كل مقالات علي الديري

كاتب وناقد من البحرين

مأتم جدتي والمخيلة الكربلائية

يُحضِر المأتم (الحسينية) جزءاً من السيرة، سيرة المخيلة أحياناً وسيرة العقل أحياناً أخرى، أو يحضرهما معاً، حسينية بيت قاسم حداد مثلاً، قد شكلت بحضورها جزءاً خصباً من مخيلة قاسم، وهو ما فتئ يذكّرنا دوماً في روايته لسيرته الإبداعية بهذا الحضور، لكنه ليس الحضور الذي يغلق المخيلة عليه، فمخيلة المبدع لا ترتهن إلى مكون واحد، فهي حيث التعددية والنشاط والحرية والذهاب إلى المستقبل وإعادة الخلق، أي خلق ما يحضر فيها.
مخيلة قاسم
يتحدث قاسم حداد عن هذا الحضور في أحد حواراته ‘’ثمة خصوصية صاغت لي عالما سحريا سببه النشأة في بيئة شيعية، ففي العائلة الشيعية عادة ما تنعقد طقوس وتقاليد الحسينيات في معظم شهور السنة بالإضافة إلى شهري محرم وصفر. في دارنا كان الأمر أكثر خصوصية، فقد كان في الدار مأتم للنساء تنعقد فيه القراءة، ومنذ طفولتي نشأت على معايشة هذه الأجواء والتشرب بتفاصيلها اليومية.أعتقد أن نشوئي في هذا الجوّ الذي يعتمد على البكائيات والعزائيات ولّد لديّ حسّ الإيقاع مبكراً وصقله. كان كل شيء حزيناً في تلك الطقوس. لم أكن أدرك تماماً مفهوم الحزن ولكنني أعيشه. لقد كان كل شيء في تلك الطقوس يرتبط بالإيقاع. ربما يكون لسماعي ومعايشتي هذه الطقوس باستمرار، والمشاركة في مواكب العزاء، بهذه الطريقة الإيقاعية قد أثرا لاحقاً في الإحساس المبكر بالوزن والبحور’’[1].
إن هذه المخيلة الكربلائية لم تسعف قاسم فقط في الإحساس بالإيقاع الذي هو أحد شروط الشعر، إذا ما فهمنا الإيقاع بمعناه المفتوح كما هو عند قاسم، بل أسعفته أيضاً في إعادة خلق اسمه، وهو الشرط الثاني في الإبداع، يعيد المبدع عادة خلق العالم، وجزء من هذا الخلق هو خلق اسم جديد له أو لقب جديد مشتق مما يخلقه من إبداعات، وبهذه القدرة يملك المبدع القدرة على تحويل العالم وتحويل ذاته، يتحدث قاسم عن مخيلته الكربلائية التي أعاد من خلالها تحويل اسمه من جاسم إلى قاسم، على النحو التالي: ‘’… لكوني، من جهة أخرى، مرتبطاً، في اللاوعي، باسم ‘’القاسم بن الحسن’’ أحد الشباب الذين قاتلوا مع الحسين في كربلاء، والذي استشهد يوم عرسه كما تقول الحكاية. وكنت في الخامسة من عمري عندما اختاروني لأقوم بدور القاسم، في حسينية النساء في البيت، في زفّـتـه قبل ذهابه إلى المعركة واستشهاده في يوم الثامن من المحرم’’[2].
الموقف من المخيلة
في بروفايل سابق[3] كتبت شيئاً من التاريخ الاجتماعي لمأتم جدتي سلامة (مأتم  بنت الحايي.. مأتم حجي طرار)، يحضر هذا المأتم في سيرتي كما تحضر جدتي، وكما يحضر بيتها المفتوح الأبواب دوماً، إنه يحضر جزءاً  من سيرة تكويني الفكري، مقروناً بسيرة موقفي من المخيلة، وسيرة المخيلة يختلف عن سيرة الموقف من المخيلة، فالسيرة الأولى غير واعية وهي أقرب إلى عمل الإبداع، أما الموقف من المخيلة، فهو موقف فكري يعبر عن خيار واع، يتحدد فيه مفهومنا للمخيلة وعملها وتقييمنا لها وآليات عملها. كيف كان موقفي من المخيلة الكربلائية من خلال سيرتي مع مأتم جدتي؟
أستخدم هنا مصطلح المخيلة الكربلائية لأحيل على السرديات التي أنتجها الخيال الشيعي مشبوكاً بالتاريخ لواقعة كربلاء، والمخيلة هنا هي مستودع عمليات التخييل الجماعية على مدى تاريخ طويل، وهي عمليات تتداخل فيها أمنيات الجماعة وأحلامها ومحنها ومقدساتها وأحداثها التاريخية، الأمر الذي يصعب فيه فصل الحقيقي من غير الحقيقي والواقعي من الخيالي والتاريخي من الاختلاقي ‘’التخييل أعم من الخيال وأكثر تجاوزا له على مستوى التصور والإلهام والخلق، لاعتماده على الإغراب والمفارقة والخيال المجنح البعيد في التشخيص الأسلوبي والذهني، ناهيك عن افتراض الأحداث الممكنة والمستحيلة ونسجها فنيا وسرديا في عالم فني جمالي في أبهى روعة إبداعية. ويجر التخييل معه في اللغة العربية كلمات اشتقاقية أخرى كالمخيلة بكسر الياء(مصدر الخيال)، والخيال (منتوج المخيلة)، والتخييل (فعل التخيل وممارسة الخيال، وهو دال الحركة والإبداع والإلهام) الذي يدل على الاختلاق والتوهيم بالحقيقة والخداع الفني وتصور الأحداث والشخصيات في سياق فني يتقاطع فيه الخيال والواقع’’[4].
مخيلة المآتم النسائية
تمتاز المآتم النسائية بأنها جزء من البيت، إنها تكاد كالمرأة في المجتمعات المحافظة لا تغادر البيت، تبدو كأنها غرفة من غرف البيت، حتى إننا لا يمكن أن نصفها بأنها ملحقة بالبيت، فهي وسطه غالباً، كما هو الأمر مع مأتم جدتي، لقد وعيت طفولتي في وسط هذا المأتم، ووسط البيت الكبير الذي كان فيه.
وهذا ما جعل كثيراً من المآتم النسائية غير مسجلة في الدوائر الرسمية ودائرة الأوقاف الجعفرية، كانت آخر إحصائية شفهية متداولة تقول إن عدد المآتم النسائية في قرية الدير يزيد على الثلاثين مأتماً أو حسينية. والقليل منها مسجل، في حين المآتم الرجالية تبلغ سبعة مآتم، وجميعها مسجلة، وتقع في الحيز العام للقرية، الأمر الذي جعلها مكاناً عاماً.
ربمــا تكـــون هــذه الميزة، هي ما يجعل المأتم النسائي أقرب إلى مزاج صاحبته وسلطتها، والمآتم الرجـــالي وإن كان لا يخرج كثيراً عن ذلك، لكنه يتوفر نسبياً على مزاج أكبر من صاحبـــه وأقل من قريته أو عائلته أو فريقه، فهو يمثــل جماعة صــاحب المأتم وعائلته، وتتوسع هذه الجماعة بتوسع الخطوط الحركيـــة الفكـــرية التي تمثلها.
ظلت المأتم النسائية بحكم عزلتها البيتوتية مكاناً للمخيلة المطلقة الجامحة التي لا يحدها عقل صارم ولا شرع متشدد، وربما يصح أن نصفها بأنها مخيلة نسائية بوجه ما، لا مكان للكلام الموجه في هذه المآتم النسائية، الموجه بخط حركي أو أيديولوجي. ليس هناك خطابة تصنعها موجات فكرية، هناك نياحة وسيرة (شبه تاريخية) ومرويات سردية وقصائد مقفّاة، وأصوات نسائية تضج على إيقاع الحزن والبكاء.
توجيه المخيلة
في تحقيق عن (مأتم النساء) طرحت مجلة الأنصار [5] السؤال التالي (لماذا هذا الهجوم الشرس حول آلية العمل في مأتم النساء؟ وهل هو قادر في صورته الحالية على إخراج جيل واعٍ فاهم؟ كانت الإجابات: واقعاً أنا لا أذهب إلى المآتم النسائية، عندما أذهب إليها لا أحصل على فائدة تذكر… إن المأتم النسائي متخلف عن الركب الحضاري والثقافي والاجتماعي).
في نهاية الثمانينيات كنت مدفوعاً بحس ثوري لتغيير العالم، كان العالم هو أنا وأسرتي وقريتي ومأتم جدتي، كنت أرى أن المأتم النسائي لم يستجب لصوت الصحوة الإسلامية، والسبب الذي كنت أعتقده يكمن في أن الملايات متخلفات وغير واعيات ولا يسمحن بالتغيير. كنت أرى ملايات مأتم جدتي هكذا، وهنَّ الحاجيـة مريم بنت الحاج أحمد صميل (توفيت ديسمبر1997) والمعروفة بالحاجية مريوم، والحاجية شريفة بنت سيد عبدالله (توفيت 2000) والمعروفة بالحاجية شروف. والحاجية صفيــــة بنت الحاجي عبدالله محسن (توفيت في فبراير2004)، المعروفة بالحاجية صفوي.
خضت معهن محاولات تغييرية لكنها باءت بالفشل، كنت أرى فيهن حجر عثرة أتمنى أن تزال بسرعة، من أجل أن يأتي صوت الوعي الجديد والطرح الجاد. اليوم أحن لأصواتهن بناستالوجيا بالغة الدفء، اليوم أعيد اكتشافهن من جديد، أرى أني بحاجة إلى أن أنصت إليهن من أجل أن أفهم عالمهن الخاص وثقافتهن الخاصة، بعيداً عن تشنجات وعي الصحوة الدينية.
لست ضد المحاضرات الجدد اللاتي بدأن يزاحمن الملايات أو يتزاوجن معهن، لكني ضد هذا الوهم بأنهن يمتلكن الوعي والطرح القادر على أن يأخذ النساء إلى الركب الحضاري والثقافي والاجتماعي. بل أنا ضد هذه الكلمات المشحونة بتخمة من الأوهام. لم يجد خطاب الصحوة بحسه الأيديولوجي في خطاب الملاية ما يعزز من سلطته واستحواذه وتفسيره لواقعة كربلاء، التي راح يؤولها لصالح حسه الثوري، ولأنه خطاب لا يحسن الإنصات إلى ما يختلف معه، فإنه لم يجد في الملاية غير علامة على نقص الوعي والتخلف والتقليدية وعدم القدرة على طرح الإسلام وكربلاء طرحاً جديداً، لكنه لم يكن ومازال عاجزاً عن أن يرى مأزقه في تضييق الإسلام وأدلجة كربلاء.
سير هذه الملايات وتجاربهن جزء من ثقافتنا التي يجب الإنصات إليها، وفهمها وتوثيقها، بعيداً عن حس الإدانة الديني أو الأيديولوجي. أنا مدين في جانب من فهمي لعمل الخيال الخلاق في التاريخ إلى صوت هؤلاء الملايات، وهن يعدن سرد التاريخ بخيال لا مثيل له، لذلك فأنا مدين باعتذار متأخر إلى ملايات مأتم جدتي لأني أسأت الاستماع إليهن، وأسأت تقدير صوتهن الأصيل الذي لم تشبه هُجنة أيديولوجية تضيق بالآخر [6]

