أرشيف التصنيف: بروفايل

الدير في ذاكرة الغرباء

مدخل قرية الدير الغربي، تصوير إبراهيم الباقر 2001.
مدخل قرية الدير الغربي، تصوير إبراهيم الباقر 2001.

بروفايل الدير في جريدة الوقت

قلت لزوجتي المنامية، فضاء عباس فضل، سيكون بروفايلنا المقبل عن ‘’الدير’’، قالت: اكتب عنها من ذاكرة الغرباء، ذاكرة من مرّوا فيها، ذاكرة الذين جاؤوها يحملون معهم تجارب أماكنهم، كيف تبدو الدير في ذاكرتهم؟ وكيف تعايشوا فيها؟
اقترحت عليها أن تكتب لي هي عن ذاكرتها القصيرة في تلقي هذه القرية منذ جاءتها في 1995 حاملة معها تجربة المنامة المدينة المعتقة بالاختلاف والتعدد والتلون، كتبت عنها بحب يفوق حب الغريب لمكان لم تألفه طفولتها، كتبت:
إنها الدير المقدسة كما أحب أن أسميها، وأذكرها أمام من يسألني عن تجربتي معها، حين تسأل عن المقدسات فأنت تعني الشيء الأكثر احتراماً ومحبة وتقرباً إلى نفسك، وهي كذلك بالنسبة لي. أنا الغريبة، هكذا تسميني غالبية النسوة اللاتي أُعرّف إليهن أول مرة ‘’هذه الغريبة زوجة..’’ تُشعرني هذه التسمية بأني قادمة من كوكب آخر، لم أعد أستغرب هذا التعبير، لقد ألفته، ربما لأني أعشق هذه البقعة أكثر ممن ينتسبن إليها.
في البدء لم أعرفها وبالكاد مررنا قربها حين حلمت بالسفر، ووقفت خلف أسوار المطار أتأمل تلك الطائرات وأستمتع بصوتها الذي ألفته الآن أكثر من صوت أبنائي، باسل وأماسيل.
حين تقدم لخطبتي أحد أبنائها العاشق لمدينتي حدَّ عشقي لقريته شعرت بخوف الغريب، كيف سأسافر لهذه البلدة التي لا أذكر اسمها إلا حين أريد التفرقة بينها وبين (الديه) الأقرب لمدينتي، تمنيت أن يكون قد أخطأ التسمية وحرّف حرفاً. لكنها المقدسة لا غير، لا تحريف في حروفها، في البداية تقبلت الأمر على مضض ورحت أتجول في طرقاتها أتعرف عليها وأستخبر عنها، كأني كنت سأتزوج القرية كلها.
حين سألت الأباعد عنها، منهم من قال إنها الأفقر فشوارعها ضيقة وبالكاد يمكنك أن تمر فيها وبيوتها قديمة جداً، ومنهم من عبّر عن إعجابه باتساع شوارعها وجمال بيوتها.
كانت تلك الغنمات السارحات عند مدخلها الغربي في استقبالي الرسمي الأول، مازال أهلي يتذكرونها جيداً، كدنا نصطدم بهن من فرط عجلة الوصول إلى حفل استقبال أعدته النسوة للغريبة القادمة. اليوم أنا افتقد غنماتي كما بدأت أفتقد اسم الغريبة.
من شدة دفاعي عن مقدستي يناديني أهلي بالديرية ويعيبون علي كثرة إطرائي لها وهيامي بها واغترابي عن مدينتي التي أعشقها.
كنت أرى معنى الدير كله في عمتي المتسعة بروحها دوماً، لقد اتسعت الدير في روحي حتى لم أعد ألحظ الفرق بين القرية والمدينة، اتسعت الدير لتكون مدينتي التي حلمت بها.
حين دخلتها قبل عشر سنوات كانت الفتيات صغيرات حولي، الشباب يخجلون الحديث إليَّ والنسوة تتفحصنني لتعرف ماذا أخبّئ لهن.
هذا ما كتبته زوجتي، وكان هذا وحده كافياً لأكتب بروفايل الدير بعيون الغرباء الذين صاروا ديريات وديريين، في هذا البروفايل، سنشقُّ ذاكرتهم لتحكي عن تجربتهم في هذه القرية التي يحجزها مطار يأخذ الناس إلى العالم، ويفتحها بحر لا يأتي بالناس من العالم.

جعفر السويدي أرشيف الدير

سفرة الحاج علي النير (1917-1985) في قرية الدير، تصوير جعفر السويدي

 

“من يملك الصورة يملك الدليل” بهذه الجملة كان جعفر السويدي يفتتح سيرته التي هي سيرة أرشيفه الذي حفظ فيه وجوه قرية الدير طوال الخمس والثلاثين سنة الماضية.

أرشيفه هو الشاهد الأكثر دلالة على ما كانت عليه القرية وما كان في القرية. يحتفظ به ويتحفظ عليه حد الحرص المبالغ فيه، يبدو كمن يملك وحده دليلاً على حياة أو موت، ويخشى عليه من الضياع، كي لا يضيع الشاهد الذي سيروي لمن سيأتي بعده هذه الحياة أو الموت. كان يحدّق في جوه القرية وهي على وشك أن تغادر حياتها القديمة إلى حياة جديدة، أراد لهذه الحياة الجديدة أن تكون بذاكرة ضوؤها متوهج الصور.

كيف كوّن جعفر السويدي دليله؟ وما الوجوه التي يدل عليها؟ وما قيمة هذا الدليل للقرية اليوم؟

يروي من دون أن تسعفه ذاكرته على تذكر أرقام السنوات “كنا خمسة أصدقاء تجمعنا القرية والمدرسة، أنا وسلمان هلال وشريف السيد حسن وعلي داوود وعباس جعفر أحمد، قررنا أن يدفع كل منا يومياً 25فلساً من مصروفه الشخصي من أجل شراء كاميرا تصوير ضوئي. حين بلغ رأس المال 800فلس ذهبنا إلى استوديو المحرق للأفلام الملونة، ومن هناك امتلكنا لأول مرة كاميرا تصوير ب800فلس.ظللنا نجمع 25فلساً من أجل شراء أفلام الأسود والأبيض وتحميضها.صورنا طفولتنا الشقية وظلت الكاميرا تنتقل بيننا والصور كذلك، وفيما كان زمن الهواية ينتهي في نفوس أعضاء شركة كاميرا 800فلس، تفردت أنا بينهم باستمرار هوى الصورة في روحي، فرحت أمعن في هواها.

