل الاجتماعية والمسائل الاقتصادية وغيرها التي تتعلق بحياة المجتمع، فقد اعتبر التفكير فيها ليس شكلاً من أشكال الاجتهاد. بمعنى أنَّ حركة الاجتهاد التي تعتمد الآن على قواعد علم الأصول والفقه لدينا، هي مؤسسة على ما أسمِّيه بمعطيات المنطق الأرسطي. المنطق الأرسطي الموجود الذي يضع قواعد المعرفة وقواعد الفلسفة والفكر الإنساني. بقيت حركة الاجتهاد الإسلامي في معزل عن التأثر والتفاعل مع اللغة والنص، فقد حال هذا المنطق بصرامته بينها وبين الإنصات إلى لغة النص.

 وفي قراءة النص نفسه ولدت اتجاهات متعددة، نلاحظ أنها لم تقترب من دائرة الاجتهاد، ودائرة عمل الفقيه الذي كان يشتغل بالقواعد نفسها، علم الأصول فيه مثلاً تجديد وفيه تغيير، هذا صحيح، ولكن ضمن إطار محدَّد من الشيخ الطوسي أو من ابن أدريس وصولاً للأنصاري الذي أبدع بنية مهمة، ولكن بقي مجال الاجتهاد يقوم على استنباط الحكم الشرعي ضمن هذه القواعد، ولم نلاحظ وجود محاولات لاقتحام هذه القواعد، أو لدراسة الاجتهاد بناء على المعطيات الاجتماعية. مثلاً عندما نأتي ونحن طلاب إلى دراسة الفقه، ألا تلاحظ أننا نبدأ بدراسة المسائل الفقهية ولا نقرأ المسائل الفقهية في إطار إنتاجها تاريخياً؟ لأننا لا نؤمن أنَّ هناك علاقة بين النظرية الفقهية وبين الزمن الذي تمَّ إنتاج النظرية الفقهية فيه، فهذا لم ندخله في عنصر الاجتهاد، لذلك نحن نبدأ بكتاب الطهارة، ثم ننتقل منه إلى كتاب الزكاة وإلى كتاب الخمس وكتاب المعاملات، ولكن متى تمَّ إنتاج هذه المعطيات الكبيرة فيه؟ في الطهارة وفي الزكاة وفي المعاملات؟ ألم تتم في زمن تاريخي محدَّد؟ أم أنها تمَّت بمعزل عن التاريخ؟ هل تمَّت ذهنياً أم بمعزل عن التاريخ؟ عندما جاء الشهيد الصدر عمل مقدمة، وقد كانت هذه محاولة بسيطة جداً منه، ولكن يُشكر عليها لأنه التفت إلى أنَّ علومنا كلها…  حتى في النحو وليس فقط في الفقه، إننا نبدأ في النحو بأن  “كلامنا لفظ مفيد كاستقم”، طيب، أنا عندما أكون طالبا وأصل للتو إلى النجف، ماذا يعني عندي “كلامنا لفظ مفيد كاستقم”؟! كل ما عليك هو أن تفهم أنَّ الكلام لفظ مفيد، وهو يتألف من اسم وفعل وحرف، ولكن كيف تمَّ إنتاج هذه المعرفة ومتى تشكَّل هذا العلم؟ الوعي والخلفية التاريخية لتاريخ العلوم والمعرفة الفقهية لدينا مغيَّبة كل التغييب، وهذا ما ينطبق على كل العلوم، حتى عندما نقرأ منطق أرسطو، من هو أرسطو؟ وفي أي سياق تاريخي جاء أرسطو؟ وما هي الأفكار التي سبقته؟ وكيف انتهى أرسطو إلى إنتاج هذا المنطق الذي هيمن فيما بعد على الفكر الإسلامي بصورة كاملة؟ لا يوجد المناخ التاريخي الذي يرافق عملية تلقين المعرفة لدينا. فهل المعرفة ظاهرة تاريخية أم هي ظاهرة ذهنية فقط مفصولة عن التاريخ؟ هذا السؤال يشكِّل تحديا أمام الفكر الشيعي كما يشكِّل تحديا أمام الفكر الإسلامي بصورة عامة.

