أرشيف التصنيف: حوارات

علي الديري: أردت وضع إصبعي في وجه الوحش الذي يهدّدني

حاورته جنى فواز الحسن

كاتب بحريني شاء أن يضع إصبعه على مكمن الجرح، فكان مصيره النفي والإبعاد عن وطنه الأمّ. سحبت السلطات البحرينية الجنسية من الكاتب والأكاديمي والصحافي بسبب تعبيره عن رأيه بشكل واضح وصريح بلا مواربة، حسب تعبيره.

صاحب كتاب “خارج الطائفة” طرح تساؤلات حول ثنائية الخارج والداخل، الوجود خارج الطائفة وداخل المدينة والدولة والوطن، مدافعاً عن علمانية الفكر. لكنّ إلى أيّ مدى نتمكّن النفاذ فعلياً من مجتمعات تدفعنا إلى مذاهبنا حتّى إن شئنا أن نترك معتقداتنا الدينية للممارسات الخاصة؟

تجربة الديري مؤلمة وموجعة من دون شك، ليس له فقط، بل لمن يشاركه همّ رفع الهوية الإنسانية أعلى من أيّ هوية أخرى. عاد مؤخّراً الديري بمؤلّف جديد  «نصوص متوحشة… التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية»  صادر عن (مركز أوال للدراسات والتوثيق)، يناقش فيه الكاتب نصوصاً “متوحشة” من التراث الإسلامي ليحفر في التأريخ بحثاً عن أجوبة لمأساة الحاضر.

كان لموقع (إرفع صوتك) هذا اللقاء مع الكاتب علي الديري حول مؤلّفه الجديد وتجربته الشخصية وما يمكن القيام به لمواجهة “وحش التطرف” الذي يغزو منطقة الشرق الأوسط اليوم.

علي الديري: يجب على المثقف أن يكون خارج الطائفة

ثم سألناه: تعود في كتابك “نصوص متوحشة” إلى التأريخ والنصوص التي يستند عليها نهج التكفير. هل أزمتنا الحالية أزمة نص أو أزمة سلوك – أي لو لم يكن النص موجودًا كمسوّغ للتطرف، هل كان المتطرفون ليجدوا مسوّغاً آخر؟

الديري: نحن أساساً حضارة نص. حركتنا محكومة بمدونة من النصوص هي كتب الأحاديث. نحب بنص ونكره بنص ونتزوج بنص ونأكل ونشرب بنص ونحارب ونسالم بنص. حركات التطرف اليوم تجيد اللعب بالنصوص والنطق بها وإعادة الواقع وما يحدث فيه إلى هذه النصوص. تأمل في أفواه من يأمرون بالقتل ويرسلون مفخخاتهم إلى المختلفين معهم، ستجدها تنطق بنصوص التوحش، تقذفها وفق بوصلة التجاذبات السياسية. لا يمكن لأي جماعة أو حركة أن تنشئ خطاباً جديداً في المجتمع بدون نص يعطي لخطابها مشروعية. نحن أمة من النصوص المسيجة بالتقديس المحمي بالسياسة. الدليل هو النص وما يقتضيه، وتميل مجتمعاتنا حيث يميل طرف النص، ولا دليل خارج النص، والعقل في خدمة النص، والنص مقدم على العقل.

وسألناه: حين ندرك أنّ التطرّف أو التكفير متجذّر في مجتمعاتنا، يصبح بهذا أيضًا جزءا من تراثنا. هل تعتبر هذه النصوص تأريخا أو تراثا؟

الديري: دعنا نسأل هل صار ابن تيمية تأريخا أم ما زال موروثاً ناطقا بكل ما فيه في واقعنا. هذه النصوص ما زالت تراثاً، لم تتحول إلى تاريخ. نحن ورثة ماضٍ لا يمضي، يشبه نهراً يتدفق بالنصوص. تركتنا ثقيلة، وهناك صراع رمزي ومادي حول استملاك هذا التراث. منذ 14 قرناً لم يتوقف جيل من أمتنا عن توريث صراعاته وأنماط حياته. حين يتوقف ذلك ستكون هذه النصوص تأريخاً للتأمل والفهم. نصوص الغزالي في تكفير الباطنية والشيعة ومختلف الأقليات وتقتيلهم وسبي نسائهم مازالت تُوَرّث. ولولا هذا التوريث ما شاهدنا هؤلاء الأبناء يستخدمون هذه النصوص بحرفيتها.

سؤال: في ظلّ صعود التشدّد والنزعة للإقصاء، ما الثمن الذي دفعه علي الديري لتطرّقه إلى الموضوع؟

الديري: حالياً أنا من غير جنسية وخارج وطني، وكتابي ممنوع في بلدي البحرين، وأنا في إعلام بلادي خارج عن طاعة ولي الأمر، وخائن لوطني وغير مسموح لأي وسيلة إعلامية هناك أن تجري حواراً صحفيا معي حول كتابي. ولو كنت هناك، من المؤكد أني سأحاكم وأسجن بتهمة إهانة رموز إسلامية كشيخ الإسلام ابن تيمية، وسيضاف لها قائمة تهم طويلة، لن يكون أقلها التعريض بأهل السنة والجماعة والسلف الصالح.

الديري: حين خرجت عن السلطة السياسية.. تمّ إسقاط الجنسية

سؤال: تتبعت تطوّر المفهوم التأريخي للتطرّف من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية. لماذا لم توسّع دائرة التطرّق لمذاهب وديانات مختلفة كي لا تنهال عليك الاتهامات بمهاجمة الإسلام فحسب؟

الديري: أنا لم أوسع دائرة نصوص التوحش. لا يمكنني القول إن مشكلة التوحش موجودة في الأديان كلها، وفي المذاهب كلها، والطوائف كلها، ولا تخلو منها  الفترات التأريخية كلها. ومن ثم فإنّ ظاهرة داعش وأخواتها ليست وحدها. هذا النوع من التوسعة يضيع الجواب، ويريح أصحاب ظاهرة التوحش. أردت أن أضع إصبعي في عين الوحش الذي يهددني الآن. أردت أن أعري مرجعيته النصية التي يتحدث باسمها وينطق بمسلماتها. صغت فرضية ضد مسلماته التي تنص على أنّ نص التوحش نص سياسي، وإن إنتاج هذه النصوص صار سياسة ممنهجة في الدولة السلجوقية في منتصف القرن الخامس الهجري تقريبا.ً العلماء الكبار الذين عاشوا في بلاط سلطة السلاجقة هم من صاغوا هذه النصوص في سياق الحرب بين الخلافة العباسية الممسوكة بسلطة السلاجقة والخلافة الفاطمية.

سؤال: نسمع دائماً النداءات حول الإسلام الحقيقي وجوهره. ما هو الإسلام الحقيقي من وجهة نظرك، وهل من ضرورة لإعادة فتح باب الاجتهاد لتصويب المفاهيم الدينية؟

الديري: الإسلام الحقيقي يقدم نفسه في صيغة أرثوذكسية مفروضة من قبل سلطة سياسية، بدا في عصر السلاجقة هو إسلام الأشاعرة، أي الإسلام الذي يقدم الأحاديث والروايات ويرفض الفلسفة والتأويل العقلاني على طريقة المعتزلة. وهذا الإسلام تحول إلى سلطة سياسية تنطق باسمه، سلطة السلاجقة بالعراق وفارس وسلطة الزنكيين بالشام وسلطة الأيوبيين بمصر. والإسلام الحقيقي بدا في عصر المماليك هو إسلام السلفية على طريقة ابن تيمية وأحمد بن حنبل، ولم يجد هذا الإسلام سلطة سياسية تتبناه حتى ميثاق الدرعية في 1745م بين رجل الملّة محمد عبدالوهاب ورجل الدولة محمد بن سعود، فصارت عقيدة ابن تيمية السلفية عقيدة رسمية للدولة السعودية الأولى. وهي تقدم نفسها اليوم باعتبارها تمثل الإسلام الحقيقي.

سؤال: كيف يمكن محاربة توحش النصوص؟

الديري: يمكن محاربة الوحش في هذه النصوص بتفكيك سياقه السياسي بالدرجة الأولى. نحتاج حركة نقدية تقرأ هذه النصوص قراءة تاريخية، تبين كيف وضعت السياسية هذه النصوص في خدمتها ضد خصومها السياسيين. وهذا ما فعلته في هذا الكتاب (نصوص متوحشة… التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية) بتفكيك السلطة السلجوقية والزنكية والأيوبية والموحدية والمملوكية. وهذا ما تعلمته من المفكر محمد أركون الذي عمل منذ فترة مبكرة على نزع القداسة عن هذه النصوص وكشف تكوينها السياسي والتأريخي، وهو أول من استخدم مصطلح الأرثوذكسية لوصف السلفيات التي تقدم نفسها تمثل حقيقة الإسلام ضد خصومها.

