كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

سيرة الذات والجماعة في حوار .. تعاقبات العمى والبصيرة

قبل أن تقرأ ..

هذا الحوار ..

يمثل تجربة امرأة (نرجس طريف) لم تتجاوز بعد الثلاثين من عمرها، استطاعت بشجاعتها أن تتغلب على كل المحظورات الاجتماعية؛ لتُسمع صوتها للعالم؛ ولتكن لديك معرفة أوسع بالموضوع عليك أن تتجول في موقع صاحبة التجربة على العنوان المذيل بالصفحة.

المحاور ..

كاتب لم يتجاوز العشرينيات من عمره، يختلف مع محاورته في رؤيتها وتوجهها وحتى في شجاعتها، فهو لا يملك حدا أدنى من الشجاعة ليصرح باسمه إليكم.

مكان و زمان الحوار ..

أجري هذا الحوار عن طريق البريد الإلكتروني، واستغرق ثلاثة أسابيع.

صياغة الحوار ..

لقد تولى المحاور صياغة الأسئلة، وتولت صاحبة التجربة صياغة إجاباتها، إلا أن الأمر لم يخلُ من بعض التعديلات اللغوية القليلة من قبل المحاور  وقد تم عرض الحوار حسب محاور الموضوعات، لا حسب الترتيب الزمني الذي تم فيه الحوار.

هدف الحوار ..

أن نتعلم كيف يتم التلاعب بالعقول ؛ كيلا يُتلاعَب بعقولنا .

المحاور

1999م

سيرة الذات والجماعة في حوار ..

تعاقبات العمى والبصيرة

الأخت نرجس طريف ..

لقد اطلعت على صفحتك وقرأت مقالاتك وقصصك، واستوحيت من خطابها أشياء كثيرة، ربما يحق لي أن أزعم أنني قد قبضت قضيتها الكبرى، وإن لم أكن إلى الآن قد استطعت تسمية مشخصاتها الواقعية أو ما يمكن أن أسميه مراجعها المادية.

ورغبة مني في اكتشاف هذه المشخصات أو المراجع التي يحيل إليها خطابك، تأتي هذه الأسئلة التي سأرسلها لك تباعاً، إذا أعلنت موافقتك.

سأنطلق في أسئلتي من منطوق خطابك، بما يحمله من إشارات وإيحاءات لغوية، ولك أن توسعي من أفق استقبالي لإشاراتك بما تدلين به من إجابات.

أرجو أن تعتبري هذه المقدمة طلبا ينتظر رداً يحدد مساحة حرية السؤال.

أرحب بك و بأسئلتك.. وأمنحك هنا حرية التنقل في أي عمق يحتاجه البحث.. وأعدك بان أكون حذرة من الوقوع في مفارقة واضحة وذلك عندما أعطي لصفحتي اسم صفحة الحقيقة وأدعو المثقفين والجادين بالتحري عنها بين السطور ثم أتردد في كشف أي أمر يساهم في جعل القضية جلية.. سأدع لك المجال كاملا لكي تكشف لي أولا ما استقرأته من خلال صفحتي وسأنطلق من خلال استقرائك في توضيح الرموز الخفية..

1- يبدو من مقالك (نواقيس الخطر) أنك تُحذِّرين من تنظيم سري كنت منخرطة فيه، و يبدو أنك الآن قد خرجت منه بعد أن اكتشفت زيفه. هل ما توصلت له صحيح أم لا؟

نعم تحليلك يدل على أنك على الطريق الصحيح..

2- ويبدو أن هذا التنظيم يستند إلى مبادئ دينية، تؤول من قبل زعامة هرمية تمارس هيمنة روحية وقيادية .

نعم .. أعجب كيف تمكنت من الوصول إلى ذلك بدقة..

قد يدل هذا على اطلاعك الخاص بمثل أنشطة هذه التنظيمات..

فتعبيرك زعامة هرمية وهيمنة روحية تعبير دقيق يعكس سر خطورة التنظيم في حالة انحرافه.. وهذا ما أشدد عليه في مقالاتي..

3- إذا لم أخطئ أظن أنك تتحدثين عن ما عـرف في البحرين بـ (السفارة) هذا التنظيم الذي يقوده (عبد الوهاب البصري) .

أظن أنك بهذا الحدس قد استحققت فعلا الجائزة التي أعلنت عنها في صفحتي!!..  لم أتوقع أن هناك من يصل إلى تحديد التنظيم بدقة وبهذه السرعة من غير أعضاء التنظيم أو المحيطين بي . نعم هذا هو التنظيم المعنى رغم تحفظاتي على الاسم والمفهوم المترسخ في ذهنك عن هذا التنظيم..

4- هل يمكن أن تعتبريني باحثا انثروبولوجيا – في جانب من أسئلتي – يدرس  – من خلال تجربتك – هذا التنظيم السري بوصفه مجموعة مغلقة متجانسة؟

أرحب بهذه الدراسة .. وقد أعطيتني حتى الآن دلالات واضحة في مقدرتك على سبر أغوار مثل  هذه القضايا ..وأرى أن مثل هذه الدراسة  لهذا التنظيم بالذات  -الذي اعتبره تجربة غنية وفريدة على كل المستويات-  يمكن أن تثري المعرفة في جوانب عميقة تخدم المجتمع عن طريق الوصول إلى فهم أوسع لذاته وتركيباته وبالتالي كشف سر التخلف والانحراف الذي تعيق مسيرته..

إذن سأبدأ بطرح أسئلتي ..

5- ربما أتفهم سبب تحفظك على الاسم، لكن ما سبب تحفظك على المفهوم، إذا لم أخطئ أظن أن السبب يعود إلى أن المعرفة العامة التي أعطت لمفهوم هذا التنظيم  هذا الاسم (السفارة) لم تكن دقيقه لأنها كانت تراه من الخارج وفق رؤيتها. هلا أوضحتِ رؤيتك المنبثقة من الداخل؟

لا شك أن أي مفهوم ينبثق من خلفية معرفية، ونظراً لأن التنظيم في أهدافه واتجاهاته وأساليبه كان محاطاً بالسرية فلا يمكن التعويل على النظرات الخارجية التي تفتقر الرؤية الكاملة.. وحتى أشرح نقطة الخلاف احتاج إلى الرجوع إلى خلفية هامة في العقيدة الإسلامية والمذهب الشيعي على الخصوص.. لا شك أنك تعرف أن قضية “الرجل المخلص” هي عقيدة راسخة ليس فقط عند المسلمين بل هي عقيدة ثابتة في معظم الأديان  وما انتظار المسيح أو عزير أو روح بوذا وغيره إلا اختلاف في الشكل لا المضمون..

وقد تميز المذهب الشيعي  في هذا المجال بعقيدته الفريدة بالإمامة.. وهذه العقيدة تستند إلى قواعد معرفية خاصة ناشئة من الإيمان باللطف الإلهي في تمكين اتصال البشر بالله عن طريق الإنسان الكامل “الذي يمثله المعصوم” وفي إقامة الحجة البالغة على الخلق عن طريق وجود القدوة الكاملة التي تهدي الطالبين إلى الدين الحق وتتمثل في الأئمة المعصومين الذين خلفوا الرسول صلى الله عليه وآله تباعاً من الإمام علي وحتى الإمام العسكري.. ولا شك أن أكبر الصدمات التي واجهت هذه العقيدة تتمثل في غيبة الإمام الثاني عشر “المهدي”..إذ بغيبته كان الانقطاع عن هذا الاتصال المباشر الذي به تتضح فكرة اللطف أو الهداية وإقامة الحجة.. ومن هذه النقطة بدأت بوادر الاختلاف في تفسير سر الغيبة و تأويل فكرة اللطف والحجة والإرشاد.. و نشأت على أثرها اجتهادات فكرية في إمكانية الاستفادة من وجوده رغم هذه الغيبة إما عن طريق الاتصال المباشر مع أشخاص معينين أو بالاتصال به روحيا عن طريق الإيمان بوجوده وانتظاره والإعداد لظهوره..

وعند التمعن في الخلاف حول هذه النقطة يمكنك أن تدرك أنه ليس مجرد خلاف فكري بل انه يمتد ليشمل جوانب فقهية وسياسية واجتماعية.. فالاتصال المباشر مع أحد مصادر التشريع -عند الشيعة- يحدد دور الفقهاء والفقه، وبالتالي يحكم على طبيعة  المعاملات المالية والاجتماعية والسياسية..  و لتتخيل حساسية الموضوع يمكنك أن تراه من زاوية أن كل ما يقبل النقد والاختلاف والنزاع بين معتنقي المذهب يصير لاغيا بمجرد إثبات هذا الأمر -أي الاتصال بالإمام- لأي شخص.. التأمل في هذه النقطة يوضح مسألتين هامتين أولاهما الضجة الكبيرة الذي يمكن أن يحدثها مثل هذا الادعاء بين فئة الفقهاء والمتضررين -لو صح ذلك-.. والثاني خطورة إدعاء هذا الأمر من غير أهله  إذ أن الضرر الواقع على المجتمع والدين مما لا يمكن حصره..

إذن فوجود إمام غائب والغيبيات المتعلقة به واحتمالية الاتصال به ليست مسألة شائكة في الفكر الديني -والمذهبي-الذي لا تصدمه عادة أعقد مسائل الإيمان بالغيب.. إنها أعقد من مجرد خلاف عقائدي أو فكر غريب و شاذ في المجتمع.. فهي خليط متجانس بين تضارب في المصالح والسياسات التنظيمية والمرجعية والفقهية بالإضافة لما يمثله من تحديات فكرية جديدة..

إن أسهل ما يمكن فعله في هذه الحالات هو نسب القضية إلى مفهوم غامض كاسم السفارة.. الذي لم يعبر حقيقة عن أي شيء عدا كونه مجرد اسم لحقبة ماضية –قد خاضها الشيعة من قبل في فترة ما يسمى بالغيبة الصغرى- والتي كان الإمام يقود فيها شيعته عن طريق سفراء أربعة معينين.. ولم يكن حينها للفقهاء أي دور اجتهادي أو عملي .. لقد انتهت حقبة السفارة المعروفة مع رحيل السفير الرابع وقد ذكر في وصيته عن الإمام المهدي أن على الناس أن يقلدوا العلماء في شئون دينهم في فترة الغيبة الكبرى -أي الفترة التي تلت مرحلة السفارة أو الغيبة الصغرى وانقطع الاتصال المعين بشخص السفير- .. وهناك أيضا اجتهادات فكرية مطروحة تناقش تحديد فترة انتهاء الغيبة الكبرى أي هل تنتهي بالظهور الأكبر (خروج الإمام) أو بشرائط الظهور الأصغر (الإعداد لخروجه) التي يرى الكثير أنها قد بدأت فعليا منذ فترة.. إذن هناك محوران في الرد -من الداخل- على اسم السفارة.. أولا أنه يعبر عن فترة معينة ومرهون بظروف موضوعية لا تتفق مع الواقع الحالي.. وثانيا إنه حتى لو جادلنا في أن المضمون هو نفسه فهناك  الاختلاف في انتفاء إمكانية “هذا المضمون” بوجود التفاسير الخاصة بالظهور الأصغر أو التهيئة والتمهيد للظهور..

فالاسم إذن مرفوض لأنه لا يعبر عن حقيقة الوضع القائم.. والمفهوم لارتباط دلالته بهذا الاسم، كما أنه لا يتناول القضية بجوانبها المعقدة السالفة الذكر.. ويسعى لتبسيطها إلى درجة مسخ حقيقة الخلاف وخطورته..

6- وضحي أكثر فكرة نشأة التنظيم؟ و ما التسمية التي يراها أقرب إلى مشروعه؟ و ما علاقة ذلك بفكرة المصالح التي تحدثت عنها؟

التنظيم بالمفهوم السابق قائم على فكرة التمهيد والتهيئة لظهور الإمام المهدي وهو صورة أخرى من صور الإعداد كالتي نجدها في الدولة الإسلامية في إيران .. وطبعاً نظراً لعدم وجود رموز معروفة بالعلم والثقة كالإمام الخميني في البحرين وتشتت الشيعة هنا وتفرقهم في تنظيمات دينية مختلفة .فالظروف العملية تحتم صورة مختلفة عملياً في التمهيد.. لذا كانت الدعوة من عبدالوهاب البصري قائمة على فكرة إنه مادام الإمام هو المرشد المباشر للتنظيم فإن شروط الصلاحية المطلوبة في الولي الفقيه غير واردة هنا.. فهو مجرد “باب للمولى” وهو الاسم المتداول لعبد الوهاب في داخل التنظيم.. وكونه باباً لا يعطيه إلا صلاحية نقل الرسائل التنظيمية والإرشادية والفقهية من الإمام إلى الأتباع..والعمل على نشر هذه الدعوة بين أكبر عدد ممكن من الأتباع..

الدعوة انطلقت في بدايتها من السجن حيث كان عبد الوهاب والجماعة الأوائل في التنظيم مسجونين لأسباب سياسية.. ومن هناك بدأ عبد الوهاب ينشر فكرة التمهيد والدعوة للالتفاف حول الإمام عن طريقه.. وكان يدعم دعوته شيئان رئيسيان -غير الفكر والمبدأ الذي كما قلت لا يخالف المذهب في واقعه- وهما أولاً الغيبيات التي كان يطلعهم عليها من خلال الرؤى (الأحلام الصادقة) أو المكاشفات وثانياً النصوص التي كانت بليغة ومتقنة من شخص عرف عنه ضحالة الفكر وفقر مقاييس العلم والأدب.. ومن هناك تسربت الدعوة إلى خارج أسوار السجن وأخذ الأتباع يبشرون “بأمر المولى” وهو اسم التنظيم الرسمي وينتظرون خروج عبد الوهاب وجماعته من السجن لتأييده.. وهذه الفترة كانت أصعب فترة مرت على أعضاء التنظيم.. فقد تداخلت الأهواء والمصالح الخاصة والتعصب للفكر في ردة فعل عنيفة وعشوائية ضد كل من يشتبه أنه ينتمي للتنظيم.. هناك الكثير ممن انسحب مخافة هذا الهجوم القاسي من المجتمع ورجال الدين.. وهناك من رسخت أقدامه بشدة بعد هذه المواجهات ولكن الشيء المؤكد أن التعامل بتلك الطريقة قد عززت على المدى البعيد قواعد التنظيم ورسخته.. فالتشويه للحقائق والكذب والإشاعات كانت الوسيلة الأقرب من متناول عامة الناس في محاربة هذا التنظيم وقد كان لهذا الأسلوب ردة فعل عكسية لكل من يتضح له فيما بعد أن هذه الحرب المعلنة لا تخلو من المصلحة الخاصة لبعض رجال الدين ولا تنفك عن أساليب الكذب والافتراء التي قصدوا بها إبعاد الناس عن الانخراط في صفوف المنضمين- وقد كان ذلك حتى انجلت الغبرة عن المعمعة!!-..

المهم أن فترة الحصار للتنظيم قد بدأت تقل تدريجيا مع مرور الزمن ومع انشغال الناس بقضايا سياسية أخرى..وكانت هذه الفترة هي الفترة الذهبية للتنظيم إذ رسخ فيها أقدامه وركز على الانتشار المقنن بين صفوف الطبقات الفكرية العالية نسبيا من المتدينين..والذين يتميزون عادة بدرجة من الانفتاح الفكري الذي تؤهلهم لقبول هذا الأمر غير المقبول اجتماعيا.. واتسع التنظيم ليشمل أسراً كبيرة لا مجرد أفراد.. وتفرغ أعضاؤه لعمل المشاريع التي تقويه وتموله ذاتيا..

طبعاً من خلال صفحتي يمكنك أن تشهد هذه المرحلة الابتدائية لنشأة التنظيم -من خلال وجهة نظر المنتمين للتنظيم- في قصة “منارة العلم”..التي تحكي في بدايتها كيف أن رجلاً مغموراً عرف بفشله وفجوره يختار من قبل الحكيم “أي الإمام” ليمثله وكانت الرسالة التي أراد الحكيم أن يوصلها للناس من خلاله هي إن “الآثم حضيض الذنوب” -وهي مقتطفة من رسالة مشهورة جاء بها عبد الوهاب إلى الناس كدعوة لأمر الإمام- يمكن أن تكون له عودة إلى الحق والنور بقبول أمر المولى والخضوع له… طبعا للقصة تكملة سأتعرض لها مع أسئلتك القادمة إن سمحت الفرصة..

7- بعيدا عن البعد التاريخي أود أن توضحي الفــــرق بين (باب المولى) و(السفير) من حيث الوظيفة والمكانة؟

من الصعوبة فصل المفهومين عن بعدهما التاريخي .. فالسفير وباب المولى تتعلق وظيفتهما بالتمهيد لمرحلة جديدة من مراحل مسيرة الإمام. فالشيعة كانت تتصل مباشرة بأئمتها طوال فترة الإمامة وحتى عصر الإمام المهدي.. وغيبة الإمام هي أول حادثة من نوعها في تاريخ التشيع.. لذا كانت مرحلة السفارة تمثل مرحلة تمهيدية لهذه الغيبة.. ونظرا لأن النقلة كانت من الاتصال المباشر إلى الاتصال بواسطة السفراء فقد كانت وظيفة السفير ومكانته عند الشيعة تشبه مكانة ودور الإمام نفسه –الذي تعود الشيعة الالتقاء بآبائه وعرفوا مكانتهم من قبل-.. السفير كان يمثل الإمام تمثيلا مطلقا بحيث إن كل ما يصدر عنه يعد صادراً عن الإمام نفسه.. ولما كان الناس قد تعودوا اللجوء في جميع قضاياهم للإمام فقد كان السفير هو البديل الذي كان الناس يلجئون إليه في القضايا الدينية والاجتماعية والمالية.. وكان السفير يأتيهم دوماً بالإجابة عن طريق اتصاله بالإمام.. في الطرف الآخر فإن باب المولى أو “النائب”  –وهو اسم آخر لنفس المفهوم- هي وظيفة من أجل التمهيد لظهور الإمام والانتقال من مرحلة الغيبة التامة التي أفتقد فيها الشيعة الإمام وأخذ الفقهاء دوره في الفتوى.. وتعود الناس بتقليدهم في الرجوع إليهم في القضايا الدينية والاجتماعية.. كما إن الكثير من القوانين الوضعية قد حلت محل القانون الإلهي ولا يمكن الفرار من هذا الوضع.. لذا فالباب أو النائب له دور أو وظيفة مختلفة.. فالغرض هنا تعرفي أكثر -أي التعرف على الإمام مرة أخرى- فالباب هو الوسيلة للتعرف على الإمام وعلى مفاهيم الدين التي اندثرت.. وهناك حديث معروف يفيد أن الإمام يأتي بدين جديد.. أي أن مفاهيم الدين الحقيقية تندثر وتختفي بعد طول غياب.. وخروجه هو إعادة هذه المفاهيم حية مرة أخرى.. فالباب مجرد دليل لمن يختار أن يتعرف على الإمام أو الدين الذي يأتي به كي لا يضل عن صاحبه.. ولذلك فإن الباب لا يرجع إليه عموما في قضايا فقهية -بل يقلد الأتباع الأعلم في ذلك- ولا يمكن أن يعتبر وسيلة اتصال بين الشيعة والمولى.. فالاتصال من الأعلى للأسفل أي من الإمام إلى شيعته..ولا يمكن له أن يعد برد أي جواب أو رفع أي سؤال للإمام إلا ما يعطيه إياه الإمام.. من هذا نرى أن وظيفة ومكانة الباب أقل بكثير من السفير.. وأعضاء التنظيم كانوا “في بداية أمرهم” يميزون هذه الفروق بل كانت النيابة هي مجرد وظيفة عادية يمكن أن يعزل صاحبها أو يستبدل ولا تستدعي أي مقاييس معروفة كما في أحد النصوص المعروفة “رب نائب أبعدناه ورب شلو أنبناه”..

8- هل لكِ أن تسردي الوقائع الأولى لتلقي عبد الوهاب أمر الأمام، وتلقي جماعته الأوائل لدعوته؟

يجب أولاً أن أنبه أنني لا أستطيع أن أروي هذه الوقائع كشاهدة عليها.. فأنا رغم الفترة الطويلة التي انتميت فيها إليهم (7 سنوات) إلا أنني لا اعتبر من الأوائل ولم أشهد هذه المرحلة.. فما سأرويه هنا هو مجرد ما سمعته من الآخرين ولا أستبعد فيه التزوير والحذف والإضافة..

بدأت قصة عبد الوهاب الذي كان معروفاً بتاريخه السيئ أخلاقياً بصحوة دينية غمرته مع بدايات الثورة الإيرانية .. سافر بعدها فترة إلى إيران ثم عاد إلى السجن في تهم سياسية (عام 1983) ليبقى 7 سنوات فيه.. هناك في السجن التقى بشخصيات سياسية معروفة تنتمي إلى أحزاب دينية سياسية كحزب الدعوة والجبهة وغيرهم.. في السجن اجتمعت فئة نخبوية كان الاهتمام الديني أهم أولوياتها.. وهناك بدأت الاختلافات تنشأ بينهم نتيجة المدارس المختلفة.. عبد الوهاب كان يشهد هذه الاختلافات بصمت وما كان ليعد صاحب شأن خاص بينهم خصوصا وهو غير مميز لا في علمه ولا أخلاقه .. لكنه بدأ يستثير اهتمامهم عندما بدأ يحدثهم عن بعض الأمور الغيبية.. كالذي سيحدث لهم غداً أو من سيتصل بهم وكانت هذه المغيبات تأتيه أولا عن طريق الرؤى “الأحلام الصادقة”.. البداية كانت في (عام 1986) حيث كان يرى فيها سفير الإمام الثالث “حسين بن روح” ثم صار يرى الإمام نفسه وأخيراً صار يلتقيه في اليقظة.. وفي نفس الوقت كان يأتي ببعض النصوص البليغة التي تتناول مسائل متفرقة ترسي مفهوم المرحلة المقبلة..

وهناك الكثير من الروايات المختلفة عن حقبة السجن.. ولكن المعروف أن معظم من كانوا معه ( حوالي 32 شخصاً)  آمنوا بدعوته وظلوا صامدين بقوة رغم أن المكانة العلمية والنضال السياسي لأغلبهم تفوقه بكثير.. القليل ممن كان معهم في السجن (8 أشخاص) ارتدوا لاحقا عن الإيمان بهذه الدعوة وسربوا معلومات عنها بين الأوساط الدينية ونقل الكثير من القصص عما شهدوه بين جدران السجن والتي لم تكن مقنعة كثيرا نظرا لتناقضها و الإثارة المفتعلة في تفسيرها كقصص السحر والجاسوسية وغيرها .. في (عام 1987) خرج جلال القصاب (الرجل الثاني في التنظيم) ومعه شخص آخر من القياديين و مهدوا  لدعوة عبدالوهاب بين أوساط المتدينين (خصوصا المنتمين إلى الأحزاب الدينية كحزب الدعوة).. وأخيرا خرج باب المولى (عام 1988م) من السجن مع بعض أصحابه و بدأت مع خروجه حقبة الإرهاصات الأولى العنيفة في أوساط المجتمع الديني المذهبي.

9- ما الشبهات التي أثيرت حول فكرة (باب المولى) و حول الشخص الذي يمثلها؟ وكيف تم الرد عليها؟

لقد أثارت الفكرة شبهات كثيرة لا حصر لها ولكن من المهم أن نفرق بين الشبهات العلمية وغير العلمية.. شخصياً أعتقد أن أكثر الشبهات كان منطلقها الخلط بين مفهوم السفارة وباب المولى التي وضحته سابقا.. والشبهات المثارة كان منها ما اعتمد أسلوب النقض لفكرة الحاجة للإعداد والتمهيد لظهور الإمام أو الحاجة إلى الاتصال في هذا الوقت.. أو الرفض المطلق بسبب خطورة هذا الإدعاء – حيث أن الضلال الذي ينشأ عن اتْباع كذّاب مفتر لهذا الأمر لا يمكن أن يفوقه أي ضلال آخر- وبالتالي نأت عن دراسة وتحليل القضية مطلقاً .. وأنا أعتبر أن هذه الشبهات غير علمية لأنها لا تستند إلى منطق معين في حل مسألة موغلة في العمق العقيدي والفكري.. أما الشبهات العلمية -إلى حد ما- فغالباً ما انطلقت من تحليل لبعض النصوص المعروفة عند الشيعة وحاولت نقض الفكرة استنادا عليها.. ومنها مثلاً نص معتبر عند الشيعة وهي من وصية الإمام المهدي للسفير الرابع والذي يذكر فيها “ألا فمن ادعى المشاهدة قبل  خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر..”.. وقد اعتبره الكثير حجة قاطعة في رفض الفكرة بدون النظر المتعمق في آثار هذا الرفض على العقيدة بالإمام أو التصديق بالروايات ومشاهدات أعلام معروفين عند الشيعة.. طبعاً النص معروف وثابت ولكن تأويله مختلف فيه حتى بدون وجود مثل هذه الفكرة.. فإذا كان المقصود بالمشاهدة مجرد الالتقاء بالإمام أو حتى نقل رسائل منه فتاريخ الشيعة تنقل الكثير من الروايات التي تنقض هذا النص والكثير من المشاهدات ممن لا يشك في نزاهته عندهم.. ورسائل الإمام للشيخ المفيد معروفة ويستند الكثير عليها في إثبات إمكانية الاتصال بل وحتى في أخذ بعض الأحكام الفقهية منها.. وهناك من اعتمد في إثارة الشبهات حول المسائل الغيبية -التي يرى الكثير أنها سر الإيمان بهذه الدعوة- و الجدل فيما إذا كانت الرؤى والمشاهدات الغيبية تعتبر دليلا على صدق الدعوة أم لا.. وسر ذلك أن هناك حديث معروف “من رآنا فقد رآنا فإن الشيطان لا يتلبس بنا” يدعم صدق الرؤى التي يشاهد فيها أحد المعصومين وكان الغرض من هذا الجدل تأويل هذا النص وسوق ما يبرر عدم الأخذ به في هذه الحالات.. أما أكثر الشبهات طرحاً فقد كانت تستند إلى سرد سيرة عبدالوهاب الشخصية وتاريخه غير الشريف، والسعي لتأويل إخباره بالمغيبات و إتيانه بالنصوص بالرجوع إلى درس السحر والدجل..أو أن هناك أيدي طولى -أو جهاز سياسي- يدعمه في هذه الأعمال..

السياسة التي اتخذت في داخل التنظيم -في المقابل- كانت سياسة حكيمة إلى حد كبير واعتبر أن النسق الذي أتخذ في رد الشبهات هو أكثر أسباب ترسخ التنظيم.. فمنذ البداية كانت المنهجية التي اتبعها التنظيم -بل إنه مبدأ التنظيم- قائمة على المعرفة.. ويعتبر صدر الدعاء المشهور باسم دعاء زمن الغيبة “اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك.. اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني” شعار ضمني يرفعه التنظيم.. إذن فالتحليل للقضية كان ناشئاً عن سلسلة معرفية تمتد من الإيمان بالله تعالى ومعرفة سننه في الابتلاء والتمحيص.. ومعرفة كيفية اتصال هذه السلسلة بالإمام الحجة.. ومن منطلق هذه السلسلة المعرفية لم تكن تلك الشبهات تشكل هزات حقيقية لأعضاء التنظيم بل كان الرد عليها تلقائياً.. وللتوضيح أعطيك مثالا على ذلك فالعقيدة بوجود الإمام عند الشيعة ثابتة ولكن التعرف على كيفية حياته وسر وجوده في هذه الفترة غائباً ودوره غائب عن عامتهم والقليل من يسعى للتعرف عليه.. وأظن أن عدم حسم هذه القضايا المعرفية كانت وراء  الجدل الدائر حول إمكانية اللقاء به أو الإعداد لظهوره أو فيما إذا كان هذا العصر هو عصر الظهور الأصغر أو لا.. مثل هذا الجدل قد يؤثر على عامة الناس من الخارج ولكن مستوى التفكير والردود في الداخل كانت (من منطلق مدرستهم) شيئأً آخر.. ومسألة تاريخ عبد الوهاب وسيرته الماضية ما كانت تخفي على أحد.. ولكن من منطلق تلك المدرسة أيضاً كان هذا الإشكال محلولا .. فالسنن الإلهية الثابتة في القرآن والسنة والتاريخ تؤكد على حقائق التمحيص للنفوس واختبار تسليمهم بالقضايا الإيمانية رغم اصطدامها بالعرف ونفور الطبع منها والإيمان بأن التائب عن الذنب كمن لا ذنب له يجعل العقول تتقبل حقيقة أن عبد الوهاب يمكن أن يقبل في هذا المنصب بدون أي اصطدام مع الحقائق التاريخية وفوق كل ذلك كنا نرى بأن اختيار شخص بهذه السيرة هو الذي جعل استمرار هذا الأمر ممكنا على أرض الواقع في الظروف السياسية والاجتماعية الراهنة -إذ يعد اختياره بالذات تغطية مناسبة للنشاط السياسي الذي قد ينتج عنه مطاردة أمنية- .. ويمكنك الرجوع إلى قصتي “منارة العلم” والتي أوضح فيها رؤيتي من الداخل عن سر اختيار هذا الشخص بالذات والقائمة على أسس معرفية ناتجة عن استقراء السنن الإلهية.. والتي فيها أقول :”لماذا أختاره الحكيم بالذات.. ذاك سر أشبه باختيار إبليس ليمثل الجن في السماء.. سنة أو عبرة لا يهم كثيراً ما دام الحكيم قد اختاره بنفسه..”..

