كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

في رثاء غازي الحداد: فخر أوال في حضارتها

الشاعر غازي الحداد
الشاعر غازي الحداد

ونحنُ فخرُ أوال في حضارتها
ونحنُ أعلى بني عُربانِها نسباْ
لنا شمائلُ عبد القيـسِ في كرمٍ
ومن ربيعةَ طابت ريحُنا حسباْ

 

رحم الله شاعرنا غازي الحداد(1961-2021).لم تربطني به معرفة شخصية، لكن تربطني به علاقة وجودية، هي علاقة الشاعر الذي يعالج بشعره جرحا ملتهبا في وجودنا، وجرحي الشخصي كان إسقاط جنسيتي، هو عام في حقيقته، لكنه  شخصي لأني أحمله في يومياتي ولحظاتي الخاصة، يهدأ مرة ويلتهب مرات، فأعالجه بشعر غازي الحداد “ونحنُ فخرُ أوالٍ في حضارتها”. 

هناك لحظات وجودية تضج في الكائن الإنساني، تستصرخ أعمق ما فيه، تنادي شعراء وفلاسفة وأدباء ومتصوفة يناغون هذه الأعماق ويطيبونها ببلسم كلماتهم. وكما في المقولة التراثية الشهيرة “اقرأ القرآن وكأنه نزل في شأنك” رحت أقرأ هذه الأبيات وكأن آلهة شعر غازي الحداد أنزلتها في شأني وحالي وجرحي، رحت أستحضر صوت غازي وهو يُنشدها بقوة نبره وعلو لغته وشكيمة سبكه.

هكذا أنشأت علاقتي الشخصية بغازي، صار حاضرا معي، رافعا لا مرافقا، فهو يشدني للأعلى حيث نجوم عبد قيس في حضارتها، نعم في حضارتها، ذلك هو المعنى الأكثر تأثيرا، فأنا أبحث عن انتماء يعبر عن هويتي الحضارية لا البدوية ولا القبائلية ولا الجاهلية، أنا واحد من (نحن عبد القيس) التي تجذرت في أوال منذ القرن الثالث الميلادي، غادرت ثقافة الترحال والغزو واستوطنت هنا حتى عرفتها نخيل البحرين وأحبتها وأنشأت بينها وبينهم وطنا مستقرا وشعرا يستمد من رطبها حلاوته وطلاوته، حتى قال الجاحظ «شأن عبد القيس عجيب وذلك أنهم بعد محاربة إياد تفرقوا فرقتين ففرقة وقعت بعمان وشق عمان وفيهم خطباء العرب وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين وهم من أشعر قبيلة في العرب، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي معدن الفصاحة وهذا عجب”.

لو قُدر للجاحظ أن يسمع شعر (غازي) لقال والأعجب في أمر عبد قيس، أنهم بعد قرون من النكبات وغزوات الأعراب التي وقعت عليهم، ظلوا مستقرين في سرة الحاضرة، وما زالوا ينتجون فحول الشعراء ولا يغادون بلاغة نطفتهم العبدية القيسية.

(غازي الحداد) ناطق بقوة، بفخر أوال الحضاري، لا جهل الجاهلينا، وجدتُ فيه الصوت الذي ألجأ إليه، وإحدى تجليات الهوية التي أذوب في جنباتها، وجنسية الانتماء التي لا يمكن أن تُسقطها بداوة الغازي ورعونته واستبداده، لا يمكن أن تسقط، ولا يمكن أن تضعف (أناي)  الحضارية وهي ممتلئة بقوة هذه الأنا الشعرية، وهي تصرخ بفرادة وبلاغة وشجاعة، عبر صوت غازي: 

أنا هنا ألهس التاريخ في خلدي 

أنا هنا واقف للرصد كالوتدِ

أنا هنا أتقصّى الأمر منفردا 

وما تقصيت أمرا غير منفردِ

(غازي الحداد) مثّل بشعره، شمائل عبد القيس، شمائلها البلاغية في الشعر واللغة والفصاحة والخطابة حتى إن أبا الأسود الدؤولي حين عُهد إليه أمر تشكيل القرآن جيء له بثلاثين رجلا من فصحاء قبائل العرب، فلم يقنعه إلا فصيح من عبد القيس. وغازي مثّل  هوية أجداده العبديين في  الرفض والثورة ضد الظلم، وهو بذلك مثّل الامتداد الحضاري لعبد قيس ليس على مستوى الاستقرار في الأرض فقط، بل والاستقرار في الولاء لهوية التشيع الرافضية التي رضعها من أمه (الملاية أم عباس) والتي شهد عليها تاريخيا جميع المؤرخين والرحالة الذين مروا من هنا. 

يحق لغازي أن يركب أعلى ما في خيلاء الشعر وهو ينطق بأناه الرافضة المتحدية (أنا هنا) ويحق له  أن ينطق بهويتنا الجماعية الفاخرة (ونحنُ فخرُ أوال). ويحق له علينا أن ننقش شعره في قلوبنا وحضارتنا ومحافلنا ونردده على مسامع أولادنا.

 

في رثاء الخالة نصرة

سيرة سلامة سلوم

د.علي أحمد الديري

رحم الله الخالة أم عبدالجليل، نصره عيسى حسن جواد، توفيت فجر اليوم، صديقة عمر جدتي سلامة سلوم، انعقدت صداقتهم منذ الخمسينيات، حين كان جدي حجي عبدالحسين طرار وحجي مهدي نصيف علي السماك في شراكة عمل في سوق السمك بالمنامة. 

زارت نصرة الدير لأول مرة في حفل زفاف الحاجية صفيــــة بنت الحاجي عبدالله محسن (توفيت في فبراير2004) التي ستصير لاحقا واحدة من الملايات الرئيسيات في مأتم جدتي، جاءت زفة العروس من رأس رمان، وضمن خطط النساء تم ترتيب لقاء زوجتي الشريكين من دون علم الأزواج حجي مهدي وحجي عبدالحسين، فلمست كل واحدة ألفة في روح الأخرى، آنست سلامة لقلب نصرة وآوت نصرة لقلب سلامة. تعود نصرة إلى المنامة بحكاية يبدو اتفقتا على حبكها، قالت لزوجها مهدي، حلمت البارحة أني زرت بيت صديقك حجي عبدالحسين طرار بالدير، كان بيتا كبيرا وواسعا وبه لياوين (جمع ليوان) فخذني إليه لأتعرف على زوجته. فأخذها حجي مهدي على جناح هذا الحلم، وهناك انعقدت صداقة عمر تشبه الأسطورة.

كلما جاءت جدتي على سيرة ولادتي في المستشفى الأمريكي في العام 1971، والأحراز التي أحاطتني بها بسبب فقد أمي لولادات كثيرة، تأتي سيرة نصرة جارة المستشفى، تقول لي: تأتي (خيوتي) كل يوم لأمك بالريوق وتعتني بها، ما كنا نشعر بالمسافة بين الدير والمستشفى لأن هناك بيتا آخر لنا يستقبلنا ويهتم بنا ويطمئن أمك حين عودتنا. 

تقول أمي، أحاطتني الخالة نصرة بمحبتها قبل حتى ولادتي بك، في زواجي تصرفت وكأني ابنتها، عزمت باصين وأحضرت الملاية فاطمة المصفي من رأس رمان لتقرأ ميلاد زواجي، وكذلك حفلة الجلوة هي من قامت بها. أشعر اليوم كأني فقدت أمي مرة ثانية برحيلها، والموحش أننا محرومون من أن نعزي حتى بعضنا بعضا بهذا الرحيل، أريد أن أضم أخواتي من بناتها لأسلو من حرارة هذا الفقد.

(نصرة) الاسم الأكثر دورا في لسان جدتي، منذ كنت طفلا لا يفارقها، لا يتوقف قطار الزيارات بينهما، حين تعنّ عليها رؤيتها، تصحو باكرا وتنتظر ساعة خروج أبي لعمله، فتلحق به ليأخذها للمنامة حيث فريق (سنككي). كانت المحبة تتسع لزيارة صباحية يفتح فيها الباب قبل السابعة صباحا، تفطران معا وكأنهما طفلتان تقضيان أجمل ساعات التجمع واللعب. 

تقول لي أمي، كانت جدتك تفضل زيارة السيدة زينب سنوياً على زيارة الأماكن المقدسة الأخرى، والسبب هو أن صادق ابن خيوتها نصرة مهجر هناك، حتى إن والدك كان يمازحها ويقول لها حين يعود ابن أختك ستهجرين السيدة. ما كانت تتوقع أنها في السنة الأخيرة من عمرها، سيضطرها الشوق لتذهب أبعد من سوريا لزيارة ابن آخر لها مهجر في لبنان في 2013.

