أرشيف التصنيف: حوارات

حوار جريدة الوطن السعودية مع الناقد علي أحمد الديري: المثقف الخليجي يُجمّل طائفيته السياسية بأكاذيب غير إنسانية

كتاب يضم حوارات فكرية أجرتها الشاعرة هدى الدغفق مع مجموعة من المثقفين
كتاب يضم حوارات فكرية أجرتها الشاعرة هدى الدغفق مع مجموعة من المثقفين

أجرت الحوار/ هدي الدغفق

– نشأت في بيئة دينية شيعية، فما الذي دعاك إلى الخروج من دائرة نصوصها ومنهجيتها لتبحث في أصول الفقه؟

خرجت عن دائرة النصوص المؤسسة لمذهبي، لأني أرى النصوص غير صالحة لكل زمان ومكان، ولأن الدائرة تستحيل سجناً إذا لم نفتح مركزها، ولأني أرى نفسي خارج الطائفة منذ اللحظة التي أدركت فيها أن لي ذاتاً غير نصية. وهذا ما أوضحته في كتابي (خارج الطائفة).

ذهابي لكتاب ابن حزم (الإحكام في أصول الأحكام) الذي هو من أمهات كتب أصول الفقه، كان هدفه التعرف على الطريقة التي يقرأ بها الفقيه النصوص الدينية، وأصول الفقه هو جهاز قراءة، وبعض أدواته تنتمي إلى علم تحليل الخطاب.لم أتعامل مع هذه الأصول كقواعد نهائية، بل أدوات قاصرة أصلا ومغلقة وهي بحاجة إلى أدوات أخرى تتيح لها توسيع أفق النص الديني. كنت أريد أنزع هذه الهالة التقديسية التي تقوم على تجهيل القارئ غير المتخصص دينياً قبال تهويل علم الفقيه، وتهويل تفقّهه  بالنص الديني، وكأن التخصص في هذا النص حكراً على المؤسسة الدينية التي تروّض طلابها قبل أن تمكّنهم من أدواتها، وبهذا تضمن أن عقلهم سيبقى عبداً للنص ودليله يدور معه حيث ما دار، وأعني هنا حيث ما دار دليل النص، لا حيث ما دار الدليل بشكل مطلق كما توحي بذلك عبارتهم الأثيرة “نحن أبناء الدليل حيث ما مال نميل”.

ولحسن الحظ أن ظاهرية ابن حزم تمنحك هذه الفرصة، فهي وإن كانت تستخدم كلمة الدليل بشكل مففرط، إلا أنها لا تؤمن بالتقليد، وتذهب إلى أن النص الديني ليس فيه أسرار تحول دون فهمه وبإمكان أي قارئ يبذل مجهودا أن يفهمه ويفهم أوامره ونواهيه.

باختصار، ذهبت أنا إلى أصول الفقه لأكون خارجها، خارج دليلها، ونظام معرفتها، وآليات تحليلها للخطاب، وخارج أفقها.

– من ناحية ثانية ، في كتابك (خارج الطائفة) كأنك تساوي الانتماء إلى الطائفة بالطائفية ذاتها. كيف؟

لا أساوي الانتماء للطائفة بالطائفية، لكني لا أبرئ الطائفة من الطائفية، هي مصد من مصادرها، وتتغدى عبرها، والصراعات السياسية كما تشهد على ذلك منطقتنا، لا تجد أفضل من تكوين الطائفة لتوتير المشهد وبعث جنون الطائفية. لن تسعفنا حيل تجريم الطائفية وتطهير الطائفة، ولا تجريم القبائلية وتطهير القبيلة، ولا تجريم البعثية وتطهير البعث. الطوائف إذا كانت هي حقائق اجتماعية وسياسية اليوم في مشهد العالم العربي، فهي لم تكن إلا تكوينات سياسية وأنا غير ملزم بالبقاء في حزب تكون قبل أربعة عشر قرناً ثم صار مذهباً دينيا.

مع ذلك لا أريد أن أبدو مثالياً في نقدي للطائفة، وأساوي بين أشكال متباينة من أشكال الطائفية، هناك طائفية دينية تتعلق بتمسك جماعة بعقائدها الدينية وإخراج عقائدها وشعائرها إلى الفضاء العام المشترك، وهناك طائفية سياسية تتعلق بموقعك في السلطة ومصالحك معها وحربك معها باسم هذه الطائفة أو تلك الطائفة، ومع الأسف المثقف الخليجي يُجمّل طائفيته السياسية بأكاذيب غير إنسانية.

– كيف امتلكت الجرأة لمعارضة فكر التشيع والخروج عن الطائفة كمسألة أيديولوجية؟

لا أجد في المسألة جرأة كبيرة، هي تحرر كبير، لكنها ليست جرأة كبيرة، والدليل أني لم أتعرض لتهديد أو حرب أو تشهير. نعم هناك نبذ، وتوجس، ولا تعود تمثل الابن البار ضمن نطاق جماعة طائفتك. أجد الجرأة تتمثل في الخروج من دوائر القوة والنفوذ والمصلحة، بمعنى أكثر وضوحاً، الخروج من الطائفية السياسية، حيث مغريات المال السياسي والوظيفة والقنوات الإعلامية والمناصب والنفوذ.

– ذكرت في  كتابك (خارج الطائفة) أن  الوجود خارج الطائفة يجعلك تلقائياً داخل فضاء المدينة وداخل فعلها الحر. على هذا النحو هل الإيديولوجيا مسألة مضادة للحرية الإنسانية وإلى أي حد ترى ذلك؟وهل يمكن أن نعد هذا الأمر محاولة من على الديري للفكاك من الإيديولوجيا، حيث اعتبرتها عائقاً عن التفكير الحر.

هي كذلك، وأزيد، فضاء المدينة الحر تحققه الدولة المدنية، لا الدولة الدينية ولا لدولة القبلية ولا الدولة القبائلية، ولا الدولة الطائفة، ولا الدولة الطائفية. وفضاء المدينة الحر، هي ساحات الاحتجاج السياسي الذي يمارس فيه الناس حراكهم السياسي، وساحات الإعلام الحر من الإكراهات والمنع، وساحات الحريات الفردية التي يشرب فيها الناس ما يريدون ومع من يريدون. فضاء المدينة الحر هو الساحات التي تقرر فيها أنت ما تريده، هي ساحات الخروج من قصورك الذاتي، والجرأة في استخدام العقل، هي ساحات اللؤلؤة والتحرير والإرادة والشهداء.

– هذا اللجوء الواضح لديك إلى مابعد الحداثة فكراً وحواراً وتفكيكاً هل هو الملاذ برأيك؟

أنا أبحث عن ملاذ آمن لي من سلطة سياسية أو فكرية تغلق علي أو أنغلق عليها، وأنا مفتوح على الحداثة وما بعدها وعلى تراثي وما قبله. ما بعد الحداثة، على المستوى النظري، تحررني من المعاني النهائية للأشياء، وتمنحني القدرة على اللعب بالنصوص وعلاماتها، وتمكنني من جعل تراثي معاصراً لي، يعيش معي لا أعيش فيه. وهي تجنبني الوقوع في أوهام العقل والإنسان والتقدم والتطور، فهذه المفاهيم في الممارسة الخطابية والواقعية تنتج متضاداتها.

قد تبدو إجابتي مثالية أو صوفية، في واقع يرشح منه الدم وتمارس فيه أبشع أنواع الانتهاكات الإنسانية التي لا أستطيع حتى أن أسميها هنا، لكني هكذا كما يقول ابن الفارض (أطوف حول ذاتي بكاسات خمرتي) وخمرتي هي فكري، وأنا أمارس عملي وطوفاني حول ذاتي عبر التكلم في مجتمعي،

يقول تودوروف”عملية التكلم ليست فقط تعبيرا عن الفكر، إنها في الوقت ذاته عمل وتحتل موقعا في الفضاء الاجتماعي” هكذا أفهم علاقتي بالمدارس الفكرية والنقدية، تتيح لي أن أتكلم بمهارة الحاذق أن كلامه يسهم في تشكيل الفضاء الاجتماعي والسياسي، وأنا أحدد موقعي في هذا الفضاء مقابلاً للسلطة دوماً، السلطة السياسية والدينية ومقابلا لكل ما يريد أن يهيمن ويخضع الآخرين له.

– أكدت عدم استطاعة علماء الدين من الفريقين (سنة وشيعة) تجاوز مذهبه وعصبيته بعد عقود طويلة على فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية استناداً إلى السجال الذي فجره القرضاوي ورد السيد فضل الله عليه، وهما بحسبك أكثر تمثيلاً لمنهج التقريب وأكثر اعتدالا من غيرهما، ورأيت أن يعلن الفريقان ضرورة اتخاذ منهج التعايش والمجتمع المدني بديلاً عن التقارب بين المذاهب الإسلامية. لماذا برايك؟ وكيف؟

أكثر من نصف قرن ولم يقترب مذهب من مذهب، المذاهب تملك قوة التجاذب لا الجذب، الواقع مختبر للأفكار، والفكرة التي لا تملك فاعليتها في الواقع، نجرب غيرها، طبعا لدي أسبابي النظرية في  تفسير فشل مؤتمرات التقريب، وهي لا علاقة لها بالجدية وصدق النية والرغبة، بل لها علاقة بطبيعة المذاهب الدينية ومفهومها لتكوينها التاريخي، هي لا تريد أن تقترب من حقيقة تكونها التاريخي وحقيقة تشكيل مدوناتها وفقهها وأحاديثها وحقائقها، فكيف ستقترب من الآخر الذي يخالفها في هذا التشكيل. ربما تصل السماحة الشخصية عند البعض ويتحقق التعايش والقبول، لكن بمجرد أن يستدعي أحد شيئا من هذا التاريخ، ستنفجر هذه السماحة، وتنشط ساحة الاحتراب.المذاهب بيوتها من زجاج، ويقترب أصحاب كل مذهب من بيت المذهب المناوئ له بحجر. يقترب لا ليقول من كان منكم بلا خطيئة تاريخية فليرمنا بحجر، بل ليقول حجراً بحجر.

– ذكرت في إحدى حواراتك إنك تعول على حقلي الفلسفة والتصوف في استعادة هدوء العالم المستعر بتوترات الهويات الدينية والقومية والعرقية والمذهبية؟ كيف ترى الأمر بالنسبة إلى الفلسفة والتصوف؟ وهل تخلو الفلسفة كمنطق والتصوف كمذهب من أية ايدلوجيا أو تعصب؟

نعم، أعول عليهما، لأنهما يهدفنا إلى تحرير الإنسان من الانعلاق والتعصب، لكن هذا لا يعني أن مشاكل الواقع السياسي الذي نعيشه اليوم، ممكن أن نحله ببرنامج فلسفي وصوفي.ولكن ونحن ننضال من أجل تغيير هذا الواقع، في مؤسساته وأشخاصه وأحزابه الحاكمة وقوانينه وعصبياته الدينية والقبلية، أعول على حقلي الفلسفة والتصوف. الفلسفة تعلمك المساءلة وبناء المفاهيم بشكل جديد دوماً، وتحررك من سطة الأرض، لأنها تنشد الحرية دوماً، والتصوف يعلمك تأويل الصفات الإلهية تأويلا إنسانياً، يعلمك كيف تكون وسيطا بين السماء والأرض، وتخلصك من سلطة الوسائط التي تقدم نفسها أبوابا للإله، فتتحرر من سلطة السماء.هكذا تتعلم من الفلسفة عشق المفاهيم والحرية، تتعلم من التصوف عشق الألوهية التي تتسع للإنسان باختلافه، فتتلخص من صورة الإله الغاضب الذي يتهدد الإنسان بالعقاب.