الديري: تجربتي الوجودية صارت أكبر من وطني

المصدر: موقع ارفع صوتك

رابط الموضوع: http://www.irfaasawtak.com/bahraini-writer-interview/

[/et_pb_text][/et_pb_column][/et_pb_row][/et_pb_section]

علي الديري: «أخطر حتى من داعش» رحلة مثيرة في نصوص متوحشة

دعوة تدشين كتاب نصوص متوحشةجريدة الجريدة الكويتيةحاورته أفراح الهندال

فكرتان رائجتان اليوم حول نشأة تنظيم «داعش» الإرهابي. «إنه رد على تحديات عصرنا». هذه واحدة من الأفكار التي يدافع عنها أحد أبرز الفلاسفة السياسيين إثارة للجدل في عصرنا فرانسيس فوكوياما. لكن ماذا لو أنها لم تكن كذلك، وكانت «داعش» على العكس تماماً فكرة عميقة الجذور وأبعد زماناً من زماننا بكثير. على الأقل، هذا ما يدافع عنه الناقد د. علي الديري الذي انتهى حديثاً من رحلة بحث غاص فيها في عشرات بل مئات الوثائق والمصنفات التي تمثل ما يمكن اعتبارها نصوصاً مؤسسة للفكر الإرهابي. إنها «النصوص المتوحشة» أو نصوص التوحش التي تستند إليها حركات التطرف كافة في تأصيل فكرها ومنهجها الدمويّ. وهي نفسها عنوان الكتاب الذي دوّن فيه خلاصات هذه الرحلة البحثية الشاقّة والصادر حديثاً (2015) عن مركز أوال للدراسات والتوثيق «نصوص متوحشة… التكفير من سنة السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية». وحول ذلك يقول الديري: «ذهبت إلى النصوص المؤسسة، قاربت نصوص التكفير؛ كنصوص سياسية لا فقهية».

حاول الديري تتبع جذور «داعش» ليس من الآن؛ إنما انطلاقاً من نصوص التكفير في القرن الخامس الهجري (الغزاليّ) مروراً بالقرن السادس الهجري (ابن تومرت) وانتهاء بالقرن الثامن الهجري؛ حيث بلغ التكفير أوج قوّته مع إسلام ابن تيمية. ويجادل بأن هذه النصوص «هي التي تغذي التكفير الذي يستخدمه داعش اليوم وأخواته»، موضحاً «بضغطة زر في يوتيوب يمكنك أن تعثر على دروس  تركي البنعلي وهو يشرح هذه النصوص منذ أن كان في البحرين».

 للمزيد حول ذلك التقينا الناقد علي الديري للحوار حول مؤلفه الجديد.

«نصوص متوحشة».. وأفعال كارثية مدمرة، رأينا نتائجها في الوطن العربي، وها هي تفجع المملكة العربية السعودية والكويت وتهدد الدول المجاورة، ما الذي يحدث؟

في الوقفة الاحتجاجية على الفيلم المسيء للنبي، أمام السفارة الأميركية بالبحرين في 2012، وقف منظر داعش الشرعي تركي البنعلي محاطاً بأعلام القاعدة وتكبيرات الجمهور، وهو يرفع كتاب ابن تيمية (الصارم المسلول على شاتم الرسول): “عليكم أن تأخذوا إسلامكم من الإمام الجبل الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث صنف هذا الكتاب لما تجرأ عساف النصراني على شتم الرسول”.

هذا الكتاب واحد من نصوص التوحش، التي لا نجرؤ على نقدها، بل هي تحظى بحماية ورعاية وترويج، وتعتبر منهجاً فكرياً مشتركاً لحركات متطرفة ولنظام سياسي له سطوته في السياسة الإقليمية والدولية. تفجيرات مساجد الشيعة في الدمام والقديح والصوابر وقبلها في مأتم الدالوة، كلها تمت من خريجي هذا المنهج وأتباعه. والمثقفون والإعلاميون لا يجرأون على قول هذه الحقيقة، بل هم يغمغمون عليها، فيفاقمون من أمراض التوحش في بيئاتهم.

إنها نصوص منسلخة من الإنسانية، يستدل بها ابن تيمية في كتابه (الصارم المسلول( على القتل البشع الذي يمارسه (داعش) اليوم، كما في استدلاله بقتل الشاعرة الهجاءة عَصْمَاءَ بِنْتَ مَرْوَانَ، برواية موضوعة.

ومن هنا اتخذ كتابك الجديد «نصوص متوحشة» عنواناً، ماذا عن تصدر شعار حركة «داعش» مموهاً، لم اخترت هذا التشكيل عنوانا لكتابك الجديد؟

اللوحة للصديق الفنان التشكيلي البحريني عباس يوسف، نشرها على صفحته في الفيسبوك، مع صعود نجم {داعش} ودخوله الموصل، وجدتها تعبر عن مفهوم {نصوص التوحش} تعبيراً فنياً رائعاً، هي تستخدم شعارهم مقلوباً في إشارة إلى أنهم يقرأون النصوص قراءة مقلوبة، ويفهمون شعار الإسلام فهماً مقلوباً، يفهمون الرحمة توحشاً والتوحيد توحداً بمعنى أنهم وحدهم الذين لا شريك لهم في فهم الإسلام وكل ما عداهم مشركون وكافرون ويجب قتلهم ليبقوا وحدهم. في داخل اللوحة ثمة علامة استفهام، وهي تثير تساؤلاً عن الإله الذي يتكلم باسمه هؤلاء والرسول الذي يدعون أنهم يطبقون رسالته.

في مقابل هذا الفهم الساذج المتوحش لـ “لا إله إلا الله”، ثمة الفهم الصوفي العميق في روحانيته، كما في تجربة جلال الدين الرومي مثلاً وهو يقول “من ذا الذي نجا من (لا) – قل لي؟ -هو العاشق الذي رأى البلاء”. يقيم الرومي جدلاً روحياً بين (لا)، و(إلا) في “لا إله إلا الله” لكل منهما مقامها الروحي الذي يفتح قلب الإنسان على الكون وكائناته وإلهه.

قبال تجربة العشق، ثمة تجربة التوحش التي جعلت لشعار “لا إله إلا الله” معنى وحيداً هو “جئناكم بالذبح”. وجدت في لوحة عباس يوسف هذا العمق المعبر عن كل ذلك.

تطرف الإسلام السياسي

ركزت على حركة “داعش”، أتجدها وفق هذا العنوان الجماعة الإسلامية الأكثر تطرفاً أم تجدها مثالاً يمكن أن نقرأ من خلاله تطرف الإسلام السياسي، أياً كان مذهبه؟

ينطلق كتابي (نصوص متوحشة… التكفير من سنة السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية) من لحظة داعش الآن، لكنها ليست موضوع الكتاب، فأنا ذهبت إلى النصوص المؤسسة، قاربت نصوص التكفير؛ كنصوص سياسية لافقهية.

حاولت قراءة نصوص التكفير قراءة تاريخية، في ثلاث بيئات سياسية، استخدمتْ التكفير ضد أعدائها: بيئة السلطة السلجوقية {القرن الخامس الهجري}، من خلال نصوص الغزالي، وبيئة سلطة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وبيئة سلطة المماليك (القرن الثامن الهجري) من خلال نصوص ابن تيمية.

يتغذى التكفير، الذي يستخدمه داعش اليوم وأخواته، من هذه النصوص. على سبيل المثال تغذي هذه النصوص منظر داعش الشرعي تركي البنعلي، وبضغطة زر يمكنك أن تعثر في اليوتيوب على دروسه وهو يشرح هذه النصوص حين كان في البحرين، والأكيد أن طلابه ما زالوا يواصلون رسالته، وربما أحدهم يعد عدته لتفجير يوم الجمعة المقبل.

بين فكر متشدد تكفيري وفكر يدعو إلى الانفتاح والعقلانية وجدت الصورتان على السواء، ما قضية الأوطان مع الأفكار؟

الوطن هو فعلاً فكرة، فكرة الوطن في زمن الخلافة الإسلامية، ليست هي نفسها فكرة الوطن اليوم بعد أن راح عشرات المفكرين والفلاسفة يصوغون مفاهيم: المواطنة، العقد الاجتماعي، السلطات الثلاث، التعددية، الدستور، وقد دفعوا حياتهم ثمناً لهذه الأفكار.