علي الديري: إذا كان للمعرفة بعد تاريخي، فهل هناك معنى لأن ننتظر مجتهداً أو فقيهاً أو مفكراً ليحل لنا هذه المعضلة؟ أليست هي معضلة تاريخ وزمن تجتمع فيها كل العلوم مع بعضها لتمكِّن الفقيه وتمكِّن المفكِّر وتمكِّن المتأمل لكي ينظر إلى هذه المسائل كلها نظرة جديدة؟ هل ننتظر فقيهاً أم ننتظر تاريخاً؟

محمد الأمين: أن ننتظر فقيهاً للقيام بهذه المهمة هو انتظار عقيم. أنا أعتقد أنَّ الشهيد الصدر رحمة الله عليه، في هذا المجال قام بعمل مهم جداً ولكن عمل لا ينجزه فرد، فهذه المهمة أوسع من مهمة فرد، لأنها موجة فكرية جديدة وشاملة ولكن الشهيد الصدر أسس لها وأنجز في مجالها أشياء مهمة، وقد لا يكون أهمها هو أن يكتب مقدمة لعلم الأصول، أو مقدمة فقهية لرسالته العملية تشير ولا تقول صراحة بأن إنتاج العلوم هو إنتاج دائم. هو أيضاً تحدَّث عن القرآن الكريم وقال بالتفسير الموضوعي، فعندما طرح فكرة التفسير الموضوعي، ماذا كان يعني بالتفسير الموضوعي للقرآن؟ الشهيد الصدر   لم يكن متاحاً له أن يتكلم تماماً وبصراحة. لقد كتب التفسير الموضوعي ولكن في الحقيقة أنَّ الصدر كان يعتقد أنه لا بدَّ من نقد كل أشكال التفسير التي سبقت. فعندما يقول إننا بحاجة إلى تفسير نطرح فيه فكرتنا وفكرنا عن الحياة وعن الكون والمجتمع، فكرنا الذي استخلصناه من خبرتنا ومن تجاربنا ومن ثقافتنا نطرحها على القرآن الكريم، فماذا كان يعني؟ كان يريد أن يقول إنَّ السابقين فسروا القرآن الكريم وفقاً لأسئلتهم، ونحن لم نفسر القرآن الكريم وفقاً لأسئلتنا الراهنة، إذاً هو يطرح عملية تجديد حقيقية في هذا المجال، وكأنه يريد أن يقول أنَّ التفسيرات الأخرى كانت تاريخية، وأنَّ التفسيرات التاريخية مرتبطة بزمانها. تقول لي هل ننتظر مفكِّراً أم ننتظر عالماً أو فقيهاً؟ من الممكن أن يوجد عالِم استثنائي أو فقيه استثنائي أو مفكِّر استثنائي له فاعلية في هذا المجال، ولكني أعتقد أنَّ الخطاب الإسلامي الحديث أو الخطاب الشيعي الحديث، هو خطاب أوسع من أن يقوم بمهماته فرد واحد، حتى لو كان هذا الفرد استثنائياً، الفرد الواحد قد يؤسس، ولكن لا بدَّ أن تشكِّل تياراً.

فاضل عنان: نلاحظ أن هؤلاء مارسوا التجديد من خلال سلطة رجل الدين ومن خلال السلطة التي يمتلكونها، منذ الطوسي وابن إدريس إلى الأنصاري، فالصدر لم يكن قادراً على ممارسة التجديد مع وجود كبار المرجعيات التي تمتلك السلطة الدينية، فكان بالنسبة لهم شابا وقد طرح مرجعيته. فلو لم يكن للمراجع سلطتهم الدينية، لكان عطاء الصدر أكثر من هذا، بالعودة للسؤال المطروح، هل ننتظر فقيهاً أم ننتظر تاريخاً؟ مشكلتنا هي أنَّ المجدِّد لن يستطيع أن يحقق شيئاً ما لم تكن لديه سلطة دينية، ويستطيع فرض ما…