10- هل لفكرة (باب المولى) شواهد أو تنظيرات تاريخية في المذهب الشيعي؟

كما أسلفت بأن فكرة “باب المولى” تختص بفترة الظهور الأصغر أو التمهيد

لظهور الإمام وهذه الفترة لم تتكرر في التاريخ حتى يكون لها شواهد تاريخية.. وربما أقرب مثال لها هو السفارة التي قد بينت أوجه الاختلاف والفرق سابقا.. لذا فعندما نتكلم عن هذه الفكرة فنحن نتكلم عن تاريخ معاصر يصعب تحديد وقت بدئه بدقة ولكن يعتبر الكثير أن قيام الجمهورية الإسلامية في إيران أول العلامات الواضحة.. وهذا التحليل لا يستند فقط على التسمية المعروفة عن الجمهورية -في الأوساط الشيعية- بأنها “دولة الإمام المهدي” بل عند الشيعة شواهد وروايات وتنبؤات معروفة ومثبتة في كتبهم تتحدث بإشارات واضحة عن قيام هذه الدولة في إيران والكثير منهم يستدلون على أن تعقيب الإمام الصادق -بعد النبوءة- “أما إني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر” بأن فترة الظهور “الأصغر” وحتى الظهور “الأكبر” تمتد في عمر الإنسان الطبيعي.. إذن يصعب ذكر شواهد تاريخية لنفس الفكرة تماماً ولكن قيام الجمهورية الإسلامية في إيران تستند إلى نفس المبدأ ولكن بصورة مختلفة خصوصاً إذا عرفنا بأن الإمام الخميني -في الأوساط الدينية المحافظة- كان يسمى بنائب الإمام الخاص.. وهناك الكثير من الكتب والأقوال التي تتحدث عن إن مسيرة الإمام الخميني وقيام الدولة والقرارات الهامة كانت بأمر الإمام المهدي مباشرة وإن لم يعلن عن ذلك صراحة فلوجود عوامل سياسية واجتماعية تحتم هذه السرية.. وأظن بأن وجود أمر شبيه بدرجة أكبر لباب المولى محتمل جداً ولكن ربما لم يكشف بعد نتيجة السرية التي تعتبر من مبادئ قيام مثل هذه التنظيمات بناء على قاعدة فقهية معروفة عند الشيعة هي “التقية”..

11- ما النصوص البليغة المتداولة بين أعضاء التنظيم و التي تؤكد صحة مزاعم (باب المولى)؟

أعاني من مشكلة تذكر النصوص حرفياً ..وخصوصا أنه في الفترة الأخيرة قبل خروجي من التنظيم كانت هناك تعليمات مشددة بعدم الاحتفاظ بأي نص لدينا بل كانت النصوص تقرأ وتعاد للمسؤول المباشر للحفاظ على سريتها؛ لذا لا أملك  نصاً واحداً مكتوباً –وإن كنت أتذكر معظمها مضموناً-.. ولكن هناك الكثير من النصوص القديمة التي قد تسربت للعامة – خصوصاً في فترة السجن والإرهاصات التي اتبعتها- وقد اتفق معظم من قرأها من الجمهور على بلاغتها وإتقان تركيباتها اللغوية ..وهذا يبرر ظهور العديد من النظريات في تأويل مصدرها (خصوصا بمعرفة أن الشخص كان جاهلاً ولا يملك أي مقدرة تؤهله لأن يكتب تلك النصوص بنفسه) .. بالنسبة لي أكثر ما يميز النصوص اللاحقة –في الفترة التي انتميت فيها للجماعة- هو بناؤها الفكري العميق واتساق الجوانب المعرفية التي تبنيها في نهج واحد يحتاج لعقلية فذة في تحليل نصوص القرآن والروايات والتاريخ (التي لا أجد أن شخصاً مثل عبد الوهاب يمكن أن يمتلكها يوماً).. وأنا أقر أنه رغم قراءاتي العديدة للكثير من المفكرين والباحثين الإسلاميين لكني لم أجد منهجاً متكاملاً في بناء الفكر والمعرفة كما وجدته في تلك النصوص.. طبعاً أعني النصوص مجردة ولا أقصد الناحية السلوكية والتطبيقية في التنظيم أو قيادته.. ورغم أني لا أتذكر النصوص حرفية ولكني استفدت من بنائها الفكري في الكثير من مقالاتي في الصفحة “كعراقيل التفكير” ،”ولو كانت سلامة النية جياداً..”، “ولمن تكلم القمر” وغيرها.. وبعض الفقرات التي أضعها بين قوسين في مقالاتي هي مقتطفات من تلك النصوص هي إشارات لأعضاء التنظيم المغيبين عن الحقيقة بأن ما تؤمنون به من نصوص هو دليل يثبت لكم خطأ مسيرتكم الحالية.. ويجب أن أقول هنا أن منهاجي ورؤيتي الخاصة بالنصوص تعتبر أول حادثة مرت في تاريخ التنظيم وهذا سر الخطورة التي تستشعره قيادة التنظيم من حركتي في المواجهة وبالتالي سعيها في فرض الحصار علي أولا ثم على اتباعهم حتى لا تنكشف هذه الرؤية الشاملة للنصوص والغيبيات ومسيرة الأمر كله..

12- كيف بدأ اتصالك بالتنظيم؟ و هل هناك أطوار فكرية مررت بها قبل الدخول في هذا التنظيم؟

الواقع أنه لم تكن لي أي اهتمامات في أي تنظيم سياسي أو ديني قبل أن أنتمي إلى هذا التنظيم ؛ وذلك أولا لعدم اقتناعي بأي من التنظيمات والاتجاهات الفكرية المطروحة وثانيا لانشغالي بالبحث الدائم والتحري عن المعرفة التي كانت هي دوما مطلبي الأول في جميع مراحل حياتي.. فمنذ نشوء مداركي الفكرية اتجهت فطريا باتجاه التأمل الذاتي والبحث العميق في مختلف المدارس الفلسفية والفكرية المشهورة وقد استغرق هذا البحث معظم سنوات عمري الدراسية.. كنت في أغلب هذه الفترة متمردة ورافضة لكل القوانين والمدارس الفكرية والدينية لذا لم أنتمِ لأي منها.. ثم كانت فترة الصحوة الإسلامية التي رافقت قيام الجمهورية الإسلامية في إيران وقد كان لتلك الصحوة أثر كبير علي من ناحية فلسفية أكثر من عقائدية أو مذهبية.. اعتقد أن اكثر ما أثرت فيه الثورة بالنسبة لي أنها أعادت الإسلام كنظرية أو مدرسة فكرية يمكن النظر إليها في البحث عن المعرفة.. والواقع أنني –قبلها- لم أفكر في هذا المنحى جدياً ؛ لأنني كنت أرى الدين في قوالب بشرية جامدة الفكر –من خلال المجتمع الذي أعيش فيه- ولم أكن لاستسيغ طريقة تفكيرها ولا تدينها ولا أسلوب حياتها .. ما ميز هذه الثورة عندي هو الأدب العرفاني الخاص والمميز التي تبنته أنظمة الإعلام بصورة مركزة . وجدت فيه الكثير مما أبحث عنه في معرفة الدين بعيدا عن تعريفه التقليدي المحدود الذي يحصره في الفقه والمعاملات .. ومع هذه الصحوة أخذت دراستي الذاتية تأخذ منحى أكثر استقرارا ركزت فيه على العرفان الإسلامي والحكمة الإلهية الرفيعة وقد وجدت فيه ضالتي إلى حد بعيد.. ولكن نظرا لعدم وجود أية مدرسة أو أستاذ أو حتى مراجع كافية في مجتمعنا ظلت تلك مجرد أفكار لم أرَ مجالا لتطويرها أو تطبيقها.. ولم يكن لي حينها أي اتجاه مذهبي خاص يجعلني أؤمن أو أبحث في مسألة الإمامة والإمام المنتظر.. لذا كنت فترة الإرهاصات الأولى “لأمر المولى” غير ملتفتة أصلا لهذه القضية ولم يُعنني التحقيق فيها.. استقررت فترة في حياتي الأسرية بعد زواجــي ( عام 1989 )وإنجاب ابنتي عام1991 وكنت أعمل في شركة منطق للكمبيوتر ( محللة نظم كمبيوتر ) ما بين عام 1992 و عام 1993  وبدأ اليأس يتسرب إلي – إلى حد ما- في الوصول إلى منفذ عملي أواصل فيه بحثي في المعرفة. في هذا الوقت اتصلت بي صديقة قديمة ربطتني بها علاقة روحية قوية.. كنا من قبل نتشارك نفس الهم في البحث عن غاية للوجود.. تكلمت معي عن ظروف العصر وقضايا مختلفة وعن مسألة الإمامة وإمام الزمان.. لم تستطع أن تقنعني كثيراً بأهمية هذا البحث وخصوصا أن مستوى العمق الفكري بيننا يختلف كثيراً ولكني شعرت بفضول جعلني أقبل أن أمضي معها للنظر في قضية “الأمر” التي قالت لي أنها تريد أن تدرس صحته معي (عرفت بعد ذلك أنها طريقة أرادت من خلالها استدراجي فيها للأمر نتيجة أمر “مباشر” من القيادة).. كان اللقاء مع واحدة من أكبر القياديات في التنظيم النسائي وأعترف لها بالحكمة والصبر.. فقد دخلت معي مجادلات مطولة كنت فيها خصماً عنيداً لا يريد القبول بالتسليم حتى تحل كل العقبات الفكرية.. كان البحث معرفياً ، ولم يُعنيني في البداية أية شبهات سطحية.. عندما وصلت إلى قناعة بإمكانية الأمر قبلت الدخول بحذر عام 1992م .. وظللت لا أقبل فكرة “التسليم” – التي تعتبر من أهم البنود- حتى اطمأننت للمنهج الفكري والأخلاقي للتنظيم . بعدها أصبحت مثالا للتسليم والإيمان القوي بالقضية واستعدادي الفوري لأي أمر مهما كان من أجل خدمة التنظيم .. عموماً يجب أن أذكر هنا أن طريقة إدخالي في الأمر كانت استثنائية في أكثر من مستوى -كما صرحت لي المسؤولة- ولا يمكن أن تقاس بطريقة إدخال باقي أعضاء التنظيم.. لقد كنت “مطلوبة” أي هناك أمر بإدخالي من أعلى الهرم – لسر ما قد نتعرض له لاحقا-.. ثم أنني قد كشفت على أهم الوجوه – السيدة المسؤولة التي قابلتها- وهي التي لا تتعامل عادة مع الأعضاء الجدد لاحتمال عدم قبول الأمر منهم وفضح هويتها السرية.. كما كانت الفترة والجهد المبذول التي قضيتها حتى الإيمان بالقضية طويلة نسبية وكشفت لي الكثير من الأسرار والنصوص السرية منذ البداية.. ومنذ البداية كان التعامل معي مختلفاً إلى حد ما فقد كان كل ما يتعلق بي من أمور ترفع مباشرة لعبد الوهاب نفسه -بتصريح مسؤولتي المباشرة- متجاوزة التسلسل الهرمي الصارم الذي عادة لا يصل الشخص فيه إلى الاتصال المباشر به إلا بعد سنوات خدمة طويلة ولأمر تنظيمي هام في العادة.. أذكر هذا هنا لأن له صلة بالكثير من القصص والحوادث الواقعة التي سأثيرها لاحقاً..

13- ما أهداف التنظيم؟ و ما برنامجه العملي؟

كما أسلفت سابقاً إن أهم أهداف التنظيم هو المعرفة بالإمام والتي هي مقدمة العمل في التمهيد لظهوره.. التمهيد والإعداد يقوم على محورين تمهيد فردي وتمهيد جماعي.. فالتمهيد الفردي غايته تأهيل الكوادر المخلصة القادرة على تسلم مراكز قيادية في عملية الإعداد.. والتمهيد الجماعي أو تمهيد الدولة المقصود به العمل على قيام دولة أو جمهورية من أجل نصرة الإمام عند ظهوره..

وهناك عدة أهداف ثانوية تندرج تحت هذا الهدف الرئيسي وهي:

  1. بناء أفراد التنظيم روحيا، وفكريا، وجسديا، وماديا، واجتماعيا..

  2. تحقيق التكافل الاجتماعي وتوثيق الروابط الأخوية السامية بين أفراد التنظيم..

  3. المحافظة على كيان التنظيم بالكتمان والسرية لهوية أفراده ولتعاليمه وممارساته..

  4. تحقيق التنمية المادية والعلمية والمقدرة السياسية للتنظيم عن طريق عمل المشاريع الحساسة والتي تواكب حركة العصر وتتعلق بالتقنية العالية..

  5. التوسع الحذر بين أفراد المجتمع والتركيز على الطبقات الفكرية العالية والمستويات الاجتماعية الراقية..

أما البرامج العملية لأفراد التنظيم فهي تشمل:

  1. البحث والدراسة والتطبيق للدروس والنصوص التي كانت تتناول جميع جوانب الحياة الفكرية والروحية والسياسية والاجتماعية..

  2. تنمية القدرات والكفاءات والمؤهلات الذاتية وتسخيرها في خدمة “الأمر”..

  3. تنمية القوة الجسدية والروحية من خلال فروض واجبة (كممارسة الرياضة البدنية وبعض الرياضات الروحية)..

  4. توثيق العلاقات الأخوية القوية بين أفراد التنظيم “المكشوفين على بعضهم”..

  5. بناء علاقات متعددة في المجتمع الخارجي والعمل على إعطاء صورة مثالية تجتذب القلوب مع الحفاظ على سرية الهوية..

  6. تنمية الوعي السياسي والاجتماعي والعمل وفق متطلبات العصر..

  7. الخضوع إلى بعض الاختبارات العملية التي تبرز مستوى الأفراد وتمكنهم من احتمال المهمات والمسئوليات الخاصة في التنظيم (مثل الخضوع لأنواع من التعذيب النفسي والجسدي، اتباع أوامر ما غير مفهومة أو مقبولة شرعيا أو عرفا لقياس مدى التسليم…)..

  8. القيام بالمساهمات الفردية المتنوعة التي تخدم التنظيم فكريا أو ماديا أو اجتماعيا ..

14- ما شكله التنظيمي؟  

كما ذكرت التنظيم قائم على صورة هرمية منظمة وتحكمه بنود وقوانين دقيقة.. في قمة الهرم “باب المولى” الذي يمثله عبد الوهاب البصري.. يليه مباشرة ساعده الأيمن والرجل الثاني في التنظيم –الذي التقى بالإمام أيضا ولكن لمرة واحدة- “جلال القصاب”.. وفي الطبقة الأسفل يوجد مسئولون ومسئولات كبار لهم تسميات عديدة –لا أعرفها بالتحديد- ولكن كل مسؤول يختص عمله بجانب معين فهناك مسؤول عن الأمور الاقتصادية، وآخر للقضايا الشخصية وهناك مسئولات عن القسم النسائي.. ثم تأتي الطبقات الأدنى التي تضم مسئولين آخرين أقل رتبة يشرفون على مجموعة من الأعضاء أو العضوات.. وكل عضو عليه أن “يرفع” كل القضايا الخاصة به للمسؤول الذي يتبعه والذي يقرر بدوره أن يرفع القضية لمن يليه أو يحسمها بنفسه..وعملية “الرفع” هذه تعتبر من واجبات الأعضاء جميعا وهي التي تنظم مسيرة وتجانس المجموع.. شكل التنظيم سري وأظنه قد غير مراراً نتيجة تسرب المعلومات إلى الخارج.. لذا فإن غير القياديين المسؤولين –مثلي-لا يعرفون عادة هذا التشكيل بدقة.. وعموماً كحالة استثنائية  –كما أسلفت- كنت ألتقي بالرجلين اللذين هما في قمة الهرم مباشرة بالإضافة إلى مسؤولتي المباشرة التي تعتبر من أعلى القياديات في هذا الهرم..

15- ما المراتب التي ارتقيت فيها أثناء وجودك في التنظيم؟

منذ البداية عرف عني عدم الرغبة في الدخول في السلك التنظيمي.. كانت هناك أكثر من محاولة لمسؤولتي باستلام بعض المسئوليات الإشرافية لبعض العضوات لكني كنت أظهر عدم ارتياحي لذلك.. وذلك حقيقة لأني لا أحب دور الزعامة –خصوصا في الجوانب الدينية- ولا أرى نفسي فيها.. كنت أفضل العمل في مساهمات فكرية وبحوث معرفية وكان ذلك هو ما يميزني في “الأمر” ويرضي تطلعي الخاص.. ونظرا لعملي في الجانب التقني فكرت بخدمة “الأمر” في هذا المجال.. وكنت صاحبة مشروع – مع زوجي السابق- في إنشاء شركة معلومات تقنية – تأسست شركة التنظيم نهاية 1993م – تخدم الأمر وقمت بطرح الفكرة على قيادة التنظيم و أقنعت زوجي بها.. ومنذ البداية كان للتنظيم تطلعات كبيرة وأهداف عالية أراد تحقيقها من هذا المشروع الذي يعتبر أول مشروع تقني عال.. ولذلك فرغت تماماً من بقية الواجبات الأخرى التي على الأعضاء الآخرين القيام بها حتى أعطي كل طاقتي لتطوير هذا المشروع التي كنت أديره تماماً إدارة فنية في البداية ثم إدارة فعلية بعد الانفصال عن زوجي ( عام 1994 ) وتحملي مسؤولية إدارة العمل في الشركة.. “قصة عمل” هي حكايتي ونضالي من أجل إقامة وتثبيت هذه الشركة التي ما أن عرفت حقيقة الانحراف الخطير حتى نفضت يدي منها تماما في يناير 1999 .. وكان جزائي فــــي المقابل -انتقاماً- الجفاء والتنكر لكل الحقوق حتى “شهادة الخبرة”!

طبعاً في هذه الفترة أعتبر عملي في غاية الأهمية للتنظيم وكان يعتبر مجالا حيويا تعرفت فيه على الكثير من أعضائه وساهمت في تدريبهم التقني والإداري في العمل مما كان يحقق أحد أهم أهداف التنظيم العامة.. في نفس الفترة كنت أقوم بكتابة بعض البحوث وشرح بعض النصوص المعرفية العميقة التي كنت ألقي بعضها للمجموعة التي التقي فيها أو ترفع للقيادة العليا ويقرر تعميمها على بقية الأعضاء -حسب عمق البحث-.. ومن أهم تلك البحوث هو البحث في معرفة “القدر” أو الإمام والذي أذكره في “لمن تكلم القمر؟” و”عالم المجانين_1″

16- ما الممارسات اليومية لعضو التنظيم؟

تختلف ممارسات العضو اليومية حسب موقعه ومسئولياته في التنظيم.. كما أن ممارسات العضو في أسرة كاملة في التنظيم –إذ إن هناك الكثير من الأسر أو العوائل في التنظيم- تختلف عن ممارسات العضو المفرد التي تكون ممارساته تكون مقننة ومحسوبة نظراً لإطلاع ومراقبة أسرته له (فالسريّة تعد أهم من أي ممارسة أخرى) .. وهناك -كما أسلفت- ممارسات عامة يجب أن يعمل بها العضو (قد تكون يومية أو أسبوعية أو غير ذلك حسب مسؤولية وموقع العضو في التنظيم) وتتضمن:

  1. الاجتماع مع المسؤول المباشر -عادة أسبوعيا- وخلاله يتم ما يلي: أ- عرض أي قوانين أو تعليمات جديدة من القيادة ، ب- قراءة وشرح أي نص أو درس جديد من “الإمام” أو أحيانا شروحا للدروس من أعضاء التنظيم ، ج- إسناد مهمات خاصة أو إخضاع العضو لاختبارات تقويمية من أجل قياس أهليته لهذه المهمات، ء- عملية “الرفع” وهي واجبة على كل عضو في أي مسألة هامة تتعلق بحياته أو بالمجتمع أو بعلاقاته مع الأعضاء الآخرين..

  2. اجتماعات أخرى مع أعضاء -غالباً- من نفس الرتبة -أسبوعيا أو كل أسبوعين- ويتم خلالها التدارس والمناقشة وعمل الأنشطة الجماعية المفيدة للتنظيم..

3- ممارسة التمارين الرياضية (غالبا ثلاث مرات أسبوعيا)..

4-الاضطلاع على الصحف والمجلات السياسية أو مشاهدة الأخبار التلفزيونية والتي تعتبر من الواجبات الفردية..

5- مهمات خاصة مختلفة : قضاء حوائج الأخوان، الإعداد للمناسبات، تحضير مواضيع أو بحوث خاصة، التدبر في القرآن أو شرح النصوص… وقد أعتبر مثالاً جيداً على عدم أهمية الخضوع لهذه الممارسات اليومية عند تعارض الأولويات.. فقد كنت في بداية الأمر أخضع لهذه الممارسات (عندما كنت أعمل في شركة لا علاقة لها بالتنظيم)، ولكن عندما تحملت مسؤولية إدارة الشركة للتنظيم ألغيت جميع الممارسات -التي يمكن إلغاؤها- مثل الرياضة والمهمات الخاصة والاجتماعات الإضافية حتى أعطي للشركة كل طاقتي.. ولكن تظل المسألة فردية وتتعلق بهمة وحب العضو على العطاء فكنت أقوم ببعض هذه الأمور رغم إسقاطها لكثرة مشاغلي العملية.

17 – كيف كانت حياتكم الاجتماعية؟

الحياة الاجتماعية في التنظيم كانت مميَّزة بجميع المقاييس.. الجميع كان يعيش بروح الأسرة الحقيقية .. الاسم المتداول للأعضاء هو الأخوان والأخوات.. القوانين كانت صارمة ضد انتهاك أي حق من حقوق الأخوان.. والمشاكل الشائكة بين الأعضاء لا بد أن ترفع وتحل من قبل المسؤولين وقد يعاقب المخطئ إذا تكرر خطأه.. ويعد الالتزام بمساعدة الأخوان –مهما كانت حاجتهم- عملاً مقدساً يفوق أي عمل أو عبادة أخرى؛ لذا يتسابق الجميع لنيل شرف المساعدة.. إعالة المعوزين في الأمر وتوفير الأعمال المناسبة لهم تعتبر من واجبات التنظيم نحو أعضائه.. والكثير من النصوص والدروس كانت تطال الجانب الاجتماعي والمعاملات بين الأعضاء.. عموما التنظيم يحرص في شعاراته على التركيز على الإيثار والتفاني في الخدمة والعطاء للإخوان وهذا في اعتقادي من أكثر أسباب رسوخ الأمر ونجاحه العملي..

18-هل لانفصالك عن زوجك علاقة بالتنظيم؟

منذ بداية تعرّفي على زوجي كان الاختلاف في وجهات نظرنا وأولوياتنا واضحة.. كانت حياتنا الزوجية معرضة للفشل في كل لحظة.. وحتى لحظة اكتشافي للحمل بابنتي الوحيدة كنا نتفاوض على الانفصال.. بعد إنجاب ابنتي استقرت الأمور نسبياً وقدمت من طرفي الكثير من التنازلات حتى تسير الحياة بيننا.. عندما دخلت التنظيم واقتنعت به تماماً شعرت بأن من واجبي عرض “الأمر” عليه حتى لا أخدعه وكنت أرجو أن ينال هو أيضاً شرف الانتساب إليه.. استأذنت في ذلك وبعد تردد قُبِل طلبي في التمهيد له حتى يدخل عن طريق أحد الأخوان.. وفعلاً تمكنت من إقناعه بالقضية منطقياً –رغم البعد الشاسع بين رؤيته ورؤيتي في هذه الأمور-.. إلا أن مسيرته في الأمر كانت صعبة لتناقض أسلوب حياته غير الملتزم وتطلعاته المادية مع تعاليم الأمر الصارمة في هذا الجانب.. خلال فترة وجوده في الأمر ، ظهرت فكرة مشروع الشركة إلى الوجود وأسّسناها معاً.. وربما كان هذا هو السبب الوحيد الذي تحمل الأمر وجوده –رغم مشاكله العديدة- وتحمل هو بقاءه لارتباط الشركة التي يديرها بالأمر.. ولم يصمد كثيراً فقد كان له رغبات ونوازع غير مقبولة –حتى بالمنطق الديني العادي- فكيف بخط الأمر الذي يفترض أن يكون أعضاؤه في أعلى درجات الالتزام الأخلاقي.. وكان ذلك سبب طرده من التنظيم بأمر من “الإمام”..علاقتي به طوال هذه الفترة كانت من منطلق أوامر من عبد الوهاب أو “الإمام” نفسه .. انفصلت عنه مرة عام 1994م ثم عدت إليه بناء على طلبه ذلك من الأمر ..ثم كان أخيرا الانفصال النهائي المتوقع عام 1996 -بناء على رغبته- وذلك بعد أن طُرد من الأمر ، وسُحبت الكثير من صلاحياته في الشركة..

19 – ما الذي تعنينه بالأمر؟

التنظيم لا يسمى تنظيماً في الداخل بل يسمى “الأمر” ، وهو اختصار “لأمر المولى” التي تُعبِّر عن أن التنظيم ليس تنظيماً عاديا ،ً بل هو قائم بأمر الإمام ويسير بناءً على أوامره.

20- ما السِّر وراء حرص القيادة على إدخالك التنظيم؟

هناك عدة احتمالات سأترك الترجيح فيها لك حتى أصل في نهاية البحث لرؤيتي المتكاملة عن القضية..

الاحتمال الأول : وهو الرؤية التي يتبناها العضو من الداخل ، وهي تقوم على أسس غيبية -وقد أسلفت سابقاً بأن الأمور الغيبية تعتبر من وسائل الدعوة في التنظيم ، ويستند عليها في الكثير من القرارات-..وهي منطلقة مما سمعته من الآخرين.. صديقتي التي عرضت علي “الأمر” قد أخبرتني لاحقاً -بعد مدة من دخولي الأمر وتسليمي به فعلاً- بأنها في رؤياها “الحلم” رأتني وأنا أبدو كتائهة أبحث عن الطريق ، ورأت الإمام المهدي وهو يدعوها لكي تأخذ بيدي للمسؤولة التي قد أخذتني لها فيما بعد ، وخاطبها قائلاً وهو يشير إليَّ “بأنها منا أهل البيت”.. وهي عبارة قيلت في “سلمان الفارسي” ، ربما لأنه كان معروفا ببحثه طوال عمره عن الحقيقة.. والى هذه الرؤية كنت أشير في “ماذا يصير عندما يكون المدعى عليه قاضياً ؟”.. إضافة إلى ذلك أخبرني عبد الوهاب نفسه في أحد لقاءاتي العديدة به أن دخولي للأمر كان بأمر الإمام نفسه ، وذلك لأن لي دوراً ما “هاما” في المستقبل.. طبعاً الغاية من سوق هذا الاحتمال ليس إثباته أكثر من بيان عقيدة العضو من الداخل ولي في ذلك رؤية خاصة سأعرضها في نهاية هذا البحث..