في مكالمتي الأخيرة مع الخالة أم عبد الجليل (نصرة) مطلع هذا العام، حدثتني عن (خيوتها) وكأن المحبة التي بينهما لا يمكن أن تفتر، فائق الاشتياق والحب لا يمكن أن تقاومه دموعك وأنت تسمع الكلمات المشحونة بحياة كاملة الدفء والصدق والعفوية. تقول أختي فاطمة، منذ رحيل جدتي والخالة نصرة تشعر بحرقة الفقد، لا تخلو مكالمة معها من رثاء وبكاء وحرقة، وكأن صوتنا يفتح في قلبها جرح الفقد.

تقول خالتي خاتون، بالإضافة إلى الألفة الروحية بين أمي والخالة نصرة، فقد جمع بينهما الحسين، كلتاهما تذوبان في الخدمة الحسينية، وطوال العام أجندة أيامهما مليئة بالاحتفالات والمجالس والدعاء، تنتهي مجالس عاشوراء في مأتمنا، وتبدأ إعادة العشرة عند الخالة نصرة، وأتذكر صديقتهما الحميمة الملاية المنامية أم عبد علي، فاطمة بنت خضير، ترافقهم عادة حين يأتون الدير أم عبد الرضا. 

إذا كان من معنى حقيقي لل(النُّغْصَةُ) فهو المعنى الذي تحمله الأطباق المتبادلة بينهم، تشعر أن اللقمة محاطة بمحبة عميقة وأن هناك مجسات روحية بينهم، و أن (النُّغْصَةُ) تحفر في قلب كل منهما ولا يكتمل الإحساس بالسعادة وتحقق الرغبة إلا بوصول ما تأكله هذه لفم ما ترسله تلك. بل امتد الأمر حتى للأبناء، كانت الخالة نصرة تخصني دوما بهدية كلما عادت من زيارة من زياراتها للأماكن المقدسة، تراني امتدادا لقلب جدتي، وهذا ما يلخصه مثلها الأثير “الي يحب الشيخ، يحب تبعه”.

يقول ابن الخال جلال عيسى الفن: صداقات عمتي سلامة، تدخل في نسيج العائلة ولعل علاقتها مع الخالة نصرة تكون من أكثر العلاقات التي عمقت صداقاتنا مع أبنائها، صادق ومجيد وجليل، كانوا ينامون معنا ونقضي أوقات جميلة في اللعب معهم، أذكر أن صادق تحداني أتسلق سور في بيت عمي حجي علي، وقال لي باللهجة المنامية، والله إذا تركب أعطيك (ربيتين ونص). وأذكر زوج عمتي سلامة، حجي طرار، الله يرحمه في موسم الروبيان يحضر كميات كبيرة ويفوحها في قدور طباخ محرم الكبيرة، وبعد أن ينضج ينشره فوق السطح للتجفيف، وبعد يوم نتسلل فوق السطح، قبل أن يضعه في الخياش، ونسرق منه ما يسد جوعنا، فإذا تمكن من رؤيتنا، انهال علينا بقاموس الشتائم. 

 

الحلقة الثانية من نقد الشيخ والتنوير: التنوير الضخم والمثقفون الموالون

أتحدث هنا عن التنوير الضخم كما

للاستماع للحلقة يمكنك الضغط من هنا

لتحميل المقالة بصيغة pdf يمكنك الضغط من هنا

تحدثت في الحلقة السابقة عن الأب الضخم. التنوير الضخم هو تنوير يتم اصطناعه عبر خلق سردية غير صحيحة تُضخّم شخصيات وأحداث وكلمات وتبني لها سياقا مقتطعا من التاريخ الوقائعي. كيف غير صحيحة؟ هذا ما سنحاول أن نبيّنه في هذه الحلقة بالكلام عن الحدث السياسي المزلزل في البحرين في 1923 وقلت مزلزل لأنه أسقط شكل دولة المشيخة والإقطاع وعزل الحاكم عيسى بن علي، وتم تأسيس إدارات الدولة الحديثة، فتحركت جماعات المصالح والمستفيدين من شكل السلطة القبلية، للدفاع عنها.

هناك مجموعة من الأسئلة نريد أن نطرحها خلال هذه الحلقة. ما هو موقف ناصر الخيري من حدث 1923؟ وما هو موقف إبراهيم بن محمد آل خليفة الذي أسماه الكتاب (شيخ التنوير) من هذا الحدث؟ هل ذهب بتنويره لتأييد فكرة الدولة الحديثة والسلطة الحديثة، أم أنه دافع عن شكل دولة المشيخة ونظام عيسى بن علي الإقطاعي في ذلك الوقت؟

الإصلاحات وخطاب العزل 

سأعرض مقتطفًا من كتاب (الشيخ والتنوير) ينقل فيه رواية تقول «إن ناصر الخيري بعد أن قرأ خطاب نوكس [وهو خطاب عزل عيسى بن علي] في مايو 1923 مرض بعد ذلك مرضا شديدا متأثرا بما جاء في الخطاب، وقال إن أيادي الشيخ عيسى بن علي علينا كثيرة ولم أكن أتوقع أن أقوم بما قمت به».

يتحدث هذا المقتطف عن الخطاب الذي ألقاه ناصر الخيري في ما عُرف بمجلس العزل، وهو المجلس الذي عَزل (عيسى بن علي) ونَصّب ابنه حمد مكانه، وتم فيه إعلان شكل الدولة الحديث والقطع مع دولة المشيخة ونظام البداوة، أو ما سُمي في أحد التقارير البريطانية: نظام اللاحكم. لم تكن في البحرين حينها حكومة مركزية توزع سلطاتها، بل توجد إقطاعيات، كل شيخ يحكم إقطاعية عبر نظام الفداوية.

هذا المقتطف الذي يبدو أن الكتاب يتبناه بشكل واضح، يقول إن ناصر الخيري مرض بعد أن ألقى هذا الخطاب مرضاً شديداً، فكأنه غير مقتنع بما جاء فيه، وكأنه كان مكرهاً بوقوفه هذا الموقف وقراءته لهــذا الخطاب التاريخي الذي لا يرمي إلى عزل عيسى بن علي فحسب، بل إلى تدشين شكل الدولة الحديثة.

لماذا تبنى كتاب (الشيخ والتنوير) رواية أن ناصر الخيري ندم ومرض ومات؟ وراء ذلك سبب وجيه، هو أن الرواية الرسمية لا تريد أن تعترف بعزل عيسى بن علي. لذلك حينما نذهب الى المدونات الرسمية وهي تروي تاريخ حكم آل خليفة في البحرين، فإنها لا تقول إن عيسى بن علي قد عُزل في 1923، ولا إن ابنه حمد بن عيسى تولى الحكم في هذا العام، بل تقول إنه تولى الحكم في العام 1932، وهو العام الذي توفّى فيه عيسى بن علي. لأن هذه العقلية لا تقبل أن يتنازل الحاكم أو يُعزل حتى يموت.

بالتالي، فإن موقف ناصر الخيري -حتى في كتاب الشيخ والتنوير-  يُراد له أن يظهر بمظهر الكاتب والمثقف الذي يسير في ركب السلطة، وأن ما فعله كان مضطراً إليه لأنه كان موظفاً في الوكالة البريطانية، أي موظف لدى المستعمر، لا أنه مثقف لديه موقف نقدي حرّ من شكل الدولة وسلطة الدولة.  

هل هذا الكلام صحيح؟ هل ناصر الخيري كان كذلك فعلاً؟ لنر ماذا يقول ناصر الخيري في كتابه، وفي مقابل

ذلك نريد أن نعرف موقف من أسماه الكتاب بشيخ التنوير؛ إبراهيم بن محمد آل خليفة جدّ ميّ آل خليفة. 

موقف ناصر الخيري

يتوجه ناصر الخيري، بتقريع شديد لسلوك (صاحب المسند) أي مسند الحكم، في وقوفه إلى جانب فريق النجادة ومجاملته لهم، الأمر الذي سبب العبث بالأمن والإخلال بمسؤوليات الحاكم في حفظ الأمن والحياد 

يقول ناصر الخيري حول أحداث 1923: «وما ذلك إلا بسبب مجاملة حكومة الشيخ عيسى لفرقة النجادا (النجديين) مجاملة توجب لوم صاحب المسند (الحاكم)، وتسبب الطعن في نظرياته الغير صائبة، إذ ليس من شأن الحاكم أن يجامل فريقاً دون آخر إلى حد أن يقف مكتوف اليدين أمام ما يتخذه الفريق من الإجراءات العدوانية ضد الآخرين، مع تيقنه أن تلك الإجراءات سوف تنتج نتائج وخيمة جداً أقلها سفك الدماء والعبث بالأمنية العمومية التي هي من أول مسئوليات الحكام».

لديّ الكثير من الفقرات التي يمكن الاستشهاد بها، لكن هذه الفقرة مهمة. لماذا؟ لأن هناك حدث وقع: خلاف بين تجار النجادة (أهل نجد) وبين تجار من العجم على خلفية حادث صغير سرق فيه خادم ساعد يد وباعها في السوق. لكن الأمور كانت محتقنة في ذلك الوقت لأسباب سياسية كثيرة.