جمح المخيلة

كان الخط الحركي الإسلامي الذي مثلته خلال الثمانينيات، نداء لجمح هذه المخيلة، وتوجيهها نحو شرع منضبط وعقل مؤدلج. كنت أرى في هذه المخيلة أسطورة تجتر الدمعة لا الفكرة، مخيلة لا تستجيب لحركة الواقع التي كنا مأخوذين بها حد مجاوزة الواقع.
كان صوت القيادات الحركية قد بدأ يضع هذه المخيلة ضمن دائرة وعيه، كان يريد من المأتم النسائية أن تكون في مستوى وعي الإسلام الحركي، وقد بدأت الناشطات الإسلاميات محاولاتهن للدخول إلى هذه المآتم، من أجل تقديم شكل خطاب جديد، يفيد من صيغة الخطابة الرجالية، التي لا تكتفي بالجانب البكائي الحسيني، وهنا برزت مع ظهور أسماء الخطيبات الجديدات تذمرات الملايات التقليديات وصاحبات المآتم.
مع صعود هذه الموجة كنت قريباً جداً من جدتي ومأتمها الذي ظللت أخضعه لاستخدامات متعددة، منبثقة من هذه الموجة، غير أنها استخدامات تقع خارج صفة المأتم، حين يكون مأتماً نسائياً، هو عالم آخر ومكاناً آخر. لا يمكن لاستخداماتنا الحركية أن تخضع المأتم لها، فهو يمثل خط ممانعة قوية للمخيلة الكربلائية التقليدية، وعلى الرغم من أنني ظللت لفترة طويلة مسؤولاً عن تركيب سواد مأتم جدتي، إلا أنني لم أستطع أن أغير حتى في شكله ومساحته التي تغطي المأتم كله، وعلى الرغم من أنني حاولت إدخال شعارات حركية من خلال تركيب السواد، إلا أنني فشلت، وذلك يعود إلى مزاج المخيلة البكائية لملايات المأتم. لقد كن يرين في بقاء المأتم وفق شروط مخيلتهن المطلقة العنان من أي مساءلة واستخدام، بقاء لهن ومحافظة على وجودهن واستمراراً لتقاليدهن وتراثهم الأثير.
تقليص المخيلة
في محرم1990 بدأنا مشروع مهرجان عاشوراء الأول، كان مقر المهرجان مأتم جدتي، يبدأ المهرجان بعد عشرة محرم، وقد خصصناه لإقامة محاضرات ثقافية عن عاشوراء، كيف نسثمر عاشوراء في واقعنا؟ وكيف نعي الثورة الحسينية؟ وكيف نحولها إلى وعي جديد حركي؟ وكيف نخلصها من الأوهام الأسطورية؟
كان المشروع امتداداً لمشروع سابق خضناه قبل ثلاث سنوات، في عام 1987تحديداً، وهو مشروع خطابة حسينية، كنا نتدرب كل ليلة من ليالي محرم، بأن يتولى أحد الشباب التحضير لها ويكون ليلتها هو الخطيب الذي عليه أن يقدم موضوعاً جديداً ونعياً تقليدياً. كان الاتجاه السائد تقليص مساحة النعي التي هي مساحة المخيلة ومحل خصوبتها، وتوسيع مساحة الخطابة التي هي محل الفكر والوعي وتقديم مفاهيم الإسلام الحركي.
كنا في سياق، إعداد جيل حركي جديد، يفهم كربلاء فهماً جديداً، وقد انتدبنا أنفسنا للقيام بهذه المهمة، وعلينا واجب التثقف والتدرب وخوض التجارب، لحسن حظي، لم أتوفر على صوت جميل، وكنت الوحيد من بين الأصدقاء الذين خاضوا التجربة مقتصراً على الخطابة فقط دون النعي الحسيني، في حين كان الأصدقاء السبعة يتولون تقديم مجلساً كاملاً بنعي وخطابة، كنت أستعين بصديق طفولتي أحمد رمضان، لقراءة مقدمة حسينية لمجلس محاضرتي، ومازال هو يذكر بشيء من المرح طريقته في قراءة قصيدة (وجه الصباح علي ليل مظلم…) التي افتتح بها أحد مجالسي (تسمى الفترة التي يقرأ فيها الخطيب بالمجلس، فيقال بدأ المجلس وانتهى المجلس).
كان التحول من مشروع الخطابة الحسينية إلى مهرجان عاشوراء، تعبيراً عن الانحياز إلى الجانب الفكري، وعدم التعويل على الجانب البكائي والمأساوي في كربلاء، كما أنه كان معبراً عن انحيازي إلى الجانب الفكري في ذلك الوقت. وهو من ناحية الأخرى يحمل أيضا قناعتي المبكرة بعدم امتلاكي مهارات القراءة الحسينية التي تشترط الصوت الشجي والقدرة على النعي بالطريقة الحسينية.
تطهير المخيلة
لقد خصصنا مهرجان عاشوراء الثاني والأخير، والذي أقمناه أيضا في مأتم جدتي، لكتاب (الملحمة الحسينية). لقد قسمنا الكتاب على عشر ليال، يتولى كل ليلة شخص تقديم محاضرة من هذا الكتاب. الكتاب محاولة لتصحيح واقعة كربلاء من الانحرافات التاريخية التي صنعتها المخيلة.
تصحيح الانحرافات التاريخية، كان يعني رفض نشاط المخيلة الكربلائية التي أنتجت هذا الكم الضخم من المرويات والأشعار والقصص والكرامات والبكائيات. كان يعني تجفيفاً لمساحات واسعة من هذه المخيلة وما يرافقها من دموع حارة وطرية. كان يعني أن تبقى المآتم النسائية من غير ذاكرة، لأن ذاكرة هذه المآتم تكمن في أرشيف مخيلتها.
كان الإسلام الحركي، كما مثله مطهري مثلا، يريد أن يغير الواقع، وهو يريد من التاريخ ما يغير به الواقع، لا ما يجعل الواقع ثابتاً، والبكاء كان من وجهة نظر هذا الإسلام الحركي، يجعل من كربلاء تاريخا ساكناً لا متحركاً، هو يريد أن يعرف اليوم معسكرات يزيد ومعسكرات الحسين، ‘’نعم لو كان الحسين بن علي بيننا اليوم لقال لنا: إذا كنتم تريدون إقامة العزاء من أجلي وأردتم الضرب على الصدور من أجلي فان شعاركم لا بد وأن يكون فلسطينيا’’[7].
الإسلام الحركي، يريدك أن تحرك الواقعة التاريخية لتكون واقعة معاصرة، هو ليس معنياً بالسياق التاريخي، بقدر عنايته بالسياق المعاصر، هو يريد أن يستخدم الواقعة في حركة صراعاته الحالية، وليست لديه مشكلة في أن تنحرف الواقعة التاريخية عن سياقها التاريخي، لكنه معني بإضفاء قدر من المعقولية عليها من أجل أن يكون استخدامه أكثر إقناعاً، ومن أجل أن يعطي احتراماً.
هكذا يحرك مطهري مثلا واقعه اليوم باستخدام واقعة أمس’’ماذا لو أن الحسين بن علي (ع) كان بيننا اليوم، وأراد أن يطلب منا أن نقيم له العزاء؟ ترى أي الشعارات كانت هي التي سيطالبنا بترديدها؟ فهل كان سيقول لنا اقرأوا في المجالس ‘’أين ابني الفتى على الأكبر’’، أو يطالبنا بالمناداة: ‘’يا زينب المعذبة الوداع الوداع’’، وهي أمور لا شك لم يفكر فيها ‘’الإمام الحسين’’ طوال حياته وإنه لم يردد مثل هذه الشعارات الخانعة الذليلة، في يوم من أيام عمره نعم فلو كان الحسين بن علي بيننا اليوم، لقال لنا: إذا كنتم تريدون إقامة العزاء من أجلي، وأردتم الضرب على الصدور، والخدود، من أجلي، فإن شعاركم لابد وأن يكون فلسطينيا فشمر اليوم هو موشي دايان وشمر ما قبل ألف وثلاثمائة عام، قد مات، وعليك أن تتعرف على شمر هذا العصر، لأن جدران هذه المدينة، يجب أن تهتز اليوم من شعارات فلسطين’’[8].
بالنسبة للإسلام الحركي، المخيلة مهمة بقدر ما يمكن استخدامها لتغيير الواقع وتحريك جمهوره، وتفقد أهميتها حين تفقد قدرتها على هذا الاستخدام، وهذا الاستخدام هو ما يجعل من المخيلة أيديولوجيا، هو يريدها في حالة أيديولوجية نشطة.
لذلك فالنقد التاريخي الذي يصدر عنه الإسلام الحركي في مراجعته للمصادر التاريخية التي أرّخت للواقعة وطريقة تمثل الخطابات الحسينية لها، لــيس محكومــــاً بأفق المدارس التاريخية المعاصرة ومناهجـــها المعرفية، بقدر ما هو محكوم بأفق الأيديولوجيا الحركية، وإن كـــان أفق هذا النقد يفضي إلى نتائج تلتقي أحياناً بنتائج ذاك الأفق.
لقد كنا محكومين بهذا الأفق، ونحن نحاول تغيير خطاب المآتم النسائية. كنا نستحضر في حركة تغييرنا خطاب فضل الله وهو يتحدث عن دور المرأة القيادي الحركي ممثلاً في حركة زينب والرباب وسكينة. وكنا نستند إليه في محاولة تحويل المـــأتم النسائي من وظيفة الاستماع والبكـــاء إلى وظيفة الخطابة والمعرفة. لكن أي معرفة وأي خطابــــة كنا نريدها أن تحل مكان هذه المخيلة الكربلائية المطلقة؟
كــــانت نماذجنا التي نحلم بها، خطيبات قادرات على بيان الحقائق العقائدية وبيان المفاهيم الإسلامية وبيان القيم والأخلاق. فالمجتمع النسائي يحتاج كما كنا نراه إلى إعادة النظر في تفعيل طاقاته وتحريك مواهبه وإخراج الخطيبات العالمات القادرات على العطاء وعلى البذل، يحتاج إلى ما هو أكثر، يحتاج إلى دروس دينية بشكل مكثف في الفقه والعقيدة. كنا نحلم بخطاب نسائي يحمل طرحاً سياسياً ووعياً تربوياً ومجتمعياً وتاريخياً. كنا نستخدم كل هذه المصطلحات المفخـــــــمة بسذاجة ومراهقة، والغريب أن هذا الخطاب مازال فعالاً بالنبرة نفسها. والدليل على ذلك أني اقتبســـت الفقرة السابقة التي تتحدث عن النماذج النسائية التي كنا نحلم بها، من أحد المواقع الإلكترونية، دون أن أضطر إلا إلى الاختصار فقـــط. ولست مضطرا إلى الإشـــارة إلى المصدر، لأنها تصلح أن تقتبس من عشـــرات المواقع.
كيـــف يبدو الموقف اليوم من هــذه المخيلة؟ كيف نشاطها الاجتمـــاعي؟ كيف حضورها في وسائط الميديا؟ تلك أسئلة تحتاج مقاربـــة أخرى.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=94216
هوامش:
[1]، [2] حوار مع قاسم أجرته رولا قباني: جريدة ‘’الزمان’’ – لندن 18/ مارس .1999
[3] انظر: بروفايل المشي إلى كربلاء،(مأتم بنت الحايي.. مأتم حجي طرار) جريدة الوقت، العدد 341 – السبت 8 محرم 1428 هـ – 27 يناير .2007
http://www.alwaqt.com/art.php?aid=38032