حين بدأت الألوان تفصل تقاسيم الصورة، لم أجد شركة أكون من خلالها رأس مال يمكنني من شراء كاميرا ملونة، ولأني كنت أذهب بعيدا في شغفي بالصورة وهي تؤرشف الوجوه وحياتها في القرية، فقد استعنت بكاميرات الأصدقاء، كاميرا حسن عيسى، وإبراهيم عباس سلمان. كانا كريمين معي، وأنا مدين لهما بهذا الكرم. لقد بدأت صوري الملونة من عدستيهما، بدأت أأرشيف ألوان القرية. صارت صوري ملونة على الرغم من أن القرية كانت ذات لون واحد، لكنك حين تلوّن الواحد تبدو أكثر استجابة لضوء الشمس.

بعد شركة 800فلس وبعد عصر الاستعارات، صارت لي كاميرا خاصة، إنها كاميرا (ألمبس) ذات الفيلم المزدوج، إنها تمكنك من أن تجعل فيلم 36صورة فيلم 72 صورة. اشتريتها في نهاية السبعينيات وبدأت رحلتي المستقلة في أرشفة تاريخ الناس في قرية الدير.

لم تكن الكاميرا هي المشكلة الوحيدة في إنجاز هذا الأرشيف، فالكاميرا لا تشتغل في ضوء الشمس وحده، لكنها تشتغل في ضوء الثقافة أيضاً، وهو ضوء لا يمكنك أن تتجاهل تأثيره في صورتك، بل هو الذي يتحكم في وجودها وعدمها. كان ضوء ثقافة القرية في ذلك الوقت، يجد في ضوء الكاميرا انتهاكاً لمحرم، كما كان يجد في صوت الميكرفون انتهاكاً لمحرم، إنها الثقافة الإخبارية التي أرسى الشيخ إبراهيم المبارك تقاليدها في القرية.

عليك أن تخفي ضوء كاميرتك وإلا أحرقه ضوء الثقافة، إنه أقوى من أي ضوء، يتحكم في ما تصوره وما لا تصوره، وفي ما يستحق التصوير وما لا يستحق التصوير وفي الحدود التي يمكنك أن تصلها بضوء كاميرتك، ويتحكم في ما يمكنك أن تعرضه من صور اختلستها كاميرتك على حين غفلة.

كنت أجد في وجوه كبار السن صورة القرية الأكثر تهديداً بالنسيان، وجوههم دليل القرية، الدليل الذي يمكنه أن يخبرنا عن الذين مرُّوا من هنا. كانت هذه الوجوه هي الأكثر ممانعة، فهي الوجوه التي يشع منها ضوء ثقافة القرية كأقوى ما يمكن. لذلك لم يكن ضوء كاميراتي يلقط طبقات ضوء وجوههم إلا على وجل وخوف. كنت أكمن لهم خلف الجدران وخلف النخيل وخلف وجوه الشباب، كنت أرقب رجلي أكثر مما أرقب عدستي، لأن الصورة تحتاج إلى رجلي أكثر، فما ينتظرني هو الفرار بأقصى سرعة ممكنة من موقع التصوير كي لا يكتشف وجه مضاء بثقافة المنع ضوءك فينالك النَصَب.

لن تجد في أي صورة من صور وجوه أرشيفي، وجهاً ينظر في عدستي، ولا جسداً يتهيأ لجسد كاميراتي، جميعهم لا ينظرون بل يتهجسون طريقهم. هذا ما يجعل التصوير مغامرة محفوفة ليس بوجوه الناس، بل بوجوه المخاطرة، الوجه لا يسلمك ضوءه الخاص في ثقافة تتحفظ على بصيص ضوء يأتي من غير جهة الشمس.

في المغامرة يكون الوقت مفتوحاً على التوقع، لا تدري متى ستحين اللحظة المناسبة التي تمكن ضوءك من التقاط حركة ضوء الوجه. في مغامرتي لتصوير الحاج حسن علي كاظم، بقيت ساعتين أترقب خروجه من المسجد ظهراً حيث يكون الممر الذي يسلكه خالياً من المارة والوشاة، كنت أتحين لحظة توحده في الممر ظهراً، ظللت أرقب المكان طوال هاتين الساعتين وأنا بين تهيئة الكاميرا وبين إخفائها وبين الخوف والقلق. وبين التعويل على ضعف بصره والحذر من قوة بصيرته. مازالت الصورة تأرشف ليس فقط وجهه الأبيض المشوب بحمرة جميلة، بل ما زالت تحتفظ بأرشيف حالتي لحظة تصويره. لذلك فأرشيف الصورة يحتفظ بضوء الوجوه وضوء ثقافتها.إنها دليل على الضوء وثقافته.

المغامرة الأكثر إثارة كانت تصوير خالي الذي كان بمثابة الوالد حجي علي النير وزوجته وقطته فوق سفرة الغداء. لا شارع هنا أتخفى فيه، إذا كانت  الكاميرا تأثم مرة بانتهاكها ضوء الوجه فإنها تأثم مرتين حين تنتهك ضوء وجه امرأة أو شيئاً من جسدها مهما كان هذا الشيء قد بالغ في تستره.كانت الألفة التي تجعل من القطة تأكل على السفرة نفسها التي يأكل عليها خالي وزوجته مثيرة لضوء كاميراتي، وجدت فيها بحسي الأرشيفي أنها ستكون دليلاً على ألفة هذه الحياة التي توشك أن تتحول إلى ألفة أخرى ربما لا يجتمع فيها اثنان على مائدة واحدة، فضلاً عن أن تجتمع معهم قطة وديعة.

وجدت أن الاختباء أسفل سرير غرفتهما قبل الغداء بمدة سيمكنني من التقاط الصورة من مسافة أكثر ألفة لسفرتهم. كان الجو صيفاً وحين ضرب ضوء الفلاش عيونهم علق خالي: يا سبحان الله ما هذا البرق في الصيف. أغراني تعليقه بأن آخذ أكثر من صورة لمائدتهم التي لم تكن تعرف البرق بقدر ما كانت تعرف السكينة.

كان خالي الصديق المقرب جداً من شيخ حسين ومن ثقافته الإخبارية المحافظة. وهذا ما ضاعف من مغامرة تصويره.