 ارتفعت وتيرة وقائع هذا الخلاف وتسببت بحدوث مشاجرات كبيرة في المنامة، فكان هذا الخلاف بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. بعد هذا الخلاف أصبح موضوع التحوّل نحو الدولة المدنية مهما جداً لأن بريطانيا تريد أن يسود النظام، وتمنع أي دولة أخرى من التدخل بحجة حماية رعاياها، أي أن مصالحها تتطلب ذلك، وسيادة النظام يعني أن يكون هناك نظام يعرف من هو البحريني ومن هو غير البحريني، ويكون هناك محاكم وعدالة جنائية وإدارات دولة حديثة. وهذا هو النظام الذي سعى ناصر الخيري لدعمه والوقوف الى جانبه.

حينما نأتي إلى تحليل موقف ناصر الخيري من فكرة دعم الحاكم للنجادة، نجده يحمل حقيقة مهمة، وهي أنه وقف ضد الحزب المناصر لعيسى بن علي، وهذا يعبّر عن موقفه من طبيعة الحكم، فليس صحيحاً أبداً أن نقول إن ناصر الخيري ندم أو أنه كان متردداً أو مرض أو مات، لأنه قدم خطاباً لا يتسق مع موقفه التاريخي.

يروي الخيري عن مجلس العزل على هذا النحو: «جمعت [الدولة البريطانية] في دار القنصل فريقاً كبيراً من رؤساء سائر الطوائف، وألقى الكرنل ناكس عليهم خطابة مسهبة بين فيها كثيراً من الأسباب التي أوجبت تداخل الحكومة البريطانية في شئون بلادهم، وأوصى الأهالي بالرضا بما قسم الله لهم، وحضهم على الطاعة وحذرهم عواقب التذمر والمخالفة، وهدد من يظهر عدم الرضا بالحالة الراهنة بصارم العقاب، ونعى على حكومة الشيخ عيسى جمودها على ما ورثته من أسلافها من أساليب الحكم القديمة وعدم مجاراة الزمان في تغيراته ودوام الحال من المحال»

لا شيء في رواية الخيري يعبر عن ندمه أو شعوره بالامتنان لحكم عيسى بن علي، خصوصاً الجملة الأخيرة «ونعى على حكومة الشيخ عيسى جمودها على ما ورثته من أسلافها من أساليب الحكم القديمة وعدم مجاراة الزمان في تغيراته ودوام الحال من المحال» إنه يرويها بلسان المتبني لها، كما يروي كتاب الشيخ والتنوير رواية الندم والشعور بالذنب والموت بلسان المتبني.

 المحيط الإنكليزي

اسمحوا لي هنا أن أستحضر رواية (لمحيط الإنكليزي) للكاتب الراحل فريد رمضان، تحديداً الفصل الخاص بالبحرين تحت عنوان (جزر الخوف) هو اسم يليق بالبحرين فعلاً خلال فترة العشرينات. تحدّثت الرواية عن التاجر (عبد العزيز النجدي)، الذي أجبر (يوسف) على الزواج من (جوهرة) العبدة الحبشية، بعد أن حملت من هذا التاجر، ليدخل هذا العبد في قصة معقدة تنتهي بأن يُضرب ويُلقى به مع عائلته دون كرامة ودون قانون. 

كان ذلك هو وضع الناس الذين لا تحميهم قبيلة ولا دولة ذات سيادة في البحرين. جاء قانون الدولة المدنية 1923 في البحرين ليضع حداً للانتهاكات التي كانت تحدث في عهد عيسى بن علي. التحول لنظام الدولة المدنية كان يعني رفع الظّلم عن هؤلاء 

الناس والرعايا الذين لم يكن هناك قانون يرعاهم ولا دولة. ناصر الخيري كان يدعم هذه الإصلاحات التي تحمي الناس الذين لا حامي لهم ولا ظهر أو قبيلة أو شيخ لهم. 

كان هذا هو موقف ناصر الخيري، فهل نجد ذلك في كتاب (الشيخ والتنوير)؟ لا نجد ذلك أبدا. الكتاب لا يضيء لنا هذا الجانب، لا يوضح لنا كيف كان نظام الحكم في البحرين؟ كيف هو موقف المثقف في ذلك الوقت؟ كيف هو موقف (شيخ التنوير) إبراهيم بن محمد آل خليفة؟ ما موقفه من شكل هذه الدولة؟ من نظام المشيخة والإقطاع؟ من التمييز وفرض الضرائب حسب العرق والطائفة؟ هذا ما سنعرفه الآن.

لغة (شيخ التنوير)

هناك رسالة كتبها الشيخ إبراهيم في 1923، توجّه بها إلى الشيخ (محمد رشيد رضا) صاحب (مجلة المنار). من هو الشيخ محمد رشيد رضا؟ هو شخصية سلفية إصلاحية كانت تريد النهوض بالعالم الإسلامي لكن من منظور سلفي، وهو ليس توصيفي إنما توصيف المختصين في هذه المرحلة، كذلك كتاب (الشيخ والتنوير) استعمل هذا التوصيف لنعت محمد رشيد رضا. لكن لا أعرف كيف يمكن أن يكون من يتواصل مع هذه المجلة ذات التوجّه السلفي كما يخبرنا الكتاب، ويقوم بدعمها مادياً، ويرفع لها تقارير عن البحرين، أن نقول أنه رجل تنوير وشيخ تنوير وهو يتجه إلى وجهة سلفية.

يقول الشيخ إبراهيم في تقديم رسالته إلى صاحب مجلة المنار: «بسم الله الرحمن الرحيم، حجّة الإسلام المُصلح الإمام الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي الأغرّ حياه الله وأحياه ومتّع المسلمين بطول بقائه..»

هذه المقدّمة توضّح تماماً أننا أمام لغة مغايرة للغة التنوير، بل إن صاحبها أقرب للتوجّه الإسلامي التقليدي، يمكنك أن تقول إن لديه توجّه إصلاحي، ربما، لكن أن تُلبسه جبة (شيخ تنوير)، هذه اللغة لا تناسبه إطلاقاً.

نكاد لا نعثر في كتاب الشيخ والتنوير على مقولات أو خطابات أو مواقف للشيخ إبراهيم، تنير لنا شخصيته التنويرية، تنتهي من الكتاب ولا تعلق في ذهنك جملة تصلح أن تضعها كاقتباس يضيء لك فكرة حرة أو يدفعك لاتخاذ موقف حر، بل على العكس من ذلك، مثلا رسالته لابنه محمر في 1929 إبان إقامته في مكة المكرمة، يقول فيها: «وبعد، أرجو ألا تنسى ما أوصيك به من طلب العلم، أعني الفقه العربية، وأكثر من قراءة القرآن، ودع عنك كتب التصوف، وكتب الطب، فإنها مضيعة للعقل ومجلبة للوسواس والأوهام».

تتساءل كيف يمكن أن يكون صاحب خطاب تنويري وهو يحصر العلم بالفقه واللغة العربية فقط، ويحذره

من قراءة كتب الطب والتصوف؟ تحاول أن تفهم تكوينه المعرفي وأين درس، فلا تجد أي معلومة توضح لك نشأته العلمية في كتاب (الشيخ والتنوير). تذهب للويكيبيديا، فتعثر على معلومة يتيمة مستلة من كتاب أبناء الشرق لإبراهيم كرديه، لكنها دالة، تقول «كان والده حاكم البلاد وسلطانها ، وعهد بتربيته إلى بعض علماء نجد». هنا يمكنك أن تفهم اللغة التي تتحدث بها هذه الشخصية بقدر ما.

رسالة (شيخ التنوير)

حسناً، لنعد لرسالته المكتوبة لشيخ المنار، محمد رشيد رضا. ما المكتوب في هذه الرسالة؟ الرسالة مكتوبة بخط صعب قراءته ولا أدري لماذا الكاتب أو المخرج تعمّد وضع 4 صفحات من هذه الرسالة في صفحة واحدة، وهي بالمناسبة من أرشيف الشيخة مي آل خليفة، لماذا لم يتم وضع كل صفحة على حدة؟ 

وجدت صعوبة كبيرة في قراءة هذه الرسالة، لكن هناك سطر يحمل دلالة كبيرة على موقف الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة من حدث 1923. ماذا يقول هذا السطر؛ يقول عن القنصلية البريطانية والوكيل البريطاني، أنهم «كانوا يهدفون إلى تهييج الشيعة الفلاحين رعايا الشيخ عيسى» ثم هناك كلمات يصعب قراءتها، وبعد ذلك يقول عن الشيعة المطالبين بالإصلاحات «قام أولئك المخدوعين بمظاهرة كبيرة في سوق المنامة ضد ملكهم الشيخ عيسى»، ثم يكمل الرسالة التي يصعب قراءتها. لكن هذه الجملة شديدة الدلالة؛ فهو ينظر إلى من قاموا بدعم الإصلاحات على أنهم فلاحون مخدوعون، وأنهم قاموا بمظاهرات في المنامة تحت تأثير هذا التحريض الذي جاءهم من المستعمر. هذا هو الموقف الذي يعبر عنه الشيخ إبراهيم.