[4] مفهوم التــخيـــيـــل الروائي، جميل حمداوي: http://www.doroob.com/?p=10447
[5] مجلة الأنصار: مجلة إسلامية تصدر عن حسينية بن زبر، العدد.2007 ,9
[6] انظر بروفايل الملاية، جريدة الوقت، العدد 348 – السبت 15 محرم 1428 هـ – 3 فبراير 2007
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=2342

[7]، [8] مرتضى مطهري، الملحمة الحسينية، بيروت: الدار الإسلامية، ط1990 ,1م.

الروائي النرويجي يوستن جاردر في حوار خاص .. «2-2»

لو كنت أعلم أن«عالم صوفي» ستترجم لخمس وخمسين لغة لكتبت عن الفلسفة العربية الإسلامية والهندية والبوذية

الوقت – محمد المبارك – علي الديري:
زار جاردر البحرين ليومين برفقة زوجته وناشرة أعماله السيدة منى هنينج، صاحبة دار المنى في السويد، بدعوة من مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث، حيث ألقى أول من أمس محاضرة بعنوان ‘’احرص على تغذية خيالك’’. ولد الكاتب النرويجي (جاردر) في الثامن من شهر أغسطس/ آب العام .1952 ويعمل أستاذاً في الفلسفة وتاريخ الفكر وهو يمارس الأدب والتعليم معاً. اشتهر بكتابته للأطفال بمنظور القصة داخل القصة. روايته ‘’سر الصبر’’ هي التي جعلته معروفاً لدى الجمهور النرويجي. وحصل من ورائها على جائزة النقد الكبرى. لكن كتاب ‘’عالم صوفي’’ هو الذي أخرجه للعالمية، حيث ترجم إلى أكثر من ثلاثة وخمسين لغة، وبيع منها أكثر من ثلاثين مليون نسخة، وفي ألمانيا وحدها تعدت مبيعاتها المليون نسخة.
وتم تحويل الرواية لفيلم سينمائي، وأيضا تم تحويلها للعبة فيديو، وحاليا يتم تقديم جائزة سنوية للأعمال المختصة بتطوير ودعم البيئة باسم (جائزة صوفي) مقدمة من غاردر وزوجته.
لقد عبر جاردر في بداية حوارنا معه عن سعادته بالتعرف إلى البحرين، لافتاً إلى أنه وجدها ‘’مكاناً متعدداً وكوزموبوليتاني’’، وأبدى إعجابه ببيت القرآن الذي زاره وقد بهره فن الخط العربي والمخطوطات القرآنية.
الوقت: تتصدر روايتك الشهيرة عالم صوفي، عبارة غوته التي تقول’’الذي لا يعرف أن يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة، يبقى في العتمة’’. لقد كانت روايتك رواية لهذه الدروس، لكن لماذا أسقطت منها الألف سنة التي كان فيها العرب والمسلمون يتولون إقامة هذه الدروس؟ لماذا أسقطت المرحلة العربية والإسلامية من تاريخ الفلسفة؟ هل يمكن أن نقرأ هذا النسيان بالرجوع إلى طبيعة المركزية الغربية التي تجد في الغرب مركز العقل والعالم والأنوار، وما عداه ظلام وجهل؟
غاردر: هذا سؤال مهم جداً. إن رواية ‘’عالم صوفي’’ تدور حول الفلسفة الغربية وقد كتبتها أصلاً من أجل الجمهور النرويجي فقط. لأنني لو كنت أعلم أنها ستترجم لخمس وخمسين لغة مختلفة لكنت كتبت أيضاً ليس عن الفلسفة العربية الإسلامية فقط بل عن الفلسفات العظيمة الأخرى مثل الفلسفة الهندية والفلسفة البوذية. ولكتبت كيف أن الفلسفة الإغريقية/الرومانية تفرعت في العصور الوسطى، بعد بعثة النبي محمد، إلى ثلاثة فروع كما يتفرع نهر. وهذه الفروع الثلاثة هي: الأول هو الترث العربي الإسلامي والثاني هو التراث البزنطي الأورثذوكسي والثالث هوالتراث الروماني.
وقد اندمجت هذه الفروع الثلاثة مرة أخرى في تراث عصر النهضة. فأرسطو مثلاً لم يكن معروفاً جداً في أوروبا في العصور الوسطى، والذين تكفلوا بحفظ فلسفته وتطويرها هم المسلمون، وقد طور المسلمون ليس الفلسفة فقط بل العلوم أيضاً. والعلوم الحديثة ترجع بأساسها للعلوم العربية مثل الكيمياء والفلك والحساب. فلهذا عندما بدأ عصر النهضة، استفاد فلاسفة أوروبا من مؤلفات ابن رشد وغيره من المسلمين في الاطلاع على فلسفة أرسطو.
لكن تراث أفلاطون تكفلت بحفظه الكنيسة البزنطية الأورثذوكسية. كما كتبت أيضاً في ‘’عالم صوفي’’ عن دور إسبانيا الثقافي المؤسس أصلاً على التراث الإسلامي، وكان هذا بمثابة الجسر الذي عبرت به الفلسفة الإغريقية/الرومانية إلى عصر النهضة.
إضافة لذلك، لو دار بخلدي وقت كتابة ‘’عالم صوفي’’ أنني أكتبها للعالم وليس للنرويج لكنت أضفت فيها فصلاً عن الحدث المفصلي الذي حدث في الجزير العربية العام 622 م عندما هاجر النبي محمد إلى المدينة المنورة. وفي الواقع أنني كتبت كتابا عن الإسلام أسميته ‘’الله أكبر’’.
 الوقت: هل ترجم هذا الكتاب؟
غاردر: لا لم يترجم. كما أني كتبت بشكل علمي أيضاً عن الثقافة الإسلامية والفلسفة الهندية في كتاب للمدارس الثانوية. وقد ترجم هذا الكتاب إلى الإيطالية، والإسبانية، والبرتغالية البرازيلية.
إنني ومنذ عشرين عاماً أعتبر نفسي كاتباً روائياً، وقد عملت على الكتب التي ذكرتها قبل أن أتفرغ لكتابة الرواية فقط. لهذا أستطيع أن أقول إنني لست جاهلاً ولا متجاهلاً للإسلام، وأنني أعرف الكثير عنه رغم أنني لست مسلما.
إذاً لم يكن هناك سبب لـ’’نسيان’’ الفلسفة الإسلامية في ‘’عالم صوفي’’ سوى محدودية المشروع نفسه، عندما حددت له أن يكون ذا طبيعة أوروبية وليست عالمية. وقد ذكرت هذه المحدودية في الرواية، ففي الفصل المتعلق بالفيلسوف ‘’هيوم’’ أقارنه ببوذا، وأذكّر القارئ عندها أنه كان هناك تراث كامل في الفلسفة الإسلامية في ذلك الوقت، لكن في ذلك العصر كانت الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية تعيشان من دون اتصال ببعضهما أبداً، ثم بدأ الاتصال بينهما ابتداء من القرن الحادي عشر، وازداد في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. كان العلم في العصور الوسطى متقدماً عند المسلمين أكثر مما هو في أوروبا بكثير.