كانت وجوه كبار السن هي الوجوه هي الأكثر استعصاء على التصوير، أما وجوه النساء فقد كانت خارج الضوء.حين بدأت المدارس تفتح ضوءها للجيل الجديد، صارت الصورة تأتيني، صرت معروفاً في القرية أنني أحتفظ بالصور الشخصية والتي كانت في حينها غير الملونة، كان ضوء المدارس يلتقط ضوء الوجوه الشابة من غير حاجة إلى مغامرة. لم أكن أذهب أنا لهذه الوجوه، كنت أضعها في أرشيفي في ألبوم خاص، كما كنت أضع صور وجوه كبار السن في ألبوم خاص. كل ألبوم يحكي ضوء جيل مختلف.

لقد لاحقت بكاميرتي ألمبس آخر ما تبقى من وجوه القرية: الأعراس القديمة حين كانت فرق الغناء الشعبي والليوه جزءا أصيلاً من الحفل، وبساتين القرية قبل أن ينالها التصحر والغزو العمراني، وسواحل القرية قبل أن يصادرها الدفان، وبعضا من عيون القرية، وجزيرة خصيفة قبل أن تتحول إلى قاعدة عسكرية، والألعاب الشعبية، ومساجد القرية ومآتمها ومقبرتها وعمرانها، وبدايات صحوتها الدينية.

لقد كانت وجوه الناس كلها في أرشيفي، وهذا كان مصدر قلق وخوف بالنسبة لي دوماً خصوصا  حين تشتد الأحداث السياسية وما يرافقها من إجراءات أمنية، حتى إني اضطررت في إحدى السنوات إلى دفن جزء من أرشيفي تحت الأرض خوفاً عليه وعلى وجوه الناس التي فيه، من أن ينالها ظلام لا ضوء بعده.

في بداية الثمانينيات حين بدأت الكاميرا ترصد الحركة، استعنتُ بكاميرا فيديو وسجلت ثلاثة أفلام وثائقية، الأول عن الألعاب الشعبية في القرية، والثاني مقابلات مع من تبقى من رجالات الغوص، والثالث عن رحلة مع بحارة قرية الدير، صورت فيها عملية جمع الطحالب (الحشيش) وتجهيزه وإيصاله إلى السفينة، ثم عملية الإبحار التي تستغرق 14ساعة، وما يبذل فيها من عمل وجهد بأيدي بحرينية خالصة.

   * من ملحق بروفايل جريدة الوقت

الحاج عيسى بن عبدالله مطر

جردية الوقت

الحاج عيسى مطر هو عم والدي وأخو جدي، وكان لفرط حبنا لروحه المشرقة دوماً بحب الناس، ندعوه جدنا. حين تقول والدتي صباح عبدالحسين طرار أن جدك حجي عيسى يسأل عنك، أعرف حينها أن عتب المحب ينتظرني، توفي صباح الاثنين18سبتمبر2006. حين أخبرني الوالد بوفاته، عرفت حينها أن جملة أمي لم تكن تريدني فقط أن أحقق وصلاً بجدي، لكنها كانت تريدني أيضاً أن أحقق وصلاً بتاريخه المديد، كانت تريدني أن أكون شاهداً على حياته، كي أرويها.

الحاج عيسى مطر

كان حتى الأول من أمس يدخن (نارجيلته) التي احتفلت قبل بضع سنوات بيوبيلها الذهبي، فيما كان يحتفل هو بعيده المائة، ظل وفياً لها ولم تخنه أبداً على الرغم من وشاية الأطباء بها.

في وثيقة سفره الحمراء، هو من مواليد 1905، وفي ذاكرته الندية الطراوة والشديدة التوهج والحضور حتى مساء الأمس هو من مواليد 1320هـ. وما بين الوثيقة والذاكرة روايات عدة، بعضها يقول 1901، وبعضها تقول أكثر 10 سنوات من أخته تقية التي ما زالت حية ترزق بذاكرة أضعف 10سنوات من أخيها، ما زالت تقية تروي تاريخ قرية الدير لكنها لم تعد تدرس القرآن لأهل القرية الذين يدينون لها رجالاً ونساء بتعلم القرآن وحفظ المنتخب الطريحي.

غير أن الحاج عيسى مطر لم يكن قد تعلم القرآن في قرية الدير، فقد أرسله النوخذة أبوه الحاج عبدالله بن عيسى (توفي 1963) أحد وجهاء القرية إلى المحرق حيث فريق الحياك، كان ينتظره هناك في بيت منصور بن نايم رفيقه جاسم بن منصور بن نايم، هناك كان الملا محمد الإحسائي يدرس القرآن والخط العربي. ستتطور هذه الرفقة إلى صداقة تفضي بهما إلى امتهان الطواشة (شراء وبيع اللؤلؤ). ومن كرسي القرآن ينتقلان معاً إلى كرسي قهوة بن حمدان في المحرق المكان الذي اشتهر بتجمع تجار اللؤلؤ فيه.

ما زال حفيده حسين مطر يتذكر رواية والدته التي لا تكف عن سرد صورة بشت أبيها الذي يتأبطه صباحاً وهو يهم بالخروج إلى عمله من قرية الدير إلى المحرق.كان ذلك قبل أن يكسد سوق اللؤلؤ الذي أفضى بالحاج عيسى إلى أن يشتغل في تجارة المواد الغذائية إلى جانب بيع الأدوية والمستلزمات الصحية، وقد وطد هذا الاشتغال علاقاته بتجار (القراشية) بالمحرق.

ظل مديناً إلى الملا أحمد الإحسائي بخطه الجميل الذي كان يسجل به الديون المستحقة لوالده، كما أنه كان فيما يقول ابن أخيه الحاج أحمد محتفظاً بقيد واضح الخط، كان يسجل فيه مديونيات تجارته وحساباتها وأرباحها.

في منتصف الستينيات يفقد الحاج عيسى بصره تدريجياً حتى لم يعد يرى شيئاً، تلقى علاجاً تحت إشراف الدكتور سنو(snow)البريطاني المشهور في مستشفى النعيم، وذهب في رحلة علاج إلى الهند وإلى شيراز، غير أن رحلة بصره نحو الظلام كانت أسرع مرات من رحلته نحو النور. فقد بصره كلية، فصارت بصيرته أشد توهجاً، يعرف بها الأصوات والأشخاص ويروي بها تاريخه الطويل وتاريخ المكان الأكثر طولاً.

