كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

من فريق المخارقة بالمنامة إلى فريق شرق بالدير … في رثاء مكية بنت حجي صالح اللولو (1944-2020)

مكية صالح محسن الولو
الحاجة مكية صالح محسن الولو (1944-2020)

رحلت أمس في هدوء، كما عاشت حياتها كلها في هدوء، أم جعفر، الحاجة مكية صالح محسن اللولو. سألت أمي: كيف كانت زوجة خالك؟ قالت: لا أحد يسمع صوتها، حتى استثار هدوؤها يوما في مأتم جدتك، بدرية بنت حجي عبدالمحسن المعروفة بتعليقاتها وفكاهتها، فقالت “يا ليت لي صبر أم جعفر، كيف تصبر عن الكلام، ولا مرة سمعتها تتحدث عن أحد، كيف ابتلاني الله بكثرة الكلام؟ وميزها بالصوم عن الكلام؟”.

جاءت في منتصف الخمسينيات، من فريق المخارقة بالمنامة إلى فريق شرق بالدير، زوجة للحاج علي أبوزبون، ولهذه الزيجة حكاية، فقد تزوج الحاج علي في المرة الأولى من مريم وتوفت بعد إنجاب ولده البكر أحمد، وتزوج ثانيا من خديجة وماتت في حملها، فحدث التشاؤم وظن القريبون أنه (فقّاد نسوان). فصار الذهاب بعيداً الخيار الأقرب للحصول على زوجة جديدة. حمل هذه المهمة جدي لأمي الحاج عبدالحسين طرار، فقد كان من القلائل الذين يعملون خارج القرية في سوق المنامة، هناك تعرف الحاج صالح محسن اللولو المولود في الأحساء والمقيم بالمنامة على الحاج عبدالحسين، فسأله البحث عن زوجة لابن عمه وأخ زوجته سلامة سلوم، فوقع الاختيار على مكية بنت حجي صالح، وضع والدها شرطاً واحدا يحفظ به دلال ابنته التي ربت في بيت عزه وغناه: لا تضع على رأسها بيبا، ولا تحمل طشتا. والبيب هو صندوق معدني بعد أن يفرغ من الزيت يستخدم في نقل الماء، والطشت هو إناء معدني دائري تغسل فيه الثياب ويحمل الغسيل بعدها على الرأس.

تستقبل أخت العريس (سلامة سلوم)  العروس القادمة من المنامة، تحيطها بعنايتها ورعايتها، تقع مكية في حب سلامه، تلازمها حيث ما تكون، تحمل سلامة عنها (البيب) و(الطشت) وتترك لها المساهمة في الأعمال الأخرى الأقل مشقة، في بيت العائلة الكبير المفتوح قبل تقسيمه لثلاثة بيوت. 

تضع مكية بكرها جعفر في العام 1957وتكر سبحة الولادات: كريم، فاضل، سلوى، صادق، جميل، كريمة، بشرى، زينب، ياسر، عبدالله. يستقبلهم حضن سلامة معها، يتربون في دلال الأم والعمة، يحفظون لها جميل الرعاية وفائض المحبة، حتى صار العرف الذي أرسته مكية في بيتها ألا يقطع ابن لها أو بنت أمر زواجه قبل الرجوع للعمة، وصار التباهي بينهم بالتسابق على كسب قلب العمة لزوجاتهم وأزواجهم. تقول فاطمة عبدالحميد، وهي إحدى رواد مجلسها: إذا رأينا (سلامة سلوم) قد لبست الثوب الأخضر ذا الكورار الذهبي، عرفنا أنها تستعد للذهاب لخطبة ما، فنشاغبها بالأسئلة والتعليقات وترد علينا بابتساماتها وضحكاتها التي تحاول عبرها تضييع اسم العروس أو المعرس الجديد.

تحضر مكية، مأتم (سلامة) قبل الجميع، تأخذ مكانها بقدر المكانة التي لسلامة في قلبها، وتشارك في مراسيم الإعداد والطبخ. عبر سلامة ومجتمعها النسائي، تمكنت من التأقلم والدخول على أجواء الدير، توطدت علاقتها مع صديقات سلامة: سعدة بنت الحاج عبدالرضا، وزهرة بنت يوسف، واليكة، مريم بنت الحاج عبدالله بن جاسم الملا، والجزيرية أم عيسى. 