– برايك ما الدور الإنساني الاجتماعي الذي يمكن أن  تقوم به الفلسفة؟ وكيف يمكن إيجاد صيغ مناسبة ومتقبلة لها في المجتمعات الخليجية المعاصرة بما هي عليه من محافظة؟

أعتقد في هذه المجتمعات لابد أن يموت شيء، لست أدري، هل هو: حُكّامها، مثقفوها، ثقافتها، عاداتها وتقاليدها، قبائلها، طوائفها، نفطها.

– وفق مذهبه الظاهري الذي أسسه كما ذكرت؛ درست ابن حزم في كتابك (طوق الخطاب) فماذا وجدت في هذا المدخل؟

وجدت أن الظاهرية، حالها حال أي اتجاه في تحليل الخطاب، لديه رؤية ما وأفق تاريخي ما وأدوات تحليل، وهي في الحد الأدنى:دليل الخطاب، الخصوص والعموم، المستثنى والمستثنى منه، تعارض النصوص، الأمر والنهي، المفهوم والملفوظ… إلخ. لم أنظر إلى الظاهرية كمذهب فقهي أو معتقد كلامي. وجدت في جملة ابن حزم (النص يعطيك ما فيه) خلاصة مركزة لمفهومه للنص والقراءة وتحليل الخطاب. أعتقد لو أننا نقرأ المذاهب الفقهية من هذه الزاوية أي باعتبارها مناهج قراءة للنصوص مختلفة الأدوات، سنخفف من حدة الاختلافات الفقهية والعقائدية.

– من خلال دراستك لأصول الفقه عنده هل يمكن إخبارنا فيم تتحدد هوية الخطاب لدى ابن حزم؟

الخطاب عند ابن حزم كلام الله، وكلماته نصوص معانيها موقوفة على أسمائها، لا يمكنك أن تتصرف وتحرك المعنى أو الاسم.مع ذلك فالنطق الذي يميز الإنسان هو عند ابن حزم تصرف، كما الصناعات تصرف، والإنسان كائن ناطق بقدر ما يتصرف في العلوم والصناعات والكلام، لكن تصرفه عند ابن حزم محدود بخطاب الله الذي هو أمر إلهي للإنسان، لا يقبل التأويل وتعدد المعنى.

جهد الإنسان وتصرفه يتمثل في استخدام المنطق الأرسطي لفهم هذا الخطاب(الأمر).هوية الخطاب ثابتة ونهائية وصافية ومغلقة.ليس في الخطاب أسرار وليس له باطن، ولا يخفي شيئا، هو ظاهر، ومن هنا جاءت تسمية مدرسة ابن حزم بالظاهرية، والظاهرية ليست هنا السطحية، بل هي ما يمكن أن يظهر للعقل من معنى الخطاب بواسطة الجهد الإنساني، وهذا الجهد صاغه ابن حزم في مفهوم (الدليل) في صوره السبع، وهو مفهوم مبني بناء أرسطيا منطقيا.

– على أن لغة ابن حزم لغة حاسمة بما تتضمن من يقينية بينما خطاب المجاز بعيد عن ذلك .كيف التقى ابن حزم مع خطاب المجاز ولغته بتلك المنطقية التي ربما لاتقبل تأويلا؟

صحيح، خطاب ابن حزم يقوم على مقدمات يقنية صارمة، وهذا يبدو واضحا من خلال لغة ابن حزم الحادة ومزاجه المتطرف وحجاجه الصارم، والمنطق الأرسطي منحه أداة قوية للاستدلال على يقينه. لا مكان للمجاز عند ابن حزم، وكل مجاز يرده لحقيقته التي تدل عليه وتقترن به، ليس هناك مسافة نضيع فيها أو نعبث فيها بين المجاز والحقيقة. الخطاب هو مجموعة حقائق لا مجازات.

كي تستوعبي اشتغالي على ابن حزم وظاهريته واشتغالي على المجاز، فعليك أن تضعي في اعتبارك أنني لا أفهم المجاز مقابلا للحقيقة، أنا أفهمه باعتباره منظاراً للحقيقة، أرى به حقائق الأشياء. اختصاصي في المجاز بهذا المنظور، جعلني أفهم الطريقة التي ترى بها خطابات الناس والسياسيين الواقع عبر مجازاتهم.أنا مهتم بالخطابات التي تحيل على الواقع والعالم، كخطابات السياسيين والفلاسفة ورجال الدين، ولست مهتما كثيرا بخطابات الشعراء والأدباء الذين يخلقون أحياناً عوالم متخيلة، وإن كانت تحيل إلى الواقع والعالم الحقيقي. أنا لا أنسى العالم، لكني لا يمكن أن أراه من غير استخدام اللغة استخداماً مجازيا، وهذا ما كان خارج تفكير ابن حزم، فهو يعتقد أن الخطاب يطابق الواقع دوما.

المجاز منظار الخطاب في رؤية العالم، كما التلسكوب منظار عالم الفلك في رؤية الكون. أنا أشتغل في الخطاب، وأهتم بالطرق التي يحيل بها على العالم، والمجاز طريق من هذه الطرق، والمنطق الأرسطي طريق أيضاً، وتتقاطع الطرق.

– لم يتصالح ابن حزم مع السلطات السياسية في عصره ولاريب أنه  كان شاهدا على حكم الطوائف.كباحث ودارس ومتأمل ماوجه الشبه بين عصره وعصرنا؟

لسنا خارج عصر الطوائف، ما نعيشه هو مناخ العصر نفسه، استخدام النصوص الدينية في الصراعات السياسية، وكل ملك وحاكم يقدم نفسه خادماً ومدافعا عن الدين والرسول وسنته وأهل بيته. والجمهور يستثار بهذه الخطابات.وعلماء الدين في بلاطات هؤلاء الملوك والحكام يوظفون الشرعية الدينية التي يحتاجها الحاكم، والتراث جثة حية ثقيلة في ألسنتهم وهم يقدمون أنفسهم امتدادا لفقهاء التراث، بل هم لا يرونه تراثا بل شيئا ما زال معاصرا ومستمرا وجاريا عبرهم، يتكلمون عبرهم. تصوري لو أن علماء الفيزياء والأحياء والفلسفة ما زالوا يتكلمون عبر أرسطو، ويقدمون أنفسهم متدادا لا نهائيا له. ليست هناك معرفة لا نهائية، هناك معرفة تموت وينقطع نسلها، ونعيد خلقها بصورة جديدة، هذا لم يحدث بعد عندنا، وهذا ما يجعل صفحات التاريخ وصفحات الفقه والعقائد، ألغاماً قابلة للانفجار في أي لحظة.

ما زالت جغرافيا الصراعات مذهبية ودينية، وتستخدم الاختلافات المذهبية تهماً وأوصافا تشنيعية (روافض، نواصب، أبناء متعة، بنو أمية، صفويون). هكذا حال واقعنا السياسي، وكذلك واقعنا المعرفي. ما نحن فيه خارج التاريخ، لا يمكن أن نتصور في القرن الواحد والعشرين، أن هناك أمة  بحكامها وسياسييها وعلمائها وأكاديميها، تتصارع سياسياً ومعرفياً وفق انتماءاتها المذهبية التي تشكلت قبل العصر الحديث.

حوار جريدة البلاد مع علي الديري بمناسبة يوم الفلسفة العالمي: وجودنا في أي شكل من الأشكال هو قضية تستحق التفكير

حوار جريدة البلاد ، أجرت الحوار هدير البقالي

منذ العام 2002، اعتمدت اليونسكو الخميس الثالث من شهر نوفمبر كل عام، باعتباره يوماً عالمياً للفلسفة. في البحرين، بادر عدد من المثقفين من محبي الفلسفة وأصدقائها بالاحتفال بيوم الفلسفة العالمي هذا العام، وافق الثامن عشر من نوفمبر الماضي. حرص هؤلاء على تنظيم برنامج احتفاء فلسفي خاص، طلق في الفضاءات المفتوحة، كما اهتموا بتنويع الفعاليات التي تربط الفلسفة بكل من الأدب والسينما والرسم والموسيقى. شارك في الفعاليات جمع من محبي الفلسفة الذين أثروها بالنقاش والحوار.

وبمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، تجري البلاد الحوار التالي مع الدكتور علي أحمد الديري، المهتم بالقضايا والموضوعات الفلسفية، وتفتح معه بعض الإشكالات المتعلقة بالفلسفة في واقعنا المعاصر.

هل المناهج الدراسية التي أخذت حقها في الفلسفة أم أنها مازالت حالها لم تتطور؟

في الثانوية العامة كنت في القسم العلمي شغوفا بالمواد العلمية لم أكن اجد التفكير خارج المعادلات الرياضية والتجارب المختبرية لم أتعرف حينها على مادة الفلسفة ولا المنطق. بدا لي العلم هو كل شيء، ومنطقة التحدي تكمن فيه.حين دخلت جامعة البحرين في تخصص اللغة العربية لأسباب دينية، واجهت أزمة كبيرة في التعاطي مع المواد الأدبية والتربوية، تعلقت بالنحو والصرف والعروض، فقواعدها مقننة وشبه مغلقة ويمكنني آن أثبت تفوقي من خلالها.حتى لحظة تخرجي لم أعرف في مناهجي الدراسية شيئا اسمه الفلسفة. لكني عرفت المنطق عبر محيطي في السياق الديني وعرفته باعتباره مجموعة قواعد مدرسية تعصم الفكر من الخطأ. وهنا يكمن المقتل، مقتل تربيتي خارج مناهج الفلسفة، فالمنطق والعلوم بقواعدها الصارمة، تقتل فيك إمكان تعدد الحقيقة وتنوع الآراء، وتريك كل ما هو خارجها هراء وكلاماً ملقى في الطريق. غياب روح الفلسفة عن مناهجي الدراسية التي هي مناهجنا العامة، هو مقتل تربيتنا، وتربيتي نموذج لذلك.

العلوم من غير فلسفة يقين يقتل العقل، لأنه يحرمه من الشك والظن والبحث عن إمكانات جديدة. لذلك لا يمكن التعويل على العلوم من غير الفلسفة. كذلك لن نتمكن من فهم علوم اللغة وعلوم الدين من غير درس الفلسفة.

ألم تجد شيئا في الجامعة قريبا من الفلسفة؟

أذكر بقوة مقرر أصول التربية في جامعة البحرين، في هذا المقرر تعرفت لأول مرة على أن هناك مدراس فلسفية ولكل فلسفة منها أصولها التربوية المختلفة، ووفق هذه الأصول تختلف تربية الإنسان العقلية. لكن هذا المقرر، كان من غير أصول فلسفية، وأذكر أنني في لحظة تذمر معرفية خرجت وسط إحدى محاضرات هذا المقرر بل وسط كلام المحاضر، فقد كنت أشاغب المحاضر بأسئلتي التي تعبر عن عدم فهمي وفي الوقت نفسه تحتج ضمنيا على عدم فهم المحاضر لما يقول لأنه أساسا بلا أصول فلسفية. خروجي كان يحمل دلالة ضمنية تقول إنكم لم تقدموا لنا الفلسفة وتربتنا لم تكن يوماً تتضمن شيئا عن هذه المادة الغريبة على تفكيرنا، فكيف تريدوننا أن نفهم علاقة المدارس الفلسفية بالتربية؟!!!