الاحتمال الثاني : هو معرفة القيادة بي شخصياً عن طريق صديقتي أو تحرٍ معين  وأن هناك بعض الجوانب التي التمسوا فيها خدمة هامة للتنظيم .. ولكني لا أعتقد حقاً أنني كنت حتى ذلك الوقت -على الأقل- أملك مؤهلات بارزة بالشكل الذي يدعو القيادة على التصرف باستثناء معي …

الاحتمال الثالث : أنه لا استثناء بل إنه مجرد زعم زعموه لي لغرض ما ، ولكن يبقى أنني خلال السنوات التي عشتها بينهم لم أرَ تجاوزا في التسلسل ، أو السِّرية  أو طريقة إدخال الأعضاء الجدد.. عموما أنا أترك هذه الخيارات مفتوحة حتى يحين وقت شرحي لرؤيتي الخاصة في الموضوع …

21- هل يعــرف أعضاء التنظيم (الأمر) تفاصيل عن أســــلوب حياة باب ( المولى )؟

عادة لا يعرف الأعضاء العاديّون تفاصيل حياته الخاصة (إلا من له اتصال مباشر به).. ولكن بعض الأحيان تعمم بعض الأمور الخاصة به ، مثل سفره إلى الخارج في مهمات لا بأس بمعرفتها.. وأحياناً تعمم بعض الردود على الشبهات المثارة حول شخصه.. فيما عدا ذلك فإن أسلوب حياته الخاصة غير معروف لمعظم الأعضاء (لكنني كنت أعرف كثيرا منها بحسب اتصالي المباشر به)..

22- هل للقاءاتك بباب المولى طقوس خاصة؟

(مثل ماذا؟!!) لا ليست هناك أي طقوس خاصة ، ولكن هناك طريقة مقنَّنة لهذه اللقاءات .. فنظراً لأهمية السِّرية ، كانت اللقاءات تُرتَّب عن طريق مسؤولتي المباشرة ، وتحدد لي الوقت والمكان والمرافقين (إن وُجدوا) لهذا اللقاء.. طبعا اللقاءات كانت تختلف بحسب الغاية منها.. كنت ألتقي به فردياً لأمور خاصة -سأتعرض لها عند فك الرموز- وأحياناً لزيارات عائلية بحضور زوجته وأطفاله وحضور مسؤولتي (وفي الفترة الأخيرة شقيقتي التي انضمَّت لاحقا إلى التنظيم)..وكانت هناك لقاءات أخرى تختص بالعمل يحضرها فريق العمل في الشركة (المنضمّون للتنظيم).. وحلقات دروس خاصة لمهمات معينة .. قصة “من هو المغرور؟” تتناول إحدى الحلقات الخاصة “الاستثنائية” التي نظمت لمجموعة من العضوات كنت أنا إحداهن ، و كان عبد الوهاب يباشرها بنفسه..

23-  كيف كان عبد الوهاب يبرر استمرار الحاجة إلى الفقهاء مع وجود من يتصل بالإمام ؟ وكيف كان ينظر إلى فتاوى الفقهاء المكذبة له ؟

إجابة القسم الأول تجدها في إجابتي عن الفرق بين “باب المولى” و “السفير”.. فالغرض من “باب المولى” هو المعرفة بالإمام والتمهيد لظهوره ولا علاقة له بالفقه.. واتصال “باب المولى” بالإمام ليس من أجل الأحكام الفقهية ولا ألغي دورهم بل لكل مجاله الخاص.. وهو بذلك يشبه عدم تعارض دور الولي الفقيه ودور الفقهاء..

إما بالنسبة لفتاوى الفقهاء المكذبة فالرد عليه يأتي من جانبين.. الأول وهو الأساسي في رد الموضوع جملة وتفصيلا ، وهو أن دور الفقهاء يتناول القضايا الشرعية لا قضايا العقيدة (لا تقليد في أصول العقيدة) والإمامة ومتعلقاتها من مسائل العقيدة التي لا تقليد فيها بل على المكلف أن يصل إليها بالبحث العقلي تماما كالإيمان بالنبوة والتوحيد وباقي أصول الدين.. والجانب الثاني يتعلق بتفسير هذه الفتاوى أو تبريرها وهو يتضمن عدة تفاسير: أولا ما شرحته في البداية عن اختلاط مواقف علماء الدين والفقهاء بشبهات تعارض المصالح الذي قد يشكك في كون هذه الفتاوى نزيهة أم لا.. وثانيا أن الفتاوى أصدرت بناء على ما يروجه الناس من شائعات كاذبة ورؤية غير صحيحة لحقيقة (الأمر).. وثالثا أن هناك من الفقهاء (كالإمام الخميني) من لم يصدر فتاوى صريحة في ذلك؛ وهو دلالة على عدم أخذه بردود أفعال عامة الفقهاء (لكونه مطلعاً على حقيقة “الأمر”).. طبعا عدم التصريح من قبل هذه الفئة من الفقهاء بالتأييد مطلوب وهام جداً لحماية التنظيم (من الملاحقة في حالة تأييد رجال الدين له)..

24- كيف كانت تبدو سيماء ( باب المولى) ؟

لا أعرف معنى السؤال تحديداً (فالرجل عادي بجميع المقاييس!! وليس من عادتي أن أدقق النظر في الوجوه –رغم الاتصال بيننا-) كما أني لا أضمن أن أجيب على هذا السؤال بتجرد وحياد.. فنظرا لما كان يمثله من “قدسية” عندنا كنت أراه في بداية الأمر بسيماء الصالحين (في تعاقبات العمى).. لاحقا وفي “المواجهة الكبيرة” التي خاطبته فيها باسم (الكلب) كنت أرى سيماه (حقا) كذلك (في تعاقبات البصيرة).. أظن أن أكثر من يستطيع إجابتك على ذلك شخص حيادي لا يعرف هويته ولست أدعي لنفسي ذلك!!

25- كيف كنتم تمارسون أسلوب الدعوة ؟

كما قلت الفترة التي انتميت فيها للأمر كانت فترة ترسيخ للأمر من الداخل.. أسلوب الدعوة كان حذرا جداً ، ويعتمد على المعرفة الشخصية بالأفراد “المستهدفين”.. كنا في هذه الفترة نرفع شعار الإمام “كونوا دعاة لنا بأخلاقكم”.. والواقع أنه رغم خصومة  المعارضين الشديدة فقد كانوا يشهدون للأعضاء (المكشوفين) بالأخلاق العالية ؛ وهذا كان أحد أهم أساليب التأثير نتيجة للثقة بالأشخاص (قبل التعرف على حقيقة انتمائهم).. ترشيح الأعضاء الجدد يمكن أن يأتي من أي عضو عن طريق “الرفع” ، ويجب أن يدعم بأسباب قوية لهذا الترشيح (كما أسلفت أن التركيز كان على المستويات الفكرية العالية والأفراد الفعالين في المجتمع أو المرموقين اجتماعيا).. يدرس الترشيح من قبل القيادة المسؤولة عن الأعضاء الجدد.. تعمل بعض الاختبارات للفرد قبل عرض (الأمر) عليه لقياس درجة تقبله.. ثم يُرسل الشخص المناسب (فكريا) أو الموثوق به عند الشخص ليقوم بمهمة عرض “الأمر” عليه بالصورة التي تناسب عقليته وخلفيته الدينية والمذهبية.. وقد يدعم الداعي بأشخاص آخرين حسب تطلب الحاجة.. ويجب أن أنبِّه على أن هناك مستويات وأغراضاً مختلفة من الأعضاء وبحسب الغرض المطلوب تكون طريقة عرض (الأمر) عليه.. فهناك من الأعضاء الذين تعرفت على أحدهم ممن قضى سنين طويلة يخدم (الأمر) بطريقة معينة ، دون أن يعرف أن هذا الأمر هو نفسه ما يسمى بالسفارة ، وأن القائد هو عبد الوهاب!!

26- هل كان التنظيم في أسلوب عمله و ممارساته في عمليات الإعداد و التهيئة الفردية و الجمـاعية يستفيد من التنظيمات السابقة أو الأخرى ؟

نعم يسلك التنظيم في أسلوب عمله وممارساته الأسلوب العلمي الذي يدرس فيها مختلف الأساليب المطروحة في الساحة ، ويستفيد من تجاربها وأخطائها.. الكثير من التعاليم كانت تحثّ على الاطِّلاع على الأساليب الحضارية وتجارب الآخرين – ليست التنظيمية فقط- والاستفادة منها.. وقد كان من أحد واجبات بعض الأعضاء الخاصة (المؤهلين) القيام بمثل هذه البحوث ، وتقديمها للعمل على تطوير الخدمات والممارسات وأساليب الدعوة وغيرها..

27- من هو المنظر الفعلي للتنظيم ؟ و ما مؤهلاته ؟

لا أعرف المقصود تحديدا بالمنظر الفعلي.. نظرياً –بالنسبة لأعضاء التنظيم- المنظر الفعلي هو “المولى” الذي من خلال نصوصه ودروسه يحدد مسيرة الأمر ، أما بقية الأعضاء (بمن فيهم عبد الوهاب) فهم مجرد ظل يلتمسون تعليماته.. طبعاً التنظيم يشمل أعضاء نشطين فكرياً وعلى قدر كبير من الثقافة (في مختلف أنواعها) وقد يكون الرجل الثاني ( جلال القصاب ) هو أكثر المعروفين بالنشاط الفكري ، والثقافي ، والقدرة على التحليل ، والمناورة والجدال  – حتى قبل انتمائه للأمر- (لكني لا أعرف بالتحديد مؤهلاته العلمية والثقافية).. وله الكثير من المساهمات الفكرية والمعرفية التي تُعمّم على أعضاء التنظيم.. (وأشك – دون اليقين- من أنه هو نفسه مجادليّ البدوي الذي قرأت حواره معي في موقع ( أين ) على الإنترنت لمعرفتي بأسلوبه ومراوغته ، ولِما كشفه لي عن نفسه من أمور خلال الحوار)..

28-هل كانت التربية الحزبية في تنظيمكم تسمح بقراءة كتابات خارج المنظور الديني ؟

التعاليم كانت تدعو إلى الانفتاح الفكري والعقلي على مختلف المدارس الفكرية من أجل التمكن في العقيدة والمعرفة ، ولكن العمل بهذا كان مسؤولية فردية.. كان هناك بعض الواجبات التي تلزم بعض الأفراد بأن يأتوا بمساهمات معينة من خلال الاطلاع على المعلومات الجديدة والمفيدة ، صحية أو سياسية أو أدبية أو اجتماعية..كانت هذه المساهمات تدرس ثم تعمم على باقي الأعضاء لتبني ثقافتهم العامة بصورة سهلة وسريعة..

29- هل تملكون مؤسسات لممارسة أنشطتكم و عقد اجتماعاتكم ؟

يملك التنظيم مؤسسات عمل مختلفة كالمكتبات ودور النشر والمدارس ورياض الأطفال و شركات التقنية وغيرها.. والهدف من تلك المؤسسات مادي ، اجتماعي وسياسي بالدرجة الأولى.. الاجتماعات التنظيمية (حسب علمي) تدور غالبا في البيوت الخاصة.. ولقاءات الأعضاء تدور أيضا في بيوت أحدهم التي نحرص على تغيير أماكنها دوريا ؛ حتى لا تُلفت اللقاءات المتكررة انتباه الآخرين..

30-ما الأفكار التغييرية على مستوى المجتمع و السياسة التي كنتم تتطلعون إليها ؟

ذكرت لك سالفا أن الغرض من التنظيم على المستوى الجماعي هو قيام دولة ممهدة للإمام.. ولكي يتحقق ذلك لا بد أولا من اكتساح المجتمع عدة وعددا.. الطاقات الموجودة كانت تشحذ حتى أجل “معلوم” – كان التنظيم قبل خروجي يعتقد أنه اقترب الآن من هذا الأجل – وذلك لسقوط الرموز الدينية المطروحة على الساحة ، ولتمكُّن التنظيم بدرجة كبيرة عددياً ومادياً وتقنياً.. تناولت هذا الموضوع في مقالي “عالم المجانين-2”.. وفي “أيها المقاولون النصابون..إلى أين تذهبون؟” اللذين أشرت فيهما  إلى حقيقة خطيرة تستدعي الوقوف أمامها ، فالتنظيم حتى الآن  سري ، ولا تعرف أي من نشاطاته بصورة متعمقة.. خروجي من التنظيم وإعلاني الحرب على “عبد الوهاب وانحرافاته” وتحديه علناً (كما تجدها في “المواجهة الكبيرة”) تنطلق من منطلقات تتعلق –  يعرفها هو جيدا بطبيعتي والتزامي بما أقول ، و معرفته بهذا تجعله يجزم بخطورة تحركاتي عليه (الخطورة عليه تأتي من الداخل والخارج) وهذا ما يجعله يخطط للفرار مع المخلصين له (من المقاولين النصابين كجلال القصاب) بأموال الجماعة التي يتبرع بها الجميع من أجل مشروع “الهجرة الكبير”.. وهي نبوءة غيبية -رغم أنها نسخت فيما بعد- فسرت بأن التغيير السياسي المطلوب سوف يكون بعد أن تهاجر القيادة من البحرين إلى “إيران” ، وتعمل من هناك على التمهيد للانقلاب الكبير الذي سيقوم به بقية الأعضاء هنا ، و سيعينهم في هذا الانقلاب  الأعضاء الجدد .

و لديّ شواهد  تثبت أن التنظيم يعمل –هذه الأيام- بقوة على زيادتهم.. ونظراً لحساسية الموضوع –إذ الأعضاء حالياً  لديهم “يقين ” أن عبد الوهاب “قديس” يمثل الإمام- فضلت أن أكشف حقيقة انحرافه للجميع عن طريق الإعلام تلافيا للعنف الذي قد يثير حفيظة المؤمنين به (أو غيرهم) ويعيد المجتمع إلى حالة من الفوضى التي لا يحمد عقباها!!

31- كم يبلغ عدد أفراد التنظيم ؟

يصعب علي أن أحدد أي عدد فهذا الموضوع في “قمة السرية”.. وكما ذكرت فإن كل عضو – غير القيادة العليا – تحدد معرفته بالأعضاء الآخرين في أضيق الحدود حتى يحافظ على كيان التنظيم في حالة سقوطه.. ولكني أجزم لك بثقة أن عددهم أكثر بكثير من أي تقدير رسمي أو عام لهم.. وأدلتي على انتشارهم ونفوذهم في المجتمع قد زادت بعد خروجي من التنظيم لما شهدته من هجمات عنيفة من مختلف المستويات في أوساط المجتمع بتحريض واضح من قيادة التنظيم (أشير إلى ذلك في مقالي “إنها نواقيس الخطر تدق عاليا فهل تسمعونها؟”)..

32-هل يسمح لأحد بالانسحاب ؟

يسمح لأي فرد بالانسحاب من التنظيم (إذ لا شيء يمكن فعله) ولكن يحذر العضو من إفشاء أي معلومات سرية.. طبعا الامتثال لذلك يعتمد على الفرد وسر انسحابه.. ولم تمر سابقة من قبل تستدعي أي استنفار عام من التنظيم ضد عضو منسحب (لتكرر تلك العملية بصورة جعلتها اعتيادية) ولكن حالة خروجي من التنظيم وإعلاني الحرب على عبد الوهاب وزمرته “المنحرفة” تعد حالة “فريدة”  من حيث سبب الخروج وأسلوب الهجوم . وهذا مما يجعل ردات فعل التنظيم  مختلفة تماما عن كل ما سبق.. كما أن الانحراف الفعلي الذي امتد من القيادة إلى الأعضاء ، يجعل من الأساليب غير المشروعة والمستخدمة في الحرب ضدي مقبولة عندهم ولأول مرة بهذا الوضوح.. (أشير لهذا في مقالي الموجه للأعضاء –المغيبين عن الحقيقة- “كيف نكتشف الانحراف؟”)

33- هل كنتم تجرؤون على الاعتراض على أقواله؟

لـ “باب المولى” قدسية في قلوبنا نتيجة اعتقادنا بأنه يمثل الإمام لذلك يندر أن يعترض عليه أحد.. أذكر من خلال مقابلاتي معه  –في بداية الأمر- أنه كان يشجعنا على مناقشته والاعتراض على “آرائه الخاصة” ولكن تدريجيا تغيرت المسألة حتى أنه في الفترة الأخيرة صار أسلوبه نقدياً جارحاً بالنسبة لأي من يتجرأ على الاعتراض عليه وصارت أقواله بمثابة “النصوص” (وأنا أعتبر هذا من الدلائل القوية ليس على انحرافه فحسب بل على انحرافنا “نحن” كأعضاء عندما لم نميِّز هذا التغيير وخطورته)..

34- كيف كانت تبدو شخصيته أثناء لقاءاته بكم؟

بحكم علاقتي الشخصية به رأيت عدة وجوه لعبد الوهاب لا وجهاً واحداً.. في بداية تعرفي عليه مع بدايات دخولي للأمر كان “يبدو” شخصاً متواضعا ومتزناً وبسيطاً إلى حد كبير.. كانت شخصيته مرحة ويتبسط في الحديث حتى ترفع أي هيبة قد تنشأ نتيجة التقديس الذي يحدث في قلوب الأعضاء نتيجة “مكانته”.. بعد عدة سنين (لم التقِِ فيها معه خلالها لسر أذكره لاحقا) رأيته في صورة مختلفة تماما صدمتني لفترة (حتى أنني لم أكن أريد التصديق بأنه ذات الشخص).. شخصيته أمام “الجميع” كانت مختلفة لقد صار متسلطاً إلى حد بعيد.. تحول مرحه إلى نقد عنيف واستهزاء بالآخرين.. لم أرَ أي بقايا “لعفة” في التعامل مع العضوات ولي في ذلك شواهد لا تتعلق بي “فقط”..

35- ما مؤهلات الأعضاء العلمية ؟.. هل كان فيها تخصصات في العلوم الإنسانية مثل علم النفس والاجتماع؟

كما أسلفت لك سابقاً لا أعرف إلا القليل من الأعضاء في طبقات الهرم العليا (عدا الرجلين الكبيرين ومسؤولتي المباشرة) ولا أستطيع أن أحدد مؤهلاتهم العلمية.. عموما هناك تعاليم مؤكدة تشجع كل الأعضاء المؤهلين “بالتخصص” في مجالاتهم وإنهاء دراستهم العليا..واعتقد أن الكثير منهم قد بلغوا ذلك.. وبالنسبة لي    – كمثال – كنت أشجع كثيراً على إنهاء دراستي العليا وفعلا سعيت للامتثال لذلك عن طريق دراسات جانبية – رغم مشاغل العمل الكبيرة- تؤهلني الآن للانتساب الآن إلى دراسة الماجستير في تخصصات إدارية وتقنية..

أمّا المؤهلات العلمية “لباب المولى”؟ فلم أسأل عنها قط.. لكني لا أعتقد أنه كان يملك أية مؤهلات علمية بارزة.. ورؤية الأعضاء له من الداخل أنه كان بسيطا جدا في قدراته الذهنية ومؤهلاته العلمية (قبل أن يصير باباً للمولى).. ولكن بعد ذلك (ومن خلال تعليم المولى له) صار “منارة للعلم”.. والواقع أنني لمست ما يؤكد على التغيير الكبير الذي طرأ عليه في هذا الجانب من خلال مناقشاتي معه في أمور شتى في الفترة التي عرفتها فيه.. والفترة الأخيرة صار “بارزا” في العلوم الإنسانية والتقنية وحتى العملية (أعرف عنه أنه يقضي الكثير من وقته في تجارب وبحوث أمام شاشة كمبيوتره الشخصي)..

36- هل يمكنك التصريح بأسماء المؤسسات والشخصيات الأخرى التي تدير التنظيم؟

كما أسلفت معرفتي بالشخصيات القيادية معرفة شخصية تنحصر بعبد الوهاب وجلال القصاب.. وأعرف أسماء أخرى من الخارج (لأنها مكشوفة فعلا) لكني لم التق بها أصلا.. مسؤولتي المباشرة تعتبر أيضا من العضوات الفعالات التي قد انكشفت فعلا أمام العامة.. بقية الأعضاء الذين أعرفهم مجرد أعضاء وعضوات عاديين لن يضيف شيئا ذكر أسمائهم أكثر من أن يصطنع جداراً بيني وبينهم (أكثر مما هو موجود واقعا) ويحرمني فرصة أن أساعدهم في انتشالهم من الهوّة الخطيرة..

لا أحاول التستر على أحد ولكني أعرف جيدا أين يكمن الخطر! التركيز على كشف سر عبد الوهاب ومساعده الأول وانحرافاته الكبيرة هو الذي يمكن أن يعطي الثمار المرجوة في إنهاء التنظيم (المنحرف) للأبد.. أما بالنسبة للمؤسسات فما أعرفه منها غير شركتي القديمة  –التي لا أحب التصريح باسمها ولا التلويح لولا أهمية المسألة في كشف الحقيقة (ولكن لا يصعب التحقيق في ذلك)- كلها معروفة للجمهور -بل عرفتها أساسا من خلال ما أسمعه من الخارج لا الداخل- وبهذا فإن تصريحي لن يضيف أي جديد بل قد يعتبره الأعضاء حرباً عليهم في رزقهم أو انتقاماً لنفسي (لما فعلوه بي) وأنا أنأى عن إعطاء أي مأخذ في مواجهتي يمكن أن يحول هذه القضية الخطيرة إلى قضية شخصية (وهم يحاولون في إثارة شائعاتهم الإيحاء بذلك لكي تضيع الحقيقة كما بينت في مقالي “ألا من ناصر ينصر الحقيقة؟”)..

37 – ما الأمور الخاصة التي كنت تتباحثين فيها مع عبد الوهاب خلال لقاءاتك الفردية به؟

بعد فترة من دخولي التقيت بعبد الوهاب لأنه أراد أن يتعرف إلي شخصيا وكان اللقاء بحضور مسؤولتي المباشرة.. وكان الحديث الدائر يتناول بعض الأسئلة الشخصية عني وعن مشاكلي مع زوجي السابق (الذي انفصلت عنه بعدها سريعا).. وبعض الإرشادات العامة في كيفية تعاملي معها.. اللقاء الثاني كان بعد مدة.. وكان الاستدعاء لي من قبل مسؤولتي لحلقة دروس خاصة لمجموعة من العضوات مقررة من “الإمام” ويلقيها علينا عبد الوهاب.. حلقة الدروس تلك كان عنوانها “دروس الفراسة” ولم نعرف سرها في ذلك الوقت ولا حتى سر اختيار العضوات (المجموع 7) الذي لم يكن يجمع بيننا أي عامل مشترك يمكن تحديده..مستوى الدروس كان عاليا ويركز على كيفية التعرف على الآخرين من خلال تصرفاتهم وسلوكهم وصفاتهم العامة.. بالإضافة إلى مواضيع متفرقة عن الخوف والرجاء والتوبة التي لم تكن تتسق مع عنوان الحلقة الأساسي.. ولست أنسب لنفسي شيئا إذا قلت بأنني كنت معنية أكثر من أي واحدة بتلك الدروس أولا لتصريح عبد الوهاب بذلك، ثانيا لأني كنت أعاني من مشاكل خاصة (بين المجموعة) تتعلق بمعرفة حقيقة الآخرين (مما كان يصل إلى حد السذاجة) ورفضي التام لمبدأ الخوف والرغبة في بحثي عن المعرفة وثالثا لأن تحليــل عبد الوهاب للاختبارات التي خضناها بعد تلك الدروس كانت تنصب تماما على إجابتي وتقويمها، و أخيرا لأن “النصوص” الخاصة التي قرأت لكل واحدة منا كانت تخصني بينهم بتكليف من (الإمام) بأن أرسم “رؤية” للأمور بناء على ما تعلمته.. وهو النص الوحيد الذي أتذكره (تقريبا) حرفيا لذا سأذكره هنا للفائدة “إذا لم تكن لديك رؤية فابتكري واحدة وابدئي بتمعن لتوسيع أفقك العقلي.. أرغمي عقلك على التغاضي عن الأرض العريضة المنحدرة.. توقعي المعاني الحقيقية للإنجازات المستقبلية الباهرة الآن وهي على طريقها.. واعلمي أنه أحياناً فقط تكون ظلالها ملقاة باتجاهك على سهل الزمن.. خذي الحقائق كما هي عليه اليوم وحاولي استشعار نتيجتها المنطقية لعشر سنوات أو عشرين سنة أو نصف قرن من الآن…” (ولي في تحليل هذا النص رؤية خاصة سأذكرها عند تحليل رؤيتي العامة للموضوع).. في نفس فترة تلك الدروس تم استدعائي لأول مرة للقاء شخصي من قبل عبد الوهاب وفيه أخبرني بأن لي “دوراً ما هاماً” من أجله أدخلت في الأمر.. وأن هناك اختبارات كثيرة سأمر فيها في الأمر حتى أتأهل لذلك الدور.. كنت مسلِّمة تماما ولم أسأل عن ذلك الدور لإيماني بأني يجب أن أتعامل في الموضوع بتلقائية وإن نجاحي في أي اختبار لا يهم قدر أهمية إخلاصي ونيّتي في العمل.. وأريد أن أؤكد هنا على أن “التسليم” بأوامر”الإمام” المطلقة بدون أي تردد أحد أهم البنود عندنا في التنظيم وتحتاج لدرجة إيمانية ويقينية كبيرة يملكها القليل الذي كنت أُمثِّل أحدهم.. وقد يبدو ذلك غريبا جداً عند الناظرين إليه من الخارج ولكن كان لنا في ذلك شواهد عقلية وتاريخية تؤكد على أهمية هذه المسألة في التعامل مع المعصومين.. وطبعاً عبد الوهاب كان يمثل الإمام المعصوم في أي أمر يأتي به من عنده.. لذا فإن كل ما سأتعرض له من أمور غريبة -أعرف أنها ستكون صدمة للناظرين من الخارج وأتفهم سر الصدمة- هو من منطلق هذه الرؤية السائدة عندنا في الداخل وهي تبيِّن خطورة الوضع في حالة الاستغلال لهذا المبدأ الإيماني “التسليم”..

ما حدث بعد ذلك تتناوله قصة “الحسرات” واسم القصة هو لأحد النصوص من (الإمام) والتي فيها يعاتب أطرافا في (الأمر) لتجاوزهم أوامره .. وفيه أيضا ذكر لقصة الكلب الرمزية التي أستشهد بها في قصتي (من أجل إثارة التساؤلات في أعضاء الأمر المغيبين عن تفاصيل هذه القضية خصوصا وإن المعنيين بالنص والواقعة لم تكشف لأحد بعد)..

والقصة (باختصار) أنه استدعاني من أجل عمل بعض الاختبارات التي تؤهلني (للدور المزعوم لي).. قرأ لي (جزءا) من نص للإمام أتذكر مطلعة الذي يقول “ابلغ “فلانة” عني السلام.. وقل لها أني رأيتك في فتنة خطماء متطاولة…” وفي نهاية ما قرأه لي أمر بالامتثال له (أي عبدالوهاب) في عمل اختبارات تقيس درجة تحملي للتعذيب النفسي والجسدي.. ومن أجل رفع الإشكالات الشرعية كان هناك عقد شرعي مؤقت يتيح له التعامل معي كزوجة لمدة ثلاثة أيام.. توقفت بعد ذلك الدروس واللقاءات.. ومررت بعدها بمشاكل مختلفة جعلتني أكتب له وأسأله عن سر توقف الدروس ، وكيف أن الدروس كانت تحقق لي من المعرفة ما يرضي تطلعي.. استدعاني بعدها سريعاً وهو يؤكد لي بأن ما بيننا لم يتغير.. لم أسأله عن المدة “التي نظرياً قد انتهت” لأني لم أكن أشك ولو للحظة في نزاهته.. ظلت العلاقة بيننا لمدة شهر في لقاءات خاصة وأحاديث لا تتعلق كثيرا بالتنظيم ولا بالإمام وهذا أدى لانزعاجي وشعوري بالقلق الروحي.. لقد كانت العلاقة معه كأي علاقة مع أي رجل آخر ولم أرَ فيها شيئا مما أطلبه.. أطلعته على شعوري بالانزعاج والقلق الروحي.. حاول أن يوحي إليَّ بأن القضية مستمرة لأني “أنا” التي طلبتها.. فكتبت له أسأله الابتعاد -ما دامت المسألة كذلك- فلم أكن لأقبل أن تقف نفسي دون وصولي إلى الحق.. كان لي ما أردت (بعد شهر من علاقتنا تلك).. ثم مضت سنون بعدها ولم التق به ، ولم أحاول خلالها تفسير الحادثة من طرفه ، بل اعتبرت نفسي مخطئة لأني انجرفت عاطفيا لمدة معه..