محمد الأمين: بالعكس، ولو قاطعتك، فالفكرة واضحة لديّ، أنه كلما استقرت سلطة ما يصبح كل إبداع هو إلغاء لهذه السلطة، وبالتالي لو أخذنا السلطة سواء بمعناها السياسي أو بمعناها المعرفي، فهي سلطة تدافع عن الثابت، لأن التحوُّل يعني التغيير، والتغيير لا يقتصر على ميدان واحد، وهو يصيب جميع الميادين بما فيها السلطة القائمة، وهذا لا ينطبق على الفقه فقط، ففي المجال الفلسفي مثلاً وجدت سلطة لا نستطيع إنكارها تمثلت في عبقرية الشيخ الغزالي، الذي كتب (تهافت الفلاسفة) وانتهى إلى أن سفَّه الفلسفة كلها. ولكن بعد مائة سنة من موت الغزالي، وبعد أن ظلت آراؤه وعبقريته الخاصة سائدة بسطوة وبقوة، جاء ابن رشد وأعاد للفلسفة قدرها، ولكن في عصر الغزالي إلى قبل مجيء ابن رشد، مارست أفكار الغزالي سلطة حقيقية. 

عندما تكتمل سلطة الإبداع تصبح تقليداً وتصبح سلطة تحول دون الإبداع الجديد، كل إبداع يكتمل ويؤسس لسلطة يصبح ثابتاً يقاوم حركة التجديد الأخرى، حتى في ميدان المرجعية التي نتحدَّث عنها، فالمرجع أيضاً يصبح أسير سلطة، وعندما يصل إلى درجة المرجعية، فإن هذه المرجعية لا تعطيه حق التجديد والخروج على المعطيات المكرَّسة، بالعكس نلاحظ أنَّ المرجع يمارس الحذر أكثر من الشخص المتقلد المنطلق من سلطة ومن آلة المرجعية، ومما ترتبه هذه الآلة من سلطات حقيقية، تفرض عليه أن يحافظ على قداسة ما هو قائم.

فاضل عنان:: الآن أمامنا محك أو إشكالية، نحن الآن في بداية النهاية، بمعنى أن النجف هذه الأسطورة، الذي خرج العلماء الكبار، الآن بدأ في بداية النهاية، فالمرجعية الرمزية في النجف انتهت بالسيد السيستاني رحمة الله عليه، والمرجعيات الحالية أمامها أسئلة كثيرة حاضرة تنتظر الإجابة عليها. كيف تقيمون الوضع الآن؟

محمد الأمين: في الحقيقة إنَّ هذا موضوع آخر ليس في نفس الإطار الذي نتحدَّث عنه. لأن المرجعية تفرض التمييز بين حقلين من الحقول، الحقل المعرفي وسلطته والحقل السياسي. إنني أوافقك الرأي وأنا قلق على هذا المسار المرجعي الذي نعرفه، والذي عمره ليس أكثر من مائتين أو ثلاثمائة سنة في النجف، فالمرجعية بمعناها المعاصر الذي نعرفه جديد، ولكن لا بدَّ من العودة إلى الفكرة الأساسية التي شكَّلت عصب هذا البحث، والتي تتمثل في تاريخية المرجعية الدينية. هل تظن أنَّ المرجعية هي ظاهرة غير تاريخية؟ إنَّ المرجعية أيضاً ظاهرة تاريخية، من هنا يصبح يمكن الحديث عن نهاية المرجعية أو نهاية هذه الصورة من المرجعية، وهذه نتيجة طبيعية لكون المرجعية ظاهرة تاريخية وليست منزَّلة، فالمنزَّل قليل ومحدَّد، بينما المرجعية ظاهرة تاريخية. إذاً فالمرجعية إما أن تنتهي بانتهاء حاجتها التاريخية، أو أن تتجدَّد وفق الحاجات التاريخية الجديدة الراهنة. ولكن عندما تريد أن تتجدَّد، فالتجديد يجب أن يطال العناصر الجوهرية في بنية المرجعية وليس في تغيير الشكليات. فإذا آمنا بأن المرجعية ظاهرة تاريخية، فبإمكانها أن تعيش قرنا أو قرنين أو ثلاثة، لكن في النهاية هذه الظاهرة التاريخية سوف تسقط نفسها لاعتبارات ولظاهرات تاريخية قادمة أيضاً.