يحفظ جيداً تاريخ سنة الطبعة 1925ويحفظ أحداثها ولا يمل يعيد سردها، كأنها الحدث الأكثر عنفاً في تاريخه الطويل، يومها لم يكن في البحر، لكنه كان يستقبل فاجعة البر، ويبدو أنه يصدر في سرده من أصداء هذه الفاجعة، والحدث الثاني الشديد الحضور في سرده، هو ما يُعرف شعبياً بسنة المجاعة، وهي تقع ضمن سنوات الحرب العالمية الثانية، كانت له أياد كريمة على فقراء أهل قريته في هذه السنة، وقد تولى رعاية مأتم محمد علي (المأتم الشمالي) في هذه السنوات، وأحضر من البصرة الخطيب سيد محمد السويحي.

يروي بشيء من العتب والحسرة، العرض الذي رفضه أبوه الحاج عبدالله بن عيسى، كانت علاقته جيدة بشيوخ آل خليفة الذين كانوا يصيفون على أطراف قرية الدير، وقد عرضوا عليه تملك بعضا من الأراضي في القرية، إلا أنه ظل متردداً أو رافضاً أو مهملاً، ليس في سرد الحاج عيسى ما يوضح هذا الأمر.

يقول حفيد ابن أخيه كنت أغيب عنه الأشهر، لكن لم تكن ذبذبات صوتي تغيب عن ذاكرته الطرية، بمجرد أن أبادله التحية يبادلني التعريف بي، وكأنه يقول لي ما زالت ذاكرتي قادرة على العتب، فلا تغب كثيراً فأأعتب أكثر. كانت تحرجني ذاكرته لأنها تتذكر جيداً تاريخ غيابي الطويل عنه، وتتذكر جيداً الأشخاص الذين تحملهم السؤال والسلام والرجاء، كان يرجو زيارتي لكني كنت أرجئ عيادته، اليوم أنا أكثر رجاء منه، أكثر رجاء أن يغفر لي هذا الغياب.

منذ فقد الحاج عيسى بصره، وهو دائم السؤال عن الوقت، دائم السؤال عن الساعة، كأنه كان ينتظر شيئاً يأتي، فهل كان قد جاء أمس جواب الوقت؟!!

معكم معكم يا علماء

"معكم معكم يا علماء" بجرح الكأس المكسورة

في 14أغسطس1995 كان الشيخ عبد الأمير الجمري يلقي كلمة في مكتب وزير الداخلية بحضور بعض رجال السلك القضائي وبعض الوزراء والوجهاء، وهم وزير العمل عبدالنبي الشعلة، ورئيس محكمة الاستئناف العليا الشرعية الجعفرية الشيخ منصور الستري، وعضومحكمة الاستئناف العليا الشرعية الجعفرية الشيخ سليمان المدني، ورجل الأعمال وعضو مجلس الشورى الحاج أحمد منصور العالي.

معكم معكم يا علماء تلخص هذه الكلمة ما عرف في التسعينيات بـ(المبادرة) والمقتطف التالي يلخص أهم ما جاء في هذه الكلمة:

"وأحب أن أذكر لحضرات أصحاب الفضيلة والسعادة بأننا قدمنا إلى الحكومة الموقرة بجهود خيرة لخدمة هذا الوطن العزيز، وأود أن أذكر أهدافها الأساسية وهي كالتالي:

1. إعادة الهدوء والاستقرار للبلد.

2. معالجة الآثار التي خلفتها الأزمة التي عصفت بالبلاد.

3. تعزيز العلاقة الطيبة بين الشعب والحكومة.

على أن نقوم أنا وأخواني الأربعة: الأستاذ حسن مشيمع والأستاذ عبدالوهاب حسين والشيخ خليل سلطان والشيخ حسن سلطان، بالتعاون مع المخلصين من أبناء الشعب بالدعوة والسعي الحثيث لتحقيق هذه الأهداف، وتتفضل الحكومة الموقرة بتقديم الدعم والمساندة وخلق الأرضية الصالحة لإنجاح الجهود وتحقيق الأهداف"([1]).

§ 70000 مواطن

في 1نوفمبر1995م كان هناك سبعون ألف مواطن أمام منزل الشيخ عبد الأمير الجمري، يستمعون إلى البيان الختامي لاعتصام أصحاب المبادرة، وقد حمَّل هذا البيان الحكومةَ مسؤولية الإخلال ببنود المبادرة "غير أن الحكومة لم تمض كما ينبغي فيما يتعلق بالإفراج عن المعتقلين غير الحكوميين، وقد أدى ذلك إلى استياء أبناء الشعب وتحول إلى تذمر عام، ثم جاءت المحاكمات التي شملت حتى الأحداث الذين سبق الإفراج عنهم لتخلق مزيدا من الاستياء في الشارع تحول إلى توتر يدق ناقوس الخطر لا سيما وأن وزير شؤون مجلس الوزراء والإعلام قد صرح ثلاث مرات لإذاعة لندن بأنه لا اتفاق ولا حوار مع أحد لا في الداخل ولا في الخارج، ووصف القائمين على المبادرة بأوصاف غير لائقة...

أيها الشعب العظيم المسالم:

كان بودنا أن ننهي هذه الخطوة، نحن القائمين على المبادرة، الاعتصامَ والإضراب عن الطعام بكلمة نعم من حكومة البحرين الموقرة لمطالب شعبها العادلة…

معكم معكم يا شعبنا حتى نحقق كامل أهدافكم ومطالبكم العادلة"([2]).

كان جواب السبعين ألف مواطن:(معكم معكم يا علماء)، لم يكن جواباً، بل كان حدثاً، شكَّلت هذه المعية، معية أصحاب المبادرة(معكم معكم يا شعبنا)، ومعية السبعين ألف مواطن (معكم معكم يا علماء) عقداً حديدياً، ختم تسعينيات البحرين، وختم العلاقة بين التيار الشيعي والحكومة، وختم جدل القيادة في التيار الشيعي.

كان الشعار إعلان مرحلة، وإبراز قيادة، وحسم بلبلة، هو بمثابة بيعة من الشارع كي يتولى أصحاب المبادرة مهمة القيادة التي حاولت الحكومة عبر تيار شيعي موال لها النيل منها عبر ما عرف برسالة الاعتذار التي استخدمت للنيل من أصحاب المبادرة. لقد شكَّلت (المبادرة) حدثها السياسي، وأبرزت رجالات الساحة، وحددت شكل العلاقة التسعينية بين الحكومة والتيار الشيعي، واتخذت من شعار المعية استراتيجية لتنظيم قيادتها.