في الفترة الأخيرة التقيت به لقاءات عمل واجتماعات مع أعضاء في حلقات خاصة (كان الغرض منها الوصول إلى غايات “هامة” في التنظيم)..

-38 أريد أن توضحي بصورة مكثفة كيف صاغتك رؤية (الأمر) و كيف كنت ترين من خلالها ذاتك و العالم في كل تجلياته الوجودية؟

كما ذكرت من قبل إنني لم أعرف الحياة العملية لأي فكر أو عقيدة قبل انضمامي “للأمر”.. كنت أبحث طوال عمري عن المعرفة وهذا البحث شغلني عن أي تفاعل حقيقي مع الناس من حولي.. وربما هذا هو سر (سذاجتي) التي كانت مضرب الأمثال في معرفة الآخرين.. عندما شعرت بأنني وصلت إلى بداية الطريق في طريق (العرفان) أصبحت أعاني من الشعور بالفقر إلى معرفة طريق العمل.. وذلك من منطلق إيماني بأن المعرفة بلا عمل كشجر بلا ثمر كما في الآية الكريمة “إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه”.. كنت أشعر بأني كطائر بلا جناح .. لم أكن أشعر بالراحة لفكرة أن العمل المقصود هو عبادات ظاهرة أو تخبط في السير في الحياة وزعم بأن ذلك عمل.. كنت احتاج الدليل!

لذا كانت المرحلة الأولى لي في الأمر هو شعوري أنني قد وصلت الى ذلك الدليل.. كان الأمر بالنسبة لي –حينها- مدرسة أتطلع فيها للمعرفة التطبيقية التي تجعل من عبادة الله (الغني عن العبادة) خدمة لوليه وحجته في الأرض.. وأعطاني هذا الشعور زخما وهدفا للحياة كنت أبحث عنه طويلا.. في البداية كنت شعلة حماس وطموح ورغبة في أن أنهل من (مدرسة الإمام) ما يوصلني (للمعرفة العليا) وكان ذلك مما ميز شخصيتي عندهم.. أسلوبي في التعمق الفكري، النقد الجدلي والتأمل الذاتي -بصورة تشذ عن المجموع- كان يعيقني (إلى حد ما) عن أمور عملية أخرى؛ لذا حاولت مسؤولتي منذ البداية أن تهذبه وتوجهه إلى أمور أكثر عملية.. في البداية قاومت التغيير لكنني بدأت أستسلم للضغوط تدريجيا من أجل أن أندمج وأتفاعل مع المجموعة.. إذن أعطاني “الأمر” في هذه المرحلة رؤية خاصة بالمعرفة تربطها بالعمل والتفاعل مع الآخرين وهذا أول درس كبير كنت أفتقده بشدة في رؤيتي للأمور..

المرحلة الثانية هي مرحلة ما بعد الذنب (الذي أذكره في قصة الحسرات).. كانت هذه المرحلة من أصعب المراحل التي مررتها في حياتي وأسميها فعلا مرحلة “العمى”.. كنت قد بدأت أفقد قبلها مقاومتي ضد الذوبان في المجموع (وهذا سر الذنب في المرحلة الأولى).. وهذا أخرجني من حالة (التسليم إلى الاستسلام).. في هذه المرحلة كنت أعاني من الإحساس بالذنب والإثم بدرجة رهيبة.. بدأت أشعر بكراهيتي لذاتي وأحطم أي ثقة بها.. لم يمنعني ذلك من العمل من أجل الأمر.. فأنا لم أفقد شيئا من إيماني به ولا “بباب المولى”.. فقط فقدت الثقة بنفسي وبمعرفتها الزائفة.. في هذه الفترة كان “الأمر” بالنسبة لي سجناً.. بل كان وجودي كله سجناً كنت أؤمن بأني استحقه (لشعوري بالذنب الذي سبق ذكره).. حياتي كانت –حينها- كتلة من المشاكل العملية.. مشاكل شخصية مع زوجي السابق (بعد رجوعي إليه بعد الانفصال الأول).. إرهاصات الانفصال الأخير.. رحلات في المحاكم الشرعية وسلسلة من القضايا الشرعية المتعلقة بحضانة ابنتي.. ضغوط كبيرة في العمل وتحملي للمسؤولية الكاملة عن الشركة في أصعب المراحل التي تمر بها.. مشاكل شقيقتي وأمراضها الروحية المتعبة بعد دخولها للتو في “الأمر”.. مسؤولتي المباشرة تخطئ فهم سر الانقطاع المفاجئ بيني وبين “باب المولى” فتتصرف معي على أساس أنني أجرمت في حقه.. و.. ولكني لم أكن أعاني من أي شئ من هذا غير ما كنت أشعره من آثار الذنب وبعدي الروحي عن الله -الذي شعرته لأول مرة بعد بصيرتي الأولى-… هذه الفترة أعطاني “الأمر” رؤية جديدة في معنى السعادة والشقاء.. رأيت الشقاء يتمثل في الإحساس بالذنب والشعور بالخزي أمام الله إذا اختار الإنسان البعد بعد الوصال.. ورأيت السعادة في التعالي على كل الآلام ومواصلة تلمس البصيرة بعد العمى.. هذه الفترة استمرت ما يقارب الثلاث سنوات وحاولت التكفير فيها بالعمل المضني من أجل خدمة “الأمر” في الجانب العملي بناء على تعاليم وتوجيهات الأمر..

المرحلة الثالثة وهي آخر مراحلي في الأمر وأسميها مرحلة بدايات البصيرة وهي قد بدأت قبل خروجي من الأمر ما يقارب السنة.. رؤيتي للأمر ولنفسي بدأت تختلف ولا أستطيع أن أحدد حادثة معينة (مادية) أدت لهذا التغيير أكثر من سلسلة مواجهات وتحديات كبيرة في المجال العملي ونضوج فكري نتيجة أحداث الفترة الماضية.. وربما كان لبعض الدروس الجديدة (نص القدر الذي ذكرته في عالم المجانين-1) دور كبير في نشوء هذه الرؤية الجديدة.. هنا بدأت استرد بعض ثقتي المفقودة وأحاول التغيير في كل ما حولي بناء على رؤيتي لمجريات الأمور… وفعلا كانت أول رؤية صغتها تتعلق بتغيير مسار الشركة (أدت إلى نقلة نوعية  وتطور هام في مسيرتها).. ومرة أخرى بدأت أجري بعض البحوث المعرفية -بعد توقف طوال المرحلة السابقة- التي تتناول عوامل التغيير في الذات وتدريسها للمجموعة التي ألتقي بها (وكانت تمثل رؤية جديدة لأسلوب صياغة الذات).. في هذه المرحلة بدأت أرى نفسي مرة أخرى كائنا مستقلا يملك مقومات نفسه ويملك حرية التفكير والمناقشة والاعتراض.. لم تكن تلك الرؤية وليدة “الأمر” كتنظيم ولكنها تدين في تكونها للنهج والدروس العظيمة التي علمني إياها “القدر” في تلك المدرسة.. وأظن أنه لولا هذه الرؤية التي قد صاغتها مجموعة تعاقبات العمى والبصيرة لما تمكنت يوما من النفاذ من مرحلة العمى أبداً.. لا أعني فقط الخروج من “الأمر” بعد الانحراف فقد كنت في عمى قبله وكان يمكن أن أكون -هكذا- أبدا بدونه!!

39- بمن تأثرت من الكتب و المفكرين ؟

بدأ شغفي بالقراءة منذ سنواتي الأولى في المدرسة الابتدائية.. لم يكن هناك ما يشغلني عن القراءة فعلياً ، فقد كنت أُعْرف بالانعزال والتأمل الذاتي منذ البداية.. وكانت الدروس المدرسية بالنسبة لي مملّة ، ولا تأخذ من طاقتي شيئا يذكر ؛ لذا تفرغت بصورة رئيسية للبحث والقراءة.. أذكر عندما كنت في المدرسة الإعدادية إصرار أمينة المكتبة على منحي وساما خاصا كصديقة المكتبة المميزة ، ورفض المديرة لذلك ؛ لأنها لم تكن تريد الطالبات الأخريات أن يفعلن مثلي (إذ كنت أتسرب من الحصص لأذهب للمكتبة وأقرأ).. ولكني الآن لا أذكر فعلا لمن كنت أقرأ طوال تلك السنين فلم يترك أي مفكر معين  بصماته الفعلية في تفكيري.. أتذكر أن قراءاتي كانت في الفلسفة ، و علم النفس، و الأديان، و الكتب الشيوعية (لفترة)، و التاريخ، و الشعر والأدب..وكنت أفضل التنويع والتنقل في الأساليب والأفكار ؛ لذلك لم ألتزم بمنهج أي مفكر أو كاتب معين.. تلك هي المرحلة الأولى لي كباحثة عن الطريق..

المرحلة الثانية هي بداية تعرفي على المدرسة العرفانية. وهي فترة تركزت فيها قراءاتي على المعرفة ، والعقيدة ، والأصول ، والمنطق ، ولم ألتزم أيضا  بأي مفكر معين أو حتى مذهب إسلامي ما بل كانت قراءاتي تعتمد على الموضوع . وعموما لم يكن -في ذلك الوقت- الكثير من المؤلفات العرفانية التي تجعل الكثير من الخيارات متاحة.. ومن المفكرين الجيدين الذين قرأت لهم مطهري ، وعلي شريعتي ، وملا صدرا والإمام الخميني ، وابن العربي.. (ورغم قراءاتي الكثيرة لم أكمل كتاباً فقهياً حتى الآن!) ..

المرحلة الثالثة هي فترة انضمامي للأمر وقد وجدت في الدروس والنصوص غالبا خلاصات معرفية كانت تشبعني إلى حد كبير (مما قلل من قراءاتي الخارجية وخصوصا مع انشغالاتي العملية في هذه الفترة).. في هذه الفترة كنت أعتمد على التفكر الذاتي، التحليل والتأويل في إطار تلك الدروس التي كانت تتناول جميع النواحي المعرفية والعملية في نهج متسق.. وأنا أدين لتلك الدروس (المعرفية والتطبيقية) إلى حد كبير في بناء نهج معرفي خاص أعتبره أكثر شمولية من كل ما سبق اطلاعي عليه في بحثي السابق..

40- كيف استقبلت المدرسة و الأسرة  أسئلتك الوجودية؟

في قصة “رحلة الكآبة” أنقل حالة مررت بها في بداية بحثي عن الطريق.. كنت أشعر بالغربة إلى درجة كبيرة .. كانت طريقتي في الحياة والتفكير شاذّة بالنسبة للمجتمع الذي أعيش فيه ، ولم أكن أعرف حقا ما الذي يجري بداخلي.. اعتقدت في البداية  أن الجميع يحمل نفس الهم في البحث عن سر الوجود.. ولكني اكتشفت أن  اهتماماتهم مختلفة كثيرة.. كان شعوري بالغربة في هذا العالم كبيراً (أصف ذلك في “الحنين إلى الغربة”).. أدى ذلك إلى اعتزالي عن الآخرين تدريجيا.. وعوضت ذلك برياضات التأمل الذاتي (ابتدعت لي شيئا شبيها باليوغا الشهيرة قبل أن أعرف أنها رياضة روحية موجودة) ولجأت إلى قراءة الكتب ؛ فهي صديقي الوحيد..

في المدرسة كنت أكثر الجدال مع معلماتي عن ( سر الوجود ) منذ أن كنت في الصفوف الأولى.. اعتبرتني المعلمات مشاكسة ومحبة للجدال.. عاملوني على هذا الأساس فزاد تمرّدي على كل قوانين المدرسة.. أذكر أن المديرة كانت تفكر أكثر من مرة أن ترفع تقريراً للوزارة لفصلي (بعد تكرار شكاوي المدرسات) ولكن صعب عليها اتخاذ هذا القرار ؛ لأنني غالبا ما كنت الطالبة الأولى في المدرسة..

أفراد أسرتي عرفوني هكذا منذ البداية.. حاول بعضهم أن يقنن أسلوب حياتي (الذي لا يعجبهم) فتمردت على الجميع بعناد فتركوني لشأني (وتلك المعرفة بي تجعلهم لا يَعْجَبون كثيراً من إصراري على هذه المواجهة اليوم).. كان من الصعب أن أشرح لهم تلك الحاجة الملحة في داخلي ، لأنني لم أكن أستطيع أن أفسِّرها لنفسي..

في تلك الفترة  تعلقت فكرياً بأحد إخواني الذي كان شيوعيا..شخصيته كانت فريدة بينهم وحواره كان مميزاً ؛ لذلك كان أول من فتحت له قلبي وتعاطيت معه في أسئلتي الوجودية.. أعطاني الكثير من الكتب الشيوعية.. قرأتها ولكني لم أتأثر بها فعلا كتأثري بشخصية أخي (المنفتحة).. لقد كنت أبحث عن “رمز” أرى فيه التطبيق.. بعد مدة انهارت شخصية أخي أمام عيني –بعد أن هزمته صدمات الحياة وبدأ يقتل عقله وروحه الشفافة بتعاطي المخدرات- .. هزّني ذلك الأمر كثيراً وعرفت حينها أنني لم أكن أرى في التفكير الشيوعي إلا شخصه.. قرأت صفحة وجداني مرة أخرى وعرفت أني لم أؤمن إلا بالوهم (الرمز) المتمثل في أخي..

في الثانوية بدأت أحاول أن أنخرط في صداقات ما.. تعرفت على بعض المجموعات الملتزمة دينياً.. كان من الصعب حتى ذلك الوقت أن يكلِّمني أحد عن الالتزام الديني ، ولكني ولأني  كنت أعاني من الوحدة حاولت أن أتفاعل معهم بأي صورة. كانت طريقة التفكير مختلفة تماما لكني حاولت أن أنظر في طريقتهم فربما يمنحني ذلك الشعور بالاطمئنان الذي كنت أراهم فيه..  التزمت فعلا لفترة بطريقتهم .. لبست الحجاب وحاولت الالتزام “بشعائر” الدين.. ولكني لم أستطع أن أصمد فترة طويلة.. عشت في هذه الفترة صراعاً مريراً كنت أشعر بأن هناك حقيقة ما في “الدين” ولكن الأسلوب الذي تعرفت فيه (من خلالهم) على الدين  كان ضد كل أساليبي في التفكير.. لم أشعر في أي فترة سابقة بالضيق كشعوري في هذه الفترة فقد كرهت خضوعي واستسلامي للمنطق الديني (البالي) أكثر مما كرهت أي شيء في حياتي .. شعرت أنني أُنافق نفسي ومن حولي بذلك الالتزام الديني المزيَّف  وهنا سقطت في دوامة  الشعور بالذنب و الاكتئاب النفسي الشديد (الذي أصفه في “رحلة الكآبة”).. طبعا عندما خرجت من تلك الحالة كنت قد رفضت الدين مرة أخرى بصورة أقوى.. وألقيت عني كل مظاهر الدين (بل وتماديت في إظهار هذا الرفض أمام الآخرين تحدياً).. فقط تغير الحال مع بداية الصحوة التي عرفت فيها  مدرسة العرفان..

41 -كيف بدأت رحلة خروجك من هذا العمى ؟

كما ذكرت في إجابتي للسؤال السابق، رحلة الخروج من العمى صاغتها مجموع المراحل الماضية.. هنا أحب أن أؤكد أن ما شرحته حتى الآن من طبيعة التنظيم لا يكشف تماما مدى الصعوبة في الوصول  إلى ما وصلت إليه من وجهة نظر عضو من الداخل.. إن ما يجعلني أسهب في الموضوع بتجرد هو كوني (الآن) خارج التنظيم ولو التقيت بي منذ سنة ، لما كان يمكن أن أشرح الأمور بهذا الوضوح.. ما يفتقده الناظر إلى الأمور من الخارج هو الخلفية والتعايش اليومي بواقع كنا نعيشه في الداخل.. واقع كنا نرى الكثير من الدلائل (التي هي من صميم عقيدتنا الإيمانية بل وحتى المنطق العقلي المجرد) التي تجعلنا نوقن بأننا في طريق الحق نسير.. وإذا أردت أن تعرف صعوبة المسألة فحاول أن تنزع إنسانا من عقيدته التي قد ولد عليها وتثبت له (بأي منطق) أن عقيدة (الضد) هي العقيدة الصحيحة.. ما زال هناك الكثير من الأمور التي أحب أن أوضحها عندما أتعرض لرؤيتي في القضية كاملة، ولكني الآن سأذكر بعض المقدمات التي سبقت خروجي من الأمر التي قد تجيب شيئا من هذا السؤال..

أولا كما ذكرت في إجابتي لطريقة دخولي للأمر، أن أسلوبي وطريقتي في الإيمان بالقضية كان منطلقها نهجا معرفيا أكثر من أي حادثة بعينها.. إن خروجي أيضا مبني على تراكمات معرفية صغتها في رؤية متكاملة لولاها لما أمكن لي الخروج أبدا مهما شهدته من حوادث قد تصدم الناظرين من الخارج (كقصة الحسرات) وذلك لأن إيماني ويقيني في هذا الأمر كان قائما على “التسليم” الذي يقضي بوجود الكثير من الأمور التي لا يمكن أن يفسرها عقلي (الآني) أمام العقل الكامل الذي يمثله المعصوم (خليفة الله) وفي قصة موسى والخضر مثال على ذلك.. إذن فأنا لا أعجب كثيرا من رفض الأعضاء (الآن) التصديق بحوادث جزئية على أنها دليل على باطل ما هم فيه لأن أي حوادث جزئية (مهما كان عددها أو نوعها) فإنها بالنسبة لهم لا تصمد أمام مجموع الحوادث التي شهدها معظمهم وعززت يقينهم بالأمر بالإضافة إلى الرؤية التي يملكونها أو النهج المعرفي الذي يعزز هذا الإيمان!! .. إذن فأنا شهدت في فترة بقائي في الأمر والفترة التي سبقت خروجي من الأمر الكثير من القضايا (التي منها ما يصدم) ولكني لم أقف حينها أمامها لأني اعتبرتها شكاً ضد يقين (إذا عرض لك شك في يقين فامضِ على يقينك).. فأي قضية كتلك تحتمل وجهين إما أن تكون القضية من الغيب الذي له تفسير خفي أجهله لحكمة ما (كواقعة خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار الذي قام به الخضر أمام موسى) أو يكون فعلا انحرافاً يجب الوقوف أمامه.. و”المستسلم” لقدسية الأشخاص (الذي لا أساس عقلي ولا شرعي لقدسيتهم) لا يرى هذا الاحتمال لهيبة الموقف!.. ولكني -واعتبر أن ذلك لطف إلهي خاص بي- وبتلك التعاقبات من العمى والبصيرة التي شرحتها في جوابي السابق وبعد صدامات عنيفة مع نفسي وتعاقباتها ومع الكثير من المقربين الذين مروا بتعاقبات شبيهة بالإضافة إلى أثر الدروس الخاصة (دروس الفراسة) وتطبيقاتها العملية في حياتي، قد مكنتني (أخيرا) من انتزاع هذه القدسية الزائفة.. وحينها فقط تمكنت من تفسير شواهد الانحراف بصورة محايدة وعقلانية..

42- هل لك أن تحدثينا الآن عن الانحراف الكبير؟

أعتقد أن الانحراف في أي حركة أو مجتمع أمر طبيعي متوقع بل قد يبدو أحيانا – عند استقراء التاريخ- حتمي لا تشذ عنه أي حركة تغيير.. وذلك لأنه من وجهة نظرة الباحث الاجتماعي أحد الأدوار الطبيعية لدورة حياة الحركات.. التي تبدأ بفكرة وليدة (عادة ما تحارب في البداية) ثم تكبر أو تنمو ببطيء حتى تصل لمرحلة النضج ثم الازدهار..وتبدأ بالاستقرار فترة قبل أن تبدأ عملية الشيخوخة التي تتمثل في التراخي والانحدار حتى الموت.. أو النظرة الإيمانية التي تنطلق من مفهوم السنن الإلهية التي لا تبدل (ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) فإيتاء الكتاب بداية الفكرة أو العقيدة أو الحركة.. وطول الأمد تعبير عن مرحلة النمو والنضج الذي ينتهي لمرحلة الاستقرار.. وقسوة القلوب هي أقرب تشبيه لحالة جمود الفكر والتعصب الأعمى للعقيدة أو الفكر وهي بداية الانحدار (الانحراف الخفي) وأخيرا الفسق وهو الانحراف الفعلي البارز.. إن عدم الاعتراف بهذه الحقيقة من قبل أي حركة أو تنظيم (مهما كان) غرور ومكابرة.. بل إن مسألة ظهور الإمام المهدي قائمة على هذا المبدأ (يخرج ليملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا..) فهذا الحديث المتفق عليه يؤكد حتمية الانحرافات لا بمعنى السعي فيها من قبل المؤمنين بقضيته أو عدم محاولة رفع الظلم (كما يرى ذلك بعض المتواكلين) بل إنها تقرير لطبيعة الإنسان والمجتمعات القابلة للانحراف على طول الطريق (مهما سعى المصلحون في طريق الإصلاح).. تلك هي مقدمة أحببت أن ألفت الانتباه إليها وقد عبّرت عنها في (مقالي “كيف نكتشف الانحراف؟”) وأرجو أن تنير شيئا في عقول أعضاء (الأمر) الذين يقفون في رفضهم القاطع لحقيقة بسيطة كهذه وعدم محاولة نقاشها أصلا ضد كل قوانين المنطق والإيمان!! أما ما اكتشفته من انحرافات فهي على مستويين: المستوى الأول : هو مستوى القيادة وهو الانحراف الأخطر والأبرز ، و المستوى الثاني على مستوى الأتباع وسأفصل ذلك فيما يلي: أولا ظواهر الانحراف في القيادة: وتتمثـــل أولا فـي عبد الوهاب البصري (وأكثر الدلائل التي أملكها هي ضده شخصيا) ويتبعه جلال القصاب (الذي أعرف معلومات أقل عنه ولكن لقائي به بعد الانحراف وما رأيته من تأييد كــامل لعبد الوهاب –رغم معرفته بكل انحرافاته- وكونه المستفيد الأول بعده من هذه الانحرافات ماديا واجتماعيا يجعله في نفس مرتبة عبد الوهاب أو المرتبة التالية له مباشرة)..

  1. انحرافات سلوكية وشرعية وتتمثل في الاستغلال لمكانته “المقدسة” في التعامل مع (بعض العضوات) إرضاء لنزواته وشهواته المنحرفة.. ويمكن الرجوع إلى “قصة الحسرات” و”الشقيقتان” لتلمس بعض الوقائع (الخاصة).. طبعا المسألة حساسة جداً وفي غاية السرية لذا يصعب معرفة هذه الأمور إلا إذا كانت حوادث شخصية.. وقد سمعت -من أطراف خارجية- أنه قد ضبط (مؤخرا) مع إحدى العضوات النشطات من قبل شرطة الآداب في خلوة مشبوهة مما يؤكد على أن هذه الحوادث في ازدياد مطرد.. وهناك قصة معروفة في بعض الأوساط الخارجية تتحدث عن اعتدائه الجنسي على (أحد محارمه القصر) من عدة سنين.. وأنا لم أسمع بهذا الموضوع إلا من خلال صاحبة الشأن نفسها التي ذكرت الحادثة بتفاصيلها الدقيقة (وكنت حينها صديقة خاصة لها و لم تعرف عن علاقتي به أصلا!).. بعد خروجي تحققت من ذلك وعرفت أن القضية معروفة ومنتشرة ولكنه (عبد الوهاب ال..) -كما ذكرت لي صاحبة الشأن- اتهمها بتهم شائنة وأجبرها على السفر خارج البحرين لتتشرد عدة سنين حتى تهدأ الأمور، وينسى الناس هذه القضية!!!

  2. استغلال مادي جشع لأموال التنظيم في أمور شخصية -التي تجمع من جميع الأتباع لأجل تمويل أنشطة التنظيم وإعانة أفراده المعوزين-.. فعبد الوهاب وجلال القصاب كلاهما عاطل عن العمل فعلياً ، لكنهما يعيشان حياة مرفهة إلى أبعد الحدود.. وتذكر قريبة عبد الوهاب أن صرفه على عائلة والده – إذ كانت تعيش معهم- سخية إلى حد ملفت لانتباه الجميع خصوصا لعلمهم بأنه لا يملك أي موارد معروفة (وكانت تتساءل عن سر غناه الفاحش!)..

3- انحرافات في السلوك العام والأخلاق والتعامل مع الآخرين.. في البداية كان يعرف عن عبد الوهاب أنه (متواضع وبسيط).. ولكنني رأيته بعد سنين في آخر عهدي بالأمر طاغية مغرور.. له نفس (سلطوية) ولسان جارح ينتقد الأتباع “المستسلمين” بقسوة جارحة ويحطم ثقتهم بأنفسهم بصورة لا يمكن أن تكون عفوية وغير مخطط لها.. قريبته تنقل عن عائلته خوفهم الشديد منه وحب السيطرة الشديد عنده على الجميع.. وتذكر لي موقفاً (يصفع) فيها (والدته) بقسوة.. طبعا هذه القريبة قد نالت على يديه الكثير من القسوة بعد أن كشفت معرفتي بقضيتها أمام الأعضاء وهي الآن تحت سلطته المباشرة (وتعمل في المؤسسة التقنية السابقة لي) وزوجها (ذو الشخصية الضعيفة) تحت نفوذه المطلق ..وطبعا تلك الإجراءات هي من أجل إرغامها على إنكار القضية في حالة إثارتها من قبلي.. عموماً موضوعها معروف ومنتشر قبل أن أتكلم فيه وحتى الأعضاء لم ينكروا انتشاره ولكنهم يكررون ما يمليه عليهم (قديسهم)..

4- أما أعجب المفارقات التي رأيتها في آخر الحلقات التي حضرتها برئاســـة عبد الوهاب أنه كان يمنع فيها ذكر أي حديث أو سؤال عن “المولى” والتمهيد له وهو يقود تنظيم “أمر المولى”!! ما لاحظته أنه كان يركز على إبراز مؤهلاته العلمية (الباهرة).. كان يوحي للجميع أنه رمز كبير.. ويدفع الجميع لأن يكونوا نسخاً ممسوخة مثله ويتعمد التركيز على الجوانب العملية التي تدر عليه أموالا أكثر!! ولأول مرة كنت أشاهد من حوله مجرد ظلال مسلوبة الإرادة والفكر مرعوبة من نقده الجارح المتوقع في أي لحظة!!