بعد أن تم تقسيم البيت الكبير، بقي باب يصل بين سلامة ومكية، وعبره ظل تقليد صحن وجبة الغداء الذي تعده أم جعفر، يصل يوميا إلى سلامة، أغلق الباب فيما بعد لأسباب تتعلق بالتوسع ومتطلبات الأبناء لمزيد من الغرف، لكن ظل الصحن يأخذ مساره اليومي لسلامة حتى آخر يوم في حياتها. ظللتُ أنتظر هذا الصحن بفارغ الصبر حين كنت في المرحلة الثانوية أعيش مع جدتي  في بيتها، وأنام في غرفتها، يأتي الصحن كبيرا ومليئا حتى آخر نفس فيه، نتعاقب عليه أنا وجدتي حتى حبة الرز الأخيرة، اشتهرت صالونة أم جعفر بأنها لا مثيل لها حين تكون معدة بالسمك.

منذ مرضتها الأخيرة وأمي تحدثني عنها في كل مكالمة: لا مثيل لأم جعفر، لعلها اكتسبت فيض عاطفتها من أبيها الرجل الذي أتذكر كلماته حين يُقبل عند الباب عند زيارته لتفقد غاليته: بوي بوي. يقولها بنبرة العطوف المشتاق الحنون. ظلت تأخذني وخالتك خاتون معها للمنامة في محرم ونحن صغار، ننام في بيتهم الكبير، ونشرب من حليب بقرهم الطازج، ونعود في سيارة الخال والفرحة تملأ قلوبنا، ظلت تفعل ذلك معكم أيضا. تحيطكم برعايتها، وتدافع عن شقوتكم أمام خالي حين تملأون المكان بالضجيج وأنتم تسبحون في بركة السباحة في بيتها، بل إنها تحرص على أن تغسل ثيابكم وترسلها مرتبة نظيفة. ما فتر سؤالها عنك وأنت في غربتك، تتفقد أحوالك وتدعو لك بسلامة العودة”.

في صلاة الليل التي اعتادت على القيام بها، تفتح بالدعاء يديها لكل الناس وتخص أصحاب الحاجات، تشبعت روحها بما أودعه والدها فيها من تدين ومحبة للقرآن والناس، يقول ابنها الأصغر عبدالله الذي لازمها طوال عمره “حين فقَدتْ والدتي بصرها في أواخر حياتها، طلبت مني أن أحضر لها القرآن الآلي، ليكون أنيسها”

تحدثني جارتهم في المنامة الأستاذة نجاح المدني”روحها حمامة هدوء، أتذكرها في طفولتي تأتي كل يوم جمعة مع أطفالها من الدير لبيت أبيها، بيت حجي صالح جيراننا الأقرب لقلب جدتي كاظمية، قبل أن تدخل بيتهم تُصبّح على جدتي، يُلفتني صوتها الحنون وصدق قلبها، تختم زيارتها عصرا بتوديع جدتي. كنت أتخيل والدها الحاج صالح اللولو ملاكا يمشي على الأرض، وحين أتاه نداء السماء، رحل إلى كربلاء وتوفي من غير مرض في اليوم الثاني ونال شرف المكانة والمكان هناك”.

رحم الله مكية، وأسكنها فسيح جناته، كما أسكنتنا منذ كنا أطفالا جنة قلبها.

 

في رثاء موسى النهام، من(دريشة أم كريم) إلى حلقة (السكسبوي): جواااااب

 

رحل اليوم آخر سلالة (دريشة أم كريم)، الجار الطيب موسى النهام، ابن الطيبة جارتنا التي توفيت مطلع 2017، إنه “نسخة في البساطة من أم كريم، الدير فقدت أحد صناع الابتسامة” هكذا اختصر لي الصديق الشاعر سيد سلمان الموسوي، شخصية الفقيد، وجوم كئيب سيطر على قرية الدير أمس، كان صباحًا ثقيلا عليهم، تحدثني أمي في نهاية اليوم البحريني، ومنتصف اليوم الكندي عن هذا الصباح، تقول، كانت زوجة أخيك مختار خارجة لعملها في المستشفى، استوقفها صديق الفقيد على عتبة بيت أم كريم، رأى في لباسها الأبيض بارقة أمل، قال لها لو تساعديني في التأكد من حالة حرجة، فعاينتْ الموت بنفسها، هكذا شاء القدر أن نسدل الستار على آخر أبناء جارتنا الطيبة.

في السنوات الأولى من الهجرة البيروتية، كانت أمي تلوذ به، لتمرير شحنات الوزن الزائد من حبها وحمولاتها المرسلة لي عبر مطار البحرين، تعرف أن الدريشة التي بيننا ستدفع ولد أم كريم، لتمرير ما تريده الجارة، هكذا وجد قلب الأم حيلته لإيصال ما تريد من سمك ومأكولات وحاجيات لابنها المهاجر. صارت قصص الوالدة مع الفقيد مادة للضحك والسرد في البيت، فكل ما مرت شحنة كانت تتمادى في الطلب، ولا يجد الجار الطيب منفذا له للهرب أو التهرب منها.