لدي هنا وقفتان، الأولى: واضح من هذا التوصيف أن الشيخ إبراهيم يتبنّى نظرة الحاكم الشيخ عيسى بن علي، لذلك يسميه في هذه الرسالة (ملكهم)، ويصفه بأنه «الشخصية المحبوبة وهو الأكبر سنا بين ملوك العرب». لقد كان داعماً لنظام المشيخة، وداعما لاستمرار الدولة الإقطاعية. لا (إشكال تنويري) لديه في الحكم الإقطاعي، هو مع توزيع البحرين إلى إقطاعيات محكومة من قبل شيوخ آل خليفة من أبناء عيسى بن علي وإخوته. 

الفلاحون المخدوعون

الوقفة الثانية حول هذه الرسالة: يبدو أنه كان يرى الشيعة بأنهم محض رعايا وفلاحين ومخدوعين، ليســـوا  أصحاب مطالب إصلاحية واضحة، وليسوا أصحاب تاريخ وحضارة وأرض، وكأن ليس لديهم علماء أو شخصيات مثقفة أو شخصيات تجارية، ليس لديهم أي من ذلك. في حين تكشف لنا الوثائق أن العرائض التي وقعها الشيعة في ذلك الوقت كانت تحمل أسماء كبيرة، بينها تجار، وشخصيات وطنية معروفة ترى مستقبل البحرين في أن تتحول إلى شكل الدولة الحديثة. 

أستحضر هنا قامة وطنية مثل الحاج (أحمد بن خميس)، وهناك كتاب صدر عنه عن مركز أوال يحمل اسم (قمر السنابس). كان  أحمد بن خميس شخصية وطنية دفع من ماله وثورته وأمنه في سبيل إقرار هذه الإصلاحات وتمّت ملاحقته. 

شخصية أخري مثل الشيخ (عبدالله العرب)، وهو شخص تحدثت في كتاب (من هو البحريني؟) وخصصت له حلقتين (بودكاست) للحديث عنه وعن ما قدمه من أجل بناء فكرة الدولة الحديثة في 1923. كان رجل علم ودين معروف دفع دمه من أجل إقــــرار هذه الإصلاحات، لقد أراد للبحرين أن تتجـه لعصر الدولـــــــة المدنية. كيف نصف مثل هؤلاء بأنهم مجرد فلاحين مخدوعين؟ ليس وصف الفلاّح عيباً، وتعلّق البحرينيين بالفلاحة والنخلة والبحر هو جزء من حضارتهم واستقرارهم وتحضّرهم، وهو يعبر عن ابتعادهم عن عقلية البداوة التي كانت تتخذ من الترحال والسلب والهجوم والحرب وسيلة للمعيشة. هذا هو البحريني، فكيف تأتي يا (شيخ التنوير) وتصفهم بأنهم مجرد فلاحين مخدوعين؟ هؤلاء لديهم تراث (ضخم) حقيقي غير مؤسطر، يشكل لهويتهم أبوة حضارية، يكفي أن مجالسهم النسائية تضمّ تراثا من المخطوطات قد خُطّت بأقلام كانت ترى النور في الكتابة، وما زالوا يحتفظون بهذه المخطوطات كتراث إنساني، في الوقت الذي كان فيه جدّك وأبوك مجرد جماعات أمية كما وصفهم ناصر الخيري.

تبييض وجه الإقطاع 

لنذهب الآن إلى كتاب (الشيخ والتنوير)، ماذا يقول عن مجلس الشيخ إبراهيم بن محمد؟ 

يقول: «يمكننا أن نعرف مقدار الأهمية التي يمثلها مجلس الشيخ إبراهيم في تاريخ البحرين الحديث إذا أخذنا كل هذا بعين الاعتبار، فقد كان هذا المجلس أول منتدى ثقافي ينخرط فيه المثقفون البحرينيون، وقبل انتشار التعليم الحديث، في نقاشات أدبية واجتماعية عامة. ويمكننا القول أنه لم تكن هناك مساحة مفتوحة للنقاش العام قبل هذا المجلس». هل هذا صحيح؟ 

الغريب أن كتاب (الشيخ والتنوير)، وفي الصفحة ذاتها، يُعزي نشأة الصالونات والنوادي والمقاهي الأدبية في أوروبا في القرن 18، إلى أنها «مساحات أخذت في الظهور مع تفكك بنيات المجتمعات الإقطاعية وتوطّد الحقوق المدنية وحقوق الأفراد في التجمع والتنظيم والتعبير». ويؤكد أن وجود هذه الفضاءات كان له «تبعات سياسية، إذ سرعان ما لعبت هذه الفضاءات العامة دور الرقيب على أداء الحكومات وصلاحيتها ومصدر شرعيتها».

إذا كان مجلس الشيخ إبراهيم -كما يزعم الكتاب- أول منتدى ثقافي ينخرط فيه المثقفون في هذا المجال، فما هو موقف هؤلاء من بُنيات المجتمعات الإقطاعية في 1923؟ هل ساهم هذا المنتدى في تفكيك بنيتها؟ هل عمل على توطيد الحقوق المدنية للأفراد؟ هل دافع عن حقهم في التجمع والتنظيـــم والتعبير؟ وهل واجـــه تبعات سياسية؟ هل مارس دوراً رقابياً على أداء الحكم أو حاول إصلاحه؟ أم أنه تماهى مع طبيعة الحكم ودعم بنيته المشيخية القبلية الإقطاعية؟

الرسالة التي قرأناها، والتي بعثها شيخ هذا المنتدى إلى صاحب مجلة المنار ذات التوجهات الإصلاحية السلفية، تعبّر عن موقفه المناهض لحق الأفراد في التجمع والتنظيم والتعبير، فهو بدلاً من أن يدافع عن حق الناس الذين خرجوا في المظاهرة الكبيرة المطالبة بالإصلاح في سوق المنامة، يصفهم بأنهم فلاحون مخدوعون. و بالمقابل يعلن موقفه الداعم للإقطاع والمجتمعات الإقطاعية والمتماهي مع طبيعة حكم شيخ القبيلة. لقد وقف شيخ هذا المنتدى مع الإقطاع، وراسل الخارج ليثبّت قدم هذا الإقطاع ويبيض وجهه. هذا هو توجه صاحب من يقول عنه الكتاب بأنه صاحب أول منتدى ثقافي تنويري في تاريخ البحرين.

مصالح رواد المنتدى 

أما رواد منتدى (الشيخ والتنوير) الذين يقدمهم باعتبارهم أول من فتح المجال العام، هؤلاء كانوا يغلقون المجال العام، يحاربون من يدعم هذا الإصلاح. لم يكن موقفهم مشرفاً، لم يكن موقفهم داعما لهذه الدولة في شكلها الحديث. لا أعرف كيف يمكن أن نعتبر هذا المنتدى أول منتدى في البحرين للفعل الحر وأول منتدى للمثقفين؟ 

التنوير هو العمل على تفكيك البنيات الإقطاعية للمجتمعات، هو العمل على تثبيت الحقوق المدنية وحريات الأفراد، هذا الفعل هو ما كان يسعى الداعمون لفكرة الإصلاح له، وهم من يسميهم (شيخ التنوير) بالفلاحين المخدوعين. هذا هو ما سعى إليه أحمد بن خميس ومن معه، وهذا ما كانت العرائض التي يقودها الشيعة يذهبون إليه ويطالبون به. أما من أسماهم كتاب الشيخ والتنوير بالمثقفين في مجلس الشيخ، فلم يكونوا، في غالبيتهم، إلا شبكات مستفيدة من هذا الإقطاع وتعمل على إدامته. 

هذا الكلام لا أقوله بلساني وإنما أقوله بلسان (ميّ الخليفة) وقد تحدثت عن ذلك في كتابي «من هو البحريني؟». هؤلاء استفاروا من شبكة المصالح التي وفرها نظام القبيلة، نظام الحكم المشيخي القبلي. 

على خلاف ما تسبغه بعض الكتابات التاريخية والسياسة الحديثة من تمجيدات على المؤتمر الذي عُقد في أكتوبر/تشرين الأول 1923 وضمّ القوى السنية المعارضة للإصلاحات، تقدم (مي)    صورة سلبية لهذا المؤتمر وما انبثق عنه، فهو ينطلق من رؤية محافظة وإسلامية سلفية ويدافع عن مصالح خاصة تقول مي «كان رد المجلس التشريعي، (الذي يحلو للبعض تسميته بالحركة الوطنية أو الجهاد أو الثورة!)، يأتي في معظم الأحيان من تفاعل اقتصادي نتيجة لمخاوف من ضياع الامتيازات التجارية والاقتصادية وحتى السلطوية!».