الوقت: تؤكد في ‘’سر الصبر’’ أن هناك دائماً جوكراً يخترق السر الخفي. إنه ذلك القزم المنبهر بالوجود، والذي عليه أن يكتشف نفسه بنفسه، ويرى من الأشياء ما لم يتح لأحد غيره أن يراه. أي سر خفي يسعى جوستاين غاردر إلى اختراقه، بوصفه جوكراً، عبر رواياته؟
غاردر: نعم، كتبت عن هذا الجوكر. ففي الرواية يذهب صبي إلى المخبز ليشتري كعكاً، فيجد في إحدى الكعكات كتاباً صغيراً جدا (ذكرني بالمناسبة ببعض نسخ القرآن المتناهية الصغر في بيت القرآن) لا يمكن قراءته إلا بمنظار مكبر يعطيه إياه قزم التقاه في محطة بنزين. وكلما أمعن الصبي في قراءة الكتاب يجد أن قصة لعبة ‘’الصبر’’ تحكي حياته هو.
وفي قصة داخلية أخرى داخل الرواية، تتحطم سفينة متجهة من إسبانيا إلى المكسيك ولا ينجو منها إلا بحار واحد يلجأ لجزيرة غير مأهولة. لم يحمل البحار معه من السفينة إلا كومة ورق لعب ‘’الصبر’’ وقد كانت في جيب سترته. يبقى البحار على الجزيرة سنين طويلة يقضي أيامه في اللعب مع نفسه لعبة ‘’الصبر’’. وفي ذلك الوقت في العام 1790 زمن القصة كانت أوراق اللعب تحمل صور شخصيات مثل القزم. يبدأ البحار في تخيل أحاديث يجريها مع شخصيات ورق اللعب. وفي يوم ما ينتبه إلى جماعة من الناس تنزل الجزيرة، لكنهم لم يكونوا سوى شخصيات ورق اللعب، كل الشخصيات كانت تتكلم إلا أنها لم تكن تسأل أسئلة، إلا شخصية الجوكر الذي يصل لاحقاً. إنه اللامنتمي الذي يفكر بشكل مختلف عن الآخرين. إنه الفيلسوف.
هل ترى نفسك تلعب دور الجوكر عبر رواياتك؟
غاردر: لا بد أن أقول هنا انني أعتبر أن بدايتي ككاتب كانت منذ بدأت أطرح الأسئلة في سن الحادية عشرة، عندما اقتنعت أنني جزء من لغز كبير. شعرت يومها أنني لامنتم. شعرت أنني مثل هذا الجوكر الذي نتحدث عنه هنا. لكنني لم أعد أحس بذلك الآن لأنني أشعر أن خبرت الحياة بالطريقة نفسها التي خبرها كثيرون غيري.
؟ تخلص رواية ‘’سر الصبر’’ إلى أننا لسنا سوى أقزام تعيش في الهواء الطلق. أقزام لا تجيد التفكير بقدر ما تجيد التخدير، وأن البشرية برمتها ليست سوى لعبة صبر عملاقة، كيف نفهم البشرية بما هي لعبة صبر؟ وكيف نفهم البشر بما هم أقزام؟
عندما كنت مراهقاً شعرت بالاغتراب، لأنني كنت أرى أنني الوحيد الذي كنت أفكر بالطريقة التي كنت أفكر بها. أحياناً أعتقد أن هناك جوكراً صغيراً داخل كل منا. كلنا يولد جوكراً ولكننا نكبر فنتحول إلى شخصيات اللعب الأخرى التي لا تحسن طرح الأسئلة، لا ينجو من ذلك المصير إلا أولئك الذين يبقون على الطفل الجوكر بداخلهم.أنا منبهر بالوجود وأعتقد أننا لن نقدر أبداً على حل لغزه، لذلك فالمجال مفتوح لمختلف الاعتقادات.
الوقت: يقول المتصوف الكبير ابن عربي في القرن السادس الهجري، رأينا الماء يقبل صورة لون الأوعية وما يتجلى فيها من المتلونات فيتصف بالزرقة والبياض والحمرة حتى قيل لون الماء لون إنائه ثم استقرأنا العالم فنظرنا في الأمور فرأيناها كلما لطفت قبلت الصور الكثيرة فنظرنا في الأرواح فوجدناها أقبل للتشكل في الصور من سائر ما ذكرناه، ثم نظرنا في الخيال فوجدناه يقبل ما له صورة ويصوّر ما ليست له صورة فكان أوسع من الأرواح في التنوّع في الصور ثم جئنا إلى الغيب في التجليات فوجدنا الأمر أوسع مما ذكرناه. ويصل من ذلك إلى القول ‘’تنوعت الصور الحسية، فتنوعت اللطائف، فتنوعت المآخذ، فتنوعت المعارف، فتنوعت التجليات. فوقع التحول والتبدل في الصور في عيون البشر’’
إلى أي حد تلتقي محاضرتك عن الخيال، مع ما يقوله ابن عربي، من حيث هو سر تنوع المعارف والتجليات والمعاني والصور والبشر؟
غاردر: للأسف لا أعرف ابن عربي لكني قرأت كثيراً عن التصوف الإسلامي. سأتكلم في محاضرتي بالتأكيد عن الخيال وكيف يوصلنا لمعرفة تعدد الخلق. كما سأغطي جوانب الخيال التي تجعلنا نرى كم هو متعدد ورائع، هو الكون، سأتكلم أيضاً عن القصص الخيالية وقصص الأطفال وكيف أنها تعطينا خبرة أقوى عن محيطنا وثقافتنا. وسأتكلم عن أهمية التراث الشفاهي وكيف أنه مازال ينحدر في عصرنا هذا. لهذا أعتقد بأهمية تسجيله لكي نحافظ على نقله للأجيال المتعاقبة.
أحب أن أضيف شيئاً يتعلق برواية ‘’عالم صوفي’’ عن الأنوثة. فأنا أسأل كثيراً عن سبب كون بطلة الرواية ‘’صوفي’’ أنثى؟ وأجيب أحياناً: ولماذا لا؟ وفي أحيان أخرى أقول: ليس لدينا في النرويج إلا نوعان: ذكر أو أنثى. ولكن في الواقع كان لا بد لصوفي أن تكون فتاة، لأن ‘’صوفي’’ تعني في نطق كلمة ‘’الفلسفة’’ باللاتينية (فيلوسوفي) وهي تأتي في سياق مؤنث. وحتى كلمة ‘’حكمة’’ بالعربية هي كلمة مؤنثة على حد علمي. وبالطبع فإن إلهة الحكمة في المثيولوجيا الإغريقية مؤنثة.
فلماذا اكتسبت الحكمة صفة الأنوثة؟ لا أعرف بالضبط ولكن لدي نظرية بهذا الشأن. فأنا أعتقد أن محاولة فهم الأشياء هو أمر مهم بالنسبة للنساء – وهو ما تدور عليه الفلسفة – أما بالنسبة للرجال فالأهم لديهم أن يفهمهم الآخرون. تعرف مثلاً تلك القصة من أيام سقراط، ذهب بعض سكان أثينا للعرافة في معبد دلفي وسألوها أن تخبرهم عن أحكم الناس في أثينا. قالت لهم العرافة إنه سقراط، ولكن سقراط نفسه قابلهم متعجبا من قول العرافة قائلاً إنه لا يعرف شيئاً، وأن ذلك – عدم المعرفة – هو الشيء الوحيد الذي يفهمه جيداً. ولكن في الوقت نفسه كان هناك أناس يعتقدون أنهم يعرفون الكثير من الأشياء، وقد سموا فلاسفة، لأنهم كانوا يسعون إلى أن يفهم الناس أفكارهم. لكن سقراط كان هو الفيلسوف الحقيقي لأنه كان يحاول أن يفهم، أن يفهم نفسه ويفهمهم ويفهم العالم.
http://www.alwaqt.com/art.php?aid=94423