تختم الوالدة مكالمتها، بتوصية ضرورة كتابة تأبين في حق الجار، فألوذ بالصديق عبدالحسين المتين، لأستكمل منه مأثورات الجار الفقيد، يتنهد تنهيدة الفاقد ويقول: العزيز موسى من مؤسسي حلقة (السكسبوي Six boys) الشهيرة في قرية الدير، لم يغادرها منذ بدايتها في 1982 وحتى رحيله، هو مكتشف رادودها جليل المتين، سمع مرة صوت أذان جميل في مسجد بردان القريب من بيتهم، تتبع الصوت حتى وصل المحراب، فشاهد أخي جليل، أطلق ابتسامته المعروفة: نسيبي، هذا صوت شجي، سأكلم أبوجواد مدن، لتكون رادود الحلقة، وتم الأمر، لم يترك له مجالا ليتردد أو يعتذر.

حين يدخل موسى الموكب، ينقلب الوضع، يصرخ بأعلى صوته: جوااااب، فترتفع أصوات المعزين عالية، يدب الحماس، ولا يعرف يستقر في مكانه، يجوب بين مقدمة الموكب ونهايته، ينظم الصفوف ويشجعها وإذا أحس برودة من أحدهم، يقترب منه بابتسامة بالغة التودد ويقول له: اوووجع، فيدب فيه النشاط، إنه ماسترو الحلقة حين تفقد إيقاع الدق أو الرد.

 قبل عشرة محرم يكثف اتصالاته بأخي جليل، يرسم معه خطة القصائد وسيرها ويحضر معه ما يناسب ذائقة جمهور حلقة (السكسبوي)وهي ذائقة حسينية أصيلة، لا تقبل بالإسقاطات السياسية والتنويعات اللحنية، لذلك يلتحق بها كبار السن، وبحارة الدير، من أمثال: حجي مكي عبدالله مكي، حجي إبراهيم حجي حماد، حجي عبدالله بن كاظم أبو أكبر، حجي عبدالله أبوحسان، حجي رمضان، حجي حسن بن موسى، الحاج علي السليموني. 

كان الأستاذ حسن مكي، من أبرز كتاب القصائد الحسينية، يحضر مجلس بيت المتين من ليلة سابع، يأخذ اللحن من الرادود ويكتب من قريحته، هناك قصيدة للأستاذ حسن يصر الفقيد الحاج موسى على جليل أن (يشيلها) في وفاة النبي، يقول له أنا أعرف أن مزاج المعزين يصعد للأعلى مع هذه القصيدة لو كررتها كل عام، يقول فيها: يا رسول الله بعدك هجموا بدار الوصي، وانكروا ذيك الوصية وقيدوا حيدر علي، يا رسول الله يا رسول الله”. يحدث أحيانا أن يدخل موسى على جليل بقصيدة لملا عطية وهو وسط الحلقة، من غير سابق تنسيق، ويطلب منه أن (يشيلها). في حلقة (السكسبوي) كل شيء عفوي ومرتجل وبسيط وقابل للتداول، ومعروف حين يفقد البحارة مزاجهم من الرادود، يُطلقون نداءهم الشهير (شيل شيل يا جليل)وهناك لا يملك جليل الخيار.

خارج الموكب، لنا معه حياة أخرى، مليئة بالحب والظرف، فهو مركب من الضحك والكوميديا والسخرية التي لا تجرح أحدًا. يزورنا غالبا بعد المغربية، يأتي محملا بالرطب والترنج من قبل والدته التي هي بنت عمة والدي، يدخل البيت وصوته يزلزل المكان، ينادي والدتي: نائمون… نائمون،  نسيبتي نسيبتي. ظل هذا الصوت على عادته حتى بعد وفاة أم كريم، يأتينا بالرطب والفرح والمودة.

سنفتقد هذا الصوت، ولن نجد من يستصرخ فينا الحماس بندائه الشهير: جوااااااب.

علي الديري، في رثاء رفيقي البوسطة: حكايات البوسطة المبعثرة

لوحة أحبك يا بوسطة
لوحة أحبك يا بوسطة

خصني رفيقي أحمد البوسطة قبل رحيله عبر إحدى الصديقات المؤتمنات على مسودة من مذكراته تحت عنوان  (شيء من حياتهم وحياتي… حكايات لأوراق مُبعثرة). أتمنى ألا يحدث شيء يعكر العمل على نشرها. سأقف في رثائي على هذا الرحيل المؤلم على فقرتين وضع البوسطة عناوينهما.