الطالب عموماً قد لا يستفيد من التطعيم بالفلسفة أثناء الدراسة لكثرة

التلقين المباشر عوضا عن التأمل بما تحمله الفلسفة من فكر، فماذا تقول؟

الفلسفة تطعيم ضد تعطل آلة الفكر الإنساني، حين أغلق الإمبراطور “جستنيان” مدارس أثينا الفلسفية سنة 529م معتبرا إياها معاهد للفكر الوثني، عطّل العصور الوسطى فصارات عصور تلقين لا عصور تأمل تنتج فكرا جديدا. لقد خرج طلاب المدارس الأثينية وطلاب مدراس الإسكندية هائمين على جوههم، لم تعد هناك أكاديمية أفلاطون التي وضعت شعارا على مدرستها “من لم يكن مهندسا فلا يدخل علينا” ولا مدرسة أرسطو (الليسيوم) ولا حلقة الفيلسوفة (هيباتيا) التي سُحلت وسُحلت معها مكتبة الإسكندية الفلسفية، فسحلت معهما آلة التفكير الفلسفي.

ولماذا بعض الدول العربية تحرم دراسة الفلسفة؟

لأنها تحرّم تداول السلطة والسلطة التي لا تتغير تستند إلى معنى ثابت لا يتغير، معنى للدين والإنسان والحكم والعالم والألوهية. الفلسفة مهمتها تغيير معنى هذه المفاهيم وإبداع مفاهيم جديدة لها. المشكلة لا تمكن في أنها لا تدرس الفلسفة فقط، بل تعرض لها في مناهجها عرضاً هامشيا يوحي بأنها شيء قديم قد انتهى أو كأنها علم جدلي فارغ لاعلاقة له بحاضر الإنسان وقضاياه المعاصرة.

الفلسفة تعتبر كثورة لبناء العقل الذهني و سبر لأغوار النفس البشرية

خاصة، فألا تعتبر أن الفيلسوف جاء نتيجة تراكمات مضطهدة له من المجتمع

والبيئة التي تخرج منها ؟

تبدأ الفلسفة من الذهن كثورة من الأسئلة المتجهة نحو الواقع. الواقع في الأرض أو الواقع في السماء. تحاول أن تهز الفهم الإنساني كي يدرك سماءه أو أرضه إدراكاً يمكنه من تغيير خارطة السماء أو الأرض. تتجاوز الثورة منطقة العقل فتكون ثورة في الأرض على المفاهيم وعلى الموسسات وعلى السلطة، فيشتبك الفيلسوف بأصحاب السلطة، وأصحاب النفوس في الأرض، الذين يريدون للأشياء أن تبقى مستقرة من غير ثورة. وهم يستعينون بالسماء لكي يثبتوا سلطتهم من ثورة أسئلة الفيلسوف. ولنأخذ على سبيل المثال سقراط، أسئلته الثائرة في عقله أرعشت سكان أثينا، فحكمت السلطة السياسية عليه بالقتل مسموماً، لأنه كان يرعش معتقدات الناس في آلهة أثينا. ولنأخذ هيباتيا، فقد كانت أسئلتها في مكتبة الاسكندرية ثورة لاستخدام العقل ضد الخضوع والاستسلام للإجابات التي كان الحاكم الروماني يتوافق فيها مع المعتقدات المسيحية الجديدة فحكمت على هيباتيا بالسحل لأن ثورة أسئلتها تحرك الواقع المستقر تحت سلطة السماء المتجسدة في شخصية الإمبراطور الروماني. تاريخ الفلسفة تاريخ ثورات، لذلك هو تاريخ اضطهاد أيضاً.

– برأيك ما دور الفلسفة في نقد  قضايا المجتمع؟

وجودنا في أي شكل من الأشكال هو قضية، وهو قضية إشكالية دوماً. وجودنا في شكل طوائف وقبائل وديانات، وجودنا في مجتمع متعدد الأعراق، وجودنا في شكل دولة غير منجزة، في شكل دولة غير دستورية، في شكل دولة مدنية، في شكل دولة دينية، في شكل مجتمع ذكوري، كل هذه الوجودات تشكل قضايا وتطرح أسئلة على معيشتنا. كيف يمكن أن نعيش في هذه الأشكال، وما الذي يواجهنا فيها وكيف نخرج من مآزقها، وما الذي يتحقق من انسانيتنا فيها، وما الذي يغيب. هذه أسئلة فلسفية. والإنسان لا يوجد إلا في شكل من هذه الأشكال، ومتى كفّ عن أن يثير أسئلته الإشكالية على هذه الأشكال، فقد قدرته على تطويعها وتطويرها وتغيير أنماطها.  تطور شكل الديمقراطية الحديث جاءبفضل أسئلة هوبز وروسو ومونتيسكوي وغيرهم من فلاسفة عصر النهضة الأوروبية الذين شغلهم شكل وجود الإنسان في مؤسسة السلطة أو الدولة التي يحكمها ملوك باسم الله.

هل يمكن تطبيق الفلسفة الغربية البعيدة المدى على  أرض الواقع العربي؟

أرض اللغات والثقافات والحضارات متعددة وهي تثري الأرض الكونية بالاختلافات، كل فيلسوف الحق يحفر في أرضه المفهومية عبر لغته وإشكالاتها الحضارية والثقافية في لحظة تاريخية ما، وكلنا لنا الحق في إثراء أرض واقعنا بهذه الحفريات.ربما من المفيد أن نستفيد من مفهوم طه عبدالرحمن للتأثيل في مشروعه فقه الفلسفة، مع توسيع أو تغيير حدود الرؤية التي ينطلق منها هو.

– برأيك هل الفلاسفة اتفقوا على مسلمة واحدة، أو قضية واحدة، وما مدى

تطورها في دراسة الفلسفة؟

الفلاسفة لا يقلقهم اختلافهم، بل يقلقهم اتفاقهم. ربما علماء الكلام واللاهوت يقلقهم اختلافهم حول صفات الألوهية، لأنه اختلاف يحدد الجنة لمن والنار لمن، والحرب ضد من والسلم مع من، والكفار من هم والمؤمنون من هم.اختلافات الفلسفة تكثّر معاني العالم واختلافات المتكلمين واللاهوتيين تصفي العالم.

– ألا تعتبر الفلسفة تحدي للقدسية الإلهية؟

هي تحدٍ لكل ما يشكل طاغية، والطاغية ليس شخصية سياسية بالضرورة، قد يكون مفهوماً، كالعقل مثلا، فتأليه العقل وتقديسه والثقة المطلقة فيه وفي قدرته على تحقيق الخير والسعادة والسلام للإنسانية حوّله إلى طاغية كما هو حاله في عصر الحداثة وانتهى بالبشرية إلى حربين مدمرتين، كذلك الألوهية حين تجسدت في خلفاء وملوك يحكمون باعتبارهم ظل الإله وخليفته ونوابه صارت طاغية تتحداه الفلسفة بأسئلتها التي تقاوم كل سلطة تحد من حرية الإنسان وقدرته على أن يشكل مجاله الحيوي في التفكير.

ليس هناك مفهوم واحد للألوهية، والمجامع المسكونية الكنسية (مجمع نيقية325م، مجمع إفسوس 431l مجمع خلقيدونية 451م ) التي عقدت في التاريخ كانت مهمتها حسم الصراعات التي تنشئ حول مفهوم الألوهية وهي صراعات سياسية أساسا ، وتستهدف في الأساس تثبيت السلطة السياسية للأمبراطوروتدور من خلال بحث ألوهية المسيح، وغالبا ما تتعارض هذه مع الفلسفة، لأن ليست من مهمة الفلسفة إضفاء المشروعية على السلطة السياسية، فهذه مهمة الدين غالبا والدين في هذا الاستخدام يتعارض مع الفلسفة. بل تصبح مهمة الفلسفة في هذه اللحظة كشف حقيقة هذا الاستخدام غير المشروع للسلطة وللحقيقة.

ما هي الألوهية، هي مجموعة من الصفات. والصراع بين علماء الكلام أو علماء اللاهوت وحتى الفلسفة هو صراع أو اختلاف حول هذه الصفات. والاتهامات بالهرطقة والكفر والبدعة كلها تتعلق بإثبات صفة ما أو إنكار صفة ما. بل المذاهب الكلامية واللاهوتية تتمايز بهذه الصفات وتعرف بها. على أن خلافات علماء الكلام واللاهوت تنتج مذاهب عقائدية متحاربة( المجسمة والمنزهة والمعطلة) ، واختلافات الفلاسفة تنتج تصورات مختلفة لمفهوم الواحد وواجب الوجود والمحرك الذي لا يتحرك.

لقد استفاد علماء الكلام الإسلامي وعلماء اللاهوت المسيحي من تصورات الفلاسفة لمفهوم الواحد، ومباحثهم في الميتافيزيقا والعلل في بلورة تصوراتهم لمفهوم اللالوهية والاستدلال عليها. كما أن الفلاسفة في المحيط الإسلامي والمسيحي وفقوا بين الفلسفة والدين ولو أخذنا إخوان الصفاء فسنجدهم يعرّفون الفلسفة بأنها التشبّه بالإله بقدر الطاقة الإنسانية، أي بقد طاقة الإنسان على التشبه بصفات الكمال الإلهي.

أغلبية الفلاسفة وصفوا بالملحدين، كذلك منهم من أقدم على الانتحار،

ومنهم من أعدم، ومنهم من مات يائسا، أيعتبر ذلك نوعا من الخلود لهم؟

التفكير في الخلود جاء من تأمل الأشياء الزائلة والفلسفة كانت تبحث عن الأشياء الخالدة وتجد فيها العلل الأولى التي تفسّر خلق العالم والإنسان، حتى صارت مهمتها معرفة هذه العلل، وصات هذه المعرفة طريقاً للخروج من جسد هذا العالم إلى حيث الآلهة الخالدة، الفلاسفة هم من يصعدون في هذا الطريق ولذتهم تتحقق بهذا الصعود إلى الأعلى، لذلك كان سقراط في محاورة فيدون أو محاورة الخلود، يرفض الهرب من السجن ويعبر عن سعادته بلحظة اقتراب صعوده، ويتمثل سلوك البجعة حين تعبر بالغناء عن فرحتها بلحظة اقتراب موتها “إنني أبدو آمامكم أقل قدرة على التنبؤ من البجع. وهي التي حينما تشعر بدنو أجلها تغني أطول وأجمل ما غنت أثناء حياتها السابقة، فرحة بأنها على وشك الرحيل إلى الإله الذي هي في خدمته. لكن البشر بسبب خشيتهم الموت، يتهمون البجع زوراً، ويقولون إنها تنتحب أمام الموت وتغني بسبب حزنها، وهم لا يدركون أن أي طائر لا يغني وهو على جوع أو وهو يشعر بالبرد أو وهو يشكو من أي مصدر آخر للألم… وأنني لست أقل منها شجاعة أمام مغادرة الحياة”

ألا تعتقد أن النظريات الفلسفية  تجعل من أدمغتنا مادة خصبة للتجرد من

الجسد والانفصام عن شخصيتنا للاتصال بالعالم الغير محسوس؟

الفيلسوف يفكر في الجزئيات والحالات والتجارب والأشخاص ويجرّد منها مفاهيما، لكي يفهم العالم والإنسان لكنه لا يتجرد من الحياة ولا تتجرد مفاهيمه من الحياة ولا من الحس. لدينا على سبيل المثال الفيلسوف ابن سيناء الذي يعد فيلسوفا لللنفس كما كان أرسطو قبله بثلاثة عشر قرنا فيلسوفا للعقل. كان ابن سيناء يجد لذته الحسية في الشرب والجنس مقترنة بلذته العقلية في الدرس والكتابة والتفلسف والتطبيب ومقترنة بلذته الروحية في الصلاة والحب. وكذلك كان الخيام.