  ما هي اتجاهات تطور المرجعية الآن؟ هذا بحث أساسي وبالغ الأهمية، وأعتقد أنَّ الذين يتناولون المرجعية بالبحث، لم يطرح أحد منهم المسألة الجوهرية، والتي تتمثل في أنَّ المرجعية ظاهرة تاريخية. أنا أعتقد أنَّ المرجعية انتهت بوفاة السيد الخوئي، ليس بوصفه شخص فذ وعبقري فقط، ولكن هذا هو الحد الذي وصل إليه رمزنا التاريخي خلال فترة طويلة، أما الآن فنحن على مفترق طرق، وهنا يكمن التحدي الشيعي، ما هي الاتجاهات المستقبلة لفكرة المرجعية؟ ما هي التجليات المرتقبة أو التي نتنبأ فيها لوجود المرجعية؟ هذا بحث أساسي. 

فاضل عنان: سلطة المرجعية أيضاً..

محمد الأمين:  فكرة السلطة بحاجة إلى إعادة نظر. هل يجب أن يكون للمرجع سلطة دينية ومدنية؟ أم أنَّ هناك صورة تختلف عن ما عرفناه سابقاً عن المرجعية؟ أنا كمتفكر بالأمور أعتقد أنه من الصعب علينا أن نتنبأ بصورة دقيقة لما سيؤول إليه المستقبل فيما يتعلق بمسار المؤسسة المرجعية، التي هي حدث تاريخي وظاهرة تاريخية، لربما تكون قد أعطت ما يجب أن تعطيه، ولكن بحكم تطور التاريخ يجب أن تتغير. إنَّ هذا الأمر يعيدنا إلى الخطاب الشيعي المعاصر، فهل هو يقارب المسألة بهذا الشكل ويضعها في مجال التحليل والرؤية والابتكار؟ أعتقد أن الخطاب الشيعي ما زال خطاباً متردداً إزاء موضوعات كثيرة، كموضوع المرجعية وموضوع السلطة، وموضوع الدين والسلطة أساساً.

 فالخطاب ما زال متردداً وإن كانت هناك بعض الأصوات الجريئة، ولكنها ما زالت فردية موجودة هنا وهناك، ولم تشكِّل تياراً بعد.   

علي الديري: ما علاقتك أنت بهذه المؤسسة؟ 

محمد الأمين: بالتأكيد أنا ابن هذه المؤسسة وخرِّيجها. وأنا لا أعرف جَداً لي حتى السابع لم يكن عالماً مجتهداً وخرِّيجاً لهذه الحوزة. من هنا أشعر في علاقتي بها بأنني ابنها. وعندما أتحدث عن نقدها أشعر بأن الوفاء لهذا التراث الذي يشكِّل جذوري يفترض حالة نقد دائمة، والقرآن الكريم يثني على النفس الناقدة التي تعيد النظر. إنَّ تراثنا القريب أو البعيد لم يتعرض لنعمة النقد، أقول نعمة النقد، وبالتالي بما أني ابن هذا الكيان وهذا التراث، فأنا معني به، ولكن بصورة أخرى قد تبدو مختلفة عن الصور التي تتجلى في الكثير ممن يعتقدون أنَّ صيانة التراث تتمثل في تقديسه وفي عدم نقده، هناك من يرى أن الوفاء لهذا التراث ولهذه الحوزة يتمثل في التقديس. أنا أعتقد أنَّ الوفاء الحقيقي يقتضي أن نمارس عملية نقد حقيقية لكي نجعل هذا التراث كائناً حياً قادراً على أن يستمر.