ما زلنا نصارع لأجل بلورة الوطن واقعاً حقيقياً نعيش فيه، وأعني المعنى المباشر لكلمة صراع الذي يهدف إلى تحقيق اعتراف، اعتراف بي كمكون للوطن، لا كتابع أو ملحق. أفهم وجود صورتي في قائمة واحدة في يناير 2015 مع منظر{داعش} في صحيفة رسمية في وطني، انتقاصاً من مواطنتي وما أنتمي إليه من طيف سياسي واجتماعي وديني.

وكما دفع روسو وفولتير وغيرهما حياتهم ثمناً لبلورة مفاهيم الدولة الحديثة، فعلينا نحن كمثقفين، وكمثقفين خليجيين خصوصاً، أن ندفع حياتنا ثمناً لتحقيق هذه المفاهيم في أوطاننا التي هي شبه أوطان.

أرثوذكسية السلاجقة

 ماذا تعني بعنوان الكتاب الفرعي (التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية)؟

أظن أن التكفير صار سياسة ممنهجة ضمن إدارة الدولة ومصالحها، في القرن الخامس الهجري، حين وصل السلاجقة إلى بغداد 447 هـ/ 1055م وصارت الخلافة العباسية تحت سلطتهم.

هذا لا يعني أن السلاجقة اخترعوا التكفير، أو المعنى الأحادي لمفهوم سنة النبي، فقبل أن يدخلوا إلى بغداد كان ثمة المعتقد القادري الذي هو النموذج الرسمي المقنن للمعتقد الصحيح لسنة النبي، وهو مرسوم أصدره الخليفة العباسي القادر بالله، وفيه يحدد مفهوم الألوهية والصفات والأسماء المثبتة لله، ومفهوم الإيمان والكفر، والاعتقاد الواجب تجاه الله وتجاه الصحابة. وجد السلاجقة مهمتهم في الدفاع عن الإسلام والسنة، تتمثَّل في تبني هذا الاعتقاد والدفاع عنه، كان هذا المعتقد يُخرج ويقرأ على الناس في المشاهد والمجامع العامة، وفي المساجد والجوامع، وعند حدوث الاضطرابات والنزاعات العقدية بين الفرق والمذاهب، اعتبر هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر.

 ماذا تعني بالسنة أو الأرثوذكسية السلجوقية؟

يعتبر المفكر الجزائري محمد أركون، أول من أستخدم  مصطلح تفكيك {الأرثوذكسية} في قراءته التراث الإسلامي و{الأرثوذكسية} في معناها الحرفي تشير إلى الطريق المستقيم؛ بما يتقاطع مع مفهوم الفرقة الناجية والسلفية، والطريق المستقيم هو بمثابة السنّة الصحيحة المعتمدة من السلطة السياسية.

احتاج السلاجقة إلى جيش من الفقهاء والقضاة والعلماء والخطباء والمحدثين، لتثبيت مهمتهم الدينية المتمثلة في الدفاع عن السنة الرسمية وتثبيت {الأرثوكسية السنية السلجوقية} وهذه المهمة تعطي لوجودهم شرعية وتعطي لحروبهم ضد أعداء الخلافة العباسية شرعية مضاعفة.

السلاجقة المعروفون بأنهم جماعات قتالية، أخذتهم شهوة الجهاد، وأعطوا لـ{السنة} مفهوماً أحادياً وقطيعاً لا يقبل التعدد والاختلاف، صارت {السنة} أيديولوجيا جهادية، مشبعة.

حوار جريدة الجريدة الكويتية

حوار مع البحريني علي الديري: "داعش" تجلٍّ للنصوص المتوحشة للإسلام السلجوقي

بغداد – العالم الجديد

الخميس 6 آب 2015

“نصوص متوحشة…التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية” كتاب الناقد والكاتب البحريني الدكتور علي أحمد الديري. يُتوقع له أن يثير جدلاً واسعاً، وذلك لسخونة الأحداث التاريخية الذي يبحث فيها.

يقتحم الديري بمشرط نقده منطقة تاريخية ملتهبة، وفترة زمنية متأججة بالصراعات العقائدية والحروب السياسية. المنطقة هي مصر والشام والعراق، في الفترة بين القرنين الخامس والسابع الهجري تحديداً، ومن هناك يبحث في نصوص الفقهاء التي جعلت من التوحش عقيدة دينية، وشرعنت التكفير والقتل، بل جعلته فرضاً جهادياً واجباً، كما يدخل في تناول السياقات التاريخية والسياسية التي صنعت هذه النصوص ووجهتها.

ما علاقة كل هذا بوقتنا الحاضر؟ ولماذا العودة إلى هذه النصوص؟ ولماذا هذه الفترة وهذه البقعة الجغرافية بالذات؟ وما الذي يريد الديري الوصول إليه؟ هذا ما سيتبدى لنا من خلال الحوار التالي.

  • سؤال: التوحش صفة في الغالب ترتبط بالحيوان فتصنفه ضمن دائرة الحيوانات المتوحشة. في حديثك عن النصوص المتوحشة، ما هو مفهومك للتوحش؟ وماذا تقصد بالنص المتوحش؟

    يحيل موضوع التوحش إلى عالم الحيوان، حيث لا مكان لعقل يتحكم بغريزة. وتوحش الإنسان يتحقق بفقدانه لعقله فيغدو مسيَّراً بالغريزة. وبالعادة الغرائز تضيق بالآخر وتتسع للأنا، فيها الأنانية والعنف. ما أقصده بالتوحش، هو حالة فقدان الإنسانية التي من أهم سماتها العقلانية لصالح سيطرة الحالة الغريزية المحكومة بالغضب والاستحواذ.

    يلفتنا الفيلسوف سلوترداك في كتابه (بنك الغضب) إلى أن طاقة الغضب التي في الإنسان وما يرتبط بها من دوافع أولية مثل الفخر والاعتزاز والانتقام والحسد والغيرة والتنافس، هي عرضة للاستثمار، عبر الخطابات التي تفجرها.

    والنصوص المتوحشة، هي النصوص التي لا تعترف بالآخر، فلا تكتفي بتكفيره بل توجب قتله. فهي النصوص التكفيرية التقتيلية.

    الظروف التي تمر بها المنطقة العربية والإسلامية، وظواهر التطرف والتكفير، أحالتني إلى مراجعة نصوص التراث الإسلامي، للبحث عن الأسباب المغذية لهذه النصوص التي تنضح بالكراهية فحسب، بل  بإعطاء المبررات الدينية للقتل، إنها تخلع شرعية دينية على فعل القتل.

  • سؤال: هل نفهم أنّ أحكام التكفير تستدعي القتل بشكل حتمي؟

    يلفتنا الباحث الانثروبولوجي المرحوم فؤاد الخوري، أنّه ما من دين أو طائفة أو ملّة أو فرقة إلّا وتعتقد أنّ الله عزّ وجلّ قد خصّها برسالة مميزة أو ميثاق مميّز، وأنّه في سبيل ذلك فهو يقف إلى جانبها يشدّ أزرها ويعمل على انتصارها بطريقة أو بأخرى. كلّ الأديان “شعوب مختارة”، وإلّا لما بقي المؤمنون على إيمانهم.

    علينا أن نميز بين التكفير والقتل، فالحكم بكفر الآخر يأتي من باب تحديده وفقاً لمنظور عقائدي معيّن، فالكافر هو الذي لا يؤمن بمعتقدات دينية لجماعة معينة، ونعته بالكافر تأتي من باب تحديد أنه خارج الإطار الديني الذي يجمع أفرادها. وقريب من هذا ما أسماه الشيخ أكرم بركاته في أطروحته للدكتوراه عن التكفير، بالإيمان المذهبي والإيمان الإسلامي، لكن هذا المصطلح قد لا يتوقف عند تحديد النظرة الدينية للآخر، بل قد يوجب قتله، وهنا يتحول النص الديني من مجرد نص تكفيري إلى نص متوحش، وهذا ما أهتم بمتابعته.

  • وضع نص الغزالي في قائمة نصوص التوحش صادمة، فنصوصه المعروفة تحتفي بالتصوف والحكمة؟

    أنا أتحدث عن الغزالي حين كان في بلاط السلاجقة قبل أن يدخل تجربته الروحية،  أبي حامد الغزالي صنف الآخرين من غير أهل السنة بين: ضال وكافر ومرتد، حتى وضع الإسماعيليين والفاطميين في خانة الفئة الأخيرة، وهي خانة تستوجب على الخليفة قتل المرتد وقتل زوجته وقتل ابنه إن لم يقبل الإيمان على منهج الخليفة.