تمعن (مي) في تصوير النخبة المثقفة من التجار بأنها تمثل في أكثر الأحيان أفرادا أو بيوتاً تجارية تنظر بعين الاعتبار لمصالحها أولا، وتؤكد أنه ما كانت هناك قاعدة شعبية تتبنى أفكار النخبة «ومع أن البعض حاول إظهار العرائض بأنها دستور وقانون ومطالب شعبية إلا أنها بقيت ضمن دائرة الموقعين وانتهت بنفي فرد أو اثنين منهم!».

هل ندم ناصر الخيري؟

كان ناصر الخيري المتخفف من الانتماءات القبلية والمصالح التجارية وحده من تفرّد من بينهم، مثّل موقف المثقّف الناقد الذي يذهب إلى المستقبل، وهذا ما أثبته في كتابه. لذلك حينما قرأ ناصر الخيري خطاب نوكس (لن أقول خطاب الاستعمار البريطاني، بل خطاب الإصلاح البريطاني في ذلك الوقت) كان 

مقتنعا بكل كلمة يقولها، وسأعرض مقتطعاً واحداً فقط من هذا الخطاب، وعليكم أن تحكموا إذا كان يتعارض مع قناعات ناصر الخيري أم لا.  

خصصتُ لخطاب العزل فصلا كاملاً في كتابي (من هو البحريني)، وهو خطاب في غاية الأهمية، ومع الأسف كتاب (الشيخ والتنوير) لم يذكر حرفاً واحداً من خطاب العزل، في حين أن كل كلمة وردت في هذا الخطاب تفسر ذلك التاريخ الذي هو تاريخنا اليوم. 

في فقرة واحدة فقط يخاطب آل خليفة ويقول: «يا سادة آل خليفة، عند الرجوع إلى الماضي أخشى أنه من واجبي تحذيركم، أن مجرد وجودكم في الحياة، لا يعني أنه من حقّكم العيش على حساب المجتمع، سواء أكان ذلك على حساب المجتمع عبر مخصصات تقتطع من عائدات هذه الجزر، أو عبر استغلال الفقراء والمساكين، إن المثل القائل (من لا يعمل لا يأكل)، هو شعار جيد، والأفضل لكم تطبيقه على حالتكم. أما الذين يجلسون بلا عمل ، ينبغي أن يرضوا بمرتب زهيد فقط  من أجل العيش».

هــل كان ناصر الخيري ســـيمرض وينــدم ويموت، لأنـــه قال هذه العبارة التي تحمل توصيفاً تاريخياً دقيقاً لطبيعة الحكم في البحرين، أم هي من صميم قناعات صاحب كتاب (قلائد النحرين)؟ من يستطيع أن يقول هذا الكلام اليوم؟ هل شيخ التنوير يستطيع أن يقول هذا الكلام؟ هل مثقف (الشيخ والتنوير) يستطيع أن يقول هذا الكلام؟ من يستطيع أن يقول هذا الكلام هو ناصر الخيري، وقد دفع حياته ثمنا لذلك، لا ندماً على ذلك (كما يزعم الكتاب).

التضخيم والتضئيل

هذا هو التضخيم الخطير الذي مارسه كتاب (الشيخ والتنوير)؟ لقد ضخّم رأس محمد بن خليفة وجعله قائدا أسطورياً، وضخّم رأس إبراهيم بن خليفة وجعله شيخاً تنويراً أسطورياً، أما نظام الإقطاع، فلم يسلط عليه الضوء، لم يُرنا كيف أنه نظام كان يأكل المواطنة والمواطنين، لم يرنا كيف أن هذا النظام كان بحاجة إلى حدث تاريخي كبير جداً يقطع شبكته.

بمقابل هذا التضخيم، ضأّل الكتاب من أشخاص ومواقف شديدة الأهمية، ضأّل من تاريخ 1923 وعبّر عنه بأنه مجرد (رغوة) أو (حدث سطحي عابر لم يستحق الاهتمام). كذلك ضأّل موقف ناصر الخيري من حكم المشيخة وحكم القبيلة، وضأّل موقف الذين دافعوا عن الإصلاحات ودفعوا دماءهم وأرواحهم ثمناً لولادة بحرين حديثة، يكون فيها محاكم وإدارات وسلطات متساوية وقضاء عادل. 

كذلك ضأّل من مرسـوم البحرين الملكـــي 1913(Order in Council for Bahrain)، وهو مرسوم بحاجة إلى حلقة واسعة للحديث عنه، وكيف على أساسه بُنيت البلدية وبُني شكل الدولة الحديث، بحيث أن أعداء الإصلاحات اعتبروه مرسوما للاستعمار، وما زالوا يستخدمون هذا المصطلح، ولولا هذا المرسوم لبقينا سخرة تحت سلطة حكم القبيلة.

أشكر طول صبركم. وأعتذر لأني أخذت كثيراً من الوقت، هناك أفكار كثيرة بودي أن أناقشها لأنها تعلق بهذا التاريخ، لكن قانون الوقت يحكمني.

 

الحلقة الأولى من نقد الشيخ والتنوير: أسطورة  الأب الضخم محمد بن خليفة

الشيخ والتنوير

يمكنكم الاستماع إلى الحلقة بالضغط على هذا الرابط

يمكنكم تنزيل الحلقة بصيغة pdf

مرحبًا بكم في هذه الحلقة، أتحدث عن كتاب (الشيخ والتنوير) للدكتور نادر كاظم. اهتمامي بهذا الكتاب يأتي في سياق اهتمامي بمئوية مشروع الإصلاح في البحرين. البحرين في 1923م دخلت في مشروع إصلاحٍ كبير ونحن مدينون إلى هذا العام في ما تحقق من إصلاحات، وما أخفقنا في تحقيقه مما كان مرجواً، يعني مآلات الدولة اليوم، نجد جزءاً من تفسيره في حدث 1923م. وهذا ما ناقشته مفصلا في كتابي (من هو البحريني؟ بناء الدولة وصراع الجماعات السياسية 1904-1929).

الحلم والحكم

يفتتح كتاب التنوير مقدّمته بحلم «تقول الشيخة مي، عن سياقات تأليف الكتاب، إنّها حلمت بوالدها، الشيخ محمد بن إبراهيم، في اليوم الذي أنهيت فيه آخر صفحة من كتابها الأوّل (مع شيخ الأدباء في البحرين) وقبل تسليمه للمطبعة، كان طيف والدها يقول لها بعبارة واضحة صريحة: «ليس هذا المهم وإنّما المهم كتاب الشيخ محمد!». بأي معنى يكون كتاب الأب الحاكم أهم من كتاب الابن المثقف؟ نعم، كان الشيخ محمد بن خليفة حاكمًا أسطوريًّا امتاز بجسارة استثنائية، وبروح مغامرة منقطعة النظير».

كتاب الشيخ والتنوير في حقيقته، كما أراه أنا، هو مواصلة لهذا الحلم، هو ذهاب بهذا الحلم لحدّه الأقصى، يُكمل الحكاية، يواصل السردية، وكأنّ (مي) قد سلمته حكايتها ليبني عليها. ماذا فعل كتاب الشيخ والتنوير؟ 

ذهب إلى جد (ميّ) شيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة، ليجعل منه الشعلة الأولى التي عرفت من خلالها البحرين التنوير، لم تكن البحرين قبل مجلسه وقبل منتداه إلا ظلامًا دامسًا لا تعرف شيئا من العالم الحديث، فبعث الله الشيخ إبراهيم بأنوار الحداثة.

السرديات الأسطورية

يتأسس هذا النوع من السرديات الأسطورية  على اصطناع أب مؤسس، فمن هو الأب المؤسس للشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة (1850-1933)؟ هنا تأتي حكاية الأب الضخم، والده حاكم البحرين السابق الشيخ محمد بن خليفة (فترة حكمه 1843-1890)، له حكاية مفصّلة وطويلة وأحتاج صبركم لتستمعوا إلى جزء منها. لماذا أقول هذه الحكاية مهمة؟ ليس لأنه شخصية مهمة، ولكن لأن كتاب (الشيخ والتنوير) وصفه بالأب الضخم، والأبّ الأسطوري، والأب الاستثنائي، هذه الأوصاف وردت في المقدمة وكذلك في متن الكتاب، إنه يعتبر هذا الأب الجهة المقدسة (التوصيف مني وليس من الكتاب) التي منحتنا هذا الابن، ومنحتنا كذلك هذه الحفيدة الاستثنائية  الشيخة مي. 