علي الديري: أنت الآن ذاتا معاصرة تعيش في لحظتها التاريخية، تجتهد لفهم زمنها وفي الوقت نفسه تحمل هذه الذات في بنيتها تاريخاً عائلياً ضاربا بعلاقته الوطيدة بهذه المؤسسة، ووفاء لهذه العلاقة انخرطت أنت فيها فخالطت ذاكرتك وهويتك ووجدانك وأصبحت تحمل بصمات هذه المؤسسة. كيف بهذا التكوين المركب استطعت كذات فردية أن تعيد علاقتك بهذه المؤسسة إعادة تقوم على المحبة والوفاء والنقد؟

محمد الأمين: إنني لا أكتمك أنَّ التساؤلات التي تبلورت في ذهني أخيراً، لم تأت إليّ من فراغ، فقد كنت أهجس بها في إحساسي منذ الصبا الأول، فقد كانت لديّ أسئلة عديدة، وكنت أعاني من ألوان القمع التي تواجه هذه الأسئلة. 

عندما ذهبت إلى النجف الأشرف وكان عمري أربعة عشر عاماً، أي ما زلت فتى صغيراً، كانت تراودني أسئلة كثيرة تبدأ من التجليات المادية للحوزة وللعلاقات وغيرها، ولم تكن تنته لديَّ الأسئلة الأكثر خطورة في ذلك الوقت. وبدأت أشعر أنَّ في هذه الأسئلة تحد وفيها خطورة حتى فيما يتعلق بقيافة رجل الدين، حيث كانت التربية صارمة بما يتعلق بالقيافة، فشعرت منذ البداية أنَّ ما يُفرض على طالب العلم الديني وعلى الجو الديني يأتي من خارج البنية الأساسية الجوهرية للدين، وأن هناك أسباباً أخرى هي التي جعلت هذا الواقع على ما هو عليه. وبالتالي فإني كنت أطرح بعض هذه الأسئلة، وكنت أؤجل البعض، وكانت لديَّ قناعة اتجاهها، فقررت أن أبحث وحدي، ورأيت أنَّ المناهج الدراسية على أهميتها لا تجيب على كل الأسئلة، ورأيت أنَّ العلاقة بالمعرفة في جزء منها يجب أن تكون علاقة حرة، وليست علاقة مقيدة بمناهج. 

هذا ساعدني على أن أبدأ قراءاتي المختلفة داخل الحوزة نفسها، ومنذ الصغر بدأت قراءاتي بالموضوع السياسي والموضوع الفلسفي والموضوع التاريخي إلى ما هنالك، فبدأت تتفتح في ذهني بالفعل الأسئلة وإجاباتها أيضاً. فبديت أنا المسؤول عن إجابات أسئلتي، فما دامت هذه الأسئلة لا يجيبني عليها أحد، فلماذا لا أعمل أنا للإجابة عنها، وهذا ما جعلني من بين الذين يطمحون لأن يطلقوا مؤشرات ما يسمى بـ«الخطاب الإسلامي» الذي هو الشكل الحيّ من أشكال التواصل مع هذا التراث العظيم، الذي نمونا من جذوره ومن أصوله.

علي الديري: هل قادتك هذه الأسئلة إلى قراءة معينة؟

محمد الأمين: طبعاً. بدأت أكثر شيء بالقراءات في تاريخ الأديان وفي المسيحية أيضاً، وفي كل مرة كنت أشعر بأنني بحاجة لإعادة قراءة التاريخ الإسلامي والتاريخ الفقهي للإسلام  بصورة جيدة. كنت أجد في كل مرة أستعيد هذه القراءة أنَّ ثمة مجالات وآفاق رحبة تتفتح لي أكثر من قبل، وتؤكد لي أنَّ جملة ما نشكو منه هو بسبب أننا لم نقرأ تاريخنا، وبالفعل إنَّ العرب والمسلمين لم يقرؤوا تاريخهم بالمعنى الحقيقي، وإنما مع الأسف تولى الاستشراق قراءة هذا التاريخ وتقديمه لنا. بالطبع أنا أمام تحديات نهوض المستوى العربي والإسلامي، فما سُمِّي بحركة النهضة التي نشأت في أواخر القرن الماضي واستمرت إلى أوائل القرن العشرين والتي تمثلت بالشيخ محمد عبده والطهطاوي وغيرهم، ولكني أعتقد أن شخصية جمال الدين الأفغاني بالذات كانت شخصية مهمة جداً في إطلاق عصر المفكر الكبير والموسوعي الضخم.