الوقفة الأولى القلب المترامي بجدارة

يقول البوسطة: كتب صاحبه  ذات يوم في صفحة (سوق الجنة، جريدة الوقت 2008) غزلاً حميمياً جميلاً بين محبين يختلفان ويتوحدان في فارق الشجن وعشق الحرية، لكنهما قريبان إلى حدٍّ التوحد من الرؤية المشتركة في البياض: “لكل إنسان جنته التي يستريح فيها إلى صوره وتجاربه التي تحكي سيرته وأفكاره. وللبوسطة جنته التي يضنى فيها، رحلته طويلة ومنعرجاتها كثيرة، ويكاد يكون وحيداً دوما في بياضه، تسّود الأشياء حوله، ويبقى مناضلا كي تبقى جنته بيضاء. لا أحد يجيد سخريته الساردة التي تحيل توقيفاته ومنافيه وضياعه في المدن والأوطان جنة ضحك لا تسكت. لا تتوقف حكاياته الحمراء في جنته البيضاء، تفيض دوماً بالسخرية والتجربة” علي الديري،مقدمة سوق الجنة، أحمد البوسطة.

كم أنا فخور يا رفيقي، أنك استعدت مقدمتي في الحديث عنك، سعيد أن أكون صاحبك الذي تتحدث عنه في مذكراتك بكلمات الصحبة والمحبة والعشق والتوحد والقرب.

 لم يمنعك فارق التجربة والجيل والخلفية الثقافية أن تُجسّر المسافة وتعبرها، أحب فيك هذا العبور المبدع، ويذكرني باحتفائك بكتابي (مجازات بها نرى) ذلك الكتاب الذي تحدثت أنا فيه عن المجاز والعبور عبر الاستعارات والحكايات في الخطاب السياسي، العبور من الفكرة إلى واقع الناس السياسي.

 أحب قلبك المترامي بجدارة يا صديقي، إنه قادر أن يمتد ويعبر ويجمع المحبة والمعرفة والثقافة في موقف واحد يعبر عن الإنسان الذي ظل فيك حتى آخر رمق.

لوحة أحبك يا بوسطة
لوحة أحبك يا بوسطة

الوقفة الثانية اسمي لا أحد

يقول البوسطة “صون المبدأ من عدمه يتلخص في مواجهة كلمتين عن الراحلين: أما أن تسمعي يا ابنتي كلمة “مسكين مات وكان طيباً”، أو “يستاهل الموت هذا العفن ابن العفنة!”، إذن، اخترت أن أصون مبادئي. قال هذا الكلام ودمعة كبيرة سقطت من عينيه، اعتقد لوهلة بأنها ستبلل الكون كله، لكنها بللت خده فقط”

ليت تسمع الآن يا رفيقي، ما نقوله عنك: مات عنيدا على الحق، مات شامخ الرأس، مات صائنا النفس، مات محبًا للحرية، مات واقفا بعز. لقد صنتنا أكثر مما صنت نفسك، حفظت شرف الكلمة، وشرف المثقف، وشرف الصحفي، وشرف القلم، وشرف البحريني. 

كلنا ممثلون فيك، كلنا نقول، مات حامل شرفنا وموقفنا وكلمتنا، أنت أمة يا رفيقي، و”أبناء العفنة” الذين دنسوا شرف كلمتنا عفطة عنز. دمعتك يا صديق بللت كوننا كله، رايات محبتك مبللة بدموع عشاقك ومحبيك على امتداد وسائل التواصل كلها.

أكتب الآن يا رفيقي صبيحة اليوم الثاني لرحيلك، أفتش في الصحف التي احتربت فيها من أجل شرف كلمتك وموقفك، ولا أرى صورة تذكرك ولا كلمة ترثيك ولا سطرا يؤبنك، كأنك (لا أحد)، ألا عميت عين لا تبكي فقدك يا رفيقي، وخابت صحافة لا تُقدس اسمك وموقفك وسيرتك.

 

لماذا تكتب سير الملايات ومعلمات القرآن؟

أتعثر أحيانًا في الإجابة على هذا السؤال، ربما بسبب شدة وضوح جوابه في قلبي وعقلي، أو كما يقال في التعبير التقليدي “توضيح الواضحات من المعضلات”.

هذه محاولة لصياغة إجابة أظنني لن أكون راضيًا كثيراً عنها، وربما لا تكون مقنعة للسائل الذي يريد إجابة تشبه الإجابة على سؤال: ما هي آثار الإصابة بفيروس كورونا؟ 

تشدني السمات الشخصية للملايات ومعلمات القرآن، لم أشتغل على سيرة إحداهن من دون أن أقع في حبها، حب شخصياتهن الحقيقية والمفهومية، الحقيقية كما عاشوها وتفاعلوا بها في مجتمعهم، والمفهومية كما عاشوا وتفاعلوا في مخيلتي. وجدتهم قويات قياديات مفعمات بالحب والعاطفة، لديهم فائض من الحماس لممارسة فنونهن في القراءة الحسينية وتعليم القرآن وتمكين (لوليدات) من إتقان القراءة واكتساب مهاراتها التمثيلية. 