بل إن الفلاسفة يتحولون بسلوكهم وحياتهم إلى مفاهيم فلسفية. نخطئ حين نعتقد أن ألفاظ الفلاسفة لا علاقة لها بالمعاني الحسية التي نستخدمها فيها، بل هي شديدة العلاقة، لكن يتميز الفيلسوف بأنه يجرد لفظه من أن يكون مرتبطا بشيء واحد أو حالة واحدة ويجعلها تشمل أكثر من شيء وأكثر من حالة فيجعلها تشمل معاني أشياء متعددة، فمفهوم الفيض في الفلسفة محكوم بمعنى الفيض الحسي المتعلق بفيض الماء في الكأس مثلا، ومفهوم النور الإلهي والنور العقلي لهما ارتباط بمفهوم النور كتجربة حسية نشاهدها، ومفهوم النظر له علاقة بنظرنا الحسي، وهكذا المفاهيم الفلسفية لا تقطع علاقتها بالحس ولا تتجرد مطلقا منه.وهذا هو موضوع أطروحتي في الدكتوراه.

– وما مدى ارتباط الوعي بماهية الإدراك الباطني للعقل الفلسفي؟

ما مهمة الفلسفة؟

مهمة الفلسفة تكمن في النقد. لكن تختلف من مرحلة إلى أخرى. طبيعة القضايا التي تنقدها، ولو استعدنا جيل دولوز سنقول أنها كانت تجد في كل مرحلة من مراحلها موضوعاً لنقدها فمرة تكون مهمتها نقد الأخطاء، ولعل المنطق الأرسطي، هي أعظم آلة جبارة وضعتها الفلسفة لنقد الأخطاء، وأن كانت هذه الالة قد أعاقت أيضاً الفكر البشري عن ابتكار حقائق صحيحة، كانت هذه الآلة تظنها خطأً، وهنا أشير إلى منطق فرانسيس بيكون الذي حرر المنطق من سطوة منطق أرسطو الصوري وجعله أكثر مرونة واستيعاباً للواقع. لذلك كان المنطق يعرف بأنه آلة تعصم الفكر من الخطأ. في مرحلة تالية صارت مهمة الفلسفة هي نقد الأوهام التي أوقعتنا فيها الإيدلوجيات الكبرى على أنواعها القومية والدينية والشوفينية وغيرها. فقضايا العرق الأفضل والأمة الأفضل والحضارة الأسمى، تولت الفلسفة نقد أوهامها، وفي مرحلة تالية صارت مهمة الفلسفة نقد ما يسميه جيل دولوز الترهات واللا معقول.

أعول على حقلي الفلسفة والتصوف في استعادة هدوء العالم المستعر بتوترات الهويات الدينية والقومية والعرقية والمذهبية

جلسة مناقشة الدكتوراه

جريدة الوسط، أجرى الحوار/ باسمة القصاب

ما زال الفهم المجازي لمعنى للألوهية وعلاقتها بالإنسان يدير صراعات العالم.

العمل على خطابات تراثية تحمل داخلها رؤية كونية تتجاوز زمنها، هو في حقيقته عمل على لحظة معاصرة

*****

بعد كتابه الصادر في 2007 “مجازات بها نرى” الذي قدّم المجاز بوصفه أداة للرؤية والفهم والتفكير، لا يزال الناقد علي الديري يواصل تفكيكه لآليات التفكير عبر المجاز، هذه المرة من خلال أطروحته للدكتوراة، التي منحت له بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى، الخميس الماضي 30سبتمبر الماضي 2010 في معهد الدراسات والبحوث العربية بالقاهرة.

تدور فرضية الأطروحة حول مفهوم أطلق عليه الديري لفظ “الجسد المجتاز”، يبحث مجازات الجسد في الخطاب الصوفي والفلسفي، وقد جعل من خطابي إخوان وابن عربي مادتيه القرائيتين التي قدّم من خلالهما تصورهما الخاص للإلوهية والعالم. أما ما الذي يعنيه الديري بالجسد المجتاز؟ وما علاقة دراسته بالواقع الذي نعيشه الآن؟ وما الجديد الذي يقدمه هذا البحث في موضوع المجاز؟ ولماذا اختياره لخطابي أخوان الصفا وابن عربي بالذات؟ فتلك بعض محاور حوارنا معه..

ما فرضية أطروحتك؟

الفرضية تدور حول ما أسميته الجسد المجتاز. وأعني به أن خطاباتنا عن العالم والله والإنسان والمجتمع والسلطة والدولة تستخدم الجسد أو أحد أعضائه أو خبراته الحية الوجودية المباشرة وتجتاز بها إلى الفكرة التي يريدها الخطاب. لقد اجتاز ابن عربي بمجازات الجسد ليرينا أفكاره عن الله والعالم والإنسان وعلاقتهم. وكذلك فعل إخوان الصفاء. وكلا الخطابين اعتبرا الإنسان صورة للألوهية وللكون، فالإنسان (في مجازاتهم) كتاب الله وحجته ومرآته وكنز تجلي أسمائه وصورته، ومتى فهمنا صورة الإنسان وجسده، فهمنا الألوهية والعالم.

· الفرضية وعنف الواقع

تبدو كأنها فرضية أكاديمية نظرية لا علاقة لها بالواقع؟

بل هي فرضية تحاول أن تفهم العالم وعنفه واحتراباته حول المعنى واللاهوت، مازال العالم حتى اليوم يدير صراعاته حول معنى الألوهية وعلاقتها بالإنسان. أقول ذلك وفي ذهني مثلا كتاب يوسف زيدان حول اللاهوت العربي والعنف ومآلات نصر حامد أبو زيد وكتب محمد أركون. مدخل المجاز بمعناه الحديث يسهم في فهم أفضل لهذا الصراع بل ويقدم حلاً معرفياً لصراعاتنا حول التأويل واللاهوت، فخلافاتنا في معظمها اختلافات حول طرق اجتيازنا، اجتياز مجازات جسدنا للوصول إلى حقيقة الألوهية والمعاني التي نعيش على تقديسها. ومازلنا نحتاج فرضيات لنفهم كيف تتحول مجازات اللغة والخطاب والنصوص إلى معارك عنف وصراعات معنى على مستوى العالم.

مثلا، الاعتراض على مسلسل (السيد المسيح) وتوقف عرضه في رمضان الفائت بلبنان خوفا من حدوث فتنة طائفية، استعاد اختلافاً لاهوتياً يتصل في عمقه بفهم معنى أن المسيح كلمة الله، وقد أوضح هذا الاعتراض مدير المركز الكاثوليكي للإعلام الأب عبدو أبو كسم، حين قال عن المسلسل”إذ ينكر ألوهية المسيح ويتضمن تحريفاً للأحداث الحقيقيّة”. لو استرجعنا تاريخ الخلافات اللاهوتية حول ألوهية المسيح، سنجدها خلافات مجازية تتعلق بتأويل صور الكتب المقدسة المجازية لمعنى الكلمة والبنوة والأبوة والألوهية والتثليث. هذه الاختلاف المجازية تحكمه دوماً القوة السياسية ومصالحها، فتحوله لحقيقة غير قابلة للشك ولا للتعدد. وكانت روما في ذلك الوقت هي القوة التي تحدد عبر مجامعها المسكونية الكنسية الحقيقة (الأرثوذكسية) مع من؟

· المجاز ولوثة الضلال

ماذا يعني هذا المدخل بالنسبة لمفهومك للخطاب؟

الدخول على الخطاب من هذه الفرضية يعني أن الخطاب ليس مجموعة من الأفكار فقط أو المعاني  أو الحقائق أو الألفاظ أو الصور البلاغية. بل هو حقل ملتبس بكل هذا المكونات  من خلال تجربة الإنسان الحسية وغير الحسية. الخطاب حقل مجازات، ولا يختلف في ذلك الخطاب الفلسفي عن الأدبي عن الإعلامي عن الاجتماعي عن خطاب تواصلنا اليومي.

ما الذي يقدمه مدخل المجاز من فهم جديد للخطاب؟

إن الدخول على خطاب الفلسفة والتصوف من خلال المجاز، يتيح لنا فهم الخطاب لا باعتباره منظومة أفكار مطلقة لا جسدها لها. الخطاب تجربة في الكتابة لا تجربة في التفكير المجرد الفلسفي فقط أو الفناء الصوفي فقط، فهي كتابة، حقائقها محايثة لمادتها، وتتفتح حقائقها من خلال هذه المحايثة، فكتابة ابن عربي يتفتح مفهومها لـ(وحدة الوجود) بمجازات التخلّل والسريان والحلاوة والّلذة والحب والحركة والمكاشفة والفتح، فلا يمكن لخطابه أن يرفع حجب الألوهية من دون هذه الصور التي تتجلّى فيها. إن الدخول على خطاب ابن عربي من خلال أرضه المفهومية (مجازاته) ربما يحل كثيراً من المشكلات المتعلقة بقراءة خطابه التي وصلت إلى حدّ تكفيره واعتبار مجازاته ضلالات دينية.

وكتابة إخوان الصفاء تفتح مفهومها لـ(الفلسفة) بما هي معرفة بالعلل الأولى والوجود بمجازات التشبّه بالإله والطاقة والفيض والقبول والنور والدائرة والجسد. يكون التفكير في علل الكون ووجوده ممكناً عبر هذه المجازات، والإمكان يعني كتابة هذه المجازات لهذه المعرفة لتشكيل خطاب فلسفي.

· الجسد ذهناً كبيراً

ما علاقة الجسد بالتفكير؟

لا يمكن للإنسان أن ينشئ خطاباً من غير تجربة الجسد، فهو لا يمكنه أن يفكر من غير جسد، ولا أن يتصور أو يتخيل أو يتذكر أو يقرر أو يستنبط، عمليات التفكير جميعها تتم عبر الجسد، كما عبّرت عنها فلسفة (ميرلوبونتي) في كتابه فينومينولوجيا الإدراك “إن الوعي كائن يرتبط بالأشياء بواسطة الجسم” ويبلغ هذا الارتباط حداً تكون معه بنية الوعي مماثلة لبنية الجسد، كما تقول فلسفة (ميرلوبونتي) “جسدنا ذاته له بالفعل شخصيته ووجوده الذي يتفاعل ويتداخل مع العالم بحيث تصبح بنية العالم معتمدة على بنية الجسد”. و(ميرلوبونتي)  يعتبر من فلاسفة كوجيتو الجسد، الذين أعطوا للجسد قدرة على التفكير، وصار الجسد معهم ذهناً كبيراً، كما يقول نيتشه. لقد أعطوا للخيال قدرة على التفكير، وقدرة على أن يرينا حقائق الأشياء بوجوه متعددة، بعد أن اعتبره ديكارت مصدرا للضلال والزيف.