 لقد تأثرت كثيراً بفكر جمال الدين وقد قرأته جيداً، وأدركت أنني مسؤول تجاه جمال الدين الأفغاني أيضاً، لأنه بافتتاح هذا العصر العظيم، قد وضع أمامنا تحديات يجب أن نجيب عليها. لقد حصل هذا مع الاهتمام بأننا جزء من حركة النهضة، فحتى عندما أتحدث عن نفسي كشيعي وعن همومي الشيعية، فهل أنَّ همومي الشيعية هي هموم خارج نهوض الأمة؟ بالطبع لا، وإن كنت شيعياً حقيقياً فيجب أن أجترح نظرية نهوض للأمة تساوي هذا التراث الشيعي العظيم.

 لقد طرح عصر النهضة الأسئلة الرئيسية، مثل ما هي علاقة الغرب بالإسلام؟ وهذا موضوع طويل لن أدخل فيه الآن، ولكن في عصر النهضة تشكَّلت ثلاثة اتجاهات في هذا المجال، اتجاه يقول بالاندماج الكلي مع الغرب، واتجاه آخر يرى أنَّ العلاقة بالغرب يجب أن تكون علاقة صِدام، وبالتالي يجب أن يكون هناك حاجز بيننا وبين الغرب، فلا نتأثر به ولا يتأثر بنا، وهذا بالطبع منطق لا معقول، والاتجاه الثالث هو الاتجاه الانتقائي الذي مثله جمال الدين الأفغاني وبعض المفكرين الآخرين. فهؤلاء أرسوا لنا مناهج في التعامل مع إشكالية المسلمين والغرب.

 إنَّ التاريخ السياسي والتاريخ المعرفي منذ قرن من الزمان أو أكثر، يعمل في حقل هذه العلاقة، العلاقة بين المسلمين والغرب، وهذا الحقل ما زال قائماً حتى اليوم. وربما هو الآن في أشد حالات حضوره، بما يجعلنا نطرح بصورة متقدمة هذه الأسئلة أو هذه التحديات، الذي يفرضها علينا انتماؤنا إلى جيل يفكر بأن يحدث ما يسمَّى بـ«عصر النهضة» بشكل حقيقي في المرحلة التي يعترف فيها الجميع بأن العالم الإسلامي والفكر الإسلامي أمام تحديات كبيرة، والاجتماع الإسلامي أمام تحديات كبيرة.

 إنني لا أعمل في المجال السياسي، لكني أعتقد أنَّ هذا التحدي لا بدَّ أن نعمل في مواجهته في حقلنا، ما هو هذا الحقل؟ هو ما أسمِّيه أنا بـ«الحقل المعرفي». و«الحقل المعرفي» هو حقل حساس ودقيق ومهم جداً وفاعل جداً، وأعتقد أنه لا يمكن أن تقوم النهضة والتجاوز الذي نطمح إليه بدون جهاد على مستوى هذا الحقل المعرفي، الذي يوجد فيه إشكاليات، وأهم هذه الإشكاليات أنه يواجه سلطة «السائد»، «السائد» في مجال المعرفة الدينية وفي مجال المعرفة التاريخية، سواء على المستوى الإسلامي أو حتى على مستوى الإطار الشيعي.

علي الديري: هناك قراءات متعددة لمفكرين ومثقفين من مختلف الاتجاهات، حاولت أن تشتبك بأسئلتك وهواجسها، كيف تعاطيت معها؟ 

محمد الأمين: أنا معني بقراءة جميع المطروحين، فكما قلت قرأت مفكري عصر النهضة وفيما بعد الإسلاميين الإحيائيين كالسيد قطب وغيره، وقد كانت أهم قراءة لي لهؤلاء الإحيائيين هو ما كتبه الدكتور محمد البهي في الفكر الحديث وعلاقته بالاستعمار الغربي. لقد كان كتابا مهما جداً ويشبه في أصوليته الإسلامية وإنتاجه لبنية العلاقة مع الغرب وقوة هذا الاقتراح يشبه ما قاله الغزالي، لقد كان البهي أنضج هؤلاء في كتابه الفكر الإسلامي وصلته بالغرب، لقد كان ذلك في الخمسينيات أو في أوائل الستينيات.