أحببت كثيراً شغفهم بالكلمات، يقدسن الخط المرسوم باليد، كريمات في عطائهن لكنّهن ضنونات بمخطوطاتهم، يلاحقن النسّاخين لإنجاز مجاميعهم. أحببت مصطلح (مجموع) حين عرفت أن الملايات يطلقنه على كتبهم. المجموع مخطوط يجمع مجموعة أشعار أو مرويات أو سرديات حول حكاية أو شخصية أو حادثة.  

شدني شعار الملاية سعدة بنت مزعل (1915-1998) “كتبي حجاب صوني” تردده باستمرار، لا تقبل أن ينزع أحد كتاباً من كتبها، تعتبره كأنه ينزع حجابها أو يُفقدها أحد مصادر قوتها وتميزها، بهذا الشعار وضعت حداً صارماً لحرمة كتبها، ولتأكيد هذا الحد تكتب على الصفحة الأولى ديباجة تملكها “أوقفته سعدة بنت يوسف مزعل إلى المأتم الذي يخصها في بيتها”.

لقد أنارت الكلمات مجاميع الملايات وشخصياتهم ومآتمهم وتجمعاتهم النسائية قبل أن يصل نور التعليم الحديث، العتمة بددتها هذه الشخصيات قبل أن تبددها المدارس، لذلك نحن بحاجة لرواية هذه السير والاحتفاظ بما تركته لنا من مخطوطات وتاريخ شفاهي، إنها تحكي التاريخ الاجتماعي من منظور النساء.

أشرت إلى ذلك في مقدمة سيرة عمة والدي (تقية بنت حجي عبدالله بن عيسى 1919-2018) قلت: في القرية نساء قويات صنعن فرادة خاصة تستحق أن تروى، وأنا أستمع لشهادات الرجال الذين تتلمذوا على يد المعلمة تقية لاحظت الإعجاب والإكبار التي تركته هذه الشخصية النسائية في نفوسهم. يفخرون أنهم تعلموا عندها. لاحظت كيف يسرد الرجل تاريخ إعجابه بما صنعته المرأة في عقله وروحه. لم يكونوا يتحدثون عن سيرة حب نسائية بل تحدثوا عن سيرة تكوين ثقافية. شخصيات نساء الدير وغيرها من المناطق في قلب تاريخ القرية ولم يعشن على الهامش، ولابد أن ينصفهن السرد ويعطيهن حيزاً مميزاً في تاريخ القرية.

لفتتني معلمة القرآن الملاية أم السادة، إلى مقطع من الزيارة الجامعة “وآثاركم في الآثار” أذهلتني من طريقة تفاعلها مع هذا النص وتأويلها له وتسييله في كلامها. رحت أفهم كتابتي لسير الملايات من خلال هذا النص، وجدت أني أقتفي آثارهم في التاريخ والهوية والمجتمع وتقاليده الثقافية. الآثار عادة لا تكون واضحة المعالم، تحتاج إلى إنصات عميق، تحتاج إلى رهافة في الحس ورقة في المقاربة، كي تكتشف ما وراءها. وكي تقدم السيرة آثار هؤلاء الملايات نحتاج أن نبتعد عن الأحكام الحادة والقاسية، أذكر أحد الأصدقاء قال لي: هؤلاء كانوا في زمن الظلام والجهل والثقافة التي يمثلونها هي مجموعة من الخرافات. قلت له لو سمعك أحد علماء الانثروبولوجيا المهتمين بدراسة ثقافة الإنسان لانتحر أو غرس قلمه في عينك لتفتح بصيرتك على آثارهن فيك وفي جيلك وهويتك. 

ذكرني جوابه، بموقفي من ملايات مأتم جدتي، كنت أراهم بقايا التخلف ويجب إزالتهم وإلقاء مجاميعهن الخرافية في مزبلة الجهل، ما كنت قادرًا على الإنصات لآثارهم، ولم أملك رهافة الحس في تقدير علاقتهم بالأوراق والكلمات والكتب في زمن يُحرم على المرأة الذهاب للمدرسة وقبل ذلك في زمن لا توجد فيه مدرسة. لذلك أنا أكتب سير الملايات اليوم كنوع من الاعتذار لملايات مأتم جدتي: الحاجية مريوم، والحاجية صفوي، والحاجية شروف. وأفتخر بما تركنه من مخطوطات تحمل آثار جيلهم وآثار الأجيال التي سبقتهم.

أنا أكتب هذه السير، بحثًا عن آثار تُرى بالبصيرة لا بالبصر.