    لكن الغزالي وتحديداً في كتابه “فضائح الباطنية” لم يعمد إلى رسم هذه الحدود وفق معيار ديني خالص، فموقفه من الإسماعيليين والفاطميين كان مبنياً على خلفية موقفهم من الخلافة العباسية، وبتعبير أدق جاءت هذه التصنيفات نظراً لعداوة هاتين الفئتين مع السلاجقة، الذين كانت بيدهم الشوكة، حسب تعبير الغزالي، وحكموا باسم المدافيعن عن الأرثوذكسية السنية، أي الطريق المستقيم الوحيد لفهم الإسلام وسنة النبي.

    في كتابه (فضائح الباطنية) يقول الغزالي “…وَإِنَّمَا الْوَاجِب قَتلهمْ وتطهير وَجه الأَرْض مِنْهُم هَذَا حكم الَّذين يحكم بكفرهم من الباطنية وَلَيْسَ يخْتَص جَوَاز قَتلهمْ وَلَا وُجُوبه بِحَالَة قِتَالهمْ بل نغتالهم ونسفك دِمَاءَهُمْ فَإِنَّهُم مهما اشتغلوا بِالْقِتَالِ  جَازَ قَتلهمْ”

    إنه نص مرعب، وحين تقرأ تفصيله لهذه الأحكام، يصاب بدنك بالارتعاش، لكم العنف والتوحش الذي فيها.

  • أعلنت أنك “خارج الطائفة” يوما.. وها أنت “خارج الوطن”. ألم تكن متهيئا لذلك وعدّتك الفكر ومناقشة التراث؟

    لم تكفرني طائفتي حين كتبت كتابي، ولم تهدر دمي، ولم أعزل اجتماعياً، أقصى ما حدث كان صراعات كلامية، لكني حين صرت (خارج السلطة) أصبحت في دائرة الاستهداف وأسقطت جنسيتي.

    المحنة تلاحق المثقف حين يكون (خارج السلطة أو السلطنة) ومنذ الخلافة الإسلامية، تمّ تحديد الكافر بأنه الخارج عن سلطة الخليفة، وخطاب التكفير مصاغ في تراثنا على هذا المقاس، وما زال حتى اليوم مقاساً فاعلاً، وأستطيع القول من جانب ما، إن التكفير في عصر الخلافة بمثابة إسقاط الجنسية في عصر الدولة الوطنية، وكلاهما يستخدمان أداة ضد المعارضين لسياسة الخليفة أو سياسة الحاكم.

    (الغزالي) مثلا كتب نصوص التكفير بإملاء الوزير السلجوقي الداهية، نظام الملك، وقد صاغ خطاباً فقهياً اعتبر فيه معارضي السلاجقة والخلافة العباسية مرتدين، يجب قتلهم وسبيهم، هكذا بجرة فتوى صارت الدولة الفاطمية بعظمتها خارج الإسلام، ومن يؤمن بخلافتها كافر مرتد.

  • كيف يمكن أن نكوّن مقاربة بين الكتب التراثية والحداثة، أو سمات العصر الحديث؟

    عليك أن تخرج منها أولاً، ثم تجعلها موضوعاً للاشتغال النقدي، أو أنك ستتسمم بها وتموت وتميت الآخرين معك. المثال الأكثر وضوحاً هنا هو بعض الجامعات السعودية المتخصصة في الدراسات الإسلامية، تستميت في في تحقيق كتب ابن تيمية وفتاويه وتعممها وتعد حولها مئات الدراسات، لكن ليس بهدف فهمها كجزء من التراث والماضي، بل بغرض بعثها والعيش عليها والتعلم منها وإنتاج نسخة من الإسلام مطابقة لها، تحت عنوان الإسلام السلفي أو الإسلام الحنبلي أو إسلام العصر الذهبي: إسلام النبي والصحابة والتابعين وتابعي التابعين.

    الموت الذي نعيشه اليوم هو نتيجة للموت الذي بعثناه من نصوص ابن تيمية، والقنابل التي تفجر اليوم في أجساد المصلين، شفراتها منصوص عليها في حروف ابن تيمية المتوحشة. يقول محقق كتاب ابن تيمية (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) “أما بعد فهذا الكتاب قنبلة من أقوى ما ألقى شيخ الإسلام على حزب الشيطان من قنابل الحق والهدى”

  • ماذا تعني بعنوان الكتاب الفرعي (التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية)؟

    أظن أن التكفير صار سياسة ممنهجة ضمن إدارة الدولة ومصالحها، في القرن الخامس الهجري، حين وصل السلاجقة إلى بغداد 447 هـ/ 1055م وصارت الخلافة العباسية تحت سلطتهم.

    هذا لا يعني أن السلاجقة اخترعوا التكفير، أو المعنى الأحادي لمفهوم سنة النبي، فقبل أن يدخلوا إلى بغداد كان هناك المعتقد القادري الذي هو النموذج الرسمي المقنن للمعتقد الصحيح لسنة النبي، وهو مرسوم أصدره الخليفة العباسي القادر بالله، وفيه يحدد مفهوم الألوهية والصفات والأسماء المثبتة لله، ومفهوم الإيمان والكفر، والاعتقاد الواجب تجاه الله وتجاه الصحابة.

    وجد السلاجقة مهمتهم في الدفاع عن الإسلام والسنة، تتمثل في تبني هذا الاعتقاد والدفاع عنه، كان هذا المعتقد يُخرج ويقرأ على الناس في المشاهد والمجامع العامة، وفي المساجد والجوامع، وعند حدوث الاضطرابات والنزاعات العقدية بين الفرق والمذاهب، اعتبر هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر.

  • ماذا تعني بالسنة أو الأرثوذكسية السلجوقية؟

    يعتبر المفكر الجزائري محمد أركون، أول من أستخدم  مصطلح تفكيك “الأرثوذكسية” في قراءته للتراث الإسلامي و”الأرثوذكسية” في معناها الحرفي تشير إلى الطريق المستقيم؛ بما يتقاطع مع مفهوم الفرقة الناجية والسلفية، والطريق المستقيم هو بمثابة السنّة الصحيحة المعتمدة من قبل السلطة السياسية.

    احتاج السلاجقة إلى جيش من الفقهاء والقضاة والعلماء والخطباء والمحدثين، لتثبيت مهمتهم الدينية المتمثلة في الدفاع عن السنة الرسمية وتثبيت (الأرثوذكسية السنية السلجوقية) وهذه المهمة تعطي لوجودهم شرعية وتعطي لحروبهم ضد أعداء الخلافة العباسية شرعية مضاعفة.

    السلاجقة المعروفون بأنهم جماعات قتالية، أخذتهم شهوة الجهاد، وأعطوا لـ(السنة) مفهوما أحاديا وقطيعا لا يقبل التعدد والاختلاف، صارت (السنة) أيديولوجيا جهادية، مشبعة بشهوة القتل وغريزة التوحش.

  • هل يمكن اعتبار الجماعات المتشددة الحالية امتدادا للسلاجقة؟

    أنا أعتبرها كذلك في جانب من جوانبها، فالسلاجقة جماعات مقاتلة لم تكن تجيد حتى العربية، ليس لديها خلفيات ثقافية، وجدت لذتها في الجهاد والقتال. جيوش السلاجقة وجدت في (تثبيت الأرثوذكسية السنية) فرصة لتثبيت شرعيتها في العالم الإسلامي السني، فالسلاجقة كمحاربين أتراك أشداء كانوا يفتقدون إلى العمق الحضاري أو الثقافي الذي يعطي لوجودهم معنى، إضافة إلى أنّهم بحاجة إلى شرعية تجعل من سلطتهم مبررة تحت مظلة الخليفة العباسي.

    وقبل أن يجدوا في الصليبيين العدو الذي يهدد الإسلام والخلافة الشرعية، وجدوا ذلك في الباطنية، وحين بدأت الحروب الصليبية تمّ توسيع دائرة العدو، فألحق الباطنية بالصليبيين، وتم تعميم صورة أكثر تشويهاً للفاطميين، فاعتبروا خونة وحلفاء مع الصليبيين وسببا في هزيمة المسلمين واحتلال بيت المقدس.