· الكفر بالجسد

ما علاقة الجسد بالتكفير؟

الكفر بالجسد واعتباره مصدر للضلال والزيف، لم يكن كافياً لحماية العقل من الضلال. فالعقل راح يستخدم الجسد  ليهتدي إلى أفكاره التي وراء الجسد، فكرته عن الله وعن المطلق وعن الغيب. استخدامات الجسد المختلفة في التعبير عن الله والمطلق جعلت البعض يكفّر البعض، هي في حقيقتها تكفيرات مجازية.

لنأخذ الاختلاف حول نظرية الفيض الأفلاطونية emanation مثلا فالإسماعيليون يعتبرون القول بالفيض كفرا كما يقول الكرماني في كتابه راحة العقل “وذلك أن من شأن الفيض أن يكون من جنس ما منه يفيض ومشاركاً له ومناسباً”. في حين أن إخوان الصفاء يتفلسفون عبر نظرية الفيض ويجدون في هذه الفلسفة طريقاً للتشبه بصفات الكمال الإلهي. إن الاختلاف حول مجاز الفيض يجعله منه طريقاً للتألّه والكفر. هذا ما جعل ابن عربي يمزج التشبيه والتنزيه في فهمه للوجود ورب الوجود وموجوداته.

إن طريقة تأويل الصيغ المجازية التي تصوغ من خلالها المذاهب الدينية والاتجاهات الفلسفية خطاباتها ومقولاتها اللاهوتية أو الفلسفية، لتعدّ دليلاً على أن هذه الخطابات والمقولات ما هي إلا صياغات مجازية للتعبير عن حقائق هذه المذاهب واتجاهاتها في رؤية العالم.

ربما يكون مفهوم (العقل الفعّال) المثال الأكثر حضوراً على أن المذاهب الفلسفية تتأسس على ما يقع بينها من اختلاف في تأويلات الصيغ المجازية، لقد خضعت صفة (الفعّال) لترجمات وتأويلات وتفسيرات متباينة ونتجت عنها مدارس فلسفية متعددة. ما يحدث في الخطاب الفلسفي من تعدد في تأويلات الصيغ المجازية يحدث في الخطاب الديني، غير أن الخطاب الديني يدير تأويله بقوة تمثيل الإله، فيقع القمع والتكفير، في حين أن الخطاب الفلسفي يدير تأويله بقوة تمثيل العقل، فيقع التعدد والتفكير.

· توتر الهويات المستعرة، وهوية الحب

لاثبات فرضيتك اشتغلت على خطابين ينتميان الى حقلين معرفيين مختلفين: الفلسفي ممثلاً في خطاب إخوان الصفا، والصوفي  ممثلا في ابن عربي. لماذا اختيارك لهذين الحقلين بالذات؟

أنا أعول على حقلي الفلسفة والتصوف في استعادة هدوء العالم المستعر بتوترات الهويات الدينية والقومية والعرقية والمذهبية. تتقاطع فلسفة إخوان الصفاء وصوفية ابن عربي في جعل الهوية محبة للاختلاف والتعدد والمشاركة، وفي مجازاتهما ما يجعلنا نرى الكون محاطاً بالحب.

الخطابين بينهما من التقاطع أكثر مما بينهما في الاختلاف، وما يجمع بينهما هو الحب، وما يجمعني بهما  هو كذلك الحب، والحب هو المعنى الذي كانت تُعرّف به الفلسفة  في عصرها اليونانية والعربي الإسلامي كذلك، وقد استعاد هذا التعريف في الثمانينيات جيل دولوز في تعريفه للفلسفة بأنها عشق المفاهيم. والعشق هو درجة من درجات الحب، حب الحكمة هو المحرك الأول للبحث عن معرفة تصلك بالوجود وعلته وكيفيته وطبيعته. يجعل الحب العالم متعاطفاً أو مشاركاً بعضه بعضاً. وقد جعل أفلوطين (القرن الثالث الميلادي) في تساعياته الفلسفية العالم متداخلا بعضه في بعض كجسد واحد يعطف بعضه على بعض ويشارك بعضه بعضاً، بهذا الحب تكون المعرفة ممكنة، وكان يقول “فمن المحال أن يعرف شيء لا يكون متصلاً بنا أو متعاطفاً معنا على نحو ما، لأنه لا سبيل إلى معرفة ما هو خارج عنا من كل الوجوه”.

عبر مجاز الجسد المتعاطفة أعضاؤه على بعضها والمشاركة لبعضها والمحبة لبعضها، كانت الفلسفة في العصر الوسيط تفهم العالم والألوهية والإنسان. لقد ذهبت لإخوان الصفاء وابن عربي لأبحث عن هذه الحميمية المفتقدة في العالم اليوم، لم أذهب لهما لأنجز أطروحة أكاديمية باردة، ولا لأثبت أسبقية تراثنا للحاضر أو الماضي، فالفلسفة والتصوف استعادات لا تنتهي، استعادات لنصوص وأسئلة غير مستنفدة.

· الرؤية الكونية المتجاوزة للزمن

ولم آثرت الاستدلال على فرضيتك من خلال خطابات تراثية لا خطابات معاصرة مرتبطة بتواصلنا اليومي؟

لقد قاربت في كتابي (مجازات بها نرى) خطابات معاصرة مرتبطة بتواصلنا الإعلامي والاجتماعي والديني، وفضلت العمل في أطروحة الدكتوراه على خطابات فلسفية وصوفية، وفي ذلك تحد كبير، فالمسألة تتطلب قراءات معمقة لخطابات تراثية مكتوبة بلغة غير معاصرة ومليئة بالمصطلحات الفلسفية والصوفية وتحيل على تراث إنساني بعيد وممتد. والباحث يحتاج إلى العمل على خطابات تفتح له حقولا معرفية جديدة وتفتح فهمه على تصورات مختلفة للعالم. وأعتقد أن تخصصي في تحليل الخطاب قد أتاح ذلك، فتحليل الخطاب قائم على تقاطع التخصصات، فأنا مثلا في هذه الأطروحة أشتغل على خطاب فلسفي وخطاب صوفي وأنا لست متخصصا في الفلسفة ولا في التصوف، وكذلك حين اشتغلت في رسالة رسالة الماجستير على خطاب ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام وهو كتاب  في أصول الفقه، لم أكن متخصصا في أصول الفقه.

من جانب آخر العمل على خطابات تراثية تحمل داخلها رؤية كونية تتجاوز زمنها كخطاب ابن عربي وإخوان الصفاء، هو في حقيقته عمل على لحظة معاصرة، والمهم هو أن تكون رؤيتك تنتمي إلى لحظة معاصرة تستطيع أن تصل النص التراثي بالزمن الآني ، والزمن هو ما يعيشه الإنسان بأفقه وإنسانيته. وما أحوجنا اليوم إلى خطاب إنساني فلسفي وصوفي، يُؤَنْسِن الكون وعلاقاته، ويصل بعضه ببعض، ويرينا الإنسان قادراً على أن يصل السماء بالأرض من دون أن يخلَّ بمنجزات العلم الحديث. إن العقل العلمي البارد لا يمكنه أن يتيح وحده للإنسان أن يعيش متآلفاً مع الكون، هو بحاجة إلى خطاب قادرٍ على أن ينعش روح الإنسان ويجعله يرى في الكون امتداداته وصلاته وعلاقاته، وخطابي ابن عربي وإخوان الصفاء يمثلان هذا الخطاب بامتياز، وراهنيتهما للحظتنا تدفعنا إلى إعادة قراءتهما ووصلهما بحاضرنا.

 لحظة أركونية

هل هناك لحظة فكرية شكّلت توجهك نحو هذا المدخل للدراسة؟

لا بدّ من القول إن اللحظة الأولى التي شكّلت منعطفي نحو موضوع أطروحة الدكتوراه هي لحظة أركونية بامتياز. وهي تعود إلى قراءتي لكتابه (تاريخية الفكر العربي الإسلامي) حين أشار إلى أن المجاز في الأدبيات الخاصة بالإعجاز قد درس كثيراً بصفته أداة أدبية لإغناء الأسلوب في القرآن وتجميله، ولكنه لم يُدرس أبدا في بعده الأبستمولوجي بصفته محلاً ووسيلة لكل التحويرات الشعرية والدينية والإيديولوجية التي تصيب الواقع. وفي كتابه (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل) أشار إلى هذا النقص الذي نعاني منه في دراسة المجاز بهذا المنظور، وهو غير منظور الجرجاني والباقلاني وفخر الدين الرازي والسكاكي وكل تلك الأدبيات الهائلة التي كتبت عن الإعجاز.

ذهبت إلى مجازات إخوان الصفاء وابن عربي، بمنظور أركوني، وبروح صداقته مع التوحيدي، فصار ابن عربي صديقي الحميم الذي أحمل معه حيرته الإنسانية كلما فكّر في الكون والإله والإنسان. وصار إخوان الصفاء أصدقائي الذين أتأّله معهم كلما فكرّت في الفلسفة باعتبارها طاقة الإنسان في التشّبه بالمطلق.

ماذا وجدت بشأن استخدام الخطاب الفلسفي من خلال إخوان الصفاء للجسد؟ وكيف بنى تصوراته وأفهامه؟

يتشكل خطاب إخوان الصفاء الفلسفي بمجازات الجسد والطاقة والقبول والفيض والدائرة والنور ومقتضياتها. بهذه المجازات يتفلسفون بقدر الطاقة الإنسانية من أجل التشبّه بالإله، يبذلون طاقتهم في الاعتبار بهذه المجازات، وهذا البذل هو الذي يحقق لهم حدّ الفلسفة التي يُعرّفونها بأنها “التشبّه بقدر الطاقة الإنسانية بالإله”.

يحضر الجسد في خطابهم بوصفه مكان إظهار، ومكان ترويض، ومكان اعتبار وتركيب. الجسد في خطابهم يُظهر ممكنات النفس، ويروّض العقل، ويتيح له تركيب معرفة اعتبارية.

جسد الإنسان مرآة العالم، ما يقبله هذا الجسد في مرآته من مثالات العالم، يغدو طريق معرفة أو وجهاً من وجوه معرفة العالم، والعالم يُعرف من خلال ما يقبله الجسد من مثالات. إن الجسد يتشكّل خطاباً وفق إمكانات قبوله، فيغدو عالماً صغيراً ومدينة ودكاناً وداراً وفلكاً ومجلساً وقصراً ودفترا للعالم وكتابا للعالم أو( حجة الله)، وهذا ما يجعل من الجسد مشكال رؤية، فهو يرينا العالم بإمكانات مختلفة الألوان والأشكال بحسب طاقتنا على الاعتبار الذي هو فعل تفكير فلسفي، فالاعتبار عمليه ربط ووصل بين جسد الإنسان، وجسد العالم وكائناته. أنت تعتبر بقدر ما تقيم مماثلة تصل أجزاء العالم بأجزاء جسدك وصلاً ينتج معرفة اعتبارية، وهذا ما يجعل الاعتبار عملية فكرية تقوم بها أنت وتشيّد من خلالها معرفة وفلسفة بقدر طاقتك على التخيّل والاعتبار والوصل.