الروائي النرويجي يوستن جاردر في حوار خاص

لم أكن أطمح في «عالم صوفي» إلى أبعد من أن أخرج عملاً تعليمياً في الفلسفة «1-2»

الوقت – محمد المبارك – علي الديري:

يزور جاردر البحرين ليومين برفقة زوجته وناشرة أعماله السيدة منى هنينج، صاحبة دار المنى في السويد، بدعوة من مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث، حيث ألقى أول من أمس محاضرة بعنوان ”احرص على تغذية خيالك”. ولد الكاتب النرويجي (جاردر) في الثامن من شهر أغسطس/ آب العام ,1952 ويعمل أستاذاً في الفلسفة وتاريخ الفكر وهو يمارس الأدب والتعليم معاً. أشتهر بكتابته للأطفال بمنظور القصة داخل القصة. روايته ”سر الصبر” هي التي جعلته معروفاً لدى الجمهور النرويجي. وحصل من ورائها على جائزة النقد الكبرى. لكن كتاب ”عالم صوفي” هو الذي أخرجه للعالمية، حيث ترجم إلى أكثر من ثلاثة وخمسين لغة، وبيع منها أكثر من ثلاثين مليون نسخة، وفي ألمانيا وحدها تعدت مبيعاتها المليون نسخة. وتم تحويل الرواية لفيلم سينمائي، وأيضا تم تحويلها للعبة فيديو، وحاليا يتم تقديم جائزة سنوية للأعمال المختصة بتطوير ودعم البيئة باسم (جائزة صوفي) مقدمة من غاردر وزوجته.

لقد عبر جاردر في بداية حوارنا معه عن سعادته بالتعرف إلى البحرين، لافتاً إلى أنه وجدها ”مكاناً متعدداً وكوزموبوليتاني”، وأبدى إعجابه ببيت القرآن الذي زاره وقد بهره فن الخط العربي والمخطوطات القرآنية.

الوقت: لقد كتبت في صحيفة الأفتن بوسطن النرويجية يوم السبت أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان بتاريخ 5-8-,2006 مقالا أثار ردود أفعال شديدة في الصحافة والتلفزيون: إننا لا نعترف بدولة إسرائيل كما لم نعترف بنظام الأبارتايد العنصري في جنوب إفريقيا، وكما لم نعترف بنظام طالبان. وكما كان كثير منّا لم يكونوا قادرين على الاعتراف بعراق صدام حسين، أو بالإبادة الاثنية التي مارسها الصرب. الآن لابدّ أن نعتاد على التفكير بأنّ إسرائيل بشكلها الحالي قد صارت تاريخاً ماضياً، ونحن لا نؤمن بمفهوم شعب الله المختار”.

كيف تقرأ زيارتك اليوم إلى المنطقة العربية، في سياق تزامنها مع أول زيارة رسمية للرئيس جورج دبليو بوش للشرق الأوسط التي استهلها بزيارة إسرائيل متعهداً بالحفاظ على أمن إسرائيل ”كدولة يهودية”، ومشدداً على أن الولايات المتحدة وإسرائيل حليفان قويان، ومصدر هذه القوة هو الإيمان المشترك في قدرة الحرية البشرية”.

– غاردر: حسب المعايير الدولية ربما يكمن الحل الأمثل في دولة واحدة لا يتميز فيها اليهود عن غيرهم. أعتقد أن مفهوم الدولة اليهودية غير مقبول ولا يتوافق مع الأفكار المعاصرة. كما لا أعتقد أنه يجب أن تكون هناك دولة إسلامية أو مسيحية. فحتى النرويج مثلاً، وبطريقة ما، هي رسمياً دولة مسيحية وأعتقد أنها لا يجب أن تكون كذلك. الأفضل للدولة الحديثة أن تكون علمانية، وهذا تحد يجابه الكثير من الدول في العالم، خصوصا العالم الإسلامي فكما تعلم أنه لا يوجد في تاريخ الإسلام تفريق واضح بين الدين والدولة.

الوقت: بالنسبة لحكومة الولايات المتحدة الأميركية، ألا ترى أنها تقع في نوع من التناقض، فهي من جهة تقود بشكل ما العالم الديمقراطي ومن جهة أخرى هي تدعم فكرة الدولة اليهودية؟

– غاردر: أوافقكم. كما أن فكرة أن لكل اليهود في العالم الحق في الاستيطان في إسرائيل هي ما أقصده بتشبيه إسرائيل بنظام الأبارتيد. من الواضح أن الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة يتعرض للمضايقات اليومية الآن بشكل يذكرنا بالمضايقات التي كان يعاني منها اليهود في أوروبا إبان العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي. لا أعتقد أننا يجب أن ننسى المحرقة، التي تعرض لها اليهود على يد النازيين، ولأننا رأينا هذه المحرقة، فإننا لا نقبل المضايقات والإذلال الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني من نساء وأطفال ورجال بسبب جدار العزل، ونقاط التفتيش. لقد سمعنا قصصاً عن حوامل تعرضن للموت بسبب التأخير والمضايقات على الحواجز الإسرائيلية التي حالت دون وصولهن للمستشفى في الوقت المناسب.