    لقد خلعت (الأرثوذكسية السنية السلجوقية) مدعومة بالسلطة السياسية (السلاجقة، الزنكيون، الأيوبيون) كل المعاني التأثيمية على كلمة (باطني)، وصار معنى السنة يتوضح بمعارضته لمدلول (الباطنية) التي صارت تدل على معاني متعددة وربما متضاربة من نحو: كافر، مرتد، منافق، إسماعيلي، فاطمي، رافضي، شيعي، يضمر الشر للإسلام، معادي للسنة، يكفر الصحابة، عدو، خائن، متهتك، ضال، مبتدع.

    صار الجهاد هو القيمة الأكثر حضوراً فترة الحكم السلجوقي وما انبثق عنه من حكم الزنكيين والأيوبيين، وصارت الأرثوذكسية السنية كما تبناها هؤلاء هي الأيديلوجيا المعبرة عن فكرة الجهاد، فصار قتال الصليبين والباطنيية مهمة جهادية أولى.

    شهوة الجهاد عند المقاتلين الأتراك أعطت لـ(السنة الصحيحة) مفهوما قاطعا كحد السيف، لا يقبل التعدد والاختلاف. فراحوا يوحدون الجغرافيا والأفكار والعقائد. هكذا تداخلت العملية العسكرية مع العملية الدينية عبر تجيير جيش من العلماء والقضاة والمحدثين والفقهاء وكتاب التاريخ، ليكتبوا بأقلامهم حدود العداوة والتكفير التي رسمها سيف الجهاديين الذين كانوا حماة الخلافة الإسلامية وشوكتها كما عبر الغزالي.

    رابط الموضوع

 

السيد سلمان الموسوي يحاورعلي الديري: (المقدسة) هكذا تحضر الدير في قلبي ولساني

أجرى الحوار: السيد سلمان الموسوي*

لتنزيل حوار السيد سلمان الموسوي مع علي الديري حول الدير المقدسة pdf

ابن القرية الذي تقدّس حبّها في قلبه؛ بيت والده ذو الغرف الكثيرة المفتوحة على هواء البحر، بساتين الطفولة قبل أن يغتالها سراق الأراضي، بحر الدير الذي قضى طفولته في سواحله، مساجد القرية التي كانت وقع خطوات تدينه الأولى، مأتم جدته سلامة الذي كان أول صالون ثقافي ينظمه، أصدقاء الطفولة، خباز جده لأمه حجي طرار، كلّها تشكل حنيناً خاصاً في ذاكرة الدكتور علي أحمد الديري (مواليد 1971).

الديري الذي اسقطت جنسيته البحرينية بقرار رسمي في 31 يناير 2015، يفتخر بجذوره الضاربة في قريته الدير، ولا يسعده مثل أن يقدّم نفسه من خلالها، ويتمنى العودة لساحاتها يوماً ليؤبن صديقه الشهيد زكريا العشيري الذي كانت آخر جملة وصلته عنه:  “أخشى عليه من الاعتقال”.

كانت الدراسة الحوزوية هي جهة طموحه الأول، قبل أن تأخذه تحولاته الفكرية إلى جهة الفكر والنقد وتحليل الخطاب، وقبل أن يشتغل في تحليل الخطابات الدينية والسياسية. ذهب عميقاً في دراسته الأكاديمية وأنجز عدداً من الكتب بينها كتاب “خارج الطائفة” 2011 ، و”كيف يفكر الفلاسفة؟” 2013، وكتابه الجديد “نصوص التوحش” الذي سيصدر خلال شهر يوليو الحالي..

كيف تكوّنت شخصية علي الديري بين جنبات القرية وكيف نمت، وما هو النابض في ذاكرته عنها، ولماذا يحضر الدفء كلما حضر حديثه عن هذه القرية؟  من هي الشخصيات التي تفاعل معها داخل القرية وأثرت فيه؟ وإلى أين أخذته علاقته بالكتاب والكتابة؟ وأين هو الآن؟ وما مشروعه الكتابي الأخير؟.. هذا ما سيجيب عليه الحوار التالي مع (ابن قريتي) الدكتور علي أحمد الديري.

نتعرف على بطاقتكم الشخصية؟

علي الديري في مكتبة حسن أحمد سلمان، 1994
علي الديري في مكتبة حسن أحمد سلمان، 1994

لا أريد أن أعرف نفسي هنا من زاوية الكاتب أو المثقف. أود أن أقدم نفسي من خلال انتمائي لقريتي؛ فأنا أحب -بين فترة وأخرى- أن أطل على أهل قريتي حيث ذاكرتي الجميلة. كان العزيز أبو حمزة -عبر منتديات الدير-  يمنحني فرصة رائعة لإدارة مناظرات المرشحين البرلمانيين. المناظرة الأخيرة في 2010 وسط الساحة المفتوحة، القريبة من مسجد الخيف بالقرية، ما زالت عالقة أجواؤها في مخيلتي.  أتمنى العودة يوما لساحات القرية العامة، وأؤبن – من هناك – صديقي الشهيد زكريا العشيري.

ابن قرية الدير. لا أعرف امتداداً لعائلتي خارج هذه القرية، بيت حجّي عبدالله من عيسى (توفي  1963) هو بيتنا الكبير.  كان يضم عائلة ابنه حجّي عيسى (توفي في 18سبتمبر 2006)، وابنه جدي حجّي علي (توفي في  1992)، وعائلة ابن بنته آمنة: حجّي عبد الله بن محمد (توفي 1994).

تنوعت الألقاب في هذه العائلة: الشيرازي، مطر، حمندي. الأخير هو لقب الوالد (توفي في أبريل 2009)، الذي عرف به في القرية.  فقد والدته (ملكة) رضيعًا، وربته خالته، التي كانت تدلله وهو طفل وتقول له: أحمد حمندي؛ فصار لقبا عرف به، لكنه بعد أن كبر عُدّ هذا التدليل لا يليق به كرجل كبير، خصوصا أن الوالد معروف بشخصيته الجادة، وعصاميته في العمل، التي ورثها من جده حجّي عبدالله بن عيسى، الذي كان يعمل في تجارة اللؤلؤ. وأذكر هنا حديث والدي المستفيض عن جده، الذي شكل أحد واجهات القرية، ووجهائها في ذلك الوقت.

أنا شخصيا عرفتك من خلال نظارتك في إحدى المسابقات الثقافية؛ إذ كنت مقدما على ما أتذكر، و بعد ذلك قالوا الدكتور علي الديري صاحب المقالات في الصحف!! لمن هم على شاكلتي؛ هلا أوجزت لنا سيرتك الأكاديمية، وأهم المحطات فيها؟

النظارة إحدى علامات المثقف (ههه)، لكنها في الوقت نفسه؛ إحدى علامات عماه.  كثيرًا ما يصاب المثقف بالعجرفة والتعالي؛ فيعثر بما تحت رجله؛ لأنه لا يراه.  لا أنزه نفسي عن هذا العمى، وأجد في النظر إلى الناس، والتعاطي معهم  بصيرة أخرى، تعوضني عن النقص الذي تفضحه نظارتي.

بدأت مسيرتي مع النظارة في السنة النهائية في القسم العلمي بمدرسة الهداية. تحولت نحو المسار الأدبي في الجامعة؛ إذ التحقت بكلية الآداب/ جامعة البحرين، ضمن خطة المسير نحو الحوزة، لكنني أبصرت -بنظارتي- طريقًا آخر بعد تخرجي؛ فالتحقت بالماجستير في الجامعة نفسها، وأخذت شهادة الدبلوم العالي، وناقشت رسالة الماجستير في جامعة القديس يوسف ببيروت، وبعدها ناقشت أطروحة الدكتوراه في القاهرة.

تخصصي الدقيق هو مجال تحليل الخطاب. في الماجستير كنت أحاول أن أقترب من علم أصول الفقه، وأرى أدواته في تحليل الخطاب. وفي الدكتوراه، اقتربت من نصوص الفلسفة القديمة، والتصوف الإسلامي؛ محللًا طريقة بناء الخطاب الفلسفي والصوفي، عبر تحليل المجازات (التشبيهات، الاستعارات، الصور، القصص).