وماذا عن حضور الجسد في خطاب التصوف من خلال ابن عربي؟

على مستوى خطاب ابن عربي، أتاح لنا مدخل المجاز، فهم وحدة الوجود فهماً أكثر اتساقاً وتعيّناً. فعلى سبيل المثال، يؤسس ابن عربي فهمه للعالم ووحدة الوجود من خلال مجاز (النكاح/ المحبة). ويشتغل هذا المجاز كأصل في خطابه تتخلق في رحمه بقية المجازات، لذلك تتداول في خطابه كلمات: تشتاق، تطلب، تمنح، تعطي، تسري، تتخلل، تشفق، ترغب، الهمّة، الولوج، الغَيرة، الحركة.

إن الحنين والشوق والحبّ والتوالج والنكاح والسريان هي المجازات التي يستخدمها ابن عربي لصياغة خطابه عن العالم الكبير، ومرجعيّة هذا المعجم تعود إلى العالم الصغير (المرأة والرجل). ليست المجازات الجنسية والعاطفية المعبّرة عن المشاركة بين الرجل والمرأة أو دلالاتها، عارضة في خطاب ابن عربي، بل هي مكوّن أصيل في خطابه، وهي تمثل جهاز رؤيته وتمثّله للكون وعلاقاته. هي مادة خطابه الميتافيزيقي عن الكون وعلاقة الإنسان فيه، وعن الإلوهية وعلاقتها بالخلق.

تولد الحقيقة من خلال عملية التوالج، هناك حقيقة واحدة تظهر في محال ممكنات كثيرة، تقبل أن تتفتّح صورها فيها، والقبول هنا هو إخراج ما في استعدادها. وتولد الحقيقة عن حركة الحب، والرغبة في التعرّف. ليس هناك حقيقة خارج التوالج. فالأشياء تكون في هذه الوحدة الوجودية من خلال تولدّها عن الحقّ وحركة حبّه “فثبت أن الحركة كانت للحب، فما ثَمّ حركة في الكون إلا وهي حبيّة” فصوص الحكم، ص204

هل تختلف طريقة صياغة المجاز لخطاب ابن عربي عن صياغته لخطاب إخوان الصفاء؟

لقد صاغ المجاز خطابي ابن عربي وإخوان الصفاء، إلا أن صياغته وتمثيله تختلف في الخطابين. هناك مجازات كلية عامة، كمجازات العالم الكبير والعالم الصغير، ومجازات المحبة والشوق، والإحاطة، والاحتواء، واعتبار العالم جسداً واحداً. تمثل هذه المجازات رؤية العصر الوسيط للعالم والإنسان والألوهية. لكن يختلف الخطابان في طريقة تمثّلهما لهذه المجازات. فخطاب ابن عربي يمتدُّ وينمو إلى حيث يعبر به المجاز، في حين يقف خطاب إخوان الصفاء بالمجاز عند الحدود التي انتهى إليها الخطاب الفلسفي السابق عليهم دون أن يتصرف فيه.

يقوم خطاب ابن عربي بتشغيل الطاقة المجازية القصوى للغة، ومدلولاتها الحسية، وسياقاتها التداولية، لصياغة مفاهيمه الصوفية والفلسفية والمعرفية، لذلك فخطابه يُمثِّل تركيبة شديدة التعقيد.

إن مجازات إخوان الصفاء كانت أقرب إلى أن تقوم بمهمة توضيح الأشياء، في حين أن مجازات ابن عربي كانت مهمتها تقليب وجوه الأشياء. مجازات خطاب ابن عربي تُعبُر مفاهيم الخطاب الفلسفي والصوفي المتداولة وتشتق لها طرقاً جديدة، وتصوغ مفاهيم مبتكرة وتنشئ عوالم عابرة.

ندوة عن الجابري في جريدة الوسط

 ناقد (العقل العربي) في بيانه وبرهانه وعرفانه

http://www.alwasatnews.com/2834/news/read/433868/1.html

الجابري انشغل بثنائيات التراث والحداثة وراوح بين التفكيك والبناء

الجابري

الوسط – حبيب حيدر

أن تقرأ المفكر العربي محمد عابد الجابري فأنت تقف أمام مشروع يتكامل كلما تمثلتَه قراءة وتمحيصاً وتفحصاً وحتى نقداً، وفي هذه الندوة نحاول أن نختبر مجموعة من المحاور للدخول إلى مشروع الرجل في قراءته للعقل العربي، بالطبع مع رجل مثل الجابري لن تكون هذه المحاور سوى محاوره هو، فمهما حاولت تسوير مشروعه لن تجد نفسك إلا داخل هذا السور.

وقد اقترح علينا هو طبعا مجموعة من الأسئلة، ربما ليس أولها سؤال المنطلقات، ولا سؤال الاحتواء، ولا سؤال الانحياز، ولا آخرها سؤال فتح آفاق للتفكير أو التنوير، فعبر تقسيمه للعقل العربي إلى بيان، وبرهان، وعرفان، نتساءل إلى أي مدى استطاعت هذه القسمة أن تحتوي العقل العربي؟

وهل ما زال علينا أن نعود لمسائل البيان وصراعات التأويل لنفهم العقل العربي في عصر الآلة والتكنولوجيا وأركلوجيا السياسات الدولية في الفضاءات المفتوحة وتأثيراتها على هذا العقل التائه المستقيل؟

وعبر استكناه البرهان كمكوِّن آخر للعقل العربي رحنا نتساءل إلى أي مدى استطاع البرهان تمثيل العقل العربي رغم أن بعضه مشرَب ببقايا فلسفة يونانية، أو هو ما آلت إليه الفلسفة اليونانية بعد ترجمتها وتداولها وأقلمتها في البيئة العربية؟

إلى أي مدى يصدق المكوّن العرفاني كسمة كبرى للعقل العربي على رغم محاولة تسكينه في بيئة معينة ووسمها به، وهو إما حالة طارئة أو ردة فعل كامنة في الذات حين تحاصرها سياسات الواقع أو يحاصرها العقل المحض بالبراهين الصرفة واليقينيات الحاسمة المطلقة؟

كان لهذه الأسئلة أن تنطلق عبر ثلاثة قراء للرجل لكل منهم طريقته في الوصال مع مشروع الجابري. ففي الوقت الذي كان السفير المغربي محمد آيت وعلي تلميذ السنتين وفيَّا لهذه العشرة الفكرية المباشرة. كان الناقد علي أحمد الديري مأخوذا في لحظة البدايات والتكوين مبهورا بأدوات شغلته كثيراً واشتغل بها فيما بعد، ولكنه تخلّص من لحظة البدايات بما صوّبه المفكر جورج طرابيشي لمشروع الجابري من نقود حاسمة. فيما كان مدير تحرير «الوسط» الباحث في الفكر والتاريخ والفلسفة وليد نويهض على تماسٍ مع مشروع الجابري نقداً وقراءة، مثمناً رصانة المشروع وقدرته على البناء والتفكيك آخذاً عليه انشغاله بمنهجية الثنائيات التي كبَّلته وظل رهينها، غير منتبه إلا حيث أراد الانتباه لتاريخية الأفكار التي انحاز إليها وأقلمها في مكان معين في الوقت الذي كانت هي نبتة كامنة في المكان الآخر.

1


آيت وعلي: الجابري ضحى بالسياسة من أجل الفكر

إن العزاء لمحمد عابد الجابري هو أن نتذاكره وأن نمعن النظر ونتعمق فيما تركه، خاصة وأن الرجل قد أثبت خلال مسيرته طيلة الستين سنة أنه لم يكن يطمع في جاه ولا مناصب، وكان زاهداً في كل شيء وهو من المفكرين الذين رفضوا الجوائز من الشرق أو الغرب. ومن حق الرجل وهو غير موجود بيننا أن نعود إلى مشروعه وإلى تراثه وما ألّفه بكثير من الهدوء والتفحّص. وأكاد أزعم أنني أعرف أستاذي الجابري معرفة جيدة خاصة وأنني درست عليه سنتين كان يدرسنا كتاب موسى بن ميمون «دلالة الحائرين» واختيار الجابري تدريس هذا الكتاب لأنه أراد أن يعطي لطلابه في درس الفلسفة الأساس الفكري والأيديولوجي والمعرفي الذي قام عليه الفكر المغربي لاحقاً وهو علم الكلام وهو غير موجود لدى أي باحث عربي قديماً أو حديثاً إلى أن جاء ابن ميمون فجمع كل ما أنشئ في المغرب في علم الكلام ليقدمه للفكر اليهودي وجمعه في كتاب «دلالة الحائرين».

الجابري بنى مشروعه على أساس علمي معرفي تأصيلي، رجع إلى النصوص وغاص فيها وأخذ وقتاً كبيراً إلى أن طلع بكتابه في العقل العربي. ألف في العقود الثلاثة الأولى من حياته كثيرا في أمور تخص الواقع العربي في مشاكل التعليم ومشاكل الاستقلال وما بعده والمشاكل السياسية. الجابري كان أحد زعماء أكبر حزب في المغرب وهو الحزب الاشتراكي للقوى الشعبية إلا أنه بعد ذلك اقتنع أن المعرفي يجب أن يظل معرفيا والسياسي كذلك.

اختار الطلاق مع السياسة وابتعد عن الحزب وقدم استقالته من اللجنة المركزية للقوى الشعبية، لينطلق في مشروعه الفكري، وقد بدأ بكتاب يعتبر الأساس في مشروعه ( نحن التراث 1980) وهو ثاني كتاب في تاريخ الفكر المغربي المعاصر الذي اعتبر عتبة مهمة وتوجهاً جديداً. وقبله كتاب الأيديولوجية العربية المعاصرة لعبد الله العروي في 1967 وحينما أطل الجابري بـ (نحن والتراث) قامت ضجة كبيرة، ففيه أتى بمفهوم القطيعة آخذاً هذا المفهوم عن الفلسفة الفرنسية المعاصرة وخاصة لدى غاستون باشلار. فجاء بمفهوم القطيعة الأبستمولوجية وقامت ضده ضجة من أن هناك قطيعة بين المشرق والمغرب وهناك الكثير ممن لم يعجبهم هذا الكلام. ولاحقاً سيؤسس مشروعه في نقد العقل العربي على ثلاثية البيان والبرهان والعرفان على اعتبار أنه في الوطن العربي هناك عقل عرفاني ساد في المشرق العربي والعقل البرهاني ساد في المغرب والكثير لم يعجبهم هذا الكلام أما الجابري فما رد في يوم من الأيام وإنما استمر في مشروعه.

القول الأساس الذي جاء به الجابري حينما دافع عن مفهومه للقطيعة أن ما أراد قوله في القطيعة المعرفية الأبستمولوجية هو داخل مجال معين ليس داخل الفكر. ليس العقل المشرقي عقل عرفاني والعقل المغربي عقل برهاني إنما حينما نتكلم في الفلسفة في الفكر هنا يحصل نوع من الاعتماد على العرفانية وفي الجانب الآخر من العالم الإسلامي الاعتماد على البرهان.