الوقت: لقد اشتهرت بهذه الآراء الناقدة لإسرائيل، فهل تعرضت بسببها للمضايقات في إسرائيل أو في مكان آخر؟

– غاردر: لا. لكن دائماً عندما تنتقد إسرائيل، يتهمونك بمعاداة السامية. وأرى أن من السخف أن تلصق بي هذه التهمة لسببين. الأول أنني طبعا لست معادياً للسامية، والثاني أعتقد أن كل الناس متساوون في الإنسانية ويجب أن يعاملوا بالطريقة نفسها. والشعب اليهودي شعب طيب كغيره من الشعوب. كما أن هناك الكثير من اليهود الذين ينتقدون السياسات الإسرائيلية. إن هذه التهمة هي سلاح يستخدمه ما يمكن أن نسميهم ”أصدقاء إسرائيل” ضد كل من ينتقد السياسة الإسرائيلية. لكنها تؤذيني لأنني أكره أن أكون معاديا لأي نوع من الناس. أشعر بأنني إنسان، وأن كل إنسان له قيمة الإنسان الآخر نفسها. أنا أشبه إسرائيل بالقوة الاستعمارية التي تستغل الشعوب التي تحتلها بعد أن تذلها.

لقد كتبت مقالاً لاحقاً للمقال الذي ذكرته، عبّرت فيه عن آرائي بشكل أكثر وضوحاً، وأعتقد أن غالبية الناس في النرويج يوافقونني في هذه الآراء. رغم أنك لن تستنتج ذلك من الجرائد. لكنني تلقيت ردوداً غاضبة من أصدقاء إسرائيل في النرويج، ومن إسرائيل أيضاً فكتبي مطبوعة بأكثر من 55 لغة، منها العبرية، والقراء في إسرائيل يعرفونني. لم أفكر بذلك عندما كتبت المقال الذي انتشر حول العالم في غضون يومين فقط، بما فيها الجرائد العبرية في إسرائيل.

الوقت: هل يمكن للمثقف أن يأخذ موقفاً كهذا في دول أوروبية أخرى؟

– غاردر: سؤال جيد. نعم سيكون من الصعب إصدار مقال نقدي كهذا في بلد كألمانيا مثلاً. لأنه ولأسباب تاريخية، يعد انتقاد إسرائيل في ألمانيا من جملة التابوهات، لكن الأمر ليس كذلك في بلدي النرويج.

  الوقت: يبدو أنك تعول على الأطفال في أعمالك الروائية أكثر من أي شيء آخر، فبطل »سر الصبر«، الطفل هانس توماس، 12 عاما، يسافر مع والده إلى اليونان لكي يلتحقا بالأم »انيتا« التي هاجرت إلى بلاد الفلاسفة قبل سنوات بحثا عن الحقيقة. ورواية ”عالم صوفي” تبدأ مع يوم عادي لصوفي أمندسون بطلة الرواية ذات الأربعة عشر عاما، حيث عادت مع صديقتها جورون من المدرسة، فتفاجأت للمرة الأولى أن هناك في صندوق البريد رسالة لها موجهة بالاسم. ورواية ”فتاة البرتقال” تُحكى من وجهة نظر الشاب الصغير جورج، لقد كتب جون قبل وفاته بأيام قليلة رسالة لابنه جورج ذو الأربعة أعوام؛ كي يقرأها حين يكبر، وبعد أحد عشر عاما من وفاة جون تعثر عائلة جورج على هذه الرسالة وتسلمها له، يقرأها جورج ومن ثم يحكي لنا قصته مع رسالة والده، الرسالة كانت تحوي قصة وسؤالا، قصة حب والده لفتاة البرتقال، وسؤال يطرحه بعد سرده للقصة.

لماذا يبدو أبطالك من الأطفال غالباً؟ ولماذا تلجأ إلى تقنية الرسائل دائماً؟ ولماذا تدور في أجواء البيئة النرويجية؟ هل لهذا علاقة بكونك أستاذاً يمارس تدريس الفلسفة وتاريخ الأفكار؟ وهل يهدد الأطفال الرواية بالتحول إلى الجانب التعليمي بدلاً من الفني؟

– غاردر: سؤال جيد أيضاً. أولاً ليست كل رواياتي تدور أحداثها في النرويج، فقصة ”فتاة البرتقال” مثلاً تدور أحداثها في أسبانيا. أما بالنسبة للأطفال، فدعني أذهب لبداياتي ككاتب. عندما كنت في الحادية عشرة، أتذكر أنني شعرت فجأة أنني جزء من لغز كبير، وأن الكون أحجية كبرى. لجأت لوالدي ولأساتذتي وقلت لهم: ألا تعتقدون أن الوجود أمر غريب وعجيب؟ لكنني صدمت بالإجابة: لا، ليس غريباً على الإطلاق. لكنني ألححت: إذن أنتم تعتقدون ان الوجود أمر عادي؟ وكانت الإجابة: نعم، بالتأكيد. كبرت وأنا ماأزال أعتقد أنني أنا المحق. ماأزال أعتقد أن الحياة لغز. لهذا عندما بدأت أكتب، أردت أن أنقل هذا الشعور الذي أحسست به وأنا صبي صغير. يمكن القول إن هناك طريقتين ليصبح المرء كاتبا: فهناك مجموعة من الكتاب تحب اللعب بالكلمات مثلما يلعب الرسام بالأشكال والألوان. لكن هناك فئة أخرى من الكتاب، وهم الذين يشعرون أن لديهم أشياء يريدون قولها. أعتقد أنني أنتمي لهذه الفئة الثانية.

أنت محق عموماً في أنني أستخدم الأطفال كشخصيات في رواياتي أكثر من الكبار، رغم أن الكبار قد يكونون رائعين أيضاً مثل شخصية معلم الفلسفة في رواية ”عالم صوفي”. لكن الأطفال يسألون أفضل من الكبار.

أما بالنسبة لسؤالك عن الجانب التعليمي، فأقول إن رواية ”عالم صوفي” هي رواية تعليمية بالتأكيد. عندما كتبت هذه الرواية، لم أكن أطمح من خلالها أبعد من أن أخرج عملاً بيداغوجياً تعليمياً في الفلسفة. رواياتي الأخرى تدور فيها فلسفة لكنها ليست كتب فلسفة، أعني أنها ليست كتباً تعليمية، تعلم الفلسفة. لا أعتقد أنني كنت معلماً في هذه الكتب، لكنني يمكن أن أكون مجرد مرشد أشير إلى الكون.

في رواية ”عالم صوفي” أنا أعلّم فلسفات معينة، لكن في رواياتي الأخرى أشير فقط محاولاً نقل حماسي بالوجود إلى قرائي. ألتقي بأشخاص من مختلف الأعمار، وأسألهم أحياناً: ألا تعتقدون أنه أمر عجيب أن نعيش؟ ألا تعتقدون أن الحياة قصيرة؟ يجيبون في بعض الأحيان: نعم أنت محق، لكنني لم أفكر بهذا من قبل.

كما أستلم الكثير من الرسائل والإيميلات، من قرائي، وأغلبها من الفتيات. أعتقد أن الفتيات يقرأن أكثر من الفتيان. هي آلاف الرسائل. وهي تختلف عن بعضها كثيراً لكنها غالباً ما تشترك في أمر واحد. غالبا ما يكتبون ”قبل أن أقرأ كتابك كنت أشعر أنني مختلف عن الآخرين لأنني أسأل الكثير من الأسئلة ولا يُبدي الآخرون اهتماماً بهذه الأسئلة. لكن بعد أن قرأت روايتك عرفت أنني في الواقع كنت أسأل أسئلة فلسفية”. كما يكتبون أيضا ”التجارب التي تعبر عنها في كتابك فيما يخص إحساسك بأنك جزء من لغز، هو إحساسي نفسه من زمان لكنني لم أخبر به أحداً من قبل”.

هناك تفسير محتمل لسر انتشار رواياتي، وهو ربما بسبب أنني أسأل فيها أسئلة كلية تخص كل الناس.أنا أؤمن أن السؤال يحمل قوة كبيرة، وأننا يجب أن نشجع على طرح الأسئلة. من المهم للآباء والمدرسين أن يشجعوا الأطفال على طرح الأسئلة.