الديري.. لا بد أنك تحب أن تكون لصيقًا بالدير، وهي الأرض التي تعدها مقدسة. مَن مِن الدير كان صديقك؟ ولماذا؟ وهل بنيتم أحلاما بطلتها الدير؟ هل وضعت الدير أمام عينيك، وأنت تبدّل تخصصك؟

المقدسة، هي الصفة الملازمة للدير على لسان زوجتي (أم باسل). أحبتها كثيرا، وأحبت ناسها، وصرت أحب هذه الصفة، وعيشي خارج القرية منذ 2009، زاد من شعوري بدفء هذه الصفة. صداقاتي في القرية تمتد إلى سنوات دروسنا الدينية في المأتم.  أصدرنا أول تجربة صحفية في المأتم الشمالي (صوت المأتم).  كنا في صف الثاني الإعدادي.  كتبناها على ورق A4 بخط الصديق (جميل عبدالله)، وعنوان الغلاف زخرفه لنا الأستاذ عيسى المطوع.  كنت بمثابة رئيس التحرير، وفريق العمل هم أصدقائي: أحمد رمضان، وعقيل أحمد عبدالرضا، وهما الصديقان اللذان بنيت معهما مشروع مكتبة مشتركة، وصداقة مستمرة مدى الحياة.

في المرحلة الثانوية، ستتسع الدائرة لتضم: حسن إبراهيم سلمان، وعلي عبدالرضا، وحسين جاسم، وحسين أحمد عبدالله، ومع هذا الفريق سنكوّن ما يشبه أكاديمية سوبر ستار للخطابة الحسينية.  أحيينا موسمين؛ لإعادة عشرة محرم، وامتدت بنا الجرأة؛ لنقدم مجالس حسينية في مجالس القرية، منها: مجلس بيت حجي جمعة، ومجلس بيت حجي جاسم.  شخصيا لم أتوافر على صوت جميل، لذلك؛ كنت أقدم المحاضرة، وصديقي أحمد رمضان يقدم النعي والمقدمة.  ربما هذا السبب الذي جعل مواسم إحياء العشرة – لاحقا – تأخذ طابع المحاضرات التثقيفية في مأتم جدتي سلامة سلوم.

على الجانب الآخر، نمت صداقتي مع حسن أحمد سلمان، وجعفر الطعان، وأخذت – فيما بعد – طابعا ثقافيا. كنا نلتقي في مكتبة حسن ببيتهم، ونذهب بعيدا في القراءة والنقاش. علاقتي بالشهيد زكريا العشيري كانت تتقاطع بين هذا الفريق، وذاك الفريق. وفي المجمل دروس المأتم المسائية كانت تجمعنا كلنا، وشكل لنا أساتذتنا: أحمد مهدي، وعبدالنبي حميد، وجعفر حميد، وفاضل عباس أفقا تربويا ودينيا وأخلاقيا، وأجد أني ما زلت مدينا لهم. لا أنسى هنا شيخ حمزة الديري، الذي كان الأب الروحي لتربية دروس المأتم.

بما أنك اعترفت بقدسية الدير لديك أنت وزوجكم المصون، من خلال ما أوحت به إجابتكم عن الأسئلة؛ فيما يتعلق بتعيين الشخوص بحذافيرها؛ نسبًا، وذكر بعض صفاتها. من الممكن أن نسألكم عن أبرز الأمكنة، والشخصيات التي وهبت تلكم القداسة للدير في قلبكم، و لماذا؟

مشبعة ذاكرتي بكل شبر في الدير؛ بيتنا الكبير الذي كان أول بيت يبنى من دورين في القرية.  ما زلت أحتفظ بخارطته التي هندسها الوالد؛ الغرف الكثيرة المفتوحة على هواء البحر، والحديقة الداخلية، طلة البحر من على سطحه الواسع، قفص الطيور الكبير في مدخله، وألوان الطيور الغريبة، مكتب الوالد في الطابق الأرضي، والتليفون الأسود، وقرص الأرقام.

بساتين الطفولة قبل أن يغتالها سراق الأراضي، بستان العرادي، والشركة، وتنة، والغربية، وريا، وأم نخيله. بحر الدير الذي قضينا طفولتنا في سواحله، والمشي في جزره ومده. ساحات الصيد (الحبال) المفتوحة للطيور.

مساجد القرية لها وقعها الخاص في قلبي؛ المسجد الوسطي، صلاة الطفولة قبل أن يُجدد بناؤه، وصلاة المراهقة بعد تجديده ودروس (أبو هشام، محمد حسن إبراهيم)، وذكريات أصدقاء صلاة الفجر: حجي حميد بن غانم (ت2003)، وحجي محمد بن علي بن عيسى (ت2012 )، وحجي راشد بن علي بن عيسى (ت2012)، عليهم رحمة الله، مسجد الخيف، صلاة المرور للمقبرة، مسجد بردان الجيرة، وصلاة ما بعد المدرسة، وحلقة درسي لأول مجموعة درستها في القرية. المسجد الغربي، صلاة الجماعة والاحتفالات. مسجد الراهب؛ بدايات الدروس الدينية مع شيخ حمزة الديري، والتعرف على أول مكتبة فيه، بعد مكتبة الوالد.

مسجد الراهب بقرية الدير

خباز جدي لأمي حجي طرار، وتنوره الذي غدا صوته جزءا من ذاكرة طفولتي، في غرفة جدتي سلامة  سلوم. كان ظهر الخباز لصيقًا بغرفة نومها، وحين يهدأ صوت التنور، يدير الخباز الإيراني محمد والسيد إذاعة طهران؛ ليأتي صوت نشيدها الوطني الثوري، وبعده أخبار الحرب.

“الفلسفة القديمة”، “الخطاب الصوفي” وتحليل الخطاب؛ نتيجة طالب غيّر مساره العلمي، وتوجه لكلية الآداب؛ تمهيدا للدراسة الحوزوية!!  كان التوجه قويًا، والدافع أقوى،  والنتيجة مغايرة!!  ماذا استجد لتحدث تلكم النقلات الكبيرة بين الثانوية والدكتوراه؟

حدث ما يسمى بلغة المثقفين؛ (التحولات). المكتبة التي استعرت منها أول كتاب في حياتي، في مسجد (الراهب) هي نفسها التي أخذتني لكتب مكتبة (الإرشاد)، ومكتبة (الماحوزي)، والمكتبة (الإسلامية)، والمكتبة (الوطنية) في المنامة.  من هذه المكتبات كونت مكتبتي المشتركة الصغيرة في مجلس الوالد إلى جنب مكتبته (الإخبارية).

استهوتني الدراسات الأكاديمية؛ فلم أعد مولعا بالثقافة الأيديولوجية، ولا بالمعارف المغلقة. عرفت حينها أن المعرفة الحوزوية -على عمقها وثراء تجربتها- لن تحقق رغبتي المعرفية، بل حتى الدراسة الجامعية لن تحققها.  وجدت الأمر في القراءة الحرة، والجهد الذاتي، لكن الحنين إلى الحوزة عاد إليّ مؤخرا، وهو حنين لا يتعلق بحلمي بالعمامة؛ بل يتعلق بطريقة الدراسة نفسها.  الآلية الحوزوية، تتيح لك الذهاب عميقا، وواسعا في الكتب، وهي متحررة من القيود الإدارية، والامتحانات المقننة.  عليك أن تثبت ذاتك بتفوقك المعرفي الذاتي، دون الحاجة إلى شهادة.  كذلك علاقة المدرس بالطلبة متحررة من القيود الجامعية، مع ذلك؛ فإن فضاء المعرفة الجامعية -من حيث الانفتاح- أرحب وأكثر مواكبة للعصر.

ضمن هذا الحنين، زرت حوزة قم في 2013، والتقيت هناك شخصيات علمائية بحرينية، وغير بحرينية، وحضرت حلقة بحث خارج للسيد منير الخباز، وكتبت عن هذه التجربة تحت عنوان (منعطفات قم المقدسة ) التي أثارت تعليقات كثيرة، وظريفة.

 

علي الديري في حل توقيع كتابه (خارج الطائفة) في معرض بيروت الدولي 2011

 

دخلت عالم الصحافة، وتم ترشيحك لنيل الجائزة الأولى عربيا؛ كأفضل صحفي لفرع الثقافة عام 2009

أولا:  كيف دخلت، ومن كان يساندك؟

ثانيا:  ما هي الصحف التي كتبت فيها، بالترتيب، بداية بالأقدم، ومَن مِن الصحفيين تراه الأفضل؟

ثالثا:  كيف تقيم تجربتك الصحفية؛ من حيث الطرح؟

رابعا:  ماذا جنيت من الصحافة؟

في السنة الأولى من تخرجي من جامعة البحرين، فزت  بالمركز الأول بمسابقة كتابة المقالة في صحيفة الأيام، لكن علاقتي بالصحافة لم تبدأ من الأيام، بل بدأت من مجلة المواقف.  كنت أحرر صفحتها الثقافية أسبوعيا، لمدة ثلاث سنوات تقريبا.  في 1998، بدأت علاقتي بالقسم الثقافي لدى جريدة الأيام، حتى بداية تأسيس جريدة الوقت في 2006. كنت أحد المشاركين في تأسيسها. ابتكرنا أنا والفوتوغرافي الروائي حسين المحروس، والكاتبة باسمة القصاب قسما جديدا، أطلقنا عليه (بروفايل)، وهو ملحق أسبوعي من أربع صفحات، وأحد أعداده كان مخصصا لـ (قرية الدير).  كان (بروفايل) تجربة جديدة في الصحافة، وأسلوبا مغايرا في الكتابة عن المجتمع، وثقافته، وتحولاته.  وعلى منوال هذه التجربة كتبت في مايو 2008 تحقيقا من ثلاث حلقات تحت عنوان: (في انتظار تركيا: من يقتل أتاتورك؟) وقد أعلن نادي دبي للصحافة، الذي يمثل الأمانة العامة لجائزة الصحافة العربية عن أسماء المرشحين الثلاثة للفوز بجائزة الصحافة الثقافية، وكنت من بينهم.