 بالنسبة للحداثويين فهم أصدقائي ولي علاقات طيبة بهم، وأحياناً أقرأ كتبهم، وأتناقش معهم في أمور متعددة، أمثال محمد أركون وغيره. إنني أعتقد أنَّ كل واحد من هؤلاء يعمل في مجال معين، ولكن سوف يشكِّل هذا النوع من العمل ظاهرة سيكون لها شأن في المستقبل القريب. لا شك أنَّ هناك إرهاصاً بعملية تفتح مختلفة عما شهده القرن الماضي، وسوف تكون واعدة إلى درجة أنها ستأخذ مجالها وانعكاساتها حتى في التفكير الفقهي وفي التفكير المباشر. نحن يجب أن نكون بعيدين عن الإساءة إلى حركة الحداثة، الحداثة الفكرية موضوع عالمي، والإسلام عالم، فألا يحتاج إلى حداثة؟ 

شيخ فضل: ربما لأن الحداثيين يأتون من خارج الفكر السائد، لذلك يواجهون بالرفض.. 

محمد الأمين: صحيح. أعتقد أنَّ الإسلام أوسع من أن يخوض فيه فقط المتدينون، حتى غير المتدينين يستطيعون أن يخوضوا في هذا الحقل. إنَّ عملية إنتاج المعرفة قد تأتي من غير المؤمنين ومن الملحدين أحياناً. يجب أن نميِّز بين الإنتاج المعرفي وبين السلوك، لأن الإسلام عالم قائم بذاته، فمن الممكن أن يأتي مستشرق وينتج معرفة ذات أهمية كبيرة. 

شيخ فضل: إننا نتحدَّث عن سلطة المرجعية إن صح التعبير، السلطة السائدة..  

محمد الأمين: لنأخذ مثلاً السلطة التي تكفِّر، فتقول لا يجوز لك أن تبحث في الموضوع الفلاني أو لا يجوز لك أن تنتهي إلى رأي يخالف الرأي السائد

شيخ فضل مخدِّر: إنَّ حالة القداسة الموجودة لدينا لها مركزية كبيرة، وهي ترتبط بالحوزة وبالحالة الدينية العامة، وبرجال الدين. لذلك فإنَّ النقد من خارج إطار هذه القداسة يكون عادة تأثيره، وكأن الفكر لكي  يكون إنتاجه مؤثراً ومتواصلا لابدَّ لأن  يكون مدعوماً من داخل الإطار الديني السائد، أليست هذه إشكالية خطيرة؟

محمد الأمين: خذ مثلاً محمد عابد الجابري إنه من خارج السلك الديني وربما علماني، وهو متدين ومشغول ومهجوس بالفكر الإسلامي، ولديه أسئلة يطرحها، فلم لا تؤثر عليّ؟ إن لم أكن أنا، في الإطار الديني، قادراً على تلقي الآخر، فإن البنية الدينية لهذا الإطار ستشكل حاجزاً وانغلاقاً كاملا، ولا تسمع الأصوات الأخرى، فهذا في تقديري مظهر من مظاهر الموت.

 أنا أعتقد أنَّ هذه البنية الدينية يجب أن تكون على تواصل مع ما يُقال في هذا المجال، ومع هذه الأصوات التي شئنا أم أبينا لديها أسئلتها المطروحة. هل نقف موقف سلبي تجاه ما يُطرح ولا نتعامل معه؟ أم يجب أن نستمع إلى ما يُطرح ونتعامل معه؟ ونعتبره تحديات نحن مساءلون عن محاولة الإجابة عنها؟!