شعار(معكم معكم ياعلماء) أحد إنتاجات حدث (المبادرة)، وهو يحمل سياقها وجدلها ومآلاتها، وهو من جانب آخر يحمل صك بنية الذهنية الشيعية في موقفها السياسي القائم على المعارضة والمهموم بفكرة الإمامة. لذلك يمكن قراءة هذا الشعار بما هو مُنْتَج حدث المبادرة، وبما هو علامة على بنية فكرية ضاربة في التاريخ.

يحمل هذا الشعار آثار الكأس المكسورة حسب تعبير رئيس المخابرات، أيان هندرسون في إحدى جلسات الحوار مع أصحاب المبادرة "لقد استطعتم هزَّ الكأس فلا تكسروه.لقد وصلنا إلى قناعة أن القمع لن يخدم الشارع العام بالصورة التي نحب، كما أن الوجهاء الذين اعتمدنا عليهم لم يستطيعوا حل المشكلة"([3]).

§ الشعار

في المعجم العربي، الشعار يعني العلامة، والإشعار: الإعلام، وشعار القوم: علامتهم. وأشعر القوم: نادوا بشعارهم. الشعار إذن نداء وإعلام وإعلان وعلامة. بِمَ يُعلم شعار (معكم معكم يا علماء) وعمَّ يُعلن وعلامَ يُنادي.

إذا ما أخذنا بمفهوم الفيلسوف (فتجنشتاين wittgenstein) للمعنى بأنه الاستعمال وسياقه، فسيكون سياق هذا الشعار واستخدامه، هو ما يحدد معناه، ويحدد إعلامه وإعلانه ونداءه.

حين يكون سياق الشعار يجري في الساحة السياسية، فإن المعنى حينها يتحدد بمجريات اللعبة السياسية أي أننا نفهم الشعار بالإحالة إلى اللعب وسياقاته، وليس بالإحالة إلى المعجم ودلالاته. والإحالة إلى اللعب إحالة إلى مقتضياته، من الصراع والتنافس والهجوم والدفاع والكسب والخسارة والربح وتسجيل الأهداف.

اللعبة كما يحدِّدها (بيار بورديو) نوع من العلاقات أو نوع من علاقات التجاذب بين عناصر حيث المنافسة والتعاون والتناقض والهيمنة، وتقوم هذه العناصر ضمن هذه العلاقات بأدوار أو بنشاطات ووظائف. واللعبة السياسية موجودة في كل الظواهر السياسية، وهي تتسم بالمنافسة والصراع([4]).

حين يعلم الجمهور أو يعلن أو ينادي، فإنه يقوم بفعل، والشعار بما هو إعلام وإعلان ونداء، فهو فعل، هو فعل كلامي يُنجز (بمعنى يؤدي، يحقق، يعمل performatives) أشياء، حسب نظرية أفعال الكلام (Speech act theory ) لجون أوستن الذي عنون كتابه الهام بـ (كيف ننجز الأشياء بالكلام؟)

كيف نفهم (معكم معكم يا علماء) بما هو فعل كلامي؟ الفعل كما يحدده عالم النص، فان ديك" هو كلُّ حدث حاصل بواسطة الكائن الإنساني. الحدث هو التغيير. كلُّ تغيير يستلزم اختلافاً بين العوالم، الأحوال أو المواقف" ([5]).

وفي المعجم العربي "الفعل: كناية عن كل عمل متعدٍ أو غير متعدٍ. وقد عَمِلَ الشيءُ في الشيء: أَحْدَثَ فيه نوعاً من الإِعراب" والإعراب هو التغيير والبيان.

كل ما يحدث إعرابا أي تغييرا هو فعل. هذا الشعار أحدث إعراباً سياسياً، بدليل ما نتج عنه من آثار وأعرب عنه من تغييرات، وما خلقه من اختلاف بين العوالم، عالم السياسة وعالم الدين، عالم الحكومة وعالم المعارضة، عالم التيار الشيعي وعوالم التيارات الأخرى، عالم علماء الدين وعالم علماء الدنيا، عالم التسعينيات وعالم ما قبلها وما بعدها. وما خلفه من مواقف، مواقف الموالين للسلطة والمعارضين للسلطة، ومواقف المعارضين للأحداث والمنخرطين في الأحداث، ومواقف المتضررين من الأحداث والمستفيدين من الأحداث.

شعار "معكم معكم يا علماء" فعل كلامي، لأنه لا يصف ولا يخبر ولا يوصل معلومة مجردة، أي أنه ليس جملة محايدة تتضمن محتوى مجرداً من أي توظيف، كما في جملة الشمس مشرقة، بل هو جملة مغرضة (أي لها غرض) ومستخدمة ومستعملة وموظفة ضمن لعبة (لعبة حسب مفهوم بورديو، وليس بمعنى القدح السياسي) وهذا الاستخدام يخلق أو ينشئ مجال لعب كلامي، وينجز اللاعبون السياسيون في هذا المجال باللغة أفعال اتصال وانقطاع واستفزاز وتسلط وتوعد وتخوين وتهديد…إلخ، وبهذه الأفعال يعمل الشعار على إدامة اللعبة بين الفاعلين في مجال التداول السياسي.

ولعل مظاهر إدامة هذه اللعبة، نجدها في كم الأحداث التي أنتجها هذا الشعار، والفاعليات التي اتخذته شعاراً لها، والحجاجات التي وظفته في الدفاع عن مواقفها أو رغباتها أو مصالحها أو رؤاها، والتأويلات التي خضع لمعانيها، والاستخدامات التي جرى فيها، والأفعال وردود الأفعال التي أثارها، حتى إنه أصبح لهذا الشعار إرشيفه الخاص الذي يضم مدونته.

§ الشعار قصيدة

كان (معكم معكم يا علماء) شعار الجمهور الشيعي وشعره، فالشعار قصيدة الجمهور، قصيدته لأن مادته من شعوره وجسده، كما أن مادة القصيدة من شعور شاعرها وجسده، والشعار الناجح تماماً كالقصيدة الناجحة، بقدر ما تكون مختومة بمشاعر شاعرها وجسده يتحدد نجاحها. الشعور الذي هو مادة الشعر والشعار، إدراك من غير إثبات، وكأنه إدراك متزلزل، وهذا ما يجعل من الشعار والشعر إدراك متزلزل للعالم، وليس أكثر من هذا الإدراك قدرة على تغيير العالم.