ثانيا الانحرافات على مستوى الأتباع: لا شك أن انحرافات الاتباع والقيادة مترابطة إلى حد كبير وذلك نتيجة التقليد والاتّباع والتقديس الزائف.. فالتمجيد والقدسية التي يبديها الأتباع لقيادتهم عامل من عوامل نشوء حالة الغرور والتسلط في نفس القيادة.. كما إن مجرد الاتصال بالقيادة المنحرفة أثره في نفس الاتباع والانجراف إلى نفس الطريق(رغم أن التعاليم النظرية المتمثلة في الدروس المثالية تسير في منحى آخر تماما) .. وإلى هذا أشير في “حفاة يمشون على الجمار الملتهبة”.. أما أهم ظواهر الانحراف التي شهدتها في الأتباع فهي:

  1. الغرور وهي صفة عامة تشمل كل ظواهر التعصب للرأي والتعالي على الآخرين والشعور بالتميّز على طبقات المجتمع الأخرى ، والثقة بالنفس إلى حد الاعتداد واستكثار الأعمال (من أجل الإمام) وبالتالي الشعور بعدم إمكانية الضلال لهم (جزاء لما فعلوه).. وهذه أهم وأخطر ما شهدته في الاتباع بصورة عامة ( وهذا ما أذكره بالتفصيل في رسالتي إليهم “نداء إلى الأرانب المذعورة من الحقيقة..”

  2. التساهل الديني إلى درجة مخلّة بالأحكام الشرعية والالتزام الأخلاقي وذلك في سبيل تحقيق أهداف القيادة (أذكر شواهد على ذلك في مقالتي “كيف نكتشف الانحراف؟” و”من هو المفلس؟”).. وأشير فيها إلى قانون جديد مبتدع (الغاية تبرر الوسيلة) كنت أجادل فيه مسؤولتي (بعد إعلاني الخروج) أنه لا يصح استخدامه أبداً فقررت لي بدون أي تردد أن هذا القانون معمول به فعلا..

  3. “الاستسلام” التام لأوامر القيادة.. فقد الهوية الذاتية تماما والانصهار في المجموع الممسوخ!!

43- كيف ترى هذه الرؤية الخاصة بالمعرفة التي تحدثتِ عنها  (الآخر) المختلف معك في الدين أو المذهب أو العرق أو الثقافة أو الفكر؟

أعتقد أن نتيجة مرور أي إنسان بأطوار التفكير المتمردة على القوانين والعرف وتعاقبات العمى والبصيرة في رحلة صادقة من أجل المعرفة، أن يصير منفتحاً على الرأي (الآخر) ليس انفتاح مجاملة وذوق أدبي بل انفتاحاً من أجل صميم المعرفة.. ولقد كنت وما زلت أمثل (الرأي الآخر) –لمعظم إن لم أقل كل من حولي- وذلك في كل مراحل تفكيري الماضية (والحالية).. وليس ذلك حبا في التميز أو العناد بل أعتبرها نتيجة للصدق في الطلب الذي ينفّرني من التوقف عند حد معين (هو الموجود أو المتعارف عليه) من المعرفة أو الرضا بأي رؤية مهما كانت بأنها رؤية متكاملة غير قابلة للتطوير أو للتعديل.. وهذا أكسبني في بداية حياتي منطقاً جدلياً كنت أخضع فيه كل شيء للنقد والتحليل.. عندما دخلت الأمر بهذه النفسية أُنتقدت على ذلك كثيراً من قبل من حولي ربما لفهمهم ذلك على أنه تعالٍ على منطق المجموع “المقدس”.. ولم يقبل طلبي أبداً الذي كنت أكرره في الإعلان عن هويتي (كعضو) في الأمر أمام المجتمع الخارجي.. لقد كنت أرغب في ذلك بصورة رئيسية من أجل أن أثري رؤيتي لحقيقة النفس والآخرين عن طريق استفزازهم بهذه الحقيقة .. في مرحلة العمى (الذنب والاستسلام) فقدت شيئاً من روحي المجادلة النقدية (في الجانب الفكري) ولكني لحسن الحظ عوضته في جوانب إدارية وعملية (إذ كان من عوامل نجاحي في العمل الإداري هو القدرة على الحوار والتفاوض مع المنافسين والعملاء والموظفين).. وهذا ساعدني في الحفاظ بهامش كبير من قدرتي (واستمتاعي) بالحوار وتبادل الآراء حتى مع أكثر الأفكار والثقافات والعقائد بعداً عن فكري وثقافتي وعقيدتي.. تجربتي بعد الخروج من الأمر والصدمات الأولية التي لقيتها في تفهم رفاق الدرب لرؤيتي أعطتني بعدا أكبر في تفهم مشكلة الرؤية الواحدة والتعصب للرأي وعدم تقبل الحوار وهي التي تدفعني اليوم لطلب الحوار مع الجميع مهما كانت خلفياتهم الثقافية والفكرية والعقيدية من أجل الوصول إلى رؤية مشتركة أكثر تكاملا من رؤيتي أو رؤية الطرف المقابل وحده.. وذلك لحل إشكاليات هامة في المعرفة وعوامل الانحراف وتحليل نتائج (تعاقبات العمى والبصيرة).. و..”فقط الحوار يحسم القضية!” (عنوان لأحد مقالاتي في الصفحة يناسب ذكره هذا المقام!)

44- كيف تقيمين هذه الرؤية الآن؟

أنا أعتبر نفسي رحالة في البحث عن الحقيقة أو لأسميها تسميتك (الرؤية).. وأرجو أن أظل كذلك ما بقى لي من العمر.. رؤيتي التي ذكرتها خلال وجودي في الأمر تعبر عن حدود تجربة وفكر وثقافة وعقيدة كنت أتبناها في ذلك الوقت، وقدرة تحليلية بمستوى معين كنت أقف عنده في تلك المرحلة.. ولي في كل مرحلة ومع كل تجربة وكل مناقشة أو حوار فكري أو تأمل ذاتي جديد بعد آخر وعمق لم يسبق أن سبرت أغواره.. وبالطبع فإني (اليوم) أرى أن رؤيتي بالأمس كانت قاصرة لنقصها الكثير من المعطيات التي اكتملت بعدها ولا شك أنني كنت حينها أفتقد الكثير من النضج الذي جعل من رؤيتي تلك ضيقة وتقف مكانا لم تراوحه.. وربما غداً سوف أخبرك الشيء ذاته عن رؤيتي اليوم.. ولا أرى هذا تذبذبا أو عدم استقرار فكري بل هي مسيرة التكامل الطبيعي للمعرفة.. وأنا أثق بأن أي لحظة أقف فيها عن رؤية الأمور بهذه الصورة ستكون تعاقباً جديداً (للعمى) أرجو أن لا أقع فيه (كثيراً)!!

45- بعيداً عن شخصية عبد الوهاب ، كيف تنظرين الآن إلى فـكرة ( باب المولى ) ؟

أجيب على هذا السؤال من ناحيتين الأولى باب المولى “كفكرة نظرية” تتصل بالعقيدة الإيمانية.. والثانية باب المولى “كتنظيم عملي” أو حركة تغيير دينية أو سياسية أو اجتماعية.. وعقائدياً أنا لا استبعد (الأصل) في فكرة باب المولى أو فكرة شبيهة منه – كما لا أستبعد قضايا إيمانية كثيرة- على أساس إيماني بحت. وكما ذكرت أننا هنا نصطدم بقضية موغلة في العمق العقيدي ومناقشتها تحتاج إلى الخوض في تفاصيل كثيرة أنا مستعدة للحوار فيها وتبادل الرؤى للوصول إلى أغوارها (في مكانها المناسب).. أما “باب المولى” كتنظيم وحركة تغيير فهي لا تختلف عن أي حركة أخرى تمر في تعاقبات طبيعية (أو سنن إلهية) تحكم مسيرتها .. ونظرتي في ذلك قد تشبه النظرة لـ “الولي الفقيه” التي يؤمن الكثير بها (نظرياً) ولكن قد لا يجدون اليوم أن تطبيقها يحقق الفكر الأصلي.. أما شخصية عبد الوهاب في القضية فأنا لا أجد فيه –  كما عبرت عنه في قصة “منارة العلم”- غير صعلوك مناسب لدور الاختبار (العام) للنفوس تماماً كدور إبليس الذي يمثل الجنّ في السماء.. (وهذه قضية إيمانية معقدة أتعرض لها في مقالي “معرفة القدر”)

46- هل يمكن أن يكون هناك باب آخر للمولى؟

هل تعني ما أعتقده أنا أو يعتقده الأعضاء في الأمر؟! وهل تعني تعدد “الأبواب” أو استبدال “الباب” في المستقبل؟! بالنسبة للأمر لقد تربينا فيه (نظريا) على الاحتمالات المفتوحة التي لا تستبعد أياً من هذه الأمور..أي يمكن أن يستبعد “الإمام” الباب في أي وقت، ويستبدل به باباً آخر.. ويمكن أن يرفع “الأمر” تماما (وهناك أحد النصوص التي تنبئ بهذا المضمون “كيف بكم إذا رفع الأمر عنكم وصرتم كقطيع بلا راع”)..

بالنسبة لي لا أستبعد أياً من هذه الأمور (من الناحية النظرية) كما لا أستبعد ظهور (المخلِّص) قبل أي من هذه التداعيات (والمعروف أن أمره بغتة) وأني إذ أقول هذا لا أثبت إلا حقيقة بسيطة بأن لا أحد يعرف أو يمكن أن يتكهن بما يأتي به الغيب!! الشيء الذي أحب التأكيد عليه هو أنني رغم تجربتي المريرة في تعاقبات العمى، لا أحمل ردة فعل معاكسة تجعلني أرفض أي فكر – مهما كان- بدون البحث والتنقيب عن جذوره وذلك بدعوى حماية نفسي من المرور بتجربة شبيهة .. وأعتقد أن التجربة قد جعلتني الآن أكثر قدرة على تحليل القضايا المشابهة ودراستها بعمق أكبر.. وربما أكبر ما تعلمته هو الحذر من نظرتي المثالية للأمور التي تجعلني أقع في فخ كلمات حق يراد بها باطل!!

47- من هو هذا المسافر الغريب الذي يبحث عن بحارة يأخذهم معه إلى الربان في قصتك ( سفر الأبدال ) ؟. هل هو باب آخر للمولى ؟

لا ليس بابا آخر للمولى.. وسَفَر الأبدال قصة رمزية تنظر إلى الأمور نظرة من الداخل ولها واقع في “الأمر” أسوقه الآن لتتضح الرؤية.. كان هناك دوما سفرات يذهب فيها عبد الوهاب وجماعة من التنظيميين أو المكشوفين عادة في عمرة جماعية (برفقة الإمام).. وآخر عمرة كانت تسمى بعمرة الأنوار الربانية وقد كانت عمرة مميزة (بمقاييس الأمر).. فقد تم اختيار جماعة من الأعضاء بأمر من الإمام مباشرة وهذه الجماعة أختيرت على أسس معينة -ذكر عبد الوهاب أن منهم من يعاني من أمراض روحية بحاجة للعلاج- عموما لم أذهب معهم في أي من هذه العمرات.. وكانت شقيقتي من الراحلين على الأساس الذي ذكرته فيما سبق (كما ذكر لي عبد الوهاب).. العمرة هذه كانت مختلفة وقد عبّر عنها الجميع بأنها تمهيد لأمر خطير لم يسبق حدوثه في “الأمر”.. في هذه العمرة كانت النصوص والدروس -التي عادة ما تكون مركزة في العمرات- رمزية إلى حد بعيد ولم يشرح عبد الوهاب منها شيئاً بل قال أنها سرُّ لم يشرحه “الإمام” حتى له.. (وأذكر عناوين لبعضها في نهاية “قصة الحسرات”) في هذه العمرة ولأول مرة لم يزعم فيها عبد الوهاب أنه التقى بالإمام.. (النصوص كانت تصله مكتوبة بطريقة ما).. لأول مرة يأتيه نص يستبعده من إمامة الصلاة بباقي الجماعة ويدعو غيره (لأنه أولى منه بذلك).. ولأول مرة يعطيه الإمام وسام “منارة العلم” (تحدثت عن معنى ذلك في “منارة العلم”).. لماذا أذكر هذه الأمور هنا؟ أولا لأنها حقائق نحتاجها لفهم بعض ملابسات الأمور في الداخل وثانيا لأن رؤيتي العامة ترتبط بمثل هذه التفاصيل..

عموما “عمرة الأنوار الربانية” كانت مجرد تهيئة لعمرة أخرى أعلن عنها سريعا بعد العودة من العمرة السابقة (سماها عمرة الأبدال).. والتفاصيل يمكنك الآن أن تقرأها في سفر الأبدال وأيضا في الطيور المهاجرة.. فتعبير الأبدال كما هو مذكور في أحاديث النبوءات (الموجودة في كتب الشيعة) يدل على استبدال أناس دينهم الحق بالباطل والعكس صحيح.. إذن فهذا المسافر الغريب أو الطيور المهاجرة هو رمز يعبر عن رحلة الخروج من العمى إلى البصيرة.. من انتزاع أو إلقاء القدسية الزائفة لرموز باطلة إلى معرفة “بالقدر” أو الإمام معرفة أصيلة.. ودعوة المسافر الغريب أو الطيور المهاجرة للآخرين تتطلع إلى هذه المسألة أي محاولة استنقاذ المجموع الأعمى من عماه إلى البصيرة.. وليست بحال من الأحوال دعوة إلى باب مولى جديد (وعلى فكرة مهما كان الأمر فلا يمكن أن تكون هناك “بابة للمولى”!!)..

48- توظّف الزعامات الروحية القصص و النبوءات و الأحلام و الأساطير لخلق هالة قدسية حولها ، تمكنها من قيادة متخيلات الجماعة . في ضوء هذا التوظيف أودّ أن توضحي دور النبوءات التي وردت في مقالاتك في تبرير سلوكيات الابتزاز التي مارستها هذه الزعامة مع الجماعة.

لاشك أن أسهل غنيمة للزعامات الروحية هي فئة من الرعاع تتبعها عن طريق إيحاءات وقصص وأساطير موهومة ولا أعتقد أن التوظيف هنا يحتاج للكثير من التفسير والتأويل (فتسخير هذه الأمور ممكن حتى بغير التفاسير المادية).. ولكني ولكي أكون نزيهة في بحثي يجب أن أعلن بصراحة بأن دور هذه الأمور في عملية الابتزاز مصطنع.. مبدأ القدسية للأشخاص العاديين (غير المعصومين) مرفوض بمنطق عقلي وكون هذه النبوءات والقصص موجودة أم لا  لا يغير من هذه الحقيقة..إذن فالمشكلة كما أراها هي في ركوب جياد سلامة النية وليس في الإيمان بهذه المسائل (إيمان مجرد) وهذا ما أبحثه في مقالتي “لو كانت سلامة النية جياداً..”.. أما لماذا أتعرض للمسألة من هذا الجانب فلأني أعتقد بأن النقاش في إثبات كون تلك النبوءات حقيقة أو من قبيل متخيلات الجماعة (لي أو لك أو لأعضاء “الأمر”) قد يكون عبثياً ما لم يتناول الموضوع بالبحث المتعمق الذي يعالج قضايا إيمانية وعلمية تثبت وجود عالم ما وراء الطبيعة وتثبت حقيقة تدخله في الحياة دون أن ترسم بدقة حدود الوهم والحقيقة!! وأنا أحب أن أدخل في حوارات معرفية مع من يملك الرغبة والقدرة (أناقش فيها رؤيتي للقضية ودلائل مفصلة عن دورها في الأمر) والتي أرجو أن تثري هذا الجانب -الذي ما زال بكراً إلى حد بعيد- وتساهم في وضع بعض الخطوط التي تحصِّن الأفراد من الضلال..

49- فصلي موضوع استغلال القصص والأساطير من قبل الزعامة

لا أدري إن كنت تعني بالقصص والأساطير ما ذكرته من نبوءات في بعض قصصي أو إجاباتي السابقة.. إذا كان كذلك فالأمر معقد جداً ويصعب أن أسميه مجرد قصص أو أساطير! لماذا؟ لأن الكثير منه له واقع حقيقي (لا يهمني التفسير الآن) بل أقرر ما حدث فعلاً.. وعلى سبيل المثال ذكرت لك أن من هذه النبوءات مثلا نبوءة تتحدث عن عملية الاستبدال.. (وإذا كانت تلك مجرد فكرة عامة يمكن أن تكون ضربا من الحظ) ولكن التحديد الذي يأتي في نبوءات مكملة كتعيين الوقت الذي تحدث فيه فتنة (الأمر الكبرى) “اتقوا فتنة رمضان” أو النبوءات التي تتحدث عن أشخاص معينين يحملون دور هام (قد يكون هو كشف الانحراف) بل والنبوءات الخاصة برفع (الأمر) وتلميحات انحرافات القيادة (خاطرة “السامري والعجل” قائمة على نبوءة تقول في فلان (الاسم غير محدد) “أنه كالسامري يضل أصحابه!”) كل ذلك يجعل القضية أكثر تعقيداً (عند النظر إليها من الداخل).. ومن منطلق إيماني بحت أقول إن طرح هذه المسائل لا تدعم فكرة معينة أكثر من إثبات حقيقة قرآنية (ما كان الله ليهلك أمة عن جهل حتى يبين لهم ما يتقون) فأي نبوءة (سواء كان مصدرها طريق حق أو باطل تتعلق بغيب لا يمكن تفسيره أو تأويله إلا عند تحقق الواقعة فعلاً)..

ومن الأمثلة العجيبة عن نبوءات مصدرها غريب في القرآن هي قصة صاحب النبي يوسف في السجن إذ إنه اخترع رؤيا كذب وأوَّلها النبي يوسف و”قضي الأمر الذي فيه تستفتيان” والعبرة في النهاية بالحدث وتصرف الإنسان وفقه من منطلقات إيمانه وإخلاصه للمبدأ.. فكل النبوءات التي استفتحت بها اليهود على العرب (بظهور محمد الرسول) لم تغنِ عنهم شيئا..

ولكني من أجل أن أعطيك دافعا في البحث عن هذه المسألة بعمق أروي لك هذه الرواية الحقيقية في الأمر الذي لا يهم كيف تؤولها ولكن المهم أن تتعرف على الجانب الخفي من عالم النبوءات الخفي والساحر.. في “متى يصبح الحلم حقيقة” أتكلم عن نبوءة معروفة في الأمر وهي نبوءة الهجرة الموعودة (هجرة بالمعنى المادي) ,والتي من خلالها يتم حركة التغيير في المجتمع.. النبوءة كانت تحدد أسماء معينة..منها عبد الوهاب وجلال القصاب على أساس أنها – القيادة – التي سترحل من أجل العمل في “فدك الأولى” والمقصود منها الجمهورية الإسلامية بينما يبقى باقي أعضاء التنظيم ليعملوا هنا من أجل تحقيق التغيير في الداخل.. وفي آخر سنواتي في الأمر نسخت تلك النبوءة بنبوءة جديدة تتحدث عن أن رموز الهجرة وكيفيتها اختلفت تماما (بدون بيان السبب) وأن الهجرة ستكون على دفعتين ولأشخاص مغمورين ووجهة الهجرة غير محددة (ربما دلالة على أن الهجرة هذه المرة لن تكون هجرة حقيقية مادية بل إنها رمزية -أي ذات عملية الاستبدال التي شرحتها-).. طبعا بمنطق عادي يمكن أن ننسب هذه النبوءة كاختلاق من عبد الوهاب ولكن يظل السؤال هو لماذا يختلق عبد الوهاب نبوءة كهذه وكيف؟! فمثل هذه النبوءات ورطته حقيقة.. حتى أنه بدأ يستخدم (صلاحياته) لإرغام الأتباع عدم مناقشتها مع أي أحد –بعد توضيح رؤيتي عن هذه النبوءات-.وبعضها أضطر لتأويلها –بما لا يمكن له أن يصمد- كالنزهة البديلة عن عمرة الأبدال (التي ذكرتها في “سفر الأبدال”).. إذن هناك سر وراء هذه النبوءات والقصص قد يفيدنا عند معرفته مساعدة الأعضاء وأمثالهم الذين “يركبون جياد سلامة النية”.. وكما أن لهذه النبوءات أيا – كان مصدرها- يمكن أن تنقذ الأتباع بكشف مسيرة الانحراف ومعرفة تمييز الحق في الفتن.. فهي يمكن أن تستغل وتوظف من قبل الزعامة المنحرفة لتبعث الأتباع على القيام بما يناسبهم من أمور (كالمثال الذي ذكرته في تفسير “أيها المقاولون النصّابون.. إلى أين تذهبون؟”.. المسألة نفسها توظف الآن في تفسير دوري “الهام” المزعوم التي كان أحد النبوءات تقرره على أساس أنني (أنا التي أشعل الفتنة الكبيرة التي هي مقدمة الهجرة الموعودة) ولا تعجب لذلك فإنه نفس منطق معاوية في تفسير قتل عمار الذي كانت النبوءة تقول بأن الفئة الباغية  تقتله (إذ أعلن أن خروجه مع الإمام علي هو سر قتله لذا فالفئة الباغية تتمثل في معسكر الإمام علي!!)..وهكذا نرى أن الباطل دوما له أدواته في التضليل سواء وجدت نبوءات حقيقية أم لا.. ولكني أقول بأن الخطأ الأساسي هو ركوب جياد سلامة النية التي لا يُعذر أصحابها في ذلك.. ولهذا الحديث تكملة سأتعرض له في رؤيتي الخاصة بكل هذه الأمور فيما بعد..

50- هل أنت خارجة على التنظيم بوصفه أسلوب عمل ينطلق من رؤية أيديولوجية ما أم أنت خارجة على التنظيم بوصفه تمثيلا لزعيم معين ؟

لقد أجبت عن هذا السؤال فيما سبق بصورة أخرى ولكني سأعيد صياغته ليلائم صياغة سؤالك..أنا خارجة من التنظيم ليس لأنه يمثل زعيما معينا ، فالزعيم ليس إلا حالة تمثل انحرافاً من أسلوب عمل.. إذن أنا خارجة من منطلق أسلوب العمل المنحرف.. أما الرؤية الأيديولوجية المجردة فهي رؤية عامة لا يمكن أن نحكم على أحد بالدخول أو الخروج منها وكما ذكرت لك فإن كلمة الحق قد يراد بها باطل ، والفطن هو من لا يسمح لنفسه بالانزلاق باتباع أي كلمة حتى لو كانت كلمة حق حتى يرى المراد منها ويوقن أن المراد حق..

51- أشعر أنك تراوغين – ليس بالمعنى الأخلاقي لكن بمعنى أن الخداع والمراوغة يمثلان البنية التي يقوم عليها كل خطاب كما يقول ( فوكو) – في الإجابة عن هذا السؤال . أرجو أن تجيبي يشكل أدق ، هل أنت خارجة عـــن (الأمر ) بوصفه تنظيماً لجماعة فاسدة أم خارجة عنه بوصفه يحمل أيديولوجيا تنبثق من رؤية معرفية خرافية ؟

أشكر صراحتك ولا أنكر ما تعنيه بالمراوغة ولكني أسميه المداراة (وهناك حديث عن الإمام علي يقول “نصف العقل مــداراة الناس “).. يجب أن أذكرك بأني أنتمي لمدرسة فكرية وعقيدية معينة (لا أزعم لها المثالية ولكني أستند عليها في رؤيتي للأمور كما تستند أنت في رؤياك للأمور لمدرسة فكرية وعقيدية ما) وعندما أحاول الإجابة على أمور تتصل بعمق عقيدي معين فلا مناص من أحد خيارين : إما ما تسميه مراوغة أي إعطاء عموميات لا تصطدم بالعمق العقيدي أو صناعة الخلفية المشتركة التي تحتاج إلى هامش من المحاورة المتعمقة التي لا أعتقد أننا نمتلكه في هذا الحوار.. عندما تتكلم عن رؤية معرفية خرافية فإنك تصطدم بعقائد قد لا تعرف مدى عمقها في وجدان “البشر” إلا بعد التعمق في بحث هذه القضية عن طريق حوار منفصل “متخصص” (أعتقد أنني سأجرّك يوما لأن تخوض فيه).. إذن إذا كان الإقرار بأني لا أرى فكرة “باب المولى” (نظرياً) تنبثق من رؤية معرفية خرافية لن يمنعك والآخرين (تعصبا) من اعتبار الفكر (الآخر) متخلفا رجعيا -بدون هامش المحاورة المتروي- فأنا لا أرى داعياً للمراوغة أو المداراة .. فهل هو كذلك؟!

52- عملية الفضح تبدأ بالذات و تعم الجماعة و تنتهي بالمجتمع ، ضمن دوائر الفضح هذه لدي سؤالان :

الأول : إلى أي حد يمكن لكل طرف من هذه الأطراف الموجودة ضمن هذه الدوائر أن يتحمل صدمة أو بغتة الفضح

عملية الفضح بالنسبة لكل الأطراف المعنية ستكون مكلفة جداً.. لقد تعود الجميع على الحياة في كهوفهم بل صار هذا مبدأً وطريقة في صميم ذاتهم واعتبروه أمراً مقدساً كقدسية “أصحابهم”!! فلا أعجب أن عملية الفضح ستكون صدمة قوية قد تخرجهم من حالة الاتزان والتماسك وستدخلهم في إرهاصات جديدة تشبه بداية “الأمر” ولكني أجد أن هذه الصدمة هي الوسيلة الوحيدة التي ستفيدهم في تحريك العقول التي “قد صدأت من كثرة النسيان” وإعادة التفكير “الذي تحجر بعد طول استسلام” (إشارة إلى خاطرة بعنوان “الدجل في آخر الزمان”).

الثاني : ماذا يعني لديك الفضح ؟ هل هو فضح للذوات المتخفية بعباءات التقديس ، أم هو فضح للتوظيفات الأيديولوجية أم هو فضح لطريقة إدارة عقلنا للمعرفة ، أم هو فضح لأقنعة المصالح المتخفية بأردية الحقيقة و التغيير ، أم هو فضح لهشاشة بنيتنا الفكرية ؟

أشكرك لأنك في سؤالك قد أعطيتني الإجابة التي كان علي أن أصيغها لو لم تذكرها أنت.. الفضح عندي هو لكل ما ذكرت..وبالنسبة لي تناول عملية الفضح بصورة أقل عمقا لا يجدي إلا كما يجدي مخدر أو مسكن يزيح الألم لفترة ليعود أكثر قوة في فترة قريبة.. وآلية الفضح عندي هو في كشف الحقائق وتعرية الزيف وإسقاط الأقنعة لا فقط بما يتعلق بالتنظيم وانحرافاته فذلك مجرد حيثية صغيرة كانت وليدة فكر وممارسات مجتمع وأساطير وتجاهل سلبي..و.. كل ما يجب أن نفضحه!!

53- ما التبعات التي ستلاحقك من جماعة التنظيم بعد هذا الخروج العنيف من               ” الأمر ” ؟ و ما حدود قدراتهم على إيذاء الآخرين الذين يشكلون خطراً عليهم ؟

لقد بدأت فعلاً تلك التبعات منذ لحظة خروجي من التنظيم..فبعد “المواجهة الكبيرة” والتي كشفت فيها رؤيتي أمام مجموعة كبيرة من أعضاء التنظيم يرأسها عبد الوهاب وعرَّيت حقيقة انحرافاته أمامهم وكان إعلاني بالمواجهة صريحاً، مما حدا بعبد الوهاب بالتصرف سريعا..أول إجراء تمثل في مقاطعة تامة من جميع أعضاء التنظيم الذين كانوا حقيقة يمثلون أسرتي الفعلية.. تَلَتْ ذلك محاصرة اقتصادية ونفسية واجتماعية..