 من الممكن أن توجد شخصيات فكرية غير إسلامية ولكنها فاعلة وحاضرة. عندما تطرح إشكاليات حتى في الفكر الإسلامي، لماذا لا نتأثر بما يقال وندخل معه في سجال؟ ماذا يفيدنا أن ننغلق على أنفسنا؟ إنني أدعو إلى الانفتاح عليهم، لأن هذا الانفتاح سوف يجعلنا أقدر على بلورة الفكر الإسلامي في الحضارة الإسلامية، ولإنتاج طور جديد للحضارة العربية الإسلامية للانطلاق. البعد عن هذه الاتجاهات سوف يجعلها تتجه نحو تكوين آخر وتيار تغريبي مختلف ومنفصل عن هذا التراث، وهذا ليس في مصلحة تطلعاتنا الحضارية وتطلعات التطوُّر التي نطمح إليها.

 يوجد كلام عن الفكر الإسلامي، ما هو الفكر الإسلامي؟ هل الفكر الإسلامي هو فكر فئة معينة؟ هل هو فكر المسلمين؟ هل هو ما يُنتج داخل دائرة العالم الإسلامي؟ حتى عندما يكون هناك فكر إلحادي يصنف على أنه إسلامي، الراوندي مثلاً في التاريخ أديب ومفكر وكلامي ولكنه متهم بالزندقة، وبالفعل لديه أفكار إلحادية، ولكنه مع ذلك يُصنف ضمن سلسلة المفكرين الذين نشأوا في الإسلام، لأن موضوع فكره كان هو الإسلام، وعندما يكون الإسلام هو موضوع الفكر، فما ينتج عن هذا الفكر فهو فكر إسلامي، كهؤلاء الذين تحدثنا عنهم الآن، خذ محمد أركون مثلاً عندما يكتب حول التراث أو حول التفكيك أو غيره، قد لا توافق على أفكاره وقد ترفضها، ولكن أفكاره بالتأكيد تنتج فكراً إسلامياً، لأنه يتحدى ويجعل من موضوع تفكيرنا الإسلام والتراث الإسلامي. فهؤلاء سوف يكون لهم تأثيرهم ولكن ليس بالصورة التي نحتكرها للتأثير والتعبئة، لأن أركون ليس معبئاً إسلامياً، ليس خطيباً لكي يعبئ، هو ينتقد وعدم استحضاره في هذا المجال ليس مفيداً.

فاضل عنان: هل نحن بحاجة إلى رجل الدين الجالس في حوزته وفي محيطه، ويصدِّر ما يصدِّر من فتاوى وأفكار وإرشادات بدون أن ينخرط في المجتمع، ألا يضع في ذهنه أنَّ المجتمع خارج الإطار الذي يعيشه؟ هذا النوع من رجال الدين يصدِّر مشاكلاً أكثر مما يصدر حلولاً..بعض رجال الدين يتعاطون مع الساحة بشكل جداً إيجابي، وعندما اتجهوا إلى الحوزة، رجعوا بأفكار رجعت إلى الوراء، أو دعني لا أقل الأفكار بل طريقة تعاطيهم مع الآخر، الذي أصبح بشكل سلبي جداً. ولكن العلماء في لبنان الذين يعيشون ضمن المجتمع، نراهم أكثر انفتاحاً على الآخر من العلماء مثلا في البحرين أو السعودية. ما هي الأسباب التي أدَّت إلى وجود هذا الاختلاف؟ 

محمد الأمين: من المؤكد أنَّ أقرب الأسباب هو الانفتاح الموجود في لبنان. أنا مثلاً رجل دين شيعي، أين أسكن الآن؟ إنني أسكن في بلد اسمه صيدا، وهو بلد سني، ليست علاقاتي مقتصرة على المحيط الشيعي. ولنأخذ لبنان وليس صيدا فقط، إنني قادر ودون مبالغة على أن أعمل ندوات في أماكن مسيحية أكثر من الأماكن الإسلامية، هذا بسبب انفتاح لبنان على الأفكار التي من خارج لبنان. إنَّ لبنان بلد تُنتَج فيه الأفكار منذ زمن طويل، وليس فقط منذ الآن، حتى التيارات الخارجية الغربية أول ما تصل تصل إلى لبنان، ألا تعتقد أن هذا سيكون له أثر؟ هل رجل الدين صخرة لا يؤثر فيها شيء؟!! 

اترك تعليقاً