أذكر أنني أيام حادثة الحادي عشر من سبتمبر كنت في مؤتمر في براغ. وهناك أخبرتنا امرأة أميركية عن سؤال ابنتها وهي تشاهد الرئيس بوش ينهى خطاباته دائماً بعبارة ”ليبارك الله أميركا” فتسأل أمها ”لماذا لا يقول الرئيس ليبارك الله العالم بدل أميركا فقط؟”. كان ذلك سؤالاً جيداً ولكنه أيضاً سؤال صادم، سنزعج الرئيس الأميركي بالتأكيد لو وجهنا إليه هذا السؤال. ربما نتوقع أن يصدر سؤال كهذا لا من طفلة بل من شخص كبير. أنا نفسي لم يكن ليخطر ببالي أبداً هذا السؤال. تذكرني هذه الحادثة بقصة الأطفال ”الأمبراطور العاري” التي كتبها الدانماركي الشهير ”هانز أندرسن”. في القصة، يخدع محتالان الإمبراطور بإقناعه بأنهما سيصنعان له أفخر الثياب على وجه الأرض، وهي ثياب لا يمكن للأغبياء أن يروها، يلبسانه الثياب الوهمية، فيخاف الأمبراطور أن يقول إنه لا يرى ثيابا عليه، والكبار حوله يخافون من الاعتراف بأنهم لايرون ثيابا على الإمبراطور خشية أن يفضحوا غباءه، لكن كان هناك طفل فقط كانت لديه الشجاعة ليصيح بأمه: ”أمي، لماذا يمشي الأمبراطور عارياً؟”.

أتساءل وأنا هنا في العالم العربي والإسلامي: هل يشجع الناس على طرح الأسئلة؟ أتخيل أنه في المدارس الدينية لا توجد ثقافة الأسئلة لأنه يتم تعليم الأجوبة وليس الأسئلة.

الوقت: ولكن ألا ينطبق هذا على أي جماعة مؤمنة؟

– غاردر: بالتأكيد. هذا ينطبق على المدارس الدينية المسيحية فنحو خمسين بالمئة من التجمعات المسيحية في الولايات المتحدة لا تعلم الأطفال طرح الأسئلة. والمؤسف أنه في أميركا وفي بلدي أيضاً يتكلم الناس عن ”الأصولية” وهم يعنون بذلك الأصولية الإسلامية، دون أن يروا أن الأصولية المسيحية تؤسس نفسها بشكل كبير في الغرب حتى ظهرت آثارها جلياً في السياسة الخارجية الأميركية. فمثلاً هناك أناس كثيرون في النرويج يؤمنون أن ما يحدث في الشرق الأوسط اليوم هو إعداد لظهور المسيح حسب ما يتنبأ الكتاب المقدس، وأنه من أجل ذلك لابد من أن تقوم حروب في المنطقة، وأن يبني اليهود دولتهم الكبرى هنا. وهذا يقودنا لملاحظة الأصولية اليهودية أيضاً.

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=94059

هل أنت علماني أخباري؟

من ملف االأصولية والأخبارية

ملف الأصولية والأخبارية في جريدة الوقت 2007 pdf

في الصيف الماضي أصدر Robert Gleave (روبرت غليف) كتابه ”إسلام النص: تاريخ المدرسة الأخبارية الشيعية وعقائدها” باللغة الإنجليزية، وهو لمّا يترجم بعد. هل زُقمُّْ اٌمفًّم قد قرأ بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول

عن الإسلام، وصار مسلماً على الطريقة الأخبارية الشيعية، أي صار مستبصراً أخبارياً؟
لا، طبعاً. وهذا السؤال لا يعدو أن يكون مزحة. لكن السؤال نفسه سألني إياه كثيرون، بصيغ مختلفة، الصديق حسين مرهون، سألني مستنكراً ومستهزئاً في الوقت نفسه: هل أنت علماني أخباري أم علماني أصولي؟ يبدو أن نهايتك ستكون كبدايتك أصولي ديني متزمت. على الجبهة المضادة، هناك سؤال مصاغ بحس تشكيكي مرتاب، ما هدف علي الديري من طرح موضوع (الأصولية والأخبارية)؟، وهناك سؤال مصاغ بحس من يعتذر عنك ويشفق عليك ويبدي تفهمه لورطتك، هل يمكن لعلي الديري أن يتخلص من تربيته الدينية؟
قلت للصديق مرهون الأصولية والأخبارية موضوع أشتغل عليه بمسافة علمية وعلمانية، وهي مسافة أمان، تُؤمّن لي عدم التماهي مع موضوعي. الاهتمام بموضوع ما ،لا ينفصل عن الانهمام به، وهو انهمام قد يوقعك أحياناً في تحيزات تجعلك متماهياً مع موضوعك، لكن هذه التخوفات لا ترتبط بموضوع (الأصولية والأخبارية) أو أي موضوع ديني ما، بل ترتبط بكل موضوع يدخل في حيز اهتمام أي باحث. أن تكتب عن موضوع يعني أنك ستتهم بأنك متبنيه حد التماهي أو أنك تعاديه حد التعالي، أنت متهم به، ولا يمكن أن تكون باحثا عن فهم لهذا الموضوع، فهماً يعينك على معرفة اشتغاله في حاضرك.
بين (روبرت غليف) وتهمة أن يكون علمانيا أخبارياً أو أصولياً أو أن يكون مستبصراً قد هداه الله إلى التشيع، مسافة ليست ناتجة عن الجغرافيا والتاريخ والحضارة، بل مسافة في أذهاننا، تعطي للآخر القدرة على أن يكون منفصلا عن موضوعه، وتسلبها من الذات، أي لا يمكن للباحث هنا أن يقيم مسافة نقدية عن موضوعه، ويمكن للباحث هناك أن يقيمها. لقد ظل أركون لفترة طويلة يحاول أن يقنع الآخرين بأن عمله في مجال التراث الإسلامي، لا يعني أنه مفكر إسلامي ولا أنه إسلامي ولا أنه أصولي ولا أنه محافظ رجعي غير قادر على أن يخرج على ماضويته.
في الصيف الماضي، كنت والصديق محمد المبارك مع الباحث الانثروبولوجي الدينماركي توماس الذي يعد أطروحة دكتوراه حول الكيفية التي يشكل الناس بها تاريخهم الاجتماعي من خلال المكان الحوادث. وقد اتخذ من منطقة الحد وقلالي وسماهيج والدير مكاناً لمعرفة هذه الكيفية معرفة تطبيقية. قلت له: إن الشيخ إبراهيم المبارك قد شكّل بأخباريته في الخمسينات والستينات وحتى قبل الثورة الإيرانية في السبعينات، ثقافة الناس في قرية الدير، وله حضور في تاريخهم الاجتماعي. لقد التقط مصطلح (الأخبارية) بحس باحث يقظ، وراح يتقصاها ويتقصى حضورها في تشكيل ثقافة هذا المكان. ومع ذلك لن يسأله أحد مستنكراً، هل أنت انثروبولوجي أخباري أو أصولي؟

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5420

«لو» تأنيس استيحاشات نكاح الرضيعة(3-3)

ما آليات (كيفيات) خطاب الشيخ محمد صنقور في إزالة استيحاشات حكم نكاح الرضيعة؟ وهل هي آليات تخص هذا الموضوع، أم هي آليات تشتغل في كل الموضوعات التي يتناولها الخطاب الديني الاجتماعي؟
يورد الشيخ محمد صنقور ستة مناشئ للاستيحاش من الحكم بجواز نكاح الصغيرة، وهو يوردها، ليس لتقريرها، أي تقرير حقيقتها، بل لتقرير وهمها، أي أنه يعتبرها استيحاشات وهمية، وهو يشغل تقنياته الحجاجية في إزالة هذه الاستيحاشات الوهمية، ليثبت أن هذا الحكم لا يتعارض حقيقة مع حساسية الذوق العصري أبداً، وذلك لو قدر لنا أن نتخلص من هذه الأوهام الاستيحاشية.
المناشئ الستة للاستيحاش، هي: [1].
المنشأ الأول: هو توهم أن جواز نكاح الصغيرة يساوق جواز وطئها.
المنشأ الثاني: أن تزويج الصغيرة منافٍ لمصلحتها غالباً، وذلك لأن تزويجها سيمنعها من الاستمتاع بطفولتها وهو واحد من حقوقها.
المنشأ الثالث: أن في تزويج الصغيرة تضييع لحق البنت في تقرير مصيرها بعد البلوغ، حيث أنها ستجد نفسها في عهدة رجلٍ قد لا يكون مقبولاً عندها.
المنشأ الرابع: أن في تزويجها مصادرة لحقها في اختيار شريكها، لأنَّها في زمن صباها لم تكن تُحسن تحديد مصلحتها.
المنشأ الخامس: أنه لا نتعقل تسليط الولي على توريط بنته بزواج قد لا يكون موفَّقاً في مستقبل الأيام، ومجرَّد إعفائها من مسؤولية الزواج في زمن الصبي لا يبرِّر ذلك.
المنشأ السادس: أن الفقهاء يفتون بجواز الاستمتاع بالصغيرة بما دون الوطء، بمعنى انه يجوز للزوج تقبيل الصغيرة ولمسها بشهوة، كما يجوز تفخيذها، وكلُّ ذلك مستبشع في حق الصغيرة.