لم أعمل ولا يوما صحفياً، بل إنني لم أحب -يوما- العمل الصحفي. كنت أقيم علاقتي بالصحافة عبر الصفحات الثقافية، ومقالات الرأي.  أحب -في الصحافة- مقالات الرأي. أجد في المقالة وسيطا بين ما أقرأه في الكتب والبحوث، وما أعيشه من أحداث وتغيرات.  هذا من جانب، ومن جانب آخر؛ القارئ، والرأي العام، والفضاء المشترك. أشعر بمتعة في كتابة المقالة.  صفحات الرأي تعطي مؤشرا عن حرية الصحافة في أي بلاد، وقد لمست ذلك عمليا في الصحافة البحرينية. تحولت مقالات الصحف البحرينية بعد 14 فبراير، إلى مقالات تحريض، وفتنة، وقتل، ومنافسة في إعلان الولاء للسلطة، والبراءة من منتقديها.  الصحافيون صاروا على دين ملوكهم.

يسجل بلجريف في يومياته، في 19 سبتمبر 1954: كتب سموه، ليقول: أغلقوا (صوت البحرين) إلى أمد غير محدود.  بعد 14 فبراير، كتب أيضا سموه، ليقول: أغلقوا صوت الصحافة إلى أمد غير محدود.  أريد أن أسمع الصحافة التي تردد اسمي فقط.

للعالم الافتراضي سطوته -التي لسعت؛ بسوط التواصل السريع، الحاضر مع الإنسان في كل حين-  التثاقفَ الورقي الذي لا يتاح للناس جميعًا؛ بحكم طبيعته الجامدة، التي تحتاج للسعي الحثيث. منتدى الدير.. ما هو رأيكم فيه؛ من حيث الادارة، والكوادر، والتأثير؟ وهل كُنْتُمْ ضمن الشخصيات المقنعة الساعية للخير من خلال المنتدى؟ هل المنتدى -لو استمر- سيكون مؤسسة كالصندوق مثلا، من حيث القوة المادية؟

يكفي منتدى الدير أنه اقترن باسم شهيد كان شعاره: “أنا إنسان قبل أن أكون شيعيا”. المنتدى اقترن بشهيد، وبسجن، وتعذيب عائلة كاملة، هي عائلة مؤسس الموقع العزيز أبو حمزة (أحمد الديري). في نهاية 2011 قدمتُ ورقة في مركز البدائل في مصر، حول فضاء الانترنت في البحرين والثورة: منتديات وتويتر ومدونات وفيسبوك.

منتدى الدير، فتح قسما خاصا بثورة 14 فبراير، كما فعلت أغلب المنتديات في معظم مناطق البحرين.  تم إخماد صوت المنتديات، بعد دخول درع الجزيرة؛ ففقدت البحرين مصدرًا مهما من مصادر الفضاء العمومي.

شكل منتدى الدير ساحة نقاش افتراضي، ضمن فضاء القرية، وضمن الحدود الممكنة اجتماعيا.  اضطلع بدور مهم في تشجيع الناس على النقاش العام، وطرح قضاياهم المحلية. أنا مع تشجيع هذه الفضاءات، ومع بقائها حرة دون أن تتحول إلى مؤسسات.

نبقى في “الانترنت”، وانتشار المدونات، وما شكلته من واجب يقوم به المثقف، وهي بمثابة عناوين بها مجالس المثقفين!! ما هو تاريخكم مع المدونات، و كيف ترونها من حيث الحفظ.  أي هل تثقون بها؛ بمعنى الاستغناء عن الورق؟

قبل يومين، كنت أتصفح – صدفة – أرشيفي الإلكتروني.  وجدت صورة لخاطرة كتبتها في 16 سبتمبر 1989 تحت عنوان (القنبلة الخمينية)، وأخرى كتبتها، وأنا في نهاية المرحلة الإعدادية في 13 سبتمبر1986م  تحت عنوان (عاشوراء).  أظن أنني نشرتها على مجلة الحائط، بالمسجد الوسطي في القرية.
في الكتابة؛ تنقلت عبر عدة وسائط، من مجلة الحائط بالمسجد إلى مجلة (صوت المأتم) إلى الصحافة البحرينية لاحقاً، ومنتدى بحرين أونلاين، ثم كتبي بعد ذلك، ومدونة هوامل والفيسبوك وتوتير والانستجرام و….

ما كان لي أن أعثر على ورقة موضوعي الأول في حائط المسجد الوسطي، لولا وسيط الصورة الذي مكنني من الاحتفاظ بقصاصة الورق عمراً مديداً.  أنا أحب جميع الوسائط، وأجدها تخدم الكلمة والرأي.  وكل وسيط يأتي؛ لا يلغي ما قبله؛ بل ليوسع ما قبله، ويضيف له.

“هل كان هيبا مثقفا أم راهبا؟”، “هيبا تلبسني”. نشاط ثقافي بدأ في العام 2009م. كيف نشأ؟  وما هي دوافعه؟  ومن هم أعضاؤه؟  وهل كان هو الأول؟  وكيف سيكون نشاطه المستقبلي؟ ولماذا لم تفكر في إنشاء مثيل له في الدير؟

شعار صالون هيبا الثقافي، 2009

منذ نشاطي في القرية، اعتدت جلسات التثاقف.  مأتم جدتي ربما يكون أول صالون ثقافي، عقدت فيه أنشطة ذات طابع فكري وديني. لاحقا؛ يتطور الأمر في مجلس الصديق حسن أحمد سلمان، مع الصديق جعفر الطعان، وأحيانا معنا الشهيد زكريا العشيري. أتذكر أن كتاب (العدل الإلهي) للشهيد مرتضى مطهري من الكتب، التي عكفنا على مناقشتها، وربما المرة الأولى التي سمعت فيها بالدايلكتك وصراع الأضداد، هي في هذا الصالون، وعلى لسان جعفر الطعان؛ الذي كان مميزا في قراءاته، ودؤوبا في جلده على استكمال الكتب الصعبة، ولعل أحدها الكتاب الفلسفي لعادل ظاهر (الأسس المنطقية للعلمانية).

هناك تجارب لصالونات ثقافية أخرى، لكن ربما يكون (هيبا) هو أكثرها، ليس أهمية؛ بل استمراراً. استمر من 2009 حتى حراك 2011. هو جلسة شهرية؛ لنقاش الكتب الفكرية، حضورها من الأصدقاء وزوجاتهم. أجواؤها فكرية واجتماعية. توقفت بعد مغادرتي البحرين.

في بيروت أصبح لدي (صالون 14 فبراير). خصصته لتاريخ البحرين وإشكالاته. عقدنا فيه أكثر من خمسين جلسة، وأتاح لنا معرفة تاريخنا السياسي بشكل أكثر عمقا، وهو يعمل بنظام المواسم الثقافية، كل موسم يستمر أربعة شهور. عناوين المواسم: إصلاحات 1923 ونشوء الدولة الحديثة، غزو البحرين 1783 حتى بداية القرن العشرين، البحرين في عصر الدولة الصفوية والحركة العلمية، عبدالرحمن الباكر وأحداث الهيئة 1954م.

لا أفكر أن أنشئ صالوناً بالدير المقدسة؛ فالتقديس يجعلك تحب الشيء، أكثر مما يجعلك تختلف حول الشيء، وأنا أريد أن أبقى على هذا الحب المقدس مع قريتي. منذ أن تحول نشاطي من القرية إلى خارجها، قررت ألا أخوض أي معركة فكرية داخل القرية، ليس لأن القرية لا تتحمل الاختلافات الفكرية؛ بل لأنني أحب أن أبقي علاقتي معها، خارج ما أنا خرجت إليه؛ من أفكار، وتحولات.