الجديد الذي أتى به الجابري في مشروعه هو أنه صادف أن المدرسة المغربية كانت حديثة العهد بالمدارس الغربية عكس المشرق. فمصر مثلاً لامست فكر النهضة الأوربية مع رفاعة الطهطاوي ومرورا بلطفي السيد إلى طه حسين إلى المفكرين المعاصرين إلا أن علاقتها بهذا الفكر انتهت بعد الخمسينيات. لم تعد هناك بعثات أو اتصال مباشر. بعد الخمسينيات حدث تصارع في المدارس الفكرية في الغرب من الماركسية إلى ما بعدها إلى نقد الماركسية إلى البنيوية إلى فلسفة الاختلاف إلى فلسفة الرفض.

ثمة مجموعة من المدارس الفكرية التي تأسست على أساس درس اللسانيات لم تكن معروفة قبل الخمسينيات. قبل فردينان ديسوسير لم تكن المناهج وأدوات البحث تزودت بدرس اللسانيات الذي أعاد قراءة الأشياء قراءة أخرى، وكذلك درس الأبستيملوجيا اللذين سيسلحان المفكر والباحث ليعيد قراءة التاريخ. لذلك فإن ما قام به الجابري أنه تسلح بهذه الأدوات ورجع مرة أخرى ليدرس الفكر العربي الإسلامي. وهناك محمد أركون الذي ظل فقط على مستوى التحفيز والدعاية أو تلقين الباحثين والطلاب والمفكرين والدعوة إلى أنه يجب أن نعيد تراثنا مسلحين بالأدوات الجديدة في العلوم الإنسانية، ولكن الجابري طبق ذلك فهو ليس داعية وإنما ممارساً. وإذا كان أركون قد وقف داعية ومحفزاً لتطبيق مفاهيم أدوات البحث المعاصرة والعلوم الإنسانية المعاصرة فإن الجابري قد مارس ذلك. ومن نتائج هذا البحث أنه أتى بأشياء جديدة لم تقبلها كثير من الحقول أو بعض المفكرين والباحثين في المشرق، ولكن الذي لا يعرفه البعض أن المدرسة المغربية حينما كانت تشتغل وتستعمل مفاهيم في البحث لم تكن تستعمل مفاهيم لغوية منحوتة فقط. ليست كلمات يمكن أن نستبدلها بمفردات وإنما هي أدوات بحث. حينما يتكلم عن الأبستيمية، العقل، القطيعة، هذه أدوات بحث إذا أنت استبدلتها بمفردات أخرى يصبح النص لا قيمة له. إذاً أنت أمام نص هذا النص فيه مميزات خطاب علمي من دقة وصرامة واختصار، اختار الأدوات التي فيها حمولة معرفية. هنا ننتقل باللغة من المفهوم إلى التداول وتصبح المصطلحات المستعملة ليست مصطلحات فقط وإنما مفاهيم ذات دلالات فندخل في مجال آخر هو مبحث التداولي والمدرسة التي تنتج هذا الفكر قد أعدت على درس اللسانيات ودرس الإبستميلوجيا وستنتج الكثير.

حينما نتكلم عن الجابري نحن لا نتكلم عن مفكر فقط بل عن المفكر وعن المناضل السياسي وعلى من وجد أمام شيئين «هل أمزج بين السياسة والفكر أم أضحي بالسياسة للفكر وما قيمة الفكر إذا لم يخدم المجتمع. الجابري هو هذه الطروحات وهذه الإشكالات».


نويهض: كان الجابري خلدونياً في تماسك مشروعه الفكري

يتميز نص الجابري بالتماسك ودائما هناك ربط قوي ما بين مقدمة الموضوع وما بين النتيجة التي يريد التوصل إليها، وهذا يؤكد أنه عندما كان يكتب كان يكتب بروح السيطرة على النص وكان يدرك كيف يحفر في النص ويتم طرحه في الحياة المعاصرة، ولذلك تميز منهج الجابري بهذا النوع من التماسك وهذا لا نراه في الكثير من أعمال كبار الكتاب والمفكرين. وكان عنده قدرة على منهج التفكيك والتركيب. وباعتقادي أن الجابري كان قوياً في عملية التركيب ومن الممكن أن نلاحظ الكثير من المفكرين العرب عندهم قدرة وباع طويل في الجدل والجدلية والتحليل ولكن لدينا ضعف في المشرق والمغرب عموماً في عملية الاستنتاج أو التركيب. فبعد التحليل والتفكيك نعيد ترتيب هيكلة النص من جديد فكان الجابري قوياً في إعادة التركيب بما يتطلب عقلا قويا قادرا على السيطرة على النص. وهذه من نقاط قوة الجابري في تعامله مع النص.

تعامل الجابري مع التراث بوصفه ليس مقدساً وهو ليس من المسائل التي دخلت مرحلة الفوات التاريخي. تعامل مع النص التراثي بصفته قوة راهنة وهو ليس من الماضي بل هو قوة راهنة وفاعلة يمكن أن تفعل في آليات التفكير اليومي في طريقة تخاطبنا مع العالم مع المرأة، مع الرجل، مع السلطة تعاملنا مع الناس في حياتنا اليومية. هناك مجموعة مفاهيم متوارثة تلعب دورها ووظيفتها الراهنة فكان عنده تعامل جدلي تفكيكي وتركيبي في النص فكان يتعامل مع التراث بصفته قوة راهنة وليست فقط مسألة تم تجاوزها واعتبارها من الماضي.

إلى ذلك هناك ما يمكن تسميته بثنائيات الجابري. وعناصر قوة هذه الثنائيات ساعدته على ضبط منهجيته الفكرية وتحديدا إذا عرفنا أن شغل الجابري الأول كان على ابن خلدون ومن يعمل على ابن خلدون فإن ابن خلدون يساعده على ترتيب أفكاره لأن قوة فكر ابن خلدون يساعد على ترتيب أفكار الباحث. هذا ما حدث مع طه حسين حينما اشتغل على ابن خلدون وهذا ما حصل مع شكيب أرسلان. دائماً من كان لديهم قدرة على دراسة النص وربطه وتركيبه نجد أنهم كانوا خلدونيين في بدايات اشتغالاتهم أو في بدايات دراساتهم الأكاديمية الجامعية أو خارج الجامعة.
ثنائية الجابري التي تعاملت مع النص والتراث بين القديم والجديد أوقعته في ثنائيات معاصرة لاتزال غير محسومة وتخضع للنقاش والجدل. هنا واجه الجابري حملة من المعارضة والنقد أحياناً كانت موجهة وأحيانا كانت ملاحظات مبنية على تقسيماته المعاصرة وليست القديمة. فهو نجح في القديم وانتقل للحديث وفي التعامل مع القضايا الحداثية، كان هناك قصة المشرق والمغرب، عرب وفرس، عرفانيين وعقلانيين وبالتالي أخضع العقل إلى البيئة الجغرافية والتقسيمات الجغرافية وأصبحت الجغرافيا أحياناً تلعب دورا أساسيا في تكوين الحياة الاجتماعية والعلاقات، ولكن نتج منها نوع من المفارقات التي أدت إلى عدم فهم الكثير من الكتاب له وبعض المفكرين الذين واجهوا الجابري انطلاقا من ملاحظات ليست على قراءته للنص التراثي وإنما على سحبه لهذه الثنائيات على الواقع المعاصر.