والشعار والشعر مشتقان من المادة المعجمية نفسها، كما هما مشتقان من التجربة الوجودية نفسها، ففي المعجم "شَعَرْتُ لفلان أَي قلت له شِعْرا، وأَشْعَرْتُه: أَلبسته الشّعارَ، وأَشْعَرَ القومُ: نادَوْا بشعارهم، وأَشْعَرَ الهَمُّ قلبي: لزِقَ به كلزوق الشِّعارِ من الثياب بالجسد؛ وأَشْعَرَ الرجلُ هَمّاً: كذلك. وكل ما أَلزقه بشيء، فقد أَشْعَرَه به"

ما يلزق بنا هو شعارنا الذي يُعبِّر عن شعورنا، ويُعْلِم عما بنا، ويقول ما يعتمل فينا، والشعار علامة علينا، متى كان مُعْلِماً بحالنا ومُلَبيا لندائنا ومُحقَّقا لمطلبنا، متى كان هويةً ناطقةً عن جماعتنا. وشعار (معكم معكم يا علماء) ناطق بكل ما يعتمل في جماعة التيار الشيعي من ظلامات ومطالب ونضالات وأحلام وتعويلات ورؤى وشظايا الكأس المكسورة.

وتتحقق شعرية الشعار وشعرية الشعر بقدر ما يشق الشعار أو الشعر عمَّا يعتمل فينا من أحاسيس ومشاعر، أي يكون الشعار فعلاً له قوة الحدث، بقدر ما يكون قادراً على تمثيل جرحنا، والكلمة في اللغة تعني الجرح، والشعار الذي لا تكون كلماته جرحاً لا يكون فعلاً. بل يصير الشعار شعاراً بقوة تمثيله لهذا الجرح، وبقوة قدرته على أن يشق عن جرحنا الداخلي، ويُعلن عنه ويُعلم به، وفي المعجم يحيل الشعار على الجرح الذي يترك علامة "وأَشْعَرَ البَدَنَةَ: أَعلمها، وهو أَن يشق جلدها أَو يطعنها في أَسْنِمَتِها في أَحد الجانبين بِمِبْضَعٍ أَو نحوه"

حين يفقد الشعار شعريته التي هي قوته الإنجازية في أن يكون فعلاً يصنع حدثاً، يفقد قدرته التي يُعلم بها ويُعلن وينادي ويطلب، يفقد قدرته على أن يحفر علامة تدل على جماعته. لا تستطيع أن تقترب من شعار يُدمي، من شعار يملك قوة أن يُحدث ويُعلم، من كان يملك القدرة على أن يقترب من شعارات (وحدة الطبقة العاملة(البروليتاريا) والكفاح ضد الإمبريالية، وأينما تنطق الألمانية تمتد الأمة الألمانية، والإسلام هو الحل، والوحدة العربية) أبَّان قوتها وقدرتها على تشكيل خارطة العالم.

الشعار له دورة حياة، كما لأي كائن حي قوة وضعف من بعد قوة. كانت التسعينيات زخم حياة هذا شعار (معكم معكم ياعلماء)، والألفية الجديدة كانت بداية ضعف قوته، لكن حين يضعف الشعار لا يضعف كل شيء فيه، ربما تضعف قدرته التمثيلية للجرح الذي يدل عليه، لكن لا تضعف الحياة التي يحيل عليها، تضعف قدرته على الإحالة، لكن لا تضعف الحياة المحال عليها.

§ قدسية الشعار

في منتصف 2002 حيث مشاعر التيار الشيعي في بداية انتشائه بالإنجازات التي حققها شعاره (معكم معكم يا علماء)، كنتُ قد طرحتُ في أحد الملتقيات الخاصة، كتلة أسئلة على شعار (معكم معكم يا علماء)، كانت الأسئلة:

ما معنى هذا الشعار؟ وما مضمراته؟ ومن هم هؤلاء العلماء؟ وهل هو شعار مقدس؟ وكيف تمت صياغته؟ وكيف تم تداوله؟ وكيف يمكن قراءته وتفكيكه؟ وإلى أي حد تشكل هذه القراءة أو التفكيك خطورة على القارئ المفكك؟ وهل هو شعار المرحلة السابقة أم المرحلة الحالية أو هو شعار كل مرحلة؟ من هم جيل معكم معكم يا علماء؟ ما ملامح هذا الجيل الثقافية؟ كيف صاغ هذا الشعار ثقافة هذا الجيل؟ كيف يفكر هذا الجيل من خلال هذا الشعار؟ ما الأنساق الثقافية التي يضمرها هذا الشعار؟ ما طبيعة العلاقة بين أطراف الشعار أي ما طبيعة العلاقة بين حاملي هذا الشعار والعلماء؟ هل هناك إمكانية لإيجاد شعارات جديدة؟ إلى أي حد يمكن لقوانين أمن المجتمع أن تتسامح مع هذه الأسئلة؟

أثارت الأسئلة ردود فعل متباينة، تكشف في وجه من وجوهها شقوق المجتمع الذي صُنع فيه هذا الشعار، وتكشف عن المعاني المتعددة التي يحملها، والاستخدامات التي ينتهي إليها، والسلطات التي يمثلها.

المهندس ياسر علوي، كان يقرأ الأسئلة المطروحة على الشعار من خلال نسق المعية في ثقافتنا "موضوع جدير بالدراسة ولكن, هذا الشعار هو السائد في المجتمعات العربية منذ أيام الجاهلية إلى الآن. وما يهمنا هو جيل التسعينيات، فقد رفع هذا الشعار الماركسيون عندما هتفوا معك معك يا لينين أو معك معك ياماوسيتونغ, ورفعها الناصريون عندما هتفوا معك معك يا ناصر، ورفعها أيضا المتملقون عندما هتفوا معكم معكم يا حكام، أما هذا الجيل فهو جيل الإسلاميين فرفعوا هتاف معكم معكم يا علماء وهكذا"

أبوقاسم، الإسلامي، اليساري السابق وجد في الأسئلة تفكيكا للطائفة لا تفكيكا للشعار" لو حاولت أن تحب طائفتك حبا آخر سمّه ما شئت من المسميات، لما جالت في خاطرك هذه الأسئلة، (معكم معكم يا علماء) شعار قديم قدم الطائفة ومعاناتها ومظلوميتها. لم تفكيك الشعار؟ هل إثارتك لهذه الأسئلة يعني أن الطائفة تسير وراء العلماء دون وعي ولا تفكير،الفقراء المظلومون يسيرون وراءهم.هذا الشعار كان وسيكون لمراحل قادمة. نحتاج إلى الكثير من القراءة في فكر الطائفة المعارض وتاريخ الحركة الدينية في البحرين أليس كذلك؟"