لو
يعتمد خطاب الشيخ صنقور في إزالة هذه الاستيحاشات أجوبةً، تستند إلى (لو) التبريرية، فهي تبرر كل استيحاش بجواب يحيل الاستيحاش استيناساً.
تفتح (لو) خصوبة التفكير، لكنها خصوبة مقرونة في إرثنا الديني بالشيطان، فلو تفتح عمل الشيطان، و(لو) في خطاب الشيخ صنقور تقتح منافذ للشيطان، شيطان الحيل الشرعية، فهي تتعلق هنا بحالة مستحيلة من منظور (لو) الشيخ صنقور ‘’فالحكم بالجواز أمر افتراضي محض’’ لكنها حالة شرعية، ويمكن لأي شخص غير سوي أن يبرر فعله غير السوي، لو فعلها مع الرضيعة، يمكنه أن يبرر ذلك بحالة الجواز الشرعية.
تتكرر (لو) في خطاب الشيخ صنقور، تكراراً أثيراً يصل إلى حد أن خطابه يكاد يكون قائماً على (لو)، وهي لا تحضر في خطابه من أجل فتح التفكير في حالات لا مفكر فيها، بل من أجل التبرير لحالات يصعب قبول التفكير فيها، ليس لمانع يتعلق بمصادرة حرية التفكير، بل لمانع يتعلق بأبعاد إنسانية وحقوقية وذوقية. وهو مانع يحاول خطاب (لو) أن يخفف منه بتبريرات تزيده استيحاشاً.
هذه عينة من جمل (لو) في خطاب الشيخ محمد صنقور، يمكننا أن نقرأ فيها وظائف عمل خطابية متعددة: [2].
‘’على أنه يمكن للولي أن يشترط على من يريد التزوُّج منها أن يبالغ في توفير أسباب الاستمتاع بالطفولة لها وحينئذٍ يكون على الرجل لو قبل بالشرط الالتزام بمقتضاه’’، ‘’والجواب عن ذلك أنَّه لو اتفق عدم قبولها بالرجل الذي اختاره وليُّها لها. فإن ثمة وسائل تتمكن بواسطتها من التخلُّص من عقد النكاح’’، ‘’فإذا افترضنا (لو) أن زوجها كان صالحاً سوَّياً فإنه لن يجبرها على البقاء عنده والمفترض أنه لم يعاشرها قبل البلوغ. على أنه لو اتفق أنه امتنع من ذلك فلها الحق شرعاً أن ترفع أمرها للقضاء ليفصل في قضيَّتها’’، ‘’والجواب عن ذلك أن الاستمتاع بالصغيرة خصوصاً لو كانت رضيعة أمر لا يكاد يتفق وقوعه، ذلك لأن الأسوياء من الناس لا يستثيرهم من الصغيرة شيء’’، ‘’فإذا افترضا (لو) حرص الولي على تزويج ابنته من رجل صالح سوي فإنه سيكون في مأمن من وقوع ذلك، فالحكم بالجواز أمر افتراضي محض’’، ‘’فليس في تقبيل الزوج لزوجته الصغيرة أو حتى تفخيدها ما يبَّرر الاستبشاع، إذ إن ذلك لن يُنتج إيذاءها لو خشي من أنه سيُنتج الإيذاء الجسدي أو حتى النفسي فإنه سيصبح حراماً بالإجماع’’، ‘’بمعنى أن الاستمتاع بالصغيرة جائز في حدِّ نفسه إذا لم يتعنون بعناوين أخرى طارئة أما لو طرأت عليه عناوين تُوجب وقوع المفسدة الشديدة من الاستمتاع فإنه سيصبح بذلك محرماً’’.
إن (لو) التي يقوم عليها خطاب الشيخ صنقور، ليست فقط آلية تبرير، بل صارت آلية تبرير وتهوين وتخفيف، فهي تبرر هذا التجويز وتهوّن من استيحاشاته، وتخفف من آثاره المحتملة، وبهذه الوظائف تحقق (لو) وظيفتها الأكبر والأخطر، وهي تغييب وقائع الواقع الذي ترصده الإحصاءات والدراسات والتقارير الدولية المتعلقة بالمرأة والطفولة والانتهاكات الجندرية والعنف والتمييز وقصور المحاكم الشرعية والمدنية عن إنصاف حق المرأة وحماية الطفولة. إن منطق خطاب (لو) في خطاب الشيخ صنقور، قد غيّب عن حججه الاستدلال بأي دراسة علمية عن واقع المرأة وقضاياها أو أي تقرير دولي، أو محلي.هناك غياب مطلق للأرقام والحالات وهو غياب يفسره الحضور المطلق لـ (لو) ومقتضياتها.
(لو) لا تحكم هنا موضوع جواز نكاح الرضيعة فقط، بل تحكم كل الموضوعات التي يتناولها الخطاب الفقهي، حتى حين يكون الموضوع هو الدولة.
(لو) بتبريراتها وتهويناتها وتخفيفاتها وتغييباتها، تخلص إلى اعتبار الاستيحاشات وهمية، لكنها لا تعتبر أن الاستئناس أيضا وهمي، وليس مجعولا شرعيا [3].. لذلك فخطاب الشيخ يلجأ إلى حجة الثقافة في تبرير الاستيحاشات، لكنه يلجأ إلى حكم الشرع والنص في تقرير الأحكام، ويهمل حجة الثقافة.
لا يلجأ إلى حجة الثقافة في تبرير فتوى الفقيه وحكمه. الرجوع إلى حجة الثقافة غدا اليوم ضرورة في تقرير الأحكام، وليس في تبريرها فقط، كما يفعل خطاب الشيخ محمد صنقور، وهذا يجعلني أوضح مسألة في غاية الأهمية، وهي تتعلق بمدخلي لقراءة خطاب الشيخ صنقور، فأنا لا أدخل عليه من باب المحاججات المذهبية ولا من باب البحث عن عورات مذهبية، ومن باب كشف المستورات التاريخية المحرجة التي لا يخلو منها مذهب ولا شخص ولا دين ولا حضارة، وليس من باب مناكفة التيار الديني. بل مدخلي هو محاولة لقراءة آليات الخطاب الديني الاجتماعي في قراءة النص الديني وطريقة تعاطيه من الفتاوى وطبيعة الحجج التي يبني بها خطابه ويمارس من خلالها حجاجه مع المختلفين معه. لذلك فموضوعي ليس نكاح الرضيعة، بل الآلية الحجاجية التي يدار بها هذا الموضوع، وهي آلية لا تحكم هذا الموضوع وحده، بل تحكم الخطاب الديني حين يدير أي موضوع آخر.
الفقيه بثقافة عصره يستوحش فيجعل، ويستحسن بثقافة عصره فيجعل أيضاً، وإذا كنا نظن أنه محكوم بنص لا يقبل التأويل المحكوم بالجعل، فسنكون قاصرين في فهم أفق فهم الفقيه.
مشكلة علم الأصول اليوم، أنه ما زال علم أصول النص بمعناه الحرفي الضيق، وتفريعاته التي أتخمته لم تفتحه على شق علم آخر من علوم الإنسان الحديثة، مع أنه علم مركب من مجموعة علوم، لكنه انغلق على العلوم القديمة التي يدين لها بنشأته.
لم تعد آليات علم أصول الفقه،على أهميتها قادرة اليوم وحدها على قراءة النص الديني، هي بحاجة إلى مقدمات خارجية، من خارج النص الديني نفسه، وهي المقدمات التي يشير إليها محمد مجتهد شبستري، بقوله ‘’الفقيه لا يستنبط الأحكام مستعينا بعلم الأصول فقط، وإنما تتدخل أيديولوجيا الفقيه ورؤيته لقضايا الإنسان والمجتمع والحق والعدالة والسياسة والاقتصاد والصناعة والعلوم والحضارة والقيم والأخلاق، في صياغة آرائه واستنباطاته الفقهية وعملية الاجتهاد والإفتاء تتحرك بتوجيه لازم من كل هذه المقدمات، وتسير في طريق معين لتتمخض عن نتائج خاصة’’[4].

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5370

الهوامش
[1]، [2]، انظر خطاب شيخ محمد صنقور على الموقع التالي:
http://www.alhodacenter.com/index.php?p=details&lecID= 186
[3] انظر، مناقشتنا لقاعدة ‘’الأحكام الشرعية مجعولة على الموضوعات المفروضة’’، في الحلقة الثانية من قراءتنا لخطاب شيخ محمد صنقور.
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=5293
[4]علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، تحرير عبدالجبار الرفاعي، ص346