 

الدكتور علي الديري: أتمنى أن يُحرّض "طواش الدير" الناس ليكتبوا سير أجدادهم وقراهم وينشروا وثائقهم التاريخية

 

طواش الدير الحاج عبدالله بن عيسى (1888-1961)
طواش الدير الحاج عبدالله بن عيسى (1888-1961)

لتنزيل الملف بصيغة pdf

حوار مع الدكتور علي الديري حول كتاب طواش الدير الحاج عبدالله بن عيسى (1888-1961)

مع دخول العقد الثاني من الألفية الثالثة، جرت مياه كثيرة، صار التاريخ موضوعًا عامًّا، يجد الناس فيه ميدانًا للبحث عن هويتهم ووجوههم ووجودهم وذاتهم الآنية المهددة بالموت والمحو والنسيان، بدت فكرة الكتابة عن تاريخ الشخصيات والمجتمع ومعلمات القرآن ورجال القرية والعادات والظواهر الاجتماعية ملحة ومطلوبة. في هذا الحوار مع مجلة (أرشيفو) الصادرة عن مركز أوال للدراسات والتوثيق يحدثنا الدكتور علي الديري عن تجربته في توثيق تاريخ بيت طواش الدير، الحاج عبد الله بن عيسى عبر ثلاثة أجيال: الأب والابنة والحفيد، في سيرة الجد عالم الغوص واللؤلؤ، وفي سيرة الابنة صفحات القرآن وتعليم ألف لا شيلة، وفي سيرة الحفيد التعليم الحديث ودخول عالم شركات النفط والإنشاء والمقاولات لبناء البحرين الحديثة.

أرشيفو:كيف كان شعورك بعد أن رأيت كتاب طواش الدير مطبوعًا؟

الديري: بدأت فكرة الكتاب بحوار مع أبي في 2007م، كنت حينها بسبب تشخيص مرضه أخشى فقده وفقد ذاكرة العائلة التي هي جزء من ذاكرة قرية الدير ببحرها وزرعها. بعد طباعة الكتاب، شعرت أنني احتفظت بأبي، وثبّت جنسيتي، وحققت وصلا بقريتي، وأقررت عين أمي، وأنقذت ذاكرة توشك أن تُنسى. لقد سردت ذاكرة عزيزة على قلبي والسرد أداة وصل بين الأب والابن والجد.

كتاب طواش الدير

أرشيفو:من هو الطواش حجي عبدالله بن عيسى؟

الديري: هو جد والدي، كان طواشًا معروفًا، فقد سفنه في سنة الطبعة 1925م، إحدى بناته المشهورات هي معلمة القرآن الملاية تقية (ت 2018) التي تتلمذ على يديها جيل كامل من قرية الدير وقد كتبت سيرتها في (ألف لا شيلة)، وأحد أبنائه المعمرين هو الحاج عيسى الشيرازي، توفي في 2006 عن عمر 105 سنوات، وهو من كان يمسك دفاتر أبيه ويكتب حسابات اللؤلؤ.

أرشيفو: هل استعنت بدفاتر طواش الدير في كتابة سيرته؟

الديري: مع الأسف، لم يصلنا شيء منها، أمر قبل وفاته بحرقها والتخلص منها، كي لا يطالب من بعده أحد أحدًا قد يكون معوزًا، كان معروفًا أن عطاءه يكبر ويكثر في الخفاء، لذلك احتفظت بها قلوب كبار السن، ووثقتها في ذاكرتها.

أرشيفو: كيف دخلت على سيرة طواش الدير وقد توفي في 1961 وأنت لم تعاصره؟

الديري: أجريت حوارين مطولين مع أبي قبل وفاته في 2009، لفتني حديثه المستفيض عن جده الطواش، وعن البيت الكبير. وأنا صغير كنت مدهوشًا ببيتنا باتساعه وجماله وألوانه وغرفه وزراعته وزريبة البقر فيه، عرفت من أبي أن هذا البيت الذي قضيت طفولتي فيه هو جزء من بيت أكبر لحجي عبدالله بن عيسى، كان بيت وجاهة وضيافة ويقصده العلماء، ازداد تعلقي بسيرة هذا البيت، فرحت أتقصى سيرته في قلوب الناس وما تبقى من ذاكرتهم.

جواز الطواش الحاج عبد الله بن عيسى، صادر في العام 1956م، تحت رقم 006550، وفيه إشارة إلى مهنته طواش وسنة ولادته في العام 1888م
جواز الطواش الحاج عبد الله بن عيسى، صادر في العام 1956م، تحت رقم 006550، وفيه إشارة إلى مهنته طواش وسنة ولادته في العام 1888م