كاتب العمود الصحفي الأكثر جدلا، عقيل سوار، وجد الأسئلة مُهدَّدَةً مأزق التخوين الذي يوقعنا فيه تقديس الشعار"ألا تعتقد أننا بحاجة لأن نتحدث بإسهاب عن شعار معكم معكم يا علماء, وبوصفه معادل موضوعي, لكل ما هو غير ديمقراطي, وغير متحضر. إن مأزقنا مع هذا الشعار هو نفس المأزق مع شعار البرلمان هو الحل!!. فنحن نعرف أن البرلمان ليس حلا لمشاكل البحرين حتى في أحسن حالاته, ومع ذلك لا نستطيع أن نقول هذا, دون أن نتهم بخيانة ثوابت الناس؟؟"

المصور وكاتب القصة حسين المحروس، يفرق بين مأزق الداخل ومأزق الخارج "يبدو لي هنا مآزق كثيرة، لا أتفق مع عقيل في أن مصدر المأزق واحد في الشعارين: معكم معكم يا علماء والبرلمان هو الحل! ففي حين يصدر الثاني نتيجة صراع مع الخارج( السلطة/ أمن الدولة) فإن الثاني يعبر عن مأزق مع الداخل(الناس/العلمانيين/المستقلين/اليسارين/المثقفين) لكن ربما تكون نتيجة نقد الشعارين مؤلمة.

إن تقديس العلماء يأتي من ناحيتين متعاكستين تماماً: الأولى أن الذين يرون فيهم الحل أكثر من أي شيء آخر هم مقدسون بلا شك وهي الصيغة التي أنتجت ( معكم معكم ياعلماء) لكن – الثانية – ألا يمكن أن ننعت أولئك الذين يرون العلماء هم مصدر الفتن والبلوى والتخلف مقدسون لهم أيضاً؟ بمعنى أن هذه الرؤية تصدر عن تقديس لقدراتهم وتهويل؟"

الشعار علامة، وبقدر ما تكشف هذه العلامة من وجوه ثقافتنا ومجتمعنا، تكتسب قراءتها أهمية، القراءات السابقة ألمحت -وإن كان بعضها يصدر عن منافحة لا عن قراءة- إلى وجوهٍ من الوجوه التي يتبدى فيها هذا الشعار في تداوله العام، فهو يتبدى في شكل سلطة ونسق وانتماء ومأزق وحب ومولاة وشك. وهذا ما يجعل من الشعار مركباً قابلا للتصريف في وجوه شتى.

وربما يكون كل وجه من هذه الوجوه سبباً في أن أسئلتي بقيت مكانها في محيط التداول الخاص، ولم تخرج إلى فضاء التداول العام، لم يكن السياق حينها مواتياً للتفكير فيها تفكيراً نقدياً.

§ اهتزازات الشعار

ما بين 2002 و2006 جرت مياه كثيرة على هذا الشعار، فقد فيها وجوهاً من معانيه، وظلالاً من وحيه. في ملتقى البحرين الإلكتروني، تتبدى آثار هذه المياه، كما لا تتبدى في أي مكان آخر، فهو ساحة التداول الشعبية العامة المتخففة من شروط الضبط والمراقبة التي يفرضها العُرْف والقانون والسلطة.

في هذه الساحة تتبدى دورة حياة الشعار، في 2004 مع بداية عمل اللجان الشعبية التي تولت ملفات البطالة والإسكان، بدأ الشعار يهتز، وبدت حياة العلماء معرضة للاهتزاز في هذا الشعار، لم يعودوا يُحيَون في هذا الشعار، لم يعد شعارهم، في هذه اللحظة، ولا مؤسستهم الرمزية.

وبدأت لحظات تململ من ثقله، فقد أًصبح سلطة تثقل حركة الشارع الميَّال إلى الخفة والتحرر من نَفَس القنوات الرسمية والسياسية التي انخرطت فيها جمعية الوفاق وعلماؤها الذين هم الآباء المؤسسون لشعار (معكم معكم ياعلماء) بل هم أنفسهم العلماء الذين يحيل إليهم الشعار، هم من جعلوا من هذا الشعار مؤسسة يديرون بها الشارع، ومع تحول هؤلاء العلماء إلى العمل في مؤسسة يديرها قانون الدولة ونظام السلطة، بدأ الشارع عبر ساحات التداول الافتراضية يصرخ" ويش الأشياء التي سوتها الوفاق والعلماء لتحريك قضية العاطلين حتى نثق بأنهم سيتحركون على قضية العاطلين؟ هلل وردد معكم(…..) أو معكم يا ثائرين؟!"([6])

بدأت إذن لحظة تفكك المعية، وتشييد معية جديدة، لكن هل هو تفكك للمفهوم أو تفكك للمصداق؟ أي هل هو تفكك لمفهوم العلماء أم تفكك لمن ينطبق عليهم مفهوم العلماء؟

§ المعية الشيعية

المعية تضمر في داخلها مشكلة: مع من نكون؟ من يقودنا؟ من هو إمامنا؟ من هو وراث خط النبوة؟ من هو وراث خط الإمامة؟ أسئلة المعية، هي نفسها أسئلة هذه المشكلة، وهي أسئلة لا يقلقها المفهوم، بقدر ما يقلقها المصداق، أي لا يقلقها مفهوم القائد، بل يقلقها من يصدق عليه مفهومها للقائد.

المعية في ختم الذهنية الشيعية، يحددها مفهوم هذه الذهنية للعالِم (رجل الدين) ، وهو مفهوم محكوم بثلاثة شروط: العمل، ومقاومة السلطة أو الاستقلال عنها، والزهد في الدنيا. وهي ثلاثة شروط متداخلة، وبعضها يحيل إلى بعض، وبعضها يكاد يكون شرطا لبعض.