الديري: الجابري علمني اختراق الأفكار وإعادة إنتاجها في بنية محكمة
تعرفت على الجابري في سنة 1993 تقريبا في السنة النهائية للبكالوريوس بجامعة البحرين وكنت لحظتها خريج كلية الآداب لغة عربية ولم تكن لدي أي أدوات مفاهيمية أو عدة فلسفة أو عدة نقدية، لدي مجموعة من المعارف المتراكمة أشبه بأشياء في كيس ليست لدي القدرة على أن ينظم هذه الأفكار أو هذه الأشياء ولا أن أخترقها أو أجعلها بنية. تعرفي على الجابري كان بمثابة التعرف على ساحل رأيته كيف يستطيع أن يخترق مجموعة من المعارف ويسبكها في بنية وينتج من خلالها أشياء لم تكن معروفة فكنت أراه يدخل على نقاد بلاغيين ونحويين وعلماء أصول وعلماء شريعة وفلاسفة. كنت أذهل حين يداخل بين هذه الحقول كلها وأنا خريج كلية لم تكن مرستني في هذه المجالات، وبداية هذا التعرف قد حرّك شيئاً في بنيتي الفكرية فللمرة الأولى أكون ملتفتاً إلى أن هناك مجموعة من المفاهيم هي التي نقرأ من خلالها النصوص، فبدأت عبر الجابري أعرف مفاهيم جديدة عقل مكوَّّن وعقل مكوِّن أفهم معنى البنية الذهنية، النظام المعرفي، عصر التدوين، معنى المرجعية الفكرية، معنى العقل، التفكير في العقل، التفكير بالعقل، إطار مرجعي، قطيعة معرفية. هذه المصطلحات كانت جديدة بالنسبة لي وطازجة ولم أكن حينها قادرا على هضمها كلها وجدتني لأول مرة أستطيع أن أتعرف على أدوات للفكر وهي فضلاً عن المعارف والمعلومات وأسماء الكتب والنصوص والنظريات هي ما يعينك على قراءة ذلك وتكوين معرفة من خلالها. ومنذ لحظة قراءة الجابري بدأت ألتفت إلى أن المعول على المدرسة المغربية إذا أردت أن أتجاوز التراكم الذي هو سمة المعرفة التي تعلمتها على الأقل في الجامعة عن المشرق فبدأت التفت إلى المغرب ومن خلال الجابري انفتحت على آخرين غيره من المغاربة، عبدالسلام بن عبدالعالي وعبد الفتاح كليطو وطه عبدالرحمن تشكيلة جامعة تتميز بأن لديها أدوات الاشتغال وأنت بهذه الأدوات تشكل معرفتك وقراءتك الخاصة والجابري ربما كان هو المفتاح.
آيت وعلي: ثلاثية البيان والبرهان والعرفان عملية إجرائية للسيطرة على التراث الهائل
استند الجابري في رؤيته للعقل العربي إلى ثلاثة مداخل البيان والبرهان والعرفان ما مصدر هذه الثلاثية وإلى أي مدى استطاع هذا التقسيم الثلاثي أن يلملم حالة العقل العربي؟
– هي عملية إجرائية يقوم بها الباحث لكي يسهل عليه تناول هذا التراكم المعرفي الذي أنتجه الفكر العربي والفكر الإسلامي، ولا ننسى أن الجابري لديه كتب في فلسفة العلوم الرياضية وفلسفة العلوم الفيزيائية بمعنى أن هناك علاقة تكوين وتأطر بمناهج البحث في العلوم الإنسانية الحديثة وانفتاح أساسه درس الأبستمولوجيا ودرس اللسانيات وهذين الدرسين هما الذين وجها الفكر الغربي المعاصر، والجابري حينما وضع هذه المفاهيم وحاول أن يقسم الفكر العربي إلى بياني وبرهاني وعرفاني فإن هذا العمل هو عمل إجرائي اقتضته ظروف البحث لكي يسيطر على هذا الإنتاج الهائل والمتراكم في الثقافة العربية والإسلامية، وقد يتجاوز الجابري هذا التصنيف إلى تصنيفات أخرى والذي فرض عليه ما سبق هو قراءته العميقة والغوص مسلحاً بمناهج بحث أفادته بأن يصنف لكي يسهل على نفسه عملية إيجاد جسم لهذه الأفكار. أراد أن يعطي لهذا التراث وهو الفكر العربي الإسلامي على مدى 14 قرناً أراد أن يعطيه جسماً حتى يستطيع أن يتمكن من مساءلته ومحاورته حتى يكون شيئاً حياً أمامه. ومن خلال غوصه وبحثه رأى أن كل ما يدور في فلك العلم الديني كقرآن وكحديث هو أقرب إلى البيان. لأن المعجزة الإسلامية بنيت على البيان. وكل ما هو آتٍ من الفلسفة القديمة وقبل اليونانية وما بعد الأفلاطونية المحدثة فهو عرفاني، وكل ما بني على أساس أرسطو وطوره لاحقاً ابن رشد فهو برهاني. ومن هذا المنطلق استطاع الجابري أن ينهي مشروعه بشيء مهيب وجبّار وهو تفسير القرآن بأدوات جديدة ليس منها أن تتملك ناصية اللغة وتفسر القرآن تفسيراً نحوياً أو بلاغياً نحوياً كما فعل الزمخشري أو بلاغياً كما فعل آخرون أو أدبياً كما نجد لدى السيد قطب رحمهم الله جميعاً. الجابري أراد أن يقرأ القرآن قراءة مسلحة بأدوات العلوم الإنسانية تسائل الرأس مال الرمزي للإنسان أو اللاشعور المعرفي الذي هو موجود في داخل كل مسلم وكل عربي الذي حينما ينتج يصبح تراثا مكتوبا.
نويهض: حصر العقلانية والبرهانية في مكان معين وعزله عن مكان آخر افتقد إلى المنهجية التاريخية
هناك محاولة لتبيئة أو أقلمة البرهان في بيئة جغرافية والبيان في بيئة جغرافية أخرى إلى أي مدى استطاع الجابري من خلال هذين المفهومين قراءة البيئتين باعتباره قارئاً للعقل السياسي الذي ينتج حالات قطيعة معرفية بين المغرب والمشرق؟
– يجب التمييز بين قراءة الجابري وأي قراءة أخرى للنص. فهو ينبهك إلى المخزون القوي من المعرفة في مجال التراث والاطلاع على المدارس الفكرية والمناهج الأوروبية الحديثة، هذا المزج أعطاه القدرة على تفكيك النصوص ورؤية مالا يراه غيره في هذا النص، هناك نصوص قرأها الآلاف والملايين ولكن القدرة على الاجتهاد في النص وانطلاقه من الواقع المعاصر كان محصورا في قلة من المفكرين ممن عندهم القدرة على استقراء النص بطريقة أكثر عصرية مستفيدا من العلوم المعاصرة وهذا كان جهد الجابري.
في السؤال إشارة إلى جغرافية وإقليمية المدارس الفكرية وتاريخية المدارس الفكرية. فقد تنطلق الأفكار من بيئة جغرافية محددة في البداية ولكنها تاريخيا تنتقل، فعندما كتب مثلا صاعد الأندلسي في طبقات الأمم تحدث عن انتقال الأفكار، الأفكار تنتقل وترحل من بيئة إلى بيئة وتتطور بحسب البيئة الجديدة ثم تنتقل إلى بيئة أخرى، كما حصل مع الفلسفة اليونانية إذ تم ترجمتها إلى العربية وأخذ بها بدايةً من ثم تم تجاوزها لاحقا، فبالتالي هناك البيئة والمنابع والمصادر الأولى للمادة وهناك خضوع المادة إلى التطور التاريخي والانتقال من جغرافيا إلى جغرافيا من زمن إلى زمن ومن ثم إعادة إنتاجها وإخضاعها إلى المزيد من التقدم.
رغم ما أشرت إليه هل أسس الجابري إلى قطيعة معرفية أخرى عبر هذا التقسيم وإن كان لجوؤه إليه لجوءا منهجيا .
– الاختلاف لم يكن في البداية وإنما كان في عدم المتابعة التاريخية للفكر وبالتالي حصر العقلانية والبرهانية في مكان معين وعزله عن مكان آخر، افتقد هذا المنهج التاريخي فقد ظل أسير المنطلق الجغرافي، وكذلك موضوع التصوف والصوفية الذي انتقل إلى المغرب وكانت هناك مدارس مغربية صوفية مهمة تختلف عن المشرق وعن بعض المناطق ولها طبيعتها وخصوصيتها. المدارس الصوفية موجودة وهي مثال على العقل العرفاني. الإمام الشاطبي دعا إلى مؤتمر في عصره لبحث مشكلة مدارس التصوف التي اجتاحت المغرب أيامه ، أي في عصر ابن خلدون (الشاطبي يكبر ابن خلدون بـ 19 عاما) وحدث خلاف بين الشاطبي وابن خلدون حيث لم يدع ابن خلدون إلى هذا المؤتمر وبالتالي أدى ذلك إلى انزعاج ابن خلدون وكتابته (شفاء السائل) عن حركات التصوف. إن المدارس العقلانية كانت في حالة تفاعل وانتقال بسبب التقاليد الدينية ورحلات الحج، وبالتالي كان هناك دائماً نوع من التلاقح. من المهم الإشارة إلى أنه لم تكن كان هناك عملية تعقب تاريخي وتحقيق تاريخي في هذه المسألة وقد انتبه إليها الجابري باشتغاله على القرآن حين اتخذ المسائل التاريخية كأساس. المنهج التاريخي في قراءة القران الذي اتبعه الجابري يعتبر خطوة نوعية جديدة وتأسيسية وكانت هذه آخر أعماله وكان من الطبيعي والبديهي جداً أن شخصا قضى 40 عاماً من حياته يعمل على التراث ويحفر فيه أن يصل إلى البداية الأولى إلى الكتاب الذي أسس كل هذا، فكان منطقياً جدا أن ينهي الجابري حياته بتفسير القرآن وهذا تفسير جديد أي أنه أعاد ترتيب الآيات القرآنية بحسب النزول وقام بدراستها رابطاً مسألة التفسير بنقطتين السيرة النبوية وتاريخ الدعوة. وربطها بالآيات، آية بعد آية من البداية إلى النهاية. هذه الملاحقة التاريخية أو هذا التعقب التاريخي يعتبر انجازا مهما وخطير جدا ويمكن يؤدي إلى ردود فعل لا تقل عن الردود التي حصلت ضده في الموضوعات الأولى.
الديري: الجابري قرأ العقل العربي كقصر مكون من مجموعة من الغرف المتصلة
لعل كثير من المشاريع كان منطلقها الواقع العربي والبحث في سؤل النهضة عبر إعادة النظر في التراث، ألا ترى أن إرجاع الجابري العقل العربي إلى مسائل البيان القديمة اللفظ والمعنى وصراعات التأويل هي مسائل تم تجاوزها في عصر الآلة وما عاد لها من أثر كبير وأن المتحكم في العقل العربي الحديث هي أشياء أخرى طرأت عليه لاحقا.
– ذكرت المنطلق ومهم جدا مع الجابري كرجل يؤسس للأفكار دائما على أصولها أن نتحدث أيضا عن أصول الجابري ومنطلقه في مقدمة كتابه «تكوين العقل العربي». يقول الجابري أنه يريد أن يقرأ العقل العربي كقصر مكون من مجموعة من الغرف ولا يريد أن يقرأه كمجموعة من الخيام المنفصلة، بمعنى أنه يريد أن يقرأ العقل العربي كوحدة لها سور وسور هذا القصر هو الذي يجمع هذه الغرف المشكلة وفق نظام السور وهو إطارها المرجعي وهذه العلوم التي هي الغرف تستمد من السور بنيتها المعرفية وطريقة بنائها، في حين إن مجموعة الخيام هي التي تجعلك تقرأ العقل كأنه جزر منعزلة أو تقرأ هذه العلوم في هذه الحضارة العربية كأنها جزر منعزلة وكل جزيرة لوحدها. ما أعان الجابري على هذه القراءة أنه جاء، وتسبقه لحظة عربية مقدارها 100 عام قد تم فيها تحقيق نصوص كثيرة ودراسة العلوم العربية واستخراج نصوص رئيسية تم تقعيدها وهناك أيضا دراسات اشتغلت على هذه العلوم كخيار فهو جاء الآن يريد أن يستثمر كل هذا الانجاز لكي يدخلها ضمن السور، وقد نجح نجاحا كبيرا جدا في أن يرينا كيف أن هذه المرجعية دخلت في كل هذه العلوم ولكن هذا النجاح في حد ذاته شابه الكثير من الإشكاليات. وأشير إلى أن تقسيم العقل العربي إلى ثلاث حالات فيه شيء من الانحياز ليس أيديولوجيا وإنما انحياز إبستومولوجيا أو معرفي. ولست ادري إن كان يصح أن نسمي الأبمستومولوجي انحيازاً لأن الإبستومولوجيا هي معرفة من الدرجة الثانية وليست معرفة من الدرجة الأولى، المعرفة من الدرجة الثانية بمعنى أنها تخضع المعرفة للتفكير وهي تفكير في العقل، منطلق الجابري لدراسة العقل هو أنه كان يريد أن يفهم، كان يريد أن ينتصر إلى العقل الذي يعني ربط الأسباب بالمسببات.
هذا هو العقل الذي انحاز له الجابري وكان يشتغل عليه طوال مشروعه، والذي جعله يمايز بين العقول في الثقافة العربية. إن لب مشروع الجابري كان قائما على فهم العقل باعتباره ربط سبب بمسببات، من أين يأتي هذا المفهوم ؟ يأتي هذا المفهوم من العقل اليوناني، العقل اليوناني كما فهمه الجابري هو العقل الذي يربط الأسباب بالمسببات ربطا علميا محكما في مقابل أن العقل العربي عقل لا يربط الأسباب بالمسببات، عقل قابل للتجوز قابل أن يتجاوز فيه السبب مع المسبب قابل لهذه الانزلاقات وهذا هو مأزق العقل العربي كما يفهمه.
محمد آيت وعلي: السؤال ليس عن أصالة الفكرة بل عن اشتغالها في البيئة الجديدة
إلى أي مدى كانت جزئية البرهان أصيلة أو متمكنة في العقل العربي حتى نستطيع قراءته من خلالها، أليست جزئية البرهان في العقل العربي قادمة من مداولات أو مآلات الترجمة العربية للعقل اليوناني ومحاولة إعماله في البيئة العربية؟
– علمتنا الفلسفة المعاصرة أن انتقال وافد من ثقافة إلى أخرى ليس عيبا وإنما لا يجب أن نلاحق مكونات فكر معين ونرجعه إلى أصول، ونتساءل عن القيمة التي أصبح يلعبها في بنيته الجديدة، وليس عن أصله بل ما هي القيمة وما هو الدور الذي أصبح يلعبه في بنيته الجديدة. هناك عناصر وافدة إلى الثقافة العربية من الثقافة اليونانية أصبحت تلعب أدواراً داخل هذه البنية وهنا يجب أن نبتعد نهائياً عن ما قام به المستشرقون في نسبتهم أن هذا من عند أرسطو وأن هذا من عند أفلاطون أو فلان ويخرج العربي كأنه ما عمل شيئاً، هذا غير صحيح