أرشيفو: هل كنت تكتب تاريخ عائلتك أو تاريخ قريتك؟

الديري: على هذه الجزيرة الصغيرة “البحر هو التاريخ” تاريخ الغواص والبحار والنوخذة والطواش واللؤلؤ، وسيرة حجي عبد الله بن عيسى هي سيرة تاريخ بحر الدير. وذاكرة القرية في جانب منها هي سيرة الأشخاص والعوائل، الوثائق التي نشرتها في هذا الكتاب، هي وثائق ذاكرة قرية الدير، أتمنى أن يُحرّض هذا الكتاب الناس ليكتبوا سير أجدادهم وجداتهم وعوائلهم، ويعملوا على نشر الوثائق التي يتوفرون عليها، هكذا سنكون كتبنا تاريخ القرية الاجتماعي والشفاهي. لقد قررنا نحن عائلة الحاج عبدالله بن عيسى، أن نوقف مبيعات هذا الكتاب لتأسيس صندوق لدعم مشاريع تخدم الذاكرة الاجتماعية والشفاهية تحت (صندوق طواش الدير الحاج عبدالله بن عيسى لدعم مشاريع توثيق الذاكرة الشفاهية).

أرشيفو: هل حصلت على وثائق ذات قيمة تاريخية؟

الديري: كنت أتفاجأ من ازدياد الوثائق التي أعثر عليها كلما تقدم العمل في الكتاب، هناك وثائق لم أتخيل أبدا أن تقع بين يدي، على سبيل المثال، وجدت ختم الطواش حجي عبدالله بن عيسى في وثيقة تعود للثلاثينيات، ووجدت جواز سفره حين كان الجواز ورقة، واكتشفت بين كتب حفيده وابن أخته الحاج سلمان آل عباس رسالة موجهة له من النجف تعود إلى عام 1931، والبحث عن وثائق الغوص قادني للعثور على وثيقة نادرة تعود إلى 1922 وهي دفتر سجل غواصين يخص النوخذة الحاج مكي بن الحاج علي (1885-1950) والد أبو منير، الدكتور عيسى مكي.

صفحة من دفتر حسابات الغواصين والسيوب العاملين مع النوخذة الحاج مكي الحاج علي من قرية الدير، يبدو بحسب التاريخ الهجري المدون أن هذا الدفتر استخدم في الفترة بين 1341هـ - 1445هـ / 1922م-1926م. تخص هذه الصفحة حساب الغيص حبيب الجزيري بن حبيب، تتكون بنود حساب كل غيص من هذه العناوين: الباقي في حسابه، تسقام بيده، سلف البيت، خرجية بيده. يبدو من تاريخ حسابات دفتر الحاج مكي، أن بعض النواخذة ألزموا أنفسهم بتسجيل حسابات الغواصين قبل فرض نظام الدفاتر مع إصلاحات مهنة الغوص التي فرضتها الإصلاحات البريطانية في العام 1923م (انظر: علي أحمد الديري، من هو البحريني؟، ص276)
صفحة من دفتر حسابات الغواصين والسيوب العاملين مع النوخذة الحاج مكي الحاج علي من قرية الدير، يبدو بحسب التاريخ الهجري المدون أن هذا الدفتر استخدم في الفترة بين 1341هـ – 1445هـ / 1922م-1926م. تخص هذه الصفحة حساب الغيص حبيب الجزيري بن حبيب، تتكون بنود حساب كل غيص من هذه العناوين: الباقي في حسابه، تسقام بيده، سلف البيت، خرجية بيده. يبدو من تاريخ حسابات دفتر الحاج مكي، أن بعض النواخذة ألزموا أنفسهم بتسجيل حسابات الغواصين قبل فرض نظام الدفاتر مع إصلاحات مهنة الغوص التي فرضتها الإصلاحات البريطانية في العام 1923م (انظر: علي أحمد الديري، من هو البحريني؟، ص276)

أرشيفو: هل كنت ستكتب سيرة طواش الدير، لو لم يكن جد أبيك؟

الديري: هناك محرض شخصي للكتابة، لا بد أن يتوافر ليكون دافعًا لك للإنجاز، لكن ذلك لا يعني أنك تكتب للمفاخرة والمباهاة. لقد كتبت سيرة أم السادة وأنا لا أعرفها، كان هناك دافع شخصي يتعلق بكونها تمثل الثقافة والبيئة الاجتماعية التي أحن إليها وأحبها وأشعر أنها جزء من هويتي، كذلك سيرة مكية بنت منصور العكري وسيرة جدتي سلامة سلوم، وحاليا أنا أكتب سيرة مخطوطات المآتم النسائية والنساخ الذين كتبوها والملايات اللاتي  يقتنينها ويقرأنها. بطبيعة الحال جدتي سلامة ونساء مجلسها ومأتمها وتربيتي وسط هذه الطقوس، محرضات شخصية جعلتني متحمسًا للذهاب لهذا المشروع، لذلك أؤكد أهمية المحرض الشخصي في التوثيق والكتابة.

أرشيفو: هل تعتقد أن هناك وثائق موجودة تتعلق بكتاب طواش، ولم تصل إليها؟

الديري: لدي هذا الاعتقاد بعد أن عاينت بنفسي كيف تتكاثر الوثائق وتقود بعضها لبعض، كذلك لدينا الشهادات الشفاهية، وهي تشكل جرءًا مهما من ذاكرتنا، على سبيل المثال بعد أن دفعت بالكتاب للمطبعة، نشرت (قناة الدير للميديا) مقابلة مع المرحوم حسن خليفة، كان يتحدث باستفاضة عن حجي عبدالله بن عيسى، والمثال الآخر الذي يمكن أن أستشهد به، هو سيرة أخت الحاج عبدالله بن عيسى، وهي الحاجية زينب بنت عيسى صاحبة أول مأتم بالقرية، المعروف بمأتم الحاجية وصار يعرف لاحقًا بابنها مأتم حجي سلمان وحاليا باسم حفيدها مأتم حجي عباس. كنت أبحث عن سيرتها كونها معلمة قرآن وملاية وصاحبة مأتم وشخصية لها مكانتها، لم أتوصل مع الأسف حتى لعام وفاتها، لكني بعد طباعة الكتاب، وأثناء العمل على (مخطوطات المآتم النسائية) أجرى فريق العمل مقابلة مع الملاية المعروفة في القرية فطام بنت الزين، فأفادتنا بمعلومات قيمة عنها وأخبرتنا أنها أحاطتها برعايتها وحنانها وأوصت ابنة أختها معلمة القرآن والملاية آمنة بالاهتمام ببنت الزين، فاحتفظت التلميذة بهذا الجميل في ذاكرتها.

وثيقة تبين أن الحاج أحمد أقرض (جمعية التوفيق الحسينية) مبلغ ألفي دينار لشراء أرض لبناء مأتم (الإمام المنتظر) في 15 مارس 1980م، وفيها يشير إلى تنازله عن قسط ثلاثمائة دينار من القرض مساهمة منه للمأتم، وقد شهد على هذه الوثيقة الحاج عيسى عبد الله الفن، والحاج علي حسين المؤمن «نحن الموقعين أدناه: السيد علي السيد حسن ( بصفتي رئيس هيئة التوفيق الحسينية) والحاج رضي حسين المؤمن (بصفتي نائب رئيس هيئة التوفيق الحسينية): نفيد بأننا نيابة عن أعضاء هيئة التوفيق الحسينية قد استلمنا مبلغ ألفي دينار بحريني فقط من الرجل أحمد علي عبد الله مطر القاطن في قرية الدير-المحرق وذلك لأجل تسديد قيمة قطعة أرض مشتراة إلى هيئة التوفيق الحسينية وذلك لغرض استعمالها مأتمًا في قرية الدير».
وثيقة تبين أن الحاج أحمد أقرض (جمعية التوفيق الحسينية) مبلغ ألفي دينار لشراء أرض لبناء مأتم (الإمام المنتظر) في 15 مارس 1980م، وفيها يشير إلى تنازله عن قسط ثلاثمائة دينار من القرض مساهمة منه للمأتم، وقد شهد على هذه الوثيقة الحاج عيسى عبد الله الفن، والحاج علي حسين المؤمن «نحن الموقعين أدناه: السيد علي السيد حسن ( بصفتي رئيس هيئة التوفيق الحسينية) والحاج رضي حسين المؤمن (بصفتي نائب رئيس هيئة التوفيق الحسينية): نفيد بأننا نيابة عن أعضاء هيئة التوفيق الحسينية قد استلمنا مبلغ ألفي دينار بحريني فقط من الرجل أحمد علي عبد الله مطر القاطن في قرية الدير-المحرق وذلك لأجل تسديد قيمة قطعة أرض مشتراة إلى هيئة التوفيق الحسينية وذلك لغرض استعمالها مأتمًا في قرية الدير».

أرشيفو: هل لديك ما تود أن تقوله؟

الديري: أتمنى أن يكون هذا الكتاب محفزًا لأهالي قرية الدير، لنعمل على إنتاج سلسلة تاريخية تخص تاريخ القرية، وسيكون جميلًا لو تمكنا سنويًا من طباعة كتاب واحد، لدينا مهتمون بالتاريخ الاجتماعي ومدونون وباحثون، رحم الله الدكتور علي هلال، وأبقى الله لنا أصدقاءه وزملاءه وتلامذته: الدكتور أبو منير، عيسى مكي، الأستاذ أبو صادق، إبراهيم حسن إبراهيم، الأستاذ حسن الوردي، الشاعر سيد سلمان سيد محمد الموسوي، الأستاذة رملة عبدالحميد، وغيرهم.

رواد مجلس حجي رضي المؤمن
رواد مجلس حجي رضي المؤمن