يورد ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني (ت/329هـ) في كتاب الكافي الذي هو أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الشيعة، مجموعة من الأحاديث التي تمثل في مجموعها مفهوم الذهنية الشيعية للعالِم "… وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنبياء إِنَّ الأنبياء لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلا دِرْهَماً وَلَكِنْ وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ… ".. يعني بالْعُلَمَاءِ مَنْ صَدَّقَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ فِعْلُهُ قَوْلَهُ فَلَيْسَ بِعَالِمٍ… إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَالِمَ مُحِبّاً لِدُنْيَاهُ فَاتَّهِمُوهُ عَلَى دِينِكُمْ فَإِنَّ كُلَّ مُحِبٍّ لِشَيْ‏ءٍ يَحُوطُ مَا أَحَبَّ… أَوْحَى الله إِلَى دَاوُدَ (عَلَيْهِ السَّلام) لا تَجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَالِماً مَفْتُوناً بِالدُّنْيَا فَيَصُدَّكَ عَنْ طَرِيقِ مَحَبَّتِي… الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ مَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا قِيلَ يَا رَسُولَ الله وَمَا دُخُولُهُمْ فِي الدُّنْيَا قَالَ اتِّبَاعُ السُّلْطَانِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَاحْذَرُوهُمْ عَلَى دِينِكُمْ… يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعُونَ ذَنْباً قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ… وَيْلٌ لِلْعُلَمَاءِ السَّوْءِ كَيْفَ تَلَظَّى عَلَيْهِمُ النَّارُ"([7])

الكتب المعتمدة، ليست معتمدة الرواة والأحاديث فقط، بل إن مفاهيمها للحياة وتفاصيلها معتمدة أيضاً عند الجماعة التي تؤمن بها، المعتمد يمثل الكتاب الصحيح أو الكافي (Canon) الذي تعتمده جماعة معينة ضمن حقل معين، مجموع هذه الأحاديث يشكل المفهوم الشيعي المعتمد للعالِم (رجل الدين).

وهو مفهوم ظل فاعلاً في الذهنية الشيعية، بما يمثله من امتداد لخط الإمامة التي هي امتداد لخط النبوة (الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنبياء). مجموع هذه الأحاديث يشكل أفق التوقع الشيعي لطبيعة العالم ودوره وصفاته وسلوكه وعمله، ويشتغل هذا التوقع معياراً في تحديد من هو العالم الحق؟ ووفق هذا التحديد تكون المعية، ويكون مصداقها.

§ عمل المعية

العمل من أجل الآخرين والآخرة هو الشرط الذي تعتمده الذهنية الشيعية في تحديد مفهومها للعالم، الآخرين هو كل ما هو خارج مصلحتك الذاتية، هو الأمة وما يكون في مصلحتها، يبقى الزهد أحد متطلبات العمل، لا يمكنك أن تعمل من أجل غيرك وأنت مفتوناً بدنياك أو محباً لها أو مورِّثاً فيها أو متبعاً لها، ولا يمكنك أن تعمل من أجل الأمة وأنت تابع للسلطان، السلطان يريدك له، والعمل يريدك للناس، العمل يتطلب استقلالاً عن الدنيا والسلطان (الدنيا اتباع السلطان) لابدّ أن تعمل على الانفكاك من هذا الاتباع، وذلك بالزهد في الدنيا والسلطة والسلطان. العمل الذي يصنع معية العالم أي قيادته وإمامته وكينونته، هو العمل السياسي الذي هو مقاومة للدنيا (السلطان) بالاستقلال عن السلطة أو بالثورة عليها.

كان شعار (معكم معكم يا علماء) مؤسسة، لأن العالم في الذهنية الشيعية مؤسسة رمزية لها شروطها وقوانينها وأعرافها ومتطلباتها، وهي مؤسسة فاعلة ونشطة، ويتداخل فيها الديني بالسياسي والدنيوي بالأخروي والفعل والقول.

المعية الشيعية محكومة بأفق توقع الذهنية الشيعية للعالَم، لذلك كان شعار (معكم معكم يا علماء) يتضمن في داخله قوة وسلطة بما يملكه من شروط المعية وأفقها الذي تصنع به شارعها ومُشرِّعها (العالم) ومشروعها.

§ موت المعية

انتهت دورة حياة المصداق، لكن لم تنته دورة حياة المفهوم، انتهى استخدام شعار (معكم معكم يا علماء) بفقد قدرته وقوته التمثيلية، انتهت معيته الزمنية، انتهت سلطته، انتهى مصداق معيته، لكن مفهوم معيته سيتجدد في دورة حياة أخرى، في استخدام آخر أو في زمن آخر أو في سياق آخر، كما هو الأمر في شعار (المرجعية خط أحمر) أو في شعار مسيرة العلماء ضد قانون الأحوال الشخصية (لبيك يا إسلام).

ستعلن ساحة بحرين أونلاين الافتراضية عن انتهاء دورة حياة هذا الشعار، كما كانت هي نفسها قد أعلنت عن ولادته في ساحتها الواقعية أمام منزل الشيخ الجمري. سيكون الشعار حجة على العلماء، بعد أن كان جبهة للعلماء.

ستعلنه عبر نداءات الاستنكار واليأس " الى متى يا علماااااااااااااااااااااااااااااااء ؟؟؟؟؟ فطسناااااااااااااااااااا… الى متى يا علماء الى متى يا علماء الى متى يا علماء …؟؟

حسووووا فينـــــــاااا ..حسوووووووووووووووووووووووووووووووااا.."

صار الشعار لا يحس لا يشق عن جرح، لا يسمع لا يلبي نداء لا يحقق مطالب، وحين يفقد الشعار قدرته على أن يلبي مطالب شارعه يفقد شعريته وشرعيته، أي يفقد قدرته وقوته وإنجازه في أن يكون فعلاً كلامياً، سيكون مجرد ذبذبات صوتية، لا تعني شيئاً.

" بس ما ينفع ..لأني قاعد آآذن في خرابه ..ولا لهذا صوتي لا يصل الى آذانكم ..

واذا وصل ..فسووفه يخرج من الآذن الثانية ..وهذا نحن في دوامة الذبذبات الصوتية"


[1] ) دعاة حق وسلام، خطابات الشيخ الجمري بين الاعتقالين، سبتمبر1995- يناير1996م.ص13.

[2] ) المصدر نفسه، ص36.

[3] ) المصدر نفسه، ص6.

[4] ) البناء على بيار بورديو، علي سالم ، ص72.

[5] ) النص والسياق، فان ديك. ص228.

[6] ) ملتقى البحرين، www.bahrainonline.org

[7] ) أصول الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، كتاب فضل العلم.