لذلك لا بدّ أن نعرف هذا الأب، لنعرف ابنه ولنعرف حفيدته، لنعرف كيف دخلت البحرين عصر الأنوار عبر هذه السلسلة التي يروي عنها (الشيخ والتنوير)، فمن هو؟ كيف يقدّمه كتاب الشيخ والتنوير؟  وكيف يقدّمه ناصر الخيري في كتابه (قلائد النحرين في تاريخ البحرين)؟

المثقف والأساطير

قلت ناصر الخيري، نعم، ناصر الخيري هو أحد المؤرخين والمثقفين الذين عاشوا في البحرين في نفس هذه الفترة، توفي في 1925 م، أرجو منكم أن تحفظوا هذا الاسم جيّدًا لأننا سنرجع له، في الحلقة الثانية، كما سنعتمد عليه في تعريفنا حقيقة الأب (الضخم).

دعوني ألفت انتباهكم إلى أهمية وظيفة المثقف في تفكيك السرديات، إن مهمته تقتضي أن يثير الشك حول الحكايات التي يكتبها التاريخ الرسمي حول الشخصيات الحاكمة، وهذا ما فعله مثقفو عصر الأنوار الأوربيون، وهذا ما فعله (ناصر الخيري). يفكك الخيري، ما ترويه ميّ عن جدها الأكبر، ويفكك ما بنى عليه كتاب (الشيخ والتنوير) حتى جعله أبا ضخماً، يحاكي رواية همنغواي العالمية (الشيخ والبحر).

علينا أن نعرف أوّلا أن كتاب ناصر الخيري الذي توفي في عام 1925م، ظل مفقودا لا نعرف أين انتهى به الأمر، وسأخبركم لاحقا بتفسيري لسرّ اختفائه. في 2003م ظهر لنا هذا الكتاب مطبوعا بخط مؤلفه، عبر الباحث السعودي عبدالرحمن بن عبدالله الشقير، عثر عليه في الكويت، وقام بنشره عبر جريدة ومطبعة الأيام بالبحرين، لم يلتفت أحد لخطورة ما فيه بسبب صعوبة قراءة النص المخطوط، وكذلك بسبب أن التاريخ في ذلك الوقت لم يتحول لميدان صراع كما هو اليوم.

مع الأسف كتاب ناصر الخيري غير مقروء، وغير مألوف عند القراء، وسأعترف لكم أني لم ألتفت لأهميته إلا في السنوات العشر الأخيرة، حين افتتحت صالون 14 فبراير في 2012م، وفيه عرضت تاريخ البحرين خلال القرن التاسع عشر والعشرين.

هناك باحث قام بتحقيق كتاب الخيري في 2013، عبر مركز حكومي وهو مركز البحرين للدراسات الإستراتيجية، لكن حين اكتشفت الرقابة خطورته، تمت مصادرة النسخ  من الأسواق في العام 2014م، وتم حل مجلس الإدارة. غياب هذا الكتاب وصعوبة الحصول عليه، أظن أنه سمح لكتاب (الشيخ والتنوير) أن يتجرأ ويقتطع جملة واحدة منه، خارج سياقها، يبدو فيها أنه يمتدح فيها جانبا من شخصية محمد بن خليفة، يقول فيها «ولكن كان بين جنبيه قلبا عظيما ونفس كبيرة طماحة إلى أسمى المراتب وأعلى المناصب».

دعونا نذهب للخيري ونقرأ نصه كاملا من غير اقتطاع، لنرى الصورة كاملة، وليس كما تحلم بها ميّ ويسردها كتاب (الشيخ والتنوير).

ترجمة الأب

تحت عنوان فرعي في الكتاب (ترجمة حياة الشيخ محمد بن خليفة) يقول بعد أن يقدم لنا معلومات أولية عن ولادته «حكم عليه الوسط الذي نشأ فيه أن ينشأ أميًا جاهلًا لا يعرف من شؤون هذا العالم غير ركوب الجياد، والتقلّب على ظهور الإبل، واقتناء العبيد والجواري بكثرة عظيمة، وتثقيف الطيور (صقارة) وإعدادها للصيد والقنص جريًا على سنن البدو في كل زمان ومكان»

 لاحظ كيف أن هذا النص بدأ يفكك (أُبوة التنوير) التي حبكها كتاب الشيخ والتنوير وكتاب مي (الأسطورة والتاريخ الموازي). إنه يعطينا حقيقة هذا الأب المؤسس، ناصر الخيري قبل ما يقرب أربعة وتسعين عامًا يحدثنا عن أميّة  هذا الأب الأسطوي، في حين أن كتاب الشيخ والتنوير في 2021م يقدم لنا صورة مغايرة تمامًا للشيخ محمد بن خليفة، يقدمه في صورة الفارس الأسطوري، فارس القرون الوسطى الذي احتز رأس خصمه وعلقه فوق رمح، إنه يسردها باحتفاء وفخر «نازل، ذات منازلة تذكّر بمعارك الفرسان في العصور الوسطى، شيخ قبيلة عربيّ معروف بجسارته، فصرعه برمحه واحتزّ رأسه ورفعه على الرّمح».

يؤكد كتاب الشيخ والتنوير أننا مدينون لهذا الأب، لأنه أودع روحه في أبنائه وفي أحفاده، بينما هنا مع كتاب (قلائد النحرين) نرى الحقيقة كاملة، نرى هذه الرؤية النقدية للتربية البدوية والدولة القبلية وسننها وأعرافها وتقاليدها، يحدثنا الخيري عن ذلك بروح نقدية تشعر بحرقة، فهو يعرف أن تاريخ هذه الجزيرة عرف الاستقرار الحضري والمدني ويليق بها حكم أكثر تحضرا.  لذلك يلح في نقد نظام البيئة البدوية، ونظام تربيتها، وما تنتجه من نظام حكم، فهو مهتم كمثقف بنظام الحكم، مهتم أن تكون هناك دولة مدنية ودولة عصرية، وهذا ما سنعرفه أكثر في الحلقة القادمة. 

الأب المغتصب

لنعد إلى الجملة المقتطعة من السياق «ولكن محمد بن خليفة كان بين جنبيه قلبًا عظيمًا ونفسًا كبيرة طماحة الى أسمى المراتب وأعلى» ما المراتب التي 

تطمح نفسه إليها؟ 

يجيبنا الخيري: «فلما ترعرع وبلغ سن العشرين حدثته نفسه بأنه أحق بحكم البحرين من عم أبيه الشيخ عبد الله بن أحمد وأولى منه بالقبض على صولجان حكومتها، لم يقف عند حد الأماني، بل أخذ فعلا يعمل على إبراز تلك الفكرة إلى حيّز الإجراء، ويسعى سعيًّا حثيثًا لاغتصاب الملك من المذكور».

حكم القبائل

يعبر الخيري في حديثه عن حكم القبائل بروح نقدية عن غياب الأمن وتحيّن الفرص بينهم لاغتصاب الحكم والانقضاض على بعضهم، لذلك هو يقدم سيرة محمد بن خليفة نموذجا لهذه التربية والروح التي تتحين الفرص للاغتصاب، يعني هو طمع في الحكم، ليغتصبه من أبناء عمه آل عبد الله بن خليفة، طبعًا حكم آل عبد الله قد ســـــحق مـن 

التاريخ بسبب هذا الاغتصاب «لم يقف عند هذا الحدّ، حد الأماني، بل كان يعمل على إبراز تلك الفكرة إلى حيّز الإجراء، ويسعى سعيًّا حثيثًا لاغتصاب الملك من المذكور» كلمة اغتصاب كررها كثيرًا ناصر الخيري وهو يكرّرها بمرارة لأن ناصر يقول لنا بأن حكم الفوضى وحكم الاغتصاب وحكم البداوة وحكم القبيلة، أدّى إلى خراب البحرين وفي كتابه وثّق لنا هذا الخراب.

حين نذهب إلى كتاب الشيخ والتنوير نجد الجانب الأسطوري، نجد هذا الأب الاستثنائي، نجد الأبوّة الفائضة، لكننا لا نجد هذا التاريخ، لا نجد تأثير البداوة في حكم البحرين، البحرين لم تعرف قبل آل خليفة حكما بدويًّا، المجتمع المحلي مستقر في أرضه، كان يعتمد الزراعة، والبحر وصيد اللؤلؤ والأسماك، لم يكن مجتمعه متنقلًّا مترحلًا ولكنّ البداوة لما جاءت إليه جاءت بكلِّ ما فيها من نهبٍ وسرقةٍ وفوضى.

الوارث والموروث

نعود إلى كتاب قلائد النحرين وسيرة الأب «فحكم البلاد وتسلط على العباد، وأرغم عم أبيه الشيخ عبد الله بن أحمد على التنازل له مكرهًا له عن سدّة الملك، وحرمان أولاده العديدين منها بعد حروب شابت لها الولدان، على أن اغتصابه للملك من عم أبيه وأولاده لم يكن ليؤثر على حالة البلاد العمومية بشيء ما لوجود التشابه بين أخلاق الوارث والموروث، من حيث العلم والمعرفة والمقاصد والغايات، فلم يظهر في البلاد في أيامه أي أثرٍ من آثار الحضارة وألوان العمران، كما لم يظهر شيء من ذلك في أيّام أسلافه العديدين».