أما العناصر التي استخدمت في المواجهة فقد كانت أقرب العناصر مني ، وذلك للإمعان في التحطيم النفسي ولفعاليته أكثر في تضليل وتزييف الحقائق.. أول العناصر “أو أسميها الدمى” كانت شقيقتي “الأصغر مني مباشرة” والتي كانت تعيش معي في شقتي.. ولأنها كانت مستسلمة تماما “للقديس” فقد كان وجودي معها يمثل خطرا لذا تركتُ الشقة لها ولجأتُ إلى منزل والدي.. لاحقتني إلى هناك في مسرحية هزلية حاولت إيهام الجميع فيها أنني مصابة بحالة نفسية وأتوهم أشياء لا وجود لها.. تركزت محاولاتها ومحاولات قريبة أخرى كانت لي أختاً أكثر منها على أخي الاستشاري في الطب النفسي.. كانت قصتها ملفقة إلى درجة الإتقان ولكن الصدق كان أكثر إتقانا وإقناعا ( وذكرت حينها شواهد يعرفها الجميع كشفت الكاذب منا).. بعد فشل المحاولة الأولى لجأ التنظيم لمحاولة عزلي عن المجتمع الأكبر بدهاء ؛ لذا تزوجت أختي (التي يعرف الجميع أنها قريبة مني وتعيش معي) من عضو “مكشوف” من نفس المنطقة (السنابس).. وذلك حتى يقاطعني المجتمع (كعادته) مع أفراد عائلتي وبالتالي يحتجب صوتي عنهم.. لم أتأثر بذلك بل نجحت في اجتذاب الكثيرات من المجتمع في حلقات دروس معرفية من أجل توعية المجتمع بأسباب الانحراف تمهيداً لعرض القضية عليهم.. طبعا في نفس الفترة كانت أختي تستخدم وسيلة فعالة في إثارة العواطف في أفراد يمكنها أن تنفذ إليهم في البيت حتى تصعب علي قضية طرح هذا الموضوع (إذ إنني بطرحه لابد أن هوية أختي ستكشف وبالتالي ستكون معرضة للهجوم).. أعاقني (تردد الأسرة ورفضها لحد ما) ولكني كنت أعمل في الفترة ذاتها على فتح قنوات لي في الصحافة حتى أعرض القضية.. وفعلا بمجرد أن نشرت أول قصة ” قصة عمل” استنفر التنظيم طاقاته في الرد عليّ في المجتمع وفي الصحافة –الواقع أنني كنت أستهدف إثارة التنظيم بمهاجمتي بصورة أكثر علنية تكشف انحرافاته أمام الجميع ونجحت فعلا في استدراجه-..المهم كثر اللغط والإشاعات وظاهريا انتصر التنظيم لا لإتقانه المسرحية الساذجة بل للأسف للجهل الغالب في المجتمع (الذي راهن التنظيم عليه وكسب الرهان!)..

الآن الملاحقات مستمرة (من أطراف قريبة غالبا) وأتوقع المزيد وقيادة التنظيم بدأت تعرف جيداً أن كل محاولات الإسكات لن تجدي معي لذا أتوقع الحسم (لا التهديد لأن جلال القصاب وغيره قد هددوني فعلاً) عن طريق محاولة التصفية الفعلية..”اقتلوا من يشعل الفتنة” شعار يحمل في الأمر ولكنه لم يطبق حتى الآن وأظنهم لن يجدوا أفضل من حالتي تطبيقاً عملياً لهذا الشعار!!

بالنسبة لحدود قدراتهم فقد ذكرت من قبل بأن التربية التي خاضها الأتباع تؤهلهم لدور كبير ..لقد شحذت تلك القدرات بتمارين شتى مادية وروحية وخبرة طويلة في الصمود والمقاومة وكل ذلك من أجل لحظة إثبات ولائهم لـ”الأمر” وأظن أن تصفية واحد أو حتى عشرة في الطريق شئ يسير..وما خفي أعظم!!

54- كيف استقبلت قضيتك الأوساط الاجتماعية والدينية و الثقافية ؟

لم أكن أتوقع الكثير من الأوساط الاجتماعية والدينية لخلفيتي السابقة بالسلبية العامة والتعصب الكبير للرأي الموجود في هذه الأوساط.. وفعلا كانت ردة الفعل سلبية إلى حد كبير.. لقد ظهر لي جلياً أن الحرب المعلنة والمقاطعة ضد ما يسمونه (السفارة) مجرد فقاعات صابون.. حاولت اللجوء إلى أكثر من طرف أعرفه (أستنجد) عونه في محاربة الفساد وإيقاف الخطر القادم، ولكن صوتي بح ولم أجد أي ردة فعل ذات شأن.. منهم من يعتبر نفسه نشطاً في المجتمع (دينياً) وضد جماعة السفارة ولكني عندما طلبت منه أن يضم يده إلى يدي من أجل الوقوف بوجه الانحراف الفعلي قال : إن لدى المجتمع (الآن) قضايا أهم ولا يريد تشتيت الجهود في هذه القضية التي يعتبرها بسيطة (قضيته هي رمز آخر لا أعرف كيف نشأت فكرة تقديسه وعلى أي أساس؟!)..هذا هو مستوى النشطين فما بالك بالآخرين السلبيين “أصلاً”.. لقد أعطيتهم الكثير من وقتي وجهدي ومنحتهم حرية الحوار والمناقشة فيما يحبون ودعوتهم لمنزلي في حلقة الدروس ، كن (يقلن) بأنها مميزة وتعطيهم الكثير مما يفتقدون من الانفتاح الفكري والعمق العقيدي.. لذا كان الحضور –في البداية- يزداد يوما بعد يوم حتى ضاق المنزل بهم.. وبدأت الدعوات تنهال عليّ من أجل أن أعطي تلك الدروس في المآتم والمساجد لتعم الفائدة.. إلا أنه وبعد أول اختبار عملي بدأ الحضور ينسحب من الدروس تدريجياً.. ويفرّ خشية أن تناله الإشاعات التي بدأت تلاحق كل من يدخل منزلي (بأنه يروج للسفارة!!).. منهن من ذكر لي صراحة أنهن يخشين انتقام (السفارة) منهن.. دعوتهن للحوار والمواجهة ولكن حتى اليوم لم تحاورني  واحدة منهن.. قلت لهن بأن عليهن مواجهتي بقوة إذا كن يصدقن فعلا أنني أروِّج لعبد الوهاب (لا مجرد مقاطعة الدروس) ولكني لم أرَ منهن أي تأثر.. طالبت (لإثبات الصدق) بموقف جدي نتعاون معا من أجل حماية المجتمع من النفوذ الكبير (للسفارة) ولكني كنت أجادل الهواء!!

في المقابل راهنت على اهتمام الأوساط الثقافية والإعلامية لكني لم أرَ منها ما توقعت.. في بداية نشري للمقالات كانت هناك الكثير من المعوقات..كنت أعلم بأن (في تلك الصحيفة) أيدياً قريبة كان بإمكانها إعاقة نشر المقالات..لذا التقيت شخصياً بالشخص المسؤول عن نشر المقالات وحاولت شرح القضية له.. كان الرد بارداً ورغم أن المقالات كانت تنشر (على مضض) لكن وُضِعت لي الكثير من الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها.. المقالات المباشرة التي كانت تكشف ما أتحدث عنه بوضوح كانت تمنع من النشر.. طلبت منه أن يسمح لي بعرض القضية على رئيس التحرير فكان يصعِّب المسألة علي لدرجة شعرت فيها باستحالة تبنّي الصحيفة للقضية..شعرت بعدم التصديق منه وطلبت التحقيق في المسألة لكنه لم يعنَ بالسؤال عن أي تفاصيل!!

لذا أعتبر اليوم أن كل هذه الجهات التي تجاهلت المسألة وتملصت من مسؤوليتها تتحمل قسطا كبير من المسؤولية لما جرى وسيجري قريبا من التمادي في الانحراف والتجاوزات التي ستتعدى وقعها الشخصي علي لتشمل كل المجتمع في المستقبل القريب!!

55- هل ترين الوقت مناسباً لإثارة القضية الآن؟

لا أعتقد أن هناك وقتا مناسبا لطرح القضية أكثر من هذا الوقت.. وذلك لعدة أسباب ذكرتها في ( عالم المجانين-2 ) وتعرضت لها سابقاً في إجاباتي السابقة ولا بأس أن أذكرها مرة أخرى هنا لأهميتها:

1- إن بحثنا (كبشر) عن الرموز مدفون في أعماقنا بصورة خفية يصعب تحليلها وتجنبها ..أتعرض لذلك في خاطرة “السامري والعجل” عندما أقول “وحنين العقائد الموروثة دون الحق يحول.. اجعل لنا آلهة أول الدليل.. أو لعلهم اليوم قالوا اجعل لنا قائداً من ورق كما لهم أولئك الذي كانوا منهم يسخرون” ..الرموز اليوم بدأت تتساقط . ليس هنا فقط بل على مستوى العالم كله.. ولا بد من تحصين المجتمع بعرض الحقائق المخيفة عن خطورة اتخاذ الرموز الخاطئة.. لست أتكلم الآن فقط عن هذا التنظيم فهو مجرد تطبيق واحد يكشف لنا خطورة المسألة.. وأعتقد أن واجب المثقفين والمفكرين أن لا يغفلوا عن دورهم في مناقشة هذه المسألة بعمق ، ووضع الحلول لها..

2- قيادة التنظيم الآن في مرحلة الإحساس بالخطر وقد يدفعها ذلك للتصرف بصورة خطيرة وسريعة ، لكي لا تنكشف حقيقتها ؛ لذلك يجب الإسراع في عرض المسألة على الجميع قبل أن يفوت الأوان..

3- محاولة تطبيق النبوءة التي ذكرتها عن الهجرة صارت قريبة جدا ، ولا بد من مباغتة قيادة التنظيم بنشر القضية قبل أن يطبقها فعلا..

4-التأخير في عرض القضية يمنح التنظيم فترة أكثر لتجنيد أعضاء جدد، خصوصا مع وجود التوجه السياسي الجديد للتنظيم ، وعامل سقوط الرموز الذي ذكرته في النقطة الأولى.

56- ألا يمكن تثير جائزة ( 500 دولار ) – التي أعلنت عنها في صفحتك لمن يملك أقرب تفسير لرموزك – شكوكاً حول إمكانية وجود جهات تدعمك ؟ .

لا شك أن من تقصدهم من قيادة التنظيم(والدمى التي تحركها) ستثير مثل هذه التهمة وغيرها لتنتقص من نزاهة المواجهة.. وهذه ليست أول تهمة ولا آخرها ستحاول بثها بين أوساطها الداخلية والأوساط الخارجية في المجتمع لحرف الأنظار عن القضية الرئيسية.. والأساليب التي استخدمت حتى الآن في صد هجومي كان منطلقه مثل هذه التهم والإشاعات وقد ذكرت أمثلة قليلة منها (في مقالي “من هو المفلس ؟”) الذي تناولت فيه وقائع من أسلوب المواجهة الذي استخدم ضدي (حتى وقت كتابة المقال).. وقيادة التنظيم-ولأول مرة أشعر بإفلاسها المفضوح بهذه الصورة- لم تكن ذكية في استثمار مثل هذه التهم بل أوقعتها في مشاكل غير محسوبة وسأذكر هنا بعض الأمثلة عليها:

  1. عندما تعود إلى الوراء في قراءة صفحة الملتقى في صحيفة الأيام المحلية لمدة شهرين أو ثلاثة (هي الفترة التي كنت أركِّز هجومي فيها من خلال نشر المقالات) سترى الاختلاف النوعي والكمي في الرسائل المضادة التي تستقبلها الصفحة.. كانت تلك المقالات ساذجة (إلى حد ما) ولم تراع الحيطة في ما تتناوله من أمور يمكن ربطها بالقضية لاحقاً.. لقد ركز التنظيم في تلك الفترة على محاولة التشكيك في نزاهتي والطعن الشخصي بصورة مفضوحة لأدنى متأمل.. لقد كثر استخدام مفردة (النرجسية) وظهرت توقيعات عجيبة لأول مرة (مرام النرجس، نرجس المراد، نرجس).. وكانت هناك ردود واضحة على مواضيعي التي تنشر.. مثلا كان رد أحدهم على خاطرتي”لمن تكلم القمر؟” بخاطرة طريفة سماها “عندما بكى القمر”، وكانت الردود على “عالم المجانين-1” التي عرضت فيه تلميحا لتجربتي السابقة في عالم المجانين الرسمي كما سميته (الذي أشرحها بالتفصيل في “رحلة الكآبة”) تتحدث عن الأمراض النفسية وأسبابها وتأثيرها على العقل والوهم.. والكثير من هذه الأمثلة يمكنك أن تقرأها بنفسك وتفهمها بدون حاجة لمن يفك الرموز.. طبعا تصورت القيادة أن ذلك الهجوم قد يؤثر على معنوياتي في المواجهة ولكني –صراحة- كنت سعيدة بذلك الهجوم بل تقصدت الاستفزاز من أجله لكي استثمره في مثل هذا الوقت الذي أكشف فيه الحقائق..

  2. عندما نزلت صفحتي وتوضح للقيادة أنني كنت استدرجهم في مثل هذه المقالات للقيام بهذا الهجوم الشخصي الذي أرَّخته وسائل الإعلام والشائعات المغرضة التي أرَّخها المجتمع المحيط بي، حاولت تدارك الموقف -أيضا- بصورة ساذجة ويمكن بتأمل بسيط إدراك الفرق النوعي والكمي للمقالات المضادة التي يرسلها أفراد التنظيم.. بل اختلفت فجأة شخصيات وأساليب لأقلام كاتبة في حالة تمويه واضحة.. نفس المسألة تستخدم الآن في المجتمع ومحاولة تهدئة الأوضاع وتقهقر “الأيدي الخفية” التي أبرزت الشائعات إلى الوراء هذه الأيام هي من نفس هذا المنطلق الذي لا يصعب تحليله..

  3. بإمكانك أيضا أن تعود للحوارات (العلنية) على الإنترنت حول صفحتي ودوافعها وستعجب أيضا من الأسلوب المستخدم الذي يتعمد حرف الاهتمام عن القضية الأصلية إلى جوانب هامشية تمسخ هوية المواجهة.. على سبيل المثال يمكنك استقراء توجه التنظيم المضاد في حواري مع البدوي (المزعوم) في أين .. والذي كشف لي بأخطاء قاتلة دفة هجوم التنظيم القادمة والتي تتمثل في :

  1. إثارة قضايا تتعلق بشخصي وتاريخي -الذي ذكرته هنا بالتفصيل- والتشكيك في قدراتي العقلية (أنت أصلاً خريجة دار المجانين باعترافك بنفسك)..ومحاولة الإيهام بأني أشكك في الآخرين بدون أسس مفهومة.. طبعا البدوي أخطأ التقدير في بداية حواره واستُدرج إلى تلك المناطق من حيث لا يدري.. وتركيزه على أمور لم يكشف عمقها بعد(إلا من أعضاء التنظيم) قد أوقعته (الشيخ؟ ومساعده؟ وصاحبة الشركة المجنونة؟!) هذه دلالات لا يمكن أن يصل إليها أي قارئ مهما بلغت درجة تحليله لأنها أصلا غير مكتوبة بهذه الصورة.. كما إن تركيزه على (القمر وعاشقي القمر… لا دلالة له إلا في داخل التنظيم نفسه).. وهناك دلائل أخرى في الحوار يمكن للجميع أن يدركها بالتمعن..

  2. إدعاء أن ما أتناوله يعتبر كشفا لأسرار الناس وفضحهم في محاولة لاستثارة جوانب أخلاقية ودينية في المجتمع تجعله يرفض التعاطي مع عملية الفضح (المتعمدة) لقيادة التنظيم وأعضائه الفعالين..

  3. التشكيك في نزاهة الصفحة من خلال إثارة مسألة الجائزة ودوافعها.. وأعتقد أن ردي عليه في النقطة الأولى والثانية كانت كافية على المستوى الإعلامي ولكني لم أرد جدياً عن مسألة الجائزة.. وكان مقال “عقيل سوار” الذي نشر في صحيفة الأيام يتعرض لهذه النقطة بالنقد أيضا مما أشعر قيادة التنظيم (المفلسة الأفكار هذه الأيام) بأنها نقطة ضعف فحاول (أبو آمنة) من خلال منتدى الحوار في صفحتي إثارة هذه النقطة مجدداً..(بالمناسبة يكنى عبد الوهاب البصري بـ “أبو إيمان” ولا أستبعد لمعرفتي بأسلوبه أن يكون هو المتصدي لي هذه المرة في هذا الحوار!).. طبعا كان ردي هذه المرة أكثر قوة لأنني عرفت هذا التوجه الجديد.. (وبإمكانك الاطلاع على الحوار في الصفحة)..

الخلاصة أنني أتوقع مثل هذه التهم وسأكون على استعداد  للتصدي لها (لأنها أكاذيب ولا يصعب كشفها).. وبإمكان أي مهتم بالمسألة التحقيق في كل مسيرة حياتي والتعرف على انتماءاتي الحالية والبحث عن (أي أحد) يدعمني (بأي صورة).. عموما هذا لا يمنع أنني من خلال هذا الحوار أرجو الحصول على بعض الدعم (مهما كان نوعه ومصدره) من أجل خدمة القضية.. وبصراحة أنا لا أملك -غير راتبي الشهري المستهلك قبل نهاية الشهر- أكثر من خمسمائة دولار واحدة ادخرتها عن طريق عمل جمعية مع بعض الأفراد من أجل هذا الهدف!! (وبإمكانك التحقيق في ذلك!!)

57- أشعر من خلال خطاب إجابتك أنك توقعين نفسك في وَهْمٍ مضاعف :

الأول وهم اللغة المبني على مفردات (العمق والدقة والعقل والبحوث المعرفية والمنطق العقلي المجرد و المستويات الفكرية العالية  ) لقد وقعتِ تحت وهم هذه المفردات المراوغة في دلالتها ، وفي تسمياتها ، فهذه المفردات في دلالتها على المفاهيم أقرب إلى النسبية منها إلى الإطلاقية ، وأنت تحت وهم الإطلاقية – التي لا تعرف الحذر ولا الحيطة ولا التوجس من مخاتلات المعنى – تصورتِ أنك كنت عميقة في بحوثك التي تسمينها معرفية لدرجة الإحكام المنطقي والدقة العلمية  وهذا ما جعلك تفكرين تحت سلطة نموذج معرفي مشبع بالمسلمات العقائدية وآليات الإنتاج المعرفي التقليدية .

الثاني : وهم البحث عن حقيقة جوهرية ، صافية ، نقية ، واضحة كالشمس التي وجدتها في مجموعة من الأسطوريات المبنية على خرافات تحمل مسحات عقلية من إنتاج الزعامة التي كانت تتولى إدارة عقلكم .

كيف تقيمين هذا الوهم المضاعف ؟

أتفق معك تماما في مسألة الوهم ليس من أجل الاتفاق ولكنني إن لم أفعل ناقضت كل رؤيتي عن الحقيقة!! ولكني أعتقد أن تفسيري للوهم يأخذ بعدا أكبر من تفسيرك.. الوهم عندي هو ما أسميه بالرمز (والوجود عندي كله رموز لحقائق غائبة) وليس الرمز وهما بما هو عليه بل إن التطبيق العملي لغالبية البشر هو النظر إلى الرمز على أساس أنه حقيقة أو واقع (وتخيل تأثير ذلك في عالم الأدب لترى كيف يوقع الخلط بين الاستعارات والواقع في ضلال بعيد)..إذن فالوهم الذي تتحدث عنه نقع جميعاً تحت سطوته عرفنا بذلك أم لم نعرف.. ولست بهذه المقدمة أسعى للخروج من دائرة المسؤولية الخاصة لأخطائي لأعممها أو أراوغ مرة أخرى فأنا في مقالاتي وحتى إجاباتي في هذا الحوار أكثر حدة في النقد لنفسي (وبدون مراوغة احتاجت إليها معاول وفؤوس نقدك).. ويمكنك أن تشهد ذلك جليا في عالم المجانين1 و2 وفي قصة الحسرات (التي أقول فيها عن نفسي “وكيف صدقت أن ذلك بأمره؟ لقد كانت رغم كل الدروس جاهلة، ساذجة وغبية!!”)..إنني فقط أحاول في تناولي للأمور أن أربطها ببعد معرفي يثمر شيئا جديدا.. أن أحوِّل تجربة قد يراها الآخرون فاشلة إلى درس جديد من أجل التغيير في الذات وتوسيع الرؤية للأمور.. وأحسب أن الغاية من كل التجارب فاشلة كانت أو ناجحة –بالمفهوم الظاهري- هو الوصول إلى هذا النوع من التكامل المعرفي.. بالنسبة للغة التي أستخدمها وتعتقد أنت أنها تدل على مفردات مطلقة لأمور نسبية، أقول : إن قانون النسبية أتفق فيه معك إلى الحد الذي أقول بأن كل ما تراه أنت في مفرداتي مطلقا هو أيضا خاضع للنسبية!!.. فالمفردات اللغوية تخضع لفكر وخلفية عقائدية ومعرفية تقيِّم كونها نسبية أو مطلقة! ألست تقر بذلك في مسألة الجمال والقبح وتعلقه بمدرسة فكرية معينة ! الأمر كذلك بالنسبة لمفرداتي.. وأنا أعي تماما هذه النسبية بل إنني في مقالي الذي يحوي خلاصات عميقة لما أعتقده (الآن) “علمني الزمان كثيرا” أذكر هذه المسألة بوضوح أقول (علمني أن لا أبحث عن المثالية في أي مكان أو شيء في هذا العالم.. فالمثال لا يوجد إلا في عالم المثال.. ولا يمكن أن أصل إليه يوماً إلا إذا غادرت كل محيط الأفلاك إلى اللامكان واللازمان.. وكيف أصل إليه إذا لم أتحرر من كل ما يأسرني في هذا العالم الذي يناقض المثال كلياً؟!).. والمثالية هي ما تعبر عنه أنت بالمطلق.. وأنا أقرر في كلمتي هنا أنه لا وجود لهذا الإطلاق في عالم النسبية أو الرمز.. ولكني أختلف عنك (في التطلع) إلى عالم آخر أؤمن بوجوده (من منطلق مدرستي الفكرية المختلفة).. ووجود ذلك العالم أو عدم وجوده لا شأن له في البحث إذ إن ما تقصده أنت – ولا أختلف فيك معه – هو العالم الذي يعرفه كلانا وهو الذي يجب أن نقيم عليه منطقنا في البحث الفكري عن المعرفة ومتعلقاتها وأنا لا أجد في خطابي ما يوحي أنني أزعم لنفسي المعرفة المطلقة لدرجة الإحكام المنطقي أو الدقة العلمية.. كما أنني لا أظن أن أي مفكر يمكن أن يتحرر في خطابه ورؤيته (تماما) من سلطة النموذج المعرفي التي يخضع تفكيره لمدرسته.. أما الحكم بأن النموذج المعرفي الذي أخضع له مشبّع بمسلمات عقائدية وآليات معرفة تقليدية فاعتقد أنه من قبيل إطلاق الأحكام (المطلقة) التي درج الفكر (الآخر) أن يطلقها على المدارس الفكرية التي لا تلائم تفكيره حتى لو لم يملك دليلاً علمياً عليها (عفوا إذ حولت معاولك عليك!) ..وأعتقد أن الحكم الفصل في هذه الحالات هو حوار منطقي يستند إلى أسس عقلية متفق عليها (في قضية محددة) تظهر حقيقة النماذج المعرفية التي يمثلها أي مفكر!!

الوهم الثاني التي تتحدث عنه هو ما لا أتفق معك فيه (من أجل التغيير!) فأنا لا أعتقد بأن البحث (وهم) بل هو (هم) فكري راقٍ أظنه ما يبعثك ويبعثني على هذا الحوار..وإن كان هناك من أمل في التخلص يوما من (الوهم) الذي تراني فيه وأراه غالبا (على الجميع) فهو على أساس هذا البحث!! (أم ماذا ترى البديل؟).. لست أزعم أنني تناولت تلك الحقيقة أو حتى أنني يمكن أن أتناولها في عمري الزمني المنظور ولكني أجد البحث هو الخط الفاصل بين أن “أكون” خاضعة للوهـم أو “لا أكون” كذلك.. فما دمت أبحث عن الحقيقة الجوهرية (أو واقع الرموز) فذلك يعني أنني لست خاضعة للوهم بل أنقب في كشفه مهما طالت فترة البحث والتنقيب .. وصدقني أنني لم أندم يوما على فترة في حياتي (أعتبر نفسي فعلاً خضعت فيها للوهم) إلا لحظة توقفي عن البحث التي تعتبره – أنت – وهماً! أما ما تصرّ على العودة إليه من الأساطير والقصص التي مازلت تتجاهل فيه ردي الرئيسي في كونه جزئية لبحث عميق ، يتناول أصلا إمكانية وجود عالم آخر(ما وراء الطبيعة) يمكن أن تخضع له هذه الأمور أو لا؟.. وليس إصراري على ذلك ترجيح لكفة معينة (ما) تؤيد كون ما في التنظيم أساطير أم لا.. ولكن لأنني أعتبر الجدال القائم على النظر إلى وجه واحد من العملة هو بحث عقيم ورؤية قاصرة لن تفيد غير من يريد أن يرسخ وجهة نظر (محددة من قبل).. وأظن أن الغرض من هذا الحوار هو دراسة متعمقة لسيرة الذات والجماعة (التي تمثل الفكر الآخر) وإطلاق مثل هذه الأحكام دون الغوص في دراسة فكر وعقيدة (الفكر الآخر) بتعمق يكشف جذور أي تفصيل معين لا يخدم هذا الهدف أبداً..

58-يقول الفيلسوف الفرنسي باشلار “الحقيقة خطأ مصحح ” لو قرأنا بهذه المقولة تجربتك فسنجد أنها في تجربتها الشيوعية كانت خطأً صُحح بالتجربة الدينية التي هي خطأ في صورتها الدينية العامة صحح بالتنظيم السري ، و أنت الآن تكتشفين خطأ هذا التنظيم الذي كان يمثل الحقيقة المصحِحة لأخطاء الحقائق السابقة. بم ستصححين خطأ هذه الحقيقة ؟

لا أعتقد أني أتّفق مع مفكرك الفرنسي في مقولته عن الحقيقة.. فما يعبر عنه بالحقيقة مجرد تعاقب طبيعي في التفكير؛ فالخطأ وتصحيحه قد يكون مجرد نزهة فكرية يمر بها أي مفكر في تفكيره ولا أرى أن تسمية هذا النشاط الفكري البسيط ينطبق على مفهوم الحقيقة.. إنه في أحسن حالاته (الواعية والموجهة) بحث عن الحقيقة وهو الاسم الذي أطلقه على مجموع تجاربي الفكرية والعملية التي مررت بها من الشيوعية إلى (العرفانية) الدينية والتي كانت تجربة التنظيم أحد تطبيقاتها (نظرياً) ..

كما أنني لا أعتبر ما سبق من تجارب في طريق بحثي عن الحقيقة أخطاء (ليس من ناحية المبدأ على الأقل) بل أنظر إليها كلبنات أساسية تمكنت بواسطتها صياغة ” رؤيتي الخاصة” للحقيقة.. وربما لاحظت كثرة استخدامي لمفردة “الرؤية” في خطابي.. وذلك لأنه التعبير الأنسب الذي يبين أن ما أطرحه وما (أعتقد) أنني وصلت إليه من مجموع تجاربي (ومن ضمنها التنظيم) هو “رؤية للحقيقة” لا الحقيقة نفسها كما يزعم باشلار.. ورغم الفرق الشاسع بين المفردتين إلا أنه -حتى الوصول للرؤية- لا أظنه يتيسر بمجرد تصحيح خطأ فكري.. فصياغة الرؤية فنّ يعتمد على الأخذ بالحقائق الجزئية (كما هي عليه) ومحاولة استشعار نتائجها في المستقبل البعيد بالاستعانة بحصيلة الخبرات المعرفية التراكمية من تجارب سابقة ومؤهلات فكرية.. وسبيلي في المستقبل هو المضيّ على تلمس الحقيقة على ضوء هذه الرؤية المصاغة.. ولا شك أن الرؤية تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم مع القرب من الهدف وهذا ما أعوِّل عليه في كل خطوة..

وخلاصتي: (1) إنني أسير من أجل الوصول إلى الحقيقة (2)أدواتي هي “الرؤية” التي تم صياغتها من مجموع المعاني الحقيقية في تجاربي الفكرية والعملية السابقة.. الخ (3) وخطواتي في المستقبل ستكون ديناميكية متواصلة بناء على اتضاح الرؤية القابلة للتعديل والتطوير- بناء على تجارب فكرية وعملية جديدة-..