“وخير جليس في الأنام كتابُ” بعيدًا عن الناس.  يحتاج المفكر لخلوة مع نفسه، أو مع كتاب يستريح معه من عناء القضايا الكبرى، وتكون بمثابة الاستجمام الفكري، وراحة الأعصاب، التي يستعيد معها المفكر نشاطه. مع أي الكتب ترتاح وتحس بأنك تستلقي على شاطئ البحر، و لا تريد النهوض! كم ساعة تقرأ وما هي خطتك للقراءة اليومية؟ هل تقرأ الكتاب أكثر من مرة؟ أي كتاب علقت فيه ولم تخرج منه؟ بماذا تنصحنا عند القراءة؟

الكتب -غالباً- ترتبط عندي بالصخب. ليس صخب الأفكار فقط، بل حتى الصخب الخارجي؛ فأنا لا أحب القراءة، ولا الكتابة في هدوء. كتب كثيرة قرأتها أثناء التنقل في المواصلات العامة. أتذكر قراءاتي في باص الجامعة، في رحلته الطويلة من منطقة الصخير إلى الدير، وأتذكر عناوين الكتب التي رافقتني في باص 4 الشهير بين الضاحية والحمرا في بيروت، وأحتفظ ببعض آثار المقاهي التي قرأت فيها وكتبت فيها.  أحب أن أسمع حركة الناس، وأنا أقرأ أو أكتب. ليست لدي ساعات محددة للقراءة، ولا أحمل معي الكتب لغرفة النوم، ولا الحمام، لكنني أطمئن كثيرا حين يكون الكتاب معي في أي مشوار طويل.

في كل مرحلة من حياتي أتعلق بكتاب لفترة ما، وأتجاوزه بعد مرحلة.  لفترة تعلقت بكتاب دستغيب “القلب السليم” وفي أخرى بكتاب محمد باقر الصدر “أئمة أهل البيت تعدد أدوار ووحدة هدف”، ومرة بكتاب عادل الأديب “الائمة الاثنا عشر دراسة تحليلية”. بعد ذلك وجدت في كتاب علي شريعتي (التشيع العلوي والتشيع الصفوي) أفقًا جديدا في القراءة. لاحقاً وقع علي كالمطرقة كتاب محمد أركون “الفكر الإسلامي .. نقد واجتهاد”، ولا أنسى هنا كتاب نيتشه “زرادشت”. على مستوى التراث، تعلقت بكتاب ابن عربي “فصوص الحِكَم” و”الفتوحات المكية”.  لقد أعدت بناء مكتبتي التي كانت ثلاثة رفوف في مجلس الوالد أكثر من أربع مرات، في أماكن مختلفة، لن تكون آخرها هنا في شقتي بالضاحية، بحي الأميركان.

مثّل لي كل كتاب من هذه الكتب؛ حقلا أو بستانا معرفيا. قضيت فيه حقبة ثقافية جميلة. كنت أرى الأشياء من خلال الكتب التي أقرأها. حالياً صار الكتاب يساعدني في رؤية الواقع وتحولاته، لكنني لا أعتمد كليا عليه، في فهم ما يجري.

“سلامة سلوم”، هو عربون المحبة بيني وبين ابن “ديرتي”، الذي لم يحالفني الحظ للقائه، وهو كتاب بمثابة إبراز الهوية، والانتماء للأرض. وما هو جديدك بعد كتبك الخمسة التي كان آخرها ” كيف يفكر الفلاسفة “؟

كتاب “جدتي سلامة سلوم” بمثابة تحية إلى جدتي، وجيلها، وتحية إلى قريتي؛ حيث تكونت سيرتي من خلالها، وخلال مأتمها، ومجلسها، ونساء القرية الطيبات.

كتابي الجديد هو “نصوص متوحشة.. التكفير من سنة السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية”.  وفيه أقارب نصوص التكفير؛ كنصوص سياسية لا فقهية.

في هذا الكتاب أحاول قراءة نصوص التكفير قراءة تاريخية، في ثلاث بيئات سياسية، استخدمتْ التكفير ضد أعدائها: بيئة السلطة السلجوقية (القرن الخامس الهجري)، من خلال نصوص الغزالي، وبيئة سلطة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وبيئة سلطة المماليك (القرن الثامن الهجري) من خلال نصوص ابن تيمية.

يتغذى التكفير – الذي تستخدمه داعش اليوم وأخواتها – من هذه النصوص. على سبيل المثال تغذي هذه النصوص منظر داعش الشرعي (تركي البنعلي) الذي وجدت صورته إلى جانب صورتي في الصفحة الأولى، في الصحف المحلية، تحت عنوان واحد هو: قائمة المسقطة جنسياتهم.

كنت أتساءل في مقدمة الكتاب: ما الذي يجمعني به؟  ولماذا هو يشرع قتلي؟  ومن الذي يشرع له ذلك؟ وما علاقته بهذه النصوص التكفيرية التقتيلية؟

المحيط الذي يجمعنا بمن نحب، وما نحب، وبمن نكره، وما نكره، يترك أثره في النفس والعقل والجسم… في كلام موجز:  ماذا يعني – بالنسبة لك – كل مما يأتي من أسماء على حدة:

1. مسجد “بردان”

أشتاق لسجادتي هناك، وصوت أذان الحاج حسن حسين وقت الفجر.
2. الحاجة صباح “أم علي”

تكسرني دمعتها، ولا أكبر في حضنها، الذي يشهق بي؛ حنانا، وشوقا، وكلمات متصلة بالسماء.

3. جريدة الوقت.

الرفقة الجميلة، والحلم بصحافة وطنية،وملحق بروفايل الفريد.
4. الشهيد زكريا العشيري

ما زالت جملته الأخيرة قبل اعتقاله تبكيني ” الله يحفظ دكتور علي منهم، أخشى عليه من الاعتقال”.
5. أماسيل وباسل

أعز ما يُطلب. لا أدري كيف سيرويان قصة غيابي عنهما. أحفظ لحظات الوداع المشحونة بالدمع، في كل مرة يغادراني ذاهبين دوني للوطن.
6. أرسطو طاليس

فهمت من خلاله (التكفير الأعوج) لكني مدين لأستاذه سقراط أكثر؛ فقد تعلمت منه الحوار، وتوليد المفاهيم، دون قوانين المنطق الأرسطي الصارمة.
7. دوار اللؤلؤة

أبدع البحرينيون في صناعته. جعلوا منه معمارا مخلدا في التاريخ، كمسلات الفراعنة وأهرامهم.  أخرجوه من الجغرافيا، بعد أن هدمته السلطة، وأدخلوه التاريخ بعد أن صار رمزهم.
8. خباز طرّار

قرص الخبز الساخن، وجبن المثلثات الذهبي اللذيذ، وذكرى جدي حجي عبدالحسين طرار، وفريق دكان سيد حميد.
9.لبنان

ما زالت جغرافيا الجبال الخضراء المسكونة تثير دهشتي فيه. أحب صعود جباله، وأحب حضن ضاحيته التي منحتني (كل شي).

10. الصالونات الثقافية

سأظل أحب إعادة تأسيسها في كل نقلة وتحول. لن أتوقف عن تكوين صداقاتي فيها. صداقاتي مع الأفكار، والكلمات، والأشخاص الذي يشاركونني غوايتها.

*سيد سلمان الموسوي، ناشط مهتم بتوثيق تاريخ قرية الدير، ويعمل عبر حسابه في الإنستجرام على نشر كل ما يتعلق بتاريخ القرية ووثائقها.

الهوية.. اختلاقها.. العنف.. الصورة

للعنف صُوره… للهوية صورتها. بين الصور والصورة، نسأل: هي للعنف هوية؟ بصيغة تبدو مراوغة نسأل: هل تمارس الهوية عنفها الضروري؛ ولماذا يكون ضرورياً؟ هل تتغذّى بعض الهويات على العنف؟ ماذا عن الهويات المصطنعة؟ هل تُصنع الهوية كأي سلعة؟ كي تحمي مثل تلك الهويات نفسها؟ هل تحتاج إلى العنف لتضمن ذلك؟ هل هو عنف مقابل عنف؟ أم عنف ضروري لضمان استقرار؟ ويظل استقراراً مصطنعا ومؤقتاً في نهاية المطاف.

متابعة قراءة الهوية.. اختلاقها.. العنف.. الصورة