لاحظوا هنا النقد لهذه الأبوّة، أبوّة غير أسطورية وغير ممجّدة، هذا المثقف لا يسرد لنا أبوّة الشيخ محمد بن خليفة وكأنهّا نازلة من سلالةٍ عريقة أو نازلة من السماء. يقول لنا هذا ما تورثه شجرة البداوة في الحكم (لوجود التشابه بين أخلاق الوارث والموروث).

وفي الحقيقة، إنّ التنوير في أوروبا، كان هدفه نقد أنظمة الحكم، هذا الحاكم الذي يقول إنه يحكم باسم الاله أو هو الوحيد المتفرد بالسلطة، أو أن الناس لا دخل لها في السلطة، التنوير جاء ليفكّك هذه الحقيقة أو التي أرادوا أن يقولوا بأنها حقيقة، جاء ليفكّك هذه السلطة، يفكّك مبناها الشرعي، يفكّك مبناها الثقافي، يفكّك مبناها السياسي، فهذا ما فعله (شيوخ) التنوير في أوروبا، ولكن لا نجد

شــــيئًا من ذلك فعله شيخ التنوير في البحرين، علـى العكس من ذلك، هو كأسلافه استمرّ يدافع عننظام هذا الحكم، حكم القبيلة والبداوة، وهذا ما سنعرفه في حلقة خاصّة عن موقف شيخ التنوير، الشيخ إبراهيم من حدث 1923م.  

الوارث والموروث

ماذا ورّث الوالد الحاكم محمد بن خليفة، بعد وفاته في العام 1890م؟ 

يصوغ كتاب الشيخ والتنوير لنا جوابا فخماً، يبنيه على بيت المتني في رثاء جدته، يقول فيه:

ولَوْ لمْ تَكُوني بِنْتَ أكْرَمِ والِدٍ

                      لَكانَ أباكِ الضّخْمَ كونُكِ لي أُمّا

على عادة المتنبي في الفخر بنفسه، يقول  لجدته «لو لم يكن أبوك أكرم والد لكانت ولادتك إياي بمنزلة أب عظيم تنسبين إليه». دبّج كتاب (الشيخ والتنوير) صفحات كثيرة، ليشرح لنا العلاقة الأسطورية بين الحاكم الأميّ البدويّ وابنه، ولم يجد مادة تسعفه غير صفة (الضخم) التي كررها مرات كثيرة وهو يصوغ أسئلة إشكالية بعد وفاة الأب  في العام 1890م، تفوق هذه الأسئلة طاقة الشيخ وطاقة (الضخم)، من نوع : هل يمكن أن تكون وفاة الأب علامة انقطاع؟ هل كان الأب بحضوره الأسطوريّ الضخم يغطّي على حضور الابن المتواضع؟

يستعرض لنا كتاب الشيخ والتنوير قصيدة رثاء الابن للأب، ويصفها «هذه المرثية كانت قصيدة بليغة ومحكمة، لكن مضامينها بالغة الدلالة على ما نحن بصدده هنا. يطالب الشيخ إبراهيم، في هذه المرثية، باسترجاع مجد الأب المضيّع، وكان يخاطب إخوانه:

ألا قل يا بني المرحوم هبّوا    

                         لمجدكم فقد طاب المصاع

أبعـد أبـيــكـم لـكم ســرور     

                          بحالتكم ومجدكم مضاع

تعبّر هذه المرثية، بجلاء، عن حالة اندماج الابن في أبيه الضّخم إلى حدّ الفناء فيه». 

يمسيك بالخير

ماذا يقول ناصر الخيري عن هذا الذي يسميه كتاب الشيخ والتنوير (مجد الأب) و(تراث الأب) و (حضور الأب الطاغي)؟

يقول ناصر الخيري: «حكم الشيخ محمد[محمد بن خليفة (1842-1867)] البحرين 27 عاماً فلم يترك له فيها أثراً خيرياً، يذكر به، فلا أسس مدرسة ولا أنشأ مستشفى، ولا شاد ملجأ، ولا حفر نهراً، ولا غرس شجراً، ولا شكّل مجلساً ولا نظم دائرةً، ولا سن قانوناً ولا أوجد نظاماً، ولا اهتم بأحكامٍ ولا رقى تجارة، ولا أحيا زراعة».

قائمة المنفيات هذه، يعبّر عنها كتاب (الشيخ والتنوير) بأنّها أمجاد ويريد استرجاعها، والغريب هنا أن الكتاب يعتبر أن ناصر الخيري تلميذ لشيخ التنوير، وأنا أقول إن هذا غير صحيح، لا بالمعنى الثقافي ولا بالمعنى الحقيقي أيضًا، لناصر الخيري خطاب مختلف تمامًا عن خطاب (شيخ التنوير) وقد رأينا كيف أنهما يصدران عن رؤيتين مختلفتين في النظر لتراث الحكم القبلي.

ما يعبر عنه بأنه حق ومجد يجب أن يُستعاد، يقول ناصر عنه اغتصاب وفوضى «قل إنه لم يستلذ يوماً بالحكم الذي سعى لاغتصابه» يعيد تذكيرنا بفكرة الاغتصاب، وهو لا يُذكّرنا لكي يشنع عليه، بل يقول ذلك بألم، لأنه يرى حكم البداوة، وحكم القبيلة، الذي يستعين بالبدو والعربان في شنّ الغارات لا يوفّر استقرارًا. لذلك هو في العام 1923م، انحاز إلى التحوّل إلى نظام الدولة المركزية الحديثة وهذا ما سنعرفه لاحقًا في الحلقة القادمة.

فقدان أمنية

دعونا نواصل رواية الخيري، يقول «فلم تكن أيامه إلا كأيام أسلافه، سلسلة حروب متواصلة، وفقدان أمنية [الأمن] لا نهاية لها. وما سبب ذلك إلا أن الشيخ كان أميّاً ساذجاً لا يعرف من معنى الحكم إلا مسك السيف وشد الخنجر والاتكاء على المسند والأمر بالقهوة، ونهب مال هذا ومصادرة أموال ذاك، وبذله لهذا البدوي (شرهة) وإعطائه لذلك الحضري (عادة) وقول هذه له (صبحك بالخير) وقول الآخر (مسيك بالخير). وهذه السجية لم يتفرد بها الشيخ محمد بن خليفة فقط، بل هي سجايا جميع أمراء عرب الجزيرة، لا نستثني منه أحداً وإلا فعلام ترى بلادهم أبداً فوضى خاربة لا أثر فيها للنظام والإصلاح، ولا تجد المدنية والراحة إليها سبيلا».

هذا الكلام في غاية الأهمية، هذا كلام نقدي، هذا ليس كلامًا للتشفّي، وليــــــس بغرض أن نقلّل من

أهمية شخص أو أن نشنّ حربًا على شخص، هذا كلام يكتبه ناقد حصيف وشخص استثنائي في ذلك الوقت. لذلك غاب هذا الكتاب عنّا فوق الثمانين عاما، لم يستطع أن ينشره في وقته، وخاف عليه وأعطاه لصديقه، وانتقل بعدها إلى الكويت ودخل دائرة النسيان، والسبب ليس كما يوهمنا بعض المثقفين بأن هذا الكتاب قد سرّب وغيّب لأن الاستعمار الانكليزي كان من الممكن أن يصادره، لا، ليس صحيحا ذلك، ليس فيه شيء يخاف منه الاستعمار الانكليزي، بل فيه شيء ما يخاف منه، الحكم البدوي، حكم القبيلة، هذا النوع من الأنظمة التي عارضها ناصر الخيري في كتابه، لذلك تجد المرارة في كلماته وهو يتحدث عن أوضاع هذا الحكم.

أين هو هذا الأب الضخم؟ أين هذا التراث التنويري؟ أين هي هذه الأمجاد التي يحدّثنا عنها شيخ التنوير؟ 

أبوة مضخمة

(أبوة التنوير الضخمة) أسطورة قائمة على التزييف لا الخيال الملهم الجميل، نشأت من حلم وقامت على سردية وضعتها الابنة الحفيدة، وجاء المثقف ليبني عليها، في حين أن عمل المثقف لا يبني على حلم، ولا يبني على أسطورة، ولا يبني على أمجاد من يحكمون، إنّما عمل المثقف هو عكس ذلك تمامًا. لكن كتاب الشيخ والتنوير لم يقم بذلك، إنّما قام بمواصلة سرد الحكاية وسرد الحلم وإعطائه حدودًا تفوق التاريخ،قل هو السرد الضخم، فهو ضخم في السردية التي صنعها المثقف له.

في الحلقة القادمة، سأتحدّث عن جانبٍ آخر، عن ناصر الخيري كمثقف، ماذا فعل ناصر الخيري كمثقف، وما موقفه من حدث 1923م؟ وكيف قدّمه كتاب الشيخ والتنوير؟ وما موقف شيخ التنوير من 1923 وتحديث الدولة؟

 

شكرًا لكم.

 

في رثاء الحاج محمد علي المزعل..الحركة والجسارة والدليل

واحدة من الطرائف التي صارت تراثا عزيزا يُتداول في بيت المزعل، أن الحاج محمد علي المزعل ذات يوم وبينما كان يتحدث مع شخص في أحد مجالس البحرين، التحق بهم شخص ثالث صديق للشخص الأول لكن ليس بينه وبين الحاج محمد علي معرفة سابقة، فأراد الأول تعريف الحاج لصاحبه قائلا هذا الحاج محمد علي شقيق الحاجيّةّ الملايّة بنت مزعل، وقبل أن يرحب به الصديق الجديد، غضب الحاج وأخذته الذّكوريّة الشّرقيّة، وقال: صارخاً: هي أختي! تُعرّف بي! لا أُعرف بها.

في بحثي عن سيرة الحاجة سعدة بنت مزعل، افتتح الابن الأكبر لأخيها (علي المزعل) حديثه عن عمته بالجملة التالية “قائمة بذاتها”. وجدت في الشخصيتين تفردا حقيقيا وقيمومة ذاتية مستقلة في سيرة كل واحد منهما. رحت أُعرّف كلا منهما بالآخر، وأفهم سيرة الأخ والأخت بالإحالة على بعضهما، وفي داخلي أكتم ضحكة ساخرة، وأنا أتخيل الحاج محمد علي غاضبا لشأنيته، والحاجة سعدة تضحك وهي تتذكر طفولته وربما حملها إياه وهي تكبره بما لا يقل عن خمسة عشر عاما.

بعد أن انتهيت من سيرة الحاجية سعدة بنت مزعل، سألتني أم جعفر، صديقة بنت الحاج محمد علي المزعل، متى ستبدأ سيرة أبي؟ قلت لها ضاحكا: هو يُعرف بها، وسيُعرف بسيرتها، فلا داعي أن نكتبها مرتين.

رحل اليوم الحاج محمد علي، لكنه ترك فوق مجاميع مخطوطات أخته النادرة خط يده، وهو يسجل عليها وقفياتها:”هذا الكتاب أوقفته سعدة يوسف مزعل إلى مأتمها الذي في بيتها  وهو مأتم الحسين”. ستُعرف مجاميع هذه المخطوطات به كما سيعرف هو بها. بل أنا اليوم أجد أقرب طريق للتعريف به من جهتي، بأنه الأخ الأصغر للحاجة سعدة بنت مزعل، كما أني كنت أعرفها وأنا أكتب سيرتها بأنها أخت الحاج محمد علي المزعل.

التقيت بالحاج محمد علي في 2007 في مجلسه العامر، كنت أعد ملفا لملحق بروفايل جريدة الوقت، خرجت من الجلسة بصفحة كاملة نشرتها في الجريدة، صارت بعد ذلك معلقة في برواز جميل بالمجلس احتفاء بالمادة التي صارت نواة لسيرة تُعرّف لأول مرة بشكل مكتوب ومكثف بشخصية الحاج.

لفتتي شخصيته القوية وأريحيته التي تسمح له أن يبكي أحيانا من غير سبب سوى أنه تذكر لحظة من لحظات نعم الله عليه وسعة الرزق التي أعطاها له، أحببت فيه هذه الأريحية ولمستها بقوة وأنا أتجول معه على الرغم من كبر سنه في مارس 2014 في لبنان من شمالها لجنوبها برفقة النائب السابق محمد المزعل، ابن أخيه الأكبر الحاج يعقوب وزوج ابنته الذي تربى على يديه حتى فاضت الأبوة أكثر من العمومة فيه. كان يوقفنا لحظات وهو يتطلع إلى السماء ويخاطب الله بامتنان الشاكر، الحنو البذخ الذي كان يظهره ابن الأخ لعمه، حنو أبوة فائضة بالحب والامتنان، ولحظتها ما تمكنت أن أفهمها إلا حين عملت على سيرة الأخت الحاجية سعدة، وعرفت كيف أصر الحاج محمد علي على استرجاع أمانة أخيه بعد موته وأصر على إدخاله مدرسة سترة، وقال جملته التي تنم عن بعد نظره “إذا ظل في (الجزيرة) لن يكون إلاّ نخلاويا أو بحّاراً”.

 في لقائي الأول بالحاج محمد علي، كان يحدثني عن عمله في بابكو وكيف تعلم الحسابات وظل يتمرس فيها مدة 14 عاماً وحين خرج منها في 1964 لم يخرج من الحسابات، التحق بـ(ستاندرد تشارترد بنك)، قال لي تعلمت من تجربة الحسابات حكمتين، الأولى “كل حركة بركة” والثانية “فاز باللذات من كان جسورا”.

التحدي ليس أن تتعلم الحكمة، بل أن تحيلها سلوكاً وفعلا ومهارة تتصرف بها، وهذا ما فعله، حين حول مهنة (الدلال) إلى حركة دائمة يجوب فيها البحرين منقبا عن الأراضي ليشتري ويبيع فيها بجسارة استثنائية، حتى صار الجميع يحتكمون إليه في تحريك عجل السوق وتحديد لحظة: بع أو لا تبع.

جسارته في البيع والشراء امتداد لجسارته في تكوين رأيه وموقفه، وهذا لفتني في شخصيته، كنت أتساءل كيف لرجل قروي مثله شديد التدين ومحاط برجال الدين وشديد الاحترام والتعلق بهم، وزوج لابنة أكبر مرجعية دينية بالبحرين (شيخ إبراهيم المبارك) كيف له أن يصبح جسورا في التعامل معهم وتحدي مسلماتهم واختراق سكونهم، يحدوثنه عن الزهد فيحدثهم عن تجارة خديجة، يحذرونه من تعليم البنات، فيفتتح مدرسة، يحدثونه باسم الشرع ويقدمون له عمائمهم ليسكتوه، فيطالبهم بالدليل ويقول لهم لست بحاجة للعمامة بقدر حاجتي لدليل يُريني الطريق الصحيح.

عُرف أبناء الحاج يوسف المزعل بالحركة بصدق والجسارة بدين، بالحركة جالت الحاجية بنت مزعل مجالس البحرين من أقصاها لأقصاها، وبجسارة صوتها وطورها تركت بصمتها الخاصة في مآتم البحرين. 

بسيارته (المرسيدس) السبعينية التي ظلت ترافقه إلى عهد قريب، لا أحد في محيطه الستراوي يملك مثلها حينها، جال الحاج محمد علي  البحرين، السيارة منحته سرعة في الحركة وجسارة في شق طرق لم يطرقها أحد قبله.

لم يكن الهاتف قد انتشر بعد، فكانت نشرة أسعار السوق العقاري يذيعها بسيارته، مقابل فنجان قهوة و10 دنانير. حين طلب أحد التجار من (المزعل) أن يوقف السوق، كان يوقفه، لم يكن له منافس في الدلالة، حين احتج أحد الدلالين الكبار على تفضيل التاجر له، قال له: المزعل صادق وأنت كاذب. ظل المزعل يحكم تدينه في حركته في السوق، فكسب ثقة الكبار.

انفتحت حركة الأراضي، وصار (المزعل) يبيع بسمعته، ويكسب بسمعته، ويدلل بخبرته، صار يطلبه الكبار، ويمنحونه ثقة التقييم ويعترفون له بخبرة لحظة البيع والشراء. كانت تقديراته، يختصرها في (بع) أو (لا تبع)، ولم تخذله يوماً أمام الناس الذين كانوا يجدون فيه جهة تقدير الأرض والعقار.

كان الكبار يقرؤون المستقبل بتقديرات (المزعل) وخبرته في الحركة، لكن الصغار الفقراء لم يكونوا يقرؤون ولا يرون ولا يحلمون بمستقبل. مازال (المزعل) بحسه الديني الحريص على مصلحة من يتوسطه في الدلالة يتذكر بمرارة بالغة القسوة، كيف فرط هؤلاء بمستقبل أراضيهم وأبنائهم، كما فعل أحدهم بدولابه في سار، باعه، ولم يسمع اعتراضاته، ولم يصغ إلى تقدير (لا تبع). فباع، والمفارقة التي أبكت قلب الدلال الجسور الذي صار فيما بعد مقاولا كبيراً يبني الفلل الفخمة، أن مناقصة بناء الدولاب وقعت عليه، وكان أحد العمال قد جاءه يوماً يستحث ذاكرته، فلم يذكره، فقال له: أنا ابن ذاك الذي باع هذا الدولاب يوم قلت له (لا تبع)!!

رحم الله الحاج محمد علي المزعل، ورحم الله شقيقته الحاجة سعدة بنت يوسف، في حركة كل منهما جزء من تاريخنا الاجتماعي وأحداثه، وفي جسارتهما جزء من أسرار التغيير الاجتماعي وتحولاته، لذلك لا عجب أن نُعْرَف بهما معا.