59- لقد أنصت لك طوال هذا الحوار ، واستمتعت – معرفياً – بالتأمل في تجربتك ، لكني أراك الآن لا تنصتين لأسئلتي النقدية ، وتفضلين إشعال آليات الدفاع والتبرير ؛ لتحمين ذاتك المعرفية من عنف سؤالي الرمزي ، ودليلي على ذلك أن أسئلتي لم تفتح إلى الآن ساحة تفكيرك على فضاءات معرفية جديدة . فأنت مازلت تعيدين إشكالاتك المعرفية، وتلوكين أسئلتك الوجودية من دون زحزحتها إلى مناطق جديدة .

أرني الآن كيف ستخرجين ذاتك – المقدسة – من هذا الهجوم .

شكراً لإنصاتك لذاتي (المعرفية) … لقد فعلت (أنت) ذلك لأن هدف هذا الحوار وعنوانه البارز هو سيرة(الذات) التي أمثلها في هذا الحوار (والجماعة) التي تمثلها المدرسة الفكرية الأحادية التي (ترى أن مدرستي الفكرية تمثلها).. ولم نكن منذ البداية بصدد فتح فضاءات معرفية جديدة..

توقعك أن تفتح أسئلتك النقدية بعنفها الرمزي فضاءات معرفية جديدة ليس واقعيا على الصعيد العملي ودليله أسوقه من خلال غوصك (أنت) في إشكالاتك المعرفية لدرجة (يبدو) أنك تراها (مقدسة) و(مسلماً) بها بحيث إن مجرد أسئلة (رمزية) يمكن أن تفعل فعل (السحر) وتجعل خطابي يتلون بها وينتقل عن طريقها إلى مناطق جديدة، في حين أن كل خطابي (المعرفي النرجسي) لم يزحزحك قيد أنملة عن أسئلة نقدية (أظنها قد تخمرت في ذهنك منذ أن عرفت المدرسة الفكرية التي أنتمي لها).. لست أرفض هذه الحركة (إن كانت مبررة) في حوار تتناول فيه (أنت) سيرتك الذاتية والجماعية (لمدرستك الفكرية) وحينها (سأحاول) رد إشكالاتك المعرفية بالغوص فيها (عميقا) وطرح إشكالاتي المعرفية عليها و(سأسعى) في تفهم تجربتك المعرفية التي (قد) تنقلني فيها لفضاءات معرفية جديدة.. فهل تملك الصبر على ذلك؟

60- إعجابك بذاتك – أتحدث عن الذات المعرفية – وبالمعرفة التي تحصلت عليها منحاك ثقة خادعة مُطمئِنة معرفياً ، فأنت ما تزالين وسط هذه المعرفة العرفانية تتعالين على المعارف الإنسانية ، ودليلي على ذلك أنك لا تنصتين لها – رغم ما في الحوار من معنى الإنصات للآخر – ودليلي على أنك لا تنصتين إنني لا أجد في خطابك أية أصداء لأصوات تقع خارج حظيرة معرفتك العرفانية .

وإطارك المرجعي من جانب آخر يبدو طاهراً نقياً لا تشوبه أية هجنة  ثقافية أو فكرية ؛ فهو سليل مدرسة فكرية أحادية،  لا تضج بأصوات نشاز تعكِّر صفو طمأنينتها المعرفية . وبلغ ( التنرجس ) بك حداً جعلك لا تكفين عن وصم الآخرين بالجهل ، وعدم الوعي ، والتخلف ، وعدم القدرة على المواجهة ، وتسبغين على ذاتك – المقدسة !! – صفات الوعي و الانفتاح الفكري والعمق العقيدي  ( حلقات الدروس المميزة والبحوث المعمقة والمستويات الفكرية العالية وتفسيري أكبر من تفسيرك ) .

قليل من التواضع المعرفي خير من التواضع الأخلاقي الذي كنت تمررين عبره عبارات ( السذاجة والجهالة والغباء ) . فهذه العبارات بقدر ما كنت تؤكدينها  كنت تنفينها ، فالسذاجة كانت تخفي وراءها احتفاءً بذات متمردة ، و الجهالة كانت تستبطن إحساساً بوعي معرفي لامع ، والغباء كان يستر إعجاباً بذكاء حاد .

فهل هناك علاقة دلالية بين اسمك وبين (النرجسية ) ؟

هل قرأت قصتي “من هو المغرور” ؟..

إن المعرفة العرفانية (تدعي) أنها تشتمل على المعارف الإنسانية ولست بصدد أن أثبت هذا القول ولكن هذا هو المنطلق الخاص (في مدرستي الفكرية) التي حتى الآن لم تتمكن أسئلتك (العنيفة الرمزية) أن تزحزحني منه إلى فضاءات جديدة.. إنك لا ترى أي صدى لهذه الأصوات لأنك (تتوقع) صوتاً من رحم (مدرستك الفكرية الخاصة).. ولا أريد أن أدخل في جدل لإثبات ذلك ، لأنه مما اتفقنا عليه في تحليلنا السابق صعوبة التجرد (لدرجة الاستحالة) من رؤية معرفية تتحرر من المدارس الفكرية والإعلامية والاجتماعية التي نخضع تحت نفوذها.. وأنا أعي هذه المشكلة في حوارنا لذلك دعوتك أكثر من مرة وما زلت أدعوك لحوار (نحاول أن نجعله بحثا متعمقا) في مثل هذه النقاط الخلافية كتعريف النظرة العرفانية التي (أدّعي) أنها تشتمل على المعارف الإنسانية (بصورة تختلف لكنّها لا تناقض ما تشتمله مدرستك الفكرية التي تتوقع أصداء صوتها).. عندها (أظن) أن حكمك سيكون أكثر إنصافا في تقييم إنصاتي للصوت الآخر..

أما بالنسبة لإطاري المرجعي فقد يكون كما يبدو نقياً طاهراً لا تشوبه هجنة ثقافية أو فكرية (من المدارس التي تعرف أصداء أصواتها) وليس ذلك دليلاً على أنه سليل مدرسة أحادية (فقد تناول خطابي وقائع تثبت أنها ليست كذلك) بل قد يكون دليلاً على ما سميته أنت (طمأنينة معرفية) من نوع ما لا تعتبره (مدرستي الفكرية) عيباً إلا عندما أبدي الرفض في التعاطي والحوار مع ثقافة وفكر (الآخر) من منطلقات مدرسته الفكرية والثقافية (وهذا ليس واقع وهدف حوارنا الآن!!)..

أما وصم الآخرين (من هم الآخرون؟) بالجهل وعدم الوعي والتخلف وعدم القدرة على المواجهة فمنطلقه كمنطلقك الآن (في أسئلتك النقدية الرمزية) وهو عملية الفضح التي تحدثت عنها أو استفزازات الكتابة التي تتحدث أنت عنها.. ومقارنتك ذلك بما أسبغه على ذاتي المقدسة (من صفات الوعي والانفتاح الفكري والعمق العقيدي) غير منصف لأنك بهذا تتجاهل مسألة أساسية أوضحها في الكثير من مقالاتي وفي خطابي هنا وهو أنني أنتمي لهؤلاء (الآخرين) وبالتالي أندرج تحت تلك الصفات العامة (التي أعتقد أن الجميع يندرج تحتها بشكل أو بآخر في حلقات الفضح الأوسع).. المسألة إذن تقع تحت نظرية النسبية التي كنت تنادي بها في أسئلتك السابقة.. أما أدلتك من كلامي (حلقات الدروس المميزة والبحوث المتعمقة والمستويات الفكرية العالية وتفسيري أكبر من تفسيرك) والتي تجمعها معا بصورة ملفقة (عفواً) فلها مدلولاتها الخاصة (في مكانها) وذكرتها (فقط) لأنها تخدم أهداف سيرة الذات والجماعة (الذي نحن  بصدده).. وعندما تتأمل في عموم الخطاب الذي تحويه تلك الكلمات ستعرف أنني لا أنسب لنفسي شيئا (من نفسي) بل أذكر (عادة) كلمات (الآخرين) لا تواضعاً بل لأني أرى كلماتهم (بما) هي عليه من كلمات واقعاً (كشيء مذكور) وإن لم يكن في (دلالته).. في حين أنني أشك في أن ما أنسبه لنفسي له أي واقع (من حيث إنه يتعلق بالدلالة مباشرة).. إذن (فتنرجسي) بهذا المنظور غير مثبت (ولكني قد أعطيك عليه لاحقا إثباتاً آخر إن شئت!)..

أما مقارنتك بين التواضع الأخلاقي والمعرفي فلا أستطيع أن أقرّها (من حيث المبدأ) -وعفوا إذ أسوق لك مقولة من مدرستي الخاصة- يقول الإمام علي “رحم الله امرأً عرف قدر نفسه” وليس في التواضع (الأخلاقي الممدوح) مثل الإمام علي ، ولكنه يقول “اسألوني قبل أن تفقدوني ، فأنا…” . ولا أذكر هذا لدلالته على أي شيء يخصّني (فذلك لا يناسب المقام أبداً) بل لمجرد توضيح ما أختلف فيه معك (من منطلق مدارسنا الفكرية المختلفة)..

أما ما كنت أنتقد به ذاتي (لا دلالة على التواضع الأخلاقي بل لأني أراه “واقعاً” دلّلت عليه في مكانه) فلست أتفق معك في نفيه عني (وإن شكرتك على هذه المحاولة غير الممكنة).. ولا أرى أن السذاجة يمكن أن تحتفي بذات متمردة (يشك في كونها محمودة) أو الجهل (الواقع) بمجرد (إحساس) بوعي معرفي لامع (إن وجد) أو أن الغباء يمكن أن يستر وراءه إعجاباً بذكاء لامع (أين قرأتها؟) فلكل منهم مكانه (الخاص) به. وقراءة سيرة الذات لا يمكن أن تتجاهل إثبات السلبيات (الحقيقية) والإيجابيات (إن وجدت) ، أم ترى كيف يمكنني أن أدخل في حوار كهذا دون أن أدخل في الحديث عن نفسي الذي يتضمن ذكر الصفات الذاتية سلبية كانت أم إيجابية ..؟  ولست أعتب كثيراً على من لا يعرفني أو لا ينتمي إلى مدرستي الفكرية أن يحلله (كنرجسية) ولكني أعتب في خطابي في المقالات على رفاق دربي (السابقين) لأنه (كان ينبغي) أن يعرفوني (بدرجة أكبر) من خلال معاشرتهم الطويلة لي بالإضافة لاشتراكي معهم في مدرسة فكرية واحدة..

أما سؤالك الأخير عن العلاقة الدلالية بين اسمي والنرجسية فأصارحك القول أنني أرى هذه العلاقة جيداً في (حالتي).. لأن لكل فرد (منا) نرجسية (ما) تجعله ينطلق (عفوياً) في تقديس ذاته وأفكاره وينغلق عن أفكار (الآخر).. وأجد أنه من حسن حظي أنني قد نبّهت (باسمي) لهذه المسألة.. لذا (حاولت) طوال مسيرتي الفكرية والعملية أن أركز نظري في دور هذه المسألة على تناولي للقضايا الفكرية والعملية (ولست أزعم أنني حتى “الآن” قد أًفْلَتُّ “نهائيا” من إطارها) ولكن كما قلت فإن حسن حظي أن اسمي ما زال يذكرني في كل لحظة بهذه الحقيقة حتى لا أنساها يوما!!

61- أنا لا أنتمي إلى مدرسة فكرية ؛ لأن الانتماء الفكري إلى مدرسة معينة يعني الوقوع تحت سلطة نموذج فكري واحد ، و أنا أحاول أن أتمرد على أية محاولة لصياغتي في نموذج واحد مهما كان منفتحاً و متحرراً ؛ لذلك أفضل أن أنتمي إلى فضاء معرفي يضم مدارس متعددة و متباينة ، و هذا ربما هو الفرق بيننا . أليس كذلك ؟

من  منطلق مدرستي العرفانية أحترم مدرستك الفكرية ( ؟ ) –التي لا ينتمي أفرادها إلى أي فضاء معرفي محدد-.. وأعتقد أن مشكلة مدرستك الفكرية التي (تبدو ظاهريا منفتحة ومتحررة) هو عدم واقعيتها على الصعيد العملي.. وأظنك –بالتمعن في الحوار- تتفق معي أن مدرستك عجزت أن تضم المدرسة العرفانية (رغم سعة فضائها المعرفي).. والدليل على أن فضاءك المعرفي  الواسع لم يتسع لفهمها يبدو في هذا السؤال واضحاً..  يبدو أنك تتحدث هنا عن مدرسة “حوزوية” مجالها الفقه والمعاملات والحلال والحرام أكثر مما تتحدث عن العرفان.. ولا أعتب عليك في هذا لأن العرفان يعتبر مدرسة غامضة على الكثير وكما قلت لم أجد إلا القليل ممن يعرف عن هذه المدرسة طوال مسيرتي في البحث عنها..

والمدرسة العرفانية لا تتمرد ولا ترفض أي مدرسة فكرية -بما فيها مدرستك- بل إنها تحتوي هذه المدارس نظرا لإحاطتها (المعرفية) بكل ما يتعلق بالخالق وبالوجود الذي أوجده .. فالعرفان هو اتصال المبادئ بالغايات؛ ولذلك فكل المدارس الفكرية خاضعة لتطبيقاتها لأنها لا شك تخضع للمبادئ و الغايات و الوسائل..

وآخر ما تقبله المدرسة العرفانية هو صياغة الإنسان في نموذج واحد مهما كان.. فالعارف هو من يتحرر  من كل سلطان يعيق عقله فكراً كان أو تطبيقاً أو رمزاً.. ولأن العرفان هو أعلى مقصد وأكثر المدارس شمولية وإحاطة فقد قل فيه السالكون أو ضل أكثرهم في المسير فيه عن الوصول إلى تطبيقه الفعلي  –كما كنت لفترة طويلة- ..

أعتقد أن ما كنت تنتقده في خطابي ليس المدرسة التي أنتمي إليها (لأن أفكارها ومنطلقاتها بعد غير واضحة بدليل هذا السؤال) بل اللغة الخطابية التي استخدمها والتي تعتقد أنها تعكس نظرة أحادية ، أو لا تحمل في ثناياها صدى للمدارس الفكرية الأخرى.. وأظن أنني قد أجبت عن هذا الإشكال فلكل مدرسة فكرية مهما كانت لغة خطابية معينة لا تعكس عدم اطلاعها أو احتوائها للعلوم أو المدارس الأخرى أكثر مما تعبر على أن هذه اللغة هي الأقرب إلى توضيح أفكارها..

62- أغبطك على قدراتك التأويلية ، لكني أخشى أن توظفيها – مـن حيث لا تشعرين – في إنتاج إمبريالية معرفية تنفتح على الآخرين ، لا لتقر لهم وتعترف بنقاط تفوقهم ، بل لتختلس بعض قيمهم العقلانية لتتغذى بها من أجل إعادة إنتاج نفسها إنتاجاً تصبح من خلاله جميع المدارس والاتجاهات تحت هيمنة إمبرياليتها (فكل المدارس – كـما تقولين – خاضعة لتطبيقاتها ) .

إن العرفان برؤيته الوجودية  له احترامه الآن عند كثير من اتجاهات ما بعد الحداثة ، وبالمناسبة ابن عربي و الملا صدرا محط اهتمام كبير من قبل الاتجاه الذي تقولين إني أمثله  ولكن العرفان كما يتمثل في لغة خطابك أو في لغة خطاب أي مدرسة من المدارس التي تنتمي إليه لا يمكن أن يستوعب جميع الاتجاهات ، ولا يمكن أن يكون على هذا النحو الذي أخرجته . وإنك تذكرينني الآن بمن يتحدث عن الماركسية برؤية ما بعد الماركسية متناسياً أنه يعيد تأويل الماركسية برؤية ما بعدها ، فيظن أنه يتحدث عن الماركسية ، كما هي قد تجلت في مرحلة تاريخية معينة .

رغم هذا ، فأنا لا أستطيع أن أخفي إعجابي بقدرتك على استثمار القيم المعرفية الحديثة في توسيع دائرة اهتمامك ، لكني أحذِّرك من الثقة المطلقة برؤيتك العرفانية على النحو الذي يدفعك إلى اعتبارها قد جمعت ما أتى به الأولون ، والآخرون؛ خشية أن تتحول إلى نظام شمولي – فهي أكثر المدارس كما تقولين شمولية وإحاطة – يملك تفسيراً لكل شيء ولديه قدرة على احتواء كل جديد . و الآن أيتها الشمولية هل ما زلتِ تريني غير قادر تقبل خطاب مدرستك ، و بالمناسبة العرفان – كما يفهمه جاهل مثلي !!- ليس مدرسة ، و لكن خطابك الذي يمتتح من فضائه يعد مدرسة؟

أشكرك على إطرائك لما تسميه بالقدرات التأويلية لكنني ببساطة لا أؤول النظرة العرفانية بل أسردها كما هي عليه وعندما زعمت الشمولية للنظرة العرفانية قصدت العرفان كمبدأ ونظرية يدرس العلاقات الوجودية بين الله وباقي الخلق والإنسان. و(نظرياً) فإن كل مفرزات عقله (قديمة أو حديثة) خاضعة لهذه العلاقات.. وهي لا تحاول الهيمنة (الإمبريالية) بل توضح العلاقات وتشرحها من منطلق التداخل والترابط بين المعارف الإلهية والإنسانية التي تعجز أي مدرسة فكرية أخرى أن تحيط به.. إن عدم شمولية أي مدرسة تتبنى العرفان (نظرياً) هو نتيجة قصور الإنسان وعدم استخدامه للعقل بجميع طاقاته وهذا ما أتحدث عنه في “لو كانت سلامة النية جياداً”.. ولأصدقك القول –شخصياً- لا أجد في التاريخ من طبَّق هذه النظرية فعلاً إلا القليل الذين أعتبرهم يمثلون (رموزاً حقيقية) كالقائل “وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر..” التي استشهدت بها في مقالي الذي ذكرته الآن.. وأظن أننا اتفقنا معا منذ البداية على أن التطبيق يخالف المبدأ في معظم المدارس الفكرية ولا استثناء في مدرسة العرفان –وعندما أسمِّيها مدرسة فأنا أقصد الجانب التطبيقي في العرفان أكثر من النظري المثالي المطلق الذي قلت أنه لا وجود له فعليا في عالمنا الذي نناقشه الآن-.. فرؤيتي المثالية للعرفان لا تخالف واقعه النظري ولكن تطبيقي الخاص له أحتمل وزره الخاص شخصياً ويحتمله عقلي المقيد (بما لا يقره العرفان).. إذن فأنا أعترف بقصوري عن الشمولية التي تدعو بها مدرستي العرفانية وذلك لا يدل إلا على كوني إما طالبة غير متفوقة في المراحل الدراسية التي خضتها حتى الآن أو أنني لم أتخرج من المراحل النهائية من المدرسة لأمثلها حقيقة أو الاثنان معا -وهو واقع حالي الذي لا اختلف فيه مع الكثير من المنتسبين إلى هذه المدرسة أو غيرها من المدارس-..

63-  أتصور أن استخدامك لمفردة ( الانحراف) سيسبب لك إعاقة تواصلية وذلك لكثرة ما لاكته الاتجاهات الإسلامية التقليدية لهذه المفردة التي أصبحت تعني كل ما يخالف اتجاهها . فهل هناك إمكانية لاستبدالها ؟

أظنك –من منطلق انتمائك اللغوي- أكثر حساسية مني للألفاظ ومدلولاتها.. لا أمانع بأي اقتراح يدل على المفهوم الأوسع الذي شرحت دلالته في “كيف نكتشف الانحراف؟”.. فهل تؤدي هذه الخدمة للقضية حتى لا يحصرها في ما لاكته الاتجاهات الدينية (التقليدية) -التي لا أتفق معها في نظرتها وتعريفاتها للانحراف-؟

64- بعد هذه التجربة كيف تصفين رؤيتك الآن؟

كما ذكرت لك أنا أعتبر تجربتي في التنظيم كمدرسة معرفية صقلتني في جوانب عديدة.. لست أروِّج بهذا للانضمام إلى التنظيمات المنحرفة ، ولكني أشجع على التعرف على المدارس الفكرية المختلفة ، لا الخضوع تحت سيطرة نموذجها المعرفي أو الاستسلام لرموزها الوهمية (فذلك خطأ معرفي وقعت فيه وأحذِّر منه).. إن هذا التعرف هو الذي يمكن المفكرين من حصر نقاط الضعف في المجتمع والعمل على صياغة رؤية مستقبلية تحمي المجتمع من الأخطار المحدقة به و التي من أخطرها اصطناع الرموز الوهمية التي تغتال العقول السليمة ، وتحولها إلى آلات إجرامية مهلكة لذاتها وللآخرين.. إن رؤيتي التي كنت أحاول الترويج لها من خلال الصفحة لا تتعلق فقط بفضح التنظيم وانحرافاته، ولقد تكلمنا من قبل عن دوائر الفضح.. والفضح عندي لمس بواطن الخطأ الفكري والمعرفي الذي يجعل واقعنا أسيراً بأيدي الجهل.. في “عراقيل التفكير” تعرضت باختصار لمجموع العوامل التي تحجب التفكير عن الانطلاق وتسبب انحرافات الفرد والمجموع ، ولكن مسؤوليتنا لا تتمثل في كتابة المقالات فحسب بل الانطلاق من تجارب مجتمعنا والتحليل الدقيق لأسباب انحرافاته واستنفار كل طاقاتنا في رفع هذه العوامل عن عقول أفراد المجتمع .. إن انحرافات هذا التنظيم الخطيرة هي مجرد أجراس تنذرنا بخطورة التجاهل للمعرفة.. المعرفة التي تستند إلى أسس عامة تتفق عليها المدارس الفكرية .. ولا شك أن للمفكرين والمثقفين جزءاً من المسؤولية في التجهيل الحاصل ، واتخاذ الرموز الباطلة ؛ لأن اعتزالهم العملي للمجتمع واكتفاءهم بالنظر إلى هذه العوامل من بروجهم العالية قد أدى لاستفراد فئات (معينة) ساحات توجيه العقول إلى ما يرضي مصالحها الخاصة.. المشكلة هنا أن هناك حاجزاً مفتعلاً بين المفكرين (من غير المدارس الدينية) وأي موضوع له صيغة دينية ,واعتباره “افتراضات ميتة” لا تستحق البحث والحوار.. وكأنهم يتناسون أن الانحرافات الدينية لا تخرج عن إطار أي انحراف فكري أو سلوكي آخر في منطقه و أسبابه وتأثيراته.. إذن منطلق رؤيتي “للحقيقة” قائم على إزالة كل العوائق التي تحجب الحقيقة.. وهذه الإزالة تعتبر مسؤولية عامة على كل أفراد المجتمع.. من خلال هذا الحوار أنا أدعوك وأدعو جميع المفكرين والباحثين مهما كانت مدارسهم الفكرية بالعمل معا في آلية موحدة نساهم فيها بإنقاذ مجتمعاتنا من عوامل انحرافاته.. وأعتبر هذه هي الخطوة الأولى لتحقق رؤيتي عن الحقيقة.. وعموما يمكن استشفاف رؤيتي العامة عن التنظيم من خلال عدة مقالات (وهي رمزية إلى حد كبير) أذكر منها (“قصص تتكرر في التاريخ”، “معرفة القدر”، “الحنين إلى الغربة”، “علمني الزمان كثيراً”..) وسأشرحها حين أعرض رؤيتي كاملة (مع انتهاء المسابقة التي أعرضها على الصفحة).. أما الخطوات الأخرى في رؤيتي فسأتركها لحوارات أخرى ، وسأعرضها كاملة بعد أن أعطي المجال كاملاً لمن يحب أن يحقق في هذه المسألة ويعرض رؤيته الخاصة بها (قبل نهاية المسابقة الفكرية)؛ وذلك لسببين رئيسيين: الأول عدم وجود الخلفية المشتركة بيني وبين الكثير ممن سيطلع على هذا الحوار.. إذن فعرضي للرؤية لن يكون مجدياً في شيء أكثر من افتعال حاجز بيني وبين مدارس فكرية أخرى ، وأنا أفضِّل العمل على إزالة الحواجز المفتعلة من خلال حوارات فكرية متعمقة تسعى للوصول إلى رؤية مشتركة مقبولة للجميع.. الثاني إنني أؤمن بأن رؤيتي لا يمكن أن تكون شاملة ومتكاملة بدون الاستفادة من المدارس الفكرية المختلفة والرأي الآخر.. لذلك تبنيت من خلال الصفحة عروضاً للمثقفين والباحثين بعرض رؤيتهم الخاصة عن الحقيقة من أجل خدمة هذا الهدف.. وأعتقد أن هذا الحوار سيساعد الكثير في تركيز جهودهم الفكرية في إطار أكثر تحديداً .. وفي النهاية أود إعطاء بعض الأمثلة عن البحوث الفكرية والحوارات البناءة التي أعتقد بأهمية إجرائها بين المدارس الفكرية المختلفة حتى تحل منطقياً إشكاليات تتعلق بهذا التنظيم بالذات وما يشابهه في المستقبل..

1- عقيدة (المخلص) عقيدة عامة لا تتعلق بالمسلمين فقط فما مدى واقعيتها؟.. وهل يمكن أن تسبب هذه الفكرة انحرافاً في التفكير أو التطبيق.. والى أي مدى؟ لماذا تعتبر مناقشة هذه الفكرة خاصة بالفقهاء والعلماء والمتدينين -الذين حتى الآن لم يفلحوا في تقديم أي علاج فعلي لهذه القضية- أين دور المفكرين والمثقفين؟ ألا يعتبر أن للدور السلبي للمثقفين والمفكرين في هذه القضايا يداً في تصاعد انحرافات التنظيم طوال هذا الوقت واطمئنانه لذاته؟

2- الأمور الغيبية أو عالم ما وراء الطبيعة حقيقة يقر بها العلم الحديث، ما هو مدى تعلقه بحياتنا؟ ما هي الحدود لما يمكن أن يكون واقعاً أو وهماً أو دجلاً وسحراً ؟ من يتحمّل المسؤولية إن سقط عامة الناس في هذه المسائل الشائكة إذا لم يتحملها المفكرون من مختلف المدارس الفكرية؟ كيف تحل الإشكالات التي هي من هذا القبيل في داخل التنظيم -من خلال ما عرضته في الحوار- من أمور (تبدو غيبية) ؟

3- هل نعيش فعلا في عصر مختلف يسمى بآخر الزمان أم لا ؟ لماذا يتردد هذا القول من مختلف المدارس الفكرية والعلمية ؟ هل هناك إرهاصات خاصة بهذا الزمان وما علاقة هذا التنظيم بهذه الإرهاصات ؟

4- ما حدود مسؤولية الاختلافات المذهبية والفكرية الموجودة في المجتمع بهذه المشكلات العويصة ؟ وما هو الحل لرفع هذه الاختلافات لإنقاذ مجتمعاتنا من الخطر الزاحف (الجهل بصورته العصرية) ؟ وأسئلة أخرى….

وختاماً أرجو أن تكون معنا حتى النهاية في نشر الحقيقة وأن نتعاون من أجل بناء خلفية معرفية موحدة ، نتمكن بواسطتها حل إشكالاتنا المعرفية لنستطيع أن نخدم مجتمعنا وأفراده من هذه الأخطار المحدقة به..

تفكك الهوية وانفتاح الرؤية.. حوار حول تشكل سيرتي الذاتية

أجرى الحورا في مايو 1995: عبدالإله رضي.

يشكل الحدث السيرة؛ فتروي الذات حدث تشكيلها باستعادته في زمن مفارق لزمن الحدث، إنها تتخذ من هذا الزمن المفارق فضاء لحكيها؛ لأنها لا تروي الحدث بقدر ما تروي وعيها بالحدث.

لكن ذاتي – العجولة – لم تنتظر الزمن المفارق؛ لتروي وعيها الكامل ؛ فقد فضلت أن تروي حكايتها في أتون زمن الحدث الذي تشكلت فيه؛ ذلك لأنها لا تروي وعياً كاملا ؛ فالوعي دائماً، ناقص، ويتوق إلى الاكتمال بتصحيح حقائقه الخاطئة .

ما هو هذا الحدث ؟

اقرأ هذا الحوار – غير المنشور- الذي أجراه معي صديقي عبد الإله يوسف رضي ، في مايو عام 1995م ، ففيه جزء كبير من ذاتي ، ما زلت أحتفظ به، وأخطط لنسفه .
عبد الإله : في إطار السعي نحو تشكيل أطر واضحة المعالم للفكر الحداثي كمشروع يحاول الخروج بالمجتمع العربي من نفق الأزمة التـــي يعيشها، ومن خلال السعي لتشكيل م
عالمفكر حداثي واضحة المعالم لدى الفرد الذي يتبنى الرؤية الحداثية تأتي هذه الأسئلة:

1- ماذا يعني لديك أن تكون حداثيا؟

الحداثة كمصطلح برز في الساحة الثقافية العربية، يثير الكثير من الإشكالات المتعلقة أولا: بالبيئة التي انبثق منها، وثانيا: بالمدلول المفهومي الذي يحيل إليه. ورغم هذا الكم الكبير من الآراء المتضاربة حول مشروعية ومدلولية هذا المصطلح ـ خصوصا بعد مجيء مصطلح ” ما بعد الحداثة “، فقد اتخذت لنفسي تعريفا إجرائيا أحاول أن أجعل منه ممارسة عملية فكرية. فالحداثة في سلوكي اليومي رؤية وموقف.

رؤية تستمد أفقها البعيد من كل الكتابات والنظريات المعاصرة المتجاوزة للأطر الكلاسيكية التي ظلت ترسخ قواعدها الجامدة في كل موطئ قدم، وهذا الاستمداد الفكري يتجاوز الطرق التقليدية التي تتلقى الأشياء بقدسية انبهارية، تقع أسيرة لمنتجاتها الفكرية، وهذا التجاوز يضعني دوما في الضفة الأخرى، لأطلق سهامي النقدية التي تحاول تفكيك وتقويض ما كان مبنيا أو ما يحاول أن ينبني بداخلي من مسلمات ومتعقدات إيدلوجية .

إنها رؤية تعيش دوما قلقا معرفيا ينظر دائما إلى الأمام.وهي موقف عملي يرتبط بشعائرية ما كنت أظنه حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش، ويرتبط أيضاً بالكيفية التي أزاول بها أنشطتي الثقافية في البيئة الاجتماعية والمهنية التي أعيش فيها وأرفض أن أتنفس هواء أفكارها.

و إنها موقف يستمد من الرؤية ما يجعلني في حالة خصام دائم مع الفاعلين الاجتماعين، الذين يمثلون سلطات قمعية ضد كل من يحاول أن يكون خارج سلطتهم.

ومن خلال الموازنة مابين الرؤية والموقف تبرز شخصيتي .

2- هل كون الفرد مسلما حداثيا يتعارض مع الممارسة العملية للإسلام كأيدلوجيا؟

أقدر دقتك الفكرية في طرح السؤال ، بشكل يستفسر عن التعارض بين الذات المسلمة والممارسة العملية لفكرة الإسلام ، بدلاً من الإسلام ذاته.

ولكن اسمح لي أن أعتبر السؤال قد طرح في البداية بشكل تقليدي على النحو التالي :

” هل هناك تعارض بين الإسلام وفكر الإنسان الحداثي ؟

هذا الطرح سيتيح لي توضيح نقطة في غاية الأهمية .ـ أظنك قد تجاوزتها منذ مدة ـ فمحاورتك اليوم معي ـ كما أفهم ـ هي محاورة إشكالية، لا استفهامية.

إن صيغة السؤال المعدل تفترض وجود إسلام لا تاريخي يعيش فوق الزمان والمكان ، ويبتعد عن الممارسة العملية ، وهذا النوع من الإسلام لا أقبل ـ الآن ـ مناقشته لإني لا أؤمن بوجوده أو على الأقل لا أستطيع أن أراهن عليه، فكل ما هو مطروح من مماحكات تستمد رؤاها من هذا الإسلام التاريخي المؤدلج، ولا علاقة لها بهذا المفهوم النظري الذي تحاول أن تثيره بعض العقليات التبجيلية، إذن ما سنتحدث عنه هنا هو التجربة الإسلامية التاريخية ، لا الرمزانية الإيحائية لمحتوى الوحى التي تشكل رأس المال الرمزي لكل الحركات.

لنعد لسؤالك، ونناقش إمكانية وجود هذا التعارض، بشكل مباشر، يمكن القول إن هذا التعارض موجود وبشكل واضح بين هذين الانتماءين. انتماء المسلم إلى الحداثة، بالمفهوم الذي أتبناه، والانتماء إلى الممارسات الإيدلوجية للإسلام، بل إن هذا التعارض يكاد يشكل تقابلا حادا بين الاتجاهين، فكون المسلم حداثيا يعني أنه يرفض الهالات القداسوية لكل الممارسات التاريخية لـلإسلام، بل ويرفض كل الثوابت المنتجة من العقليات التي تبنت الإسلام كأيدلوجيا، وبتعبير أكثر شمولا إنه يعني الوقوف من هذا الكم الهائل المنتج الذي يردف دائما بمشتقات الإسلام وقفة نقدية إشكالية تشكيكية، وهذا يتطلب حفرا أركولوجيا يعري كل الممارسات من فاعليتها المخدرة، من أجل إعادة بناء هذا المنتج الثقافي الضخم، وهذا يستدعي نزعا لكل الأقنعة التقدسية المغلفة للرموز.

وهذا الطرح ما لا يمكن أن يقبله الممارسون للإسلام ، لا ، لأنهم يرفضون مكتسبات الحداثة ولكن لأنهم عاجزون عن هضمها، إنهم مازالوا يفتقدون هذه النظرة التاريخية، ومازالوا يعيشون مخلفات الحروب الدينية الطائفية، وهذا ما يجعل خطاباتهم للماضي دائما تتسم بالتبجيل البعيد عن الممارسات النقدية التي تتيح للإنسان أن يرى الأشياء خارج دائرته الذاتية . إنهم غير مدركين أن الواقع التاريخي الذي يحضر دائما في خطاباتهم في صورة صراع، قد تحول منذ زمن بعيد إلى نصوص، نحتاج في قراءتها إلى منهجية علمية حديثة تتيح لنا مقاربات نقدية أكثر تمثلا واستيعابا لهذه النصوص. من جانب آخر، هناك الاعتقاد اليقيني بوجود الحقيقة المطلقة المحتكرة لدى هذا التيار، وهذا لا يتفق أبدا مع مبدأ التعددية الفكرية والحقيقة النسبية غير المملوكة التي يعتقد بها الفكر الحداثي.

3- لو شئنا أن نعقد تقابلا ما بين الإطار الأيدلوجي الذي كنت تعيش فيه والإطار الحاثي الذي تحاول التموضع فيه الآن، فما هي نقاط التقابل ؟

التقابل بين هذين الإطارين تقابل بين نظامين مختلفين، نظام أيدلوجي تسيطر فيه (الفكرة ) ونظام ابستملوجي (معرفي ) يسيطر فيه ( المنهج ) الذي يولد الفكرة والفرق بينهما شاسع كبير.

عندما كنت بالمرحلة الثانوية والسنوات الأولى من الجامعة أتلقى الشحن الأيدلوجي المفعم بالحماس الثوري ، لم تكن الرؤية واضحة بعد ، فقد كانت تحركني مجموعة من الأفكار الدوغمائية المغلقة التي لا تستطيع أن تحفر لها قواعد سليمة، ولم تكن مسألة كيفية نشؤء الأفكار وتأثيرها في نفسيات وعقليات المتلقين لها قد اتضحت بعد عندي، لذا فقد كنت أحاكم الأشياء من حولي وفقا لهذه الأطر المستمدة كلها من أدبيات التيارات الإسلامية التي انبثقت منها، وهنا لابد أن أشير إلى أن هذه التيارات لم تكن تمثل جمودا تقليديا كما هو الحال بالنسبة للجماعات السلفية، بل كانت تمثل أقصى التيارات الإسلامية حداثة في نظريتها وتأويلها للإسلام، إلا أنها لم تكن ترقى لتكون لها نظاما معرفيا حداثيا، وذلك بسبب كثرة التناقضات الابستملوجية التي تحملها وعدم قدرتها على هضم مكتسبات الحداثة.

ربما يكون هذا الانتماء الأيدلوجي الذي وُجدْتُ فيه المهد لخروجي من الإطار الأيدلوجي إلى الإطار الحداثي. إن المرحلة السابقة حقا كانت تجربة مفيدة بالنسبة لي تمثلت _فيما أتصور _ أجمل وأفضل ما فيها وهذا ما قد أكسبت شخصيتي نمطا خاصا ، يعده البعض نوعا من (الازدواجية ) السلوكية المعرفية.

أعود مرة أخرى لأتحدث عن هذا الإطار الحداثي الذي أحاول أن أتموضع فيه ، فقد بدأ هذا الإطار في التشكل في السنة الأخيرة لي في الجامعة، وقد أخذ ينمو بعد ذلك ويتطور في صورته الحالية نتيجة لالتقاء أمرين. الأول هو الهم المعرفي التجديدي الذي ظل يلازمني ويتطور ببطء طوال مرحلة التكوين الأيدلوجي، والثاني هو التقاء هذا الهم بالكتابات الفكرية الحداثية، وقد بدأت بكتابات الجابري حول بنية العقل العربي وتطورت بشكل ملحوظ بالاصطدام مع كتابات محمد أركون حول (نقد العقل الإسلامي ) الذي وجدتُ فيه ضالتي المنشودة .

مع هذا الكتاب بدأتُ الرؤية الحداثية لبنائي الذاتي تتضح بصورة قوية جدا، وأصبح القلق الذي يراودني دائما وأنا أفكر في شق طريق جديد يفتح لي أفاقا معرفية جديدة تتعلق بالموروث الإسلامي الأقل حدة.

من هذه الرؤية الحداثية للعقل الإسلامي بدأت أشكل إطاري المعرفي ، فأصبحت نظرتي إلى الأشياء أكثر اتساعا وانفتاحا، وأعمق فهما، وشرعت أعيد بناء ذاتي وأصيغ علاقتي بالأشياء صياغة جديدة، لا تقبل التسليم، ولا تعرف مكانا ممنوعا من التفكير، في هذا التموضع الحداثي أجد نفسي مهموما في البحث من جديد في كل المسلمات اليقينية، وقد فتح لي الاطلاع على منجزات العلوم الإنسانية الحديثة، بابا واسعا، لإدخال كل المواقف والاعتقادات والممارسات اليومية إلى ميدان البحث من أجل الخروج بنسق جديد يربط كل هذه المدخلات بعلاقات علمية تستمد مشروعيتها من آخر اكتشافات هذه العلوم.

4- ما هي القطعيات المعرفية التي تخلفها الحداثة كنظام ابستمولوجي راهن مع الفهم السائد للإسلام؟

ينبغي هنا الالتفات إلى أن الحداثة لا تعني أبدا قطيعة معرفية مع المورث، بل على العكس من ذلك فالحداثة تبدأ من قراءة الموروث، ولكن بشكل مختلف.

الأطر الابستملوجية الحديثة تقترح مقاربات علمية معاصرة، لمعالجة المسائل التراثية، وهذه المقاربات تستمد وجودها من مختلف إنجازات العلوم الإنسانية الحديثة التي طورت الكثير من الأدوات العلمية المستخدمة لقراءة التراث.

ولكون الإسلام يتاقطع في قسمة الأكبر مع هذا التراث، فقد أصبحت القراءة الحديثة للإسلام ، تستلزم تعمقا كبير ا وواسعا لتاريخ الحضارة الإسلامية، ولن تتم هذه القراءة بدون أدوات علمية حديثة تؤمن للقارى ء على الأقل الحد الدنى من الموضوعية والانفصال عن الذات . وهنا يمكن أن نرصد _معتمدين على هذه الأدوات _ مجموعة من القطعيات المعرفية مع الفهم السائد للإسلام.

hdath أولى هذه القطعيات، تتمثل في تعرية جوانب القداسة المحيطة بالأفكار المربوطة بالرموز البشرية، التي ظلت لفترات طويلة تمارس فاعليتها في نفسيات وعقليات المتلقين بصورة عاطفية غير مدركة لحقيقة وكيفية ولادتها. وهذه القطيعة تتطلب حفرا أركولوجيا في كل المنظومات الفكرية والشعائرية الممارسة في الوقت الحاضر كثوابت لا يمكن الخروج عليها. ولن يتم ذلك دون حدوث انشراخات حادة ومؤلمة في نفسيات الجماهير التي لا تحب أبدا أن تصطدم بالحقيقة وتفضل الترضيات النفسية.

وثاني هذه القطيعات تتمثل في فتح ساحات التفكير المغلقة أو كما يعبر عنها أركون ساحة “اللا مفكر فيه” هذه الساحات تزداد يوما بعد آخر بسبب هيمنة الروح القداسوية المفروضة من قبل المجتمع ورموزه الدوغمائية ، لقد كانت هناك حركة علمية نشطة إبان عظمة الحضارة الإسلامية ولم تكن هذه الحركة تغلق ساحات التفكير ، بل على العكس من ذلك كانت دوما مسكونة بهاجس البحث والمساءلة للمناطق المحظورة التي تمثل مسلمات اجتماعية صاغها المتخيل الجماعي.

إننا اليوم بحاجة لفتح ساحات النصوص المحظورة، من أجل إعادة قراءتها من جديد في ضوء هذا الكم الهائل من الاكتشافات المنهجية الحديثة.

هاتان القطيعتان هما الطريقان لاستشراف فهم جديد للإسلام يتجاوز البعد الاختزالي الذي يحصر تأويل لإسلام في مجموعة من الممارسات السلوكية المتشددة والقناعان الفكرية المنغلقة، التي تتخذ لها فيما بعد تطبيقا اجتماعيا يولد تنميطا سلوكيا يحُاكم من خلاله الأفراد. و قد قلص هذا الاختزال البعد الثقافي الروحي للإسلام، كما هو حاصل في أغلب الكتابات الموجودة الآن البعيدة عن البحث عن روح الإنسية العالمية في موروث الإسلام الثقافي، وتحول الأمر إلى البحث عن الفرقة الناجية من النار باستدعاء مجموعة من النصوص المقروءة قراءة أيدلوجية.

5- ما هي الخطوات الأولى برأيك للدخول إلى عالم الحداثة كمشروع فكري راهن؟

سؤال بهذا المستوى من الضخامة، ليس بمقدوري الإجابة عنه، لاعتبارات عدة، يأتي في مقدمتها، وضعيتنا نحن الثقافية وأعنى بـ “نحن ” الجماعة المنبثقة من رحم التيارات الإسلامية التي ظلت لفترة طويلة تتشبع بروحها، و تبني أفكارها، إنها أنا وأنت وبقية الشباب الذين يتقاطعون معنا في هذا الخط الحداثي المبني على إرث الأيدلوجيا الإسلامية.

فنحن ما زلنا في طور التشكل ، وما زالت الرؤيا بعد لم تأخذ نسقها المنظم الذي يتيح لها أن تبرز كمشروع قادر على الظهور_ على الأقل _في ساحتنا الثقافية التي تعج بمختلف التوجهات.

إن وضعية ثقافية كهذه لا يمكن لها أن تقترح مشروعا متكاملا لدخول هذا العالم الحداثي ، هناك الكثير من الطروحات المقدمة من قبل كبار المفكرين في العالم العربي، تتعلق بدخول عصر الحداثة بل بعضها تجاوز ذلك للحديث عن عصر ما بعد الحداثة ، ورغم ذلك ، فما زالت هذه الطروحات متعثرة وغير قابلة للتنفيذ، وبعضها يعاني من أخطاء منهجية وضعف تشخيصي لأمراض الواقع .

نعم يمكن الحديث عن هذا العالم الحداثي من زاوية ضيقة تتعلق بوضعيتنا الثقافية الإسلامية ، و لتكن الشيعية بصورة أضيق و لنتخذ الساحة البحرينية نموذجا.

الملاحظ هنا وجود نمطين ثقافيين يختلفان في الدرجة فقط ، و يتفقان في الآلية المنتجة لكل منهما. هناك النمط التقليدي المحافظ جداً ، و يمثله رجال الدين القدماء، وفي هذا النمط تختفي الطروحات السياسية والتجديدات الفقهية، ويكاد ينحصر هذا التيار في كبار السن.

أركون وهناك النمط الثاني وهو الأكثر شهرة واتساعا، والأكثر راديكالية ، و رغبة في تغيير الواقع، وهذا التيار يسعى لإكساب الأحكام الشرعية صفة عصرية عن طريق التأويل البسيط أو عن طريق توسيع ساحة الطرح ؛ ليدخل المستجدات العصرية ساحة الأحكام الفقهية، و يتلقى هذا النمط مصادر ثقافته من الرموز الثورية لرجال الدين _ فالساحة تعاني من شحة المنظرين الأيدلوجيين _ ويضم تحت لوائه مختلف القطاعات المتعلقة بمختلف تخصصاتها، ويتراوح أتباع هذا الخط في درجة التشدد والانفتاح ، ولكن يجمعها شعار واحد هو “الإسلام هو الحل الوحيد ” أو ” الإسلام هو البديل “.

إن هذا الشعار الذي يستمد منه محركو الجماهير الطاقة لتجييشها ، لا يتم تحليله وتفكيكه بصورة عقلانية مقنعة تستطيع الصمود أمام الاعتراضات والإشكالات النقدية ؛ لذا فهم يكتفون بتركه فضفاضا، ليدغدغ مشاعر جماهيره .

إن هذا التيار رغم كل تناقضاته الابستمولوجية ، و تشدداته الأيديولوجية، إلا إنه يمكن الدخول في حوار معه من أجل تطويره ودفعه للأمام، وتجربتنا هي خير دليل على ذلك، فقد استطعنا أن نهضم مقولات الحداثة ، ونبلور خطا جديدا يصعب الآن إطلاق أي تسمية عليه.

إذن فالرهان الذي يمكن أن نساوم عليه هو هنا في هذا التيار . إننا لا يمكن أن نرفض كل ممارسته الاجتماعية، فالحداثة لا تعنى الرفض أبداً، ولا يمكن إحداث قطيعة معرفية أو وجودية كلية معه، فالموقف الحداثي يفرض فينا قدرة على التعايش معه من أجل تحليله وتفكيكه بطريقة عقلانية بعيدة عن اتخاذ المواقف الانفعالية المتشددة.

إذن فدخولنا عالم الحداثة يبدأ من هنا، الاشتغال على كل هذه المعتقدات المترسخة في المتخيل الجماعي لأفراد هذا التيار وهذا يتطلب منا قدرة على تحديد الآليات المعرفية التي تنتج هذا المتخيل وتغذيه.

6- من خلال حديثي معك حول الحداثة وهمومها، تبين لي أنك تعرضت لبعض الحملات القاسية حول توجهك الجديد فما موقفك أمم هذه الحملات؟

حين تكلمت عن الإطار الأيديولوجي الضيق الذي يميز غالبية الحركات الإسلامية، أشرتُ إلى صعوبة الخروج من سور الأفكار المغلقة التي تكون هذا الإطار، لذلك يمكن القول أن الأحادية تعتبر صفة أساسية لهذا الفكر. من هنا فالخروج يعني المجازفة والمغامرة _ لا بالرأس فهذا لم نصله بعد _ ­ويعني أيضا التنحي عن الدور التنويري الذي يمكن أن تمارسه مع أي عقلية كانت.

لقد عشت فترة ومازالت أخاف من البوح بحقيقة الرؤية المتشكلة لدي ؛ لذا فقد كنت أقرأ وأفكر وحدي ، أحيانا كثيرة كنت التقي ببعض من يحملون التوجه نفسه ، وهم قلة قليلة جداً نتبادل النقاش لساعات طويلة، لقد كان لهذه النقاشات أثرها الكبير في بلورة الكثير من المواقف العملية والفكرية.

ورغم هذه المحاولات لإخفاء حقيقة التوجه الجديد ؛ فإن خيوطا كثيرة بدت تتسرب الأمر الذي يضطرني في أحايين كثيرة _ بسبب المراهقة الفكرية _ إلى الخوض في جدال عقيم مع الممثلين الاجتماعيين للفكر المتأدلج ، وهذا ما سبب لي إحراجات كثيرة اضطرتني إلى الانسحاب من ساحة العمل، لأعكف على ذاتي من أجل استكمال بقية المسيرة التغيرية .

وكم كنت موفقا حين التقيت مجموعة من الشباب الذين يحملون التوجه نفسه، وأنا مازلت مصرا على المضي في الطريق نفسه.

7- إلى أي مدى يمكننا هنا في مجتمعنا مقاربة الرؤية الأركونيه كرؤية حداثية تتلمس المناهج الألسنية والعلوم الإنسانية بغرض الخروج بالفكر العربي من مأزقه؟

الرؤية الأركونية لمسائل التراث الإسلامي ، تعتبر من أحدث المشروعات النقدية الحديثة في العالم الإسلامي ،ولست أعرف باحثا ذا أصول إسلامية ،يعيش هم التغيير ،والإنتاج في مجال العقل الإسلامي كأركون ،فأنا شخصيا لا أستطيع أن أخفي إعجابي به ،ولا يمكنني أن أخفي الثأثير الكبير الذي أحدثه في منهجيتي العقلية التي باتت تدين له بالكثير .

أرجو ألا يفهم من هذا الإطراء ،إنني أقف من أركون موقفا تبجيلياً تقديسيا، فهذا ما لا أقبله أبداً ،وما لا تقبله منهجية أركون أصلا ،إنها ترفض تقديس الأشخاص والأفكار ، والاستسلام للطروحات الفكرية دون تمعن وتحض على التعامل النقدي دائماً ، مع الأشياء،لذا ففي الوقت الذي أبدي فيه إعجابي الشديد بتوجهات هذا الرجل فإنني أمارس النقد _معكم_ ضده ،وأقرأ بتلهف الدراسات النقدية الموجهة لمشروعه.

ينبغي هنا الالتفات إلى أن التطبيقات الأركونية للمناهج الألسنية والعلوم الإنسانية على مسائل الفكر الإسلامي ،لا تستمد أصالتها من إبداعاته الذاتية ،فأغلب النظريات والمنهجيات والأدوات العلمية التي يستخدمها ، هي من صنع كبار الفلاسفة الأوروبيين أمثال”فوكو وهيدجر وباشلار ودريدا” وأركون إذ يقوم باستثمارها في مجال التطبيقات الإسلامية ،فإنما يقوم بنوع من أنواع التناص الفكري الذي يساعده على توفير مدخل كلي يفيد من كل الإنجازات المنجزة في مختلف العلوم ،وهذا لا يعني أبداً غياب كلي لشخصية أركون لأنه يتمثل هذه المنجزات ويعيد صياغتها من جديد في صورة حديثة ،وهذا ما يتفق مع نظريات التناص الحديثة التي ترفض فكرة الإبداع الخالص النقي.

لنعد مرة أخرى للرؤية الأركونية،وكيفية الإفادة منها في الساحة العربية ،الرؤية الأركونية لا تختلف عن بقية الرؤى المتبنية من قبل كبار المفكرين في العالم العربي كثيراً فكلها يدعو إلى التحديث ،ولكن الرؤية الأركونية تتميز عن الكل في أنها أولا تفيد بشكل مباشر من تطورات العلوم الإنسانية في الغرب وذلك بحكم وجود صاحبها في فرنسا وكتاباته الفرنسية وثانيا أعادت الاعتبار ووجهت الاهتمام إلى مسألة الدين هذه التي حاولت أغلب التيارات تجاهلها ،وعودة أركون لمسألة الدين وبحثه الدائب في تأثير الإسلام في عقليات ونفسيات المجتمع الإسلامي ،أكسب مشروعه خصوصية معينة لم تتوافر في المشاريع النهضوية ،خاصة إذا وضعنا في عين الاعتبار الكيفية التي تمت بموجبها هذه المعالجة .

من هنا فإن الاشتغال مع هذه المقاربة الأركونية –فيما أعتقد- هي أفضل مشروع يمكن أن ننخرط فيه ،وهذا ما أحاول رغم الصعوبات العلمية التي تعترضني ، والانخراط في هذا المشروع لا يعني أبداً تبينه بشكل حزبي أيدلوجي يدفع بنا إلى الدخول في المهاترات والمماحكات الجدالية غير المفيدة ، فنحن أحوج ما نكون إلى الاقتراب أكثر من التيارات الأخرى والدخول معها في حوارات نقدية تطور من كل المشاريع ،وهذا يتطلب منا أولا تطوير مهاراتنا وقدراتنا الفكرية ؛ لنستطيع هضم هذه المكتسبات الحديثة، فنحن ما نزال في بداية الطريق ،ومراهقتنا الفكرية ما تزال بعد لم ترق إلى مستوى الاشتغال العلمي الخالص .

8- هل لديك خطة واضحة تعمل من أجلها لبلورة معالم حداثية مختلفة تطرح فيها خصوصيات وضعنا الحالي؟

لست لي خطة بهذا الحجم ،ولا أستطيع أن أزعم إمكانية أن تكون لي مثل هذه الخطة، ولكن لدي تــــوجه طموح نحو( تحديث الثقافة الإسلامية ) بشكل عام والشيعية بشكل خاص ، وأرجو ألا يفهم من ذلك ، إني ما زلت أسير هذه التسميات الأيدلوجية. كما أن هذا الاهتمام الخاص لايكشف عن عقلية ما زالت تعيش بمفاهيم قروسطية، بل على العكس من ذلك ، فالاتجاهات الحديثة غالبا ما توجه بؤرة اهتمامها نحو الهامش الذي يظل خارج دائرة الاهتمام الرسمي، وأعتقد إن الثقافة الشعية مازالت تعيش على الهامش، وما زالت مبعدة عن دائرة الاهتمام البحثي وقليل هم الذين برزوا لتحديثها وتطويرها ودراسة ما فيها من خصوصية، وأنا أتحدث عن هذا الجانب المهمل، لا أبشر بإمكانية اكتشاف جزء جديد من العقل الإسلامي فجميع المذاهب الإسلامية تلتقي إلى حد كبير في آليات تفكيرها العقلية ولكنها ربما تختلف فقط في المصادر المغذية لهذه الآليات، إذن ما الجدوى من البحث في هذا الجانب؟

لاشك إن للمخزون الثقافي التراثي الشيعي، أثره الكبير في خطابات الفاعلين الدينين وله أيضا وقعه الخاص عند المتلقين المؤمنين وهذا الموروث إذا لم يتم دراسته وفقا للمناهج الحديثة من أجل استثمار ما فيه من نقاط قوة وتجاوز أخطائه المعرفية، فإنه سيكرس مزيدا من التخلف وسيبقى مصدرا غير نقي يغرف منه الخطباء مادة لخطبهم الني تستحوذ على الكثير من الناس.

من الجانب آخر فنحن لا نستطيع تجاوز هذا التراث وإغفاله ونطلب من الناس أن يبحثوا لهم عن ثقافة حديثة تتناسب مع معطيات هذا العصر، لأنهم يعيشون هذا التراث ويتنفسونه في كل ممارساتهم اليومية، ويتحرك فكرهم وفقا لآلياته، كما أنه مصدر من مصادر اعتزازهم وافتخارهم، أضف إلى ذلك الدراسات الأنثروبولوجية التي تؤكد أهمية فهم سلوك وعادات الناس من أجل التأثير فيهم، والتأثير هنا لا يتم من أجل استغلالهم بل من أجل تطويرهم. وبعد هذا كله فهذا التراث فيه الكثير من الصفحات المشرقة التي ينبغي التأكيد عليها.

لنعد مرة أخرى إلى موضوع الخطة، فأنا شخصيا مولع بهذه الدراسات وأسعى جاهدا لتفهم مناهجها، ولكن تبقى مسألة التخصص العلمي في الدراسات العليا حاجزا يحول دون التركيز ومع ذلك فأنا أسعى إلى البحث عن هذه الاهتمامات مع مجال التخصص الرئيسي خصوصا أن الحواجز الفاصلة ما بين العلوم بدأت تتلاشي، لتلتقي مختلف التخصصات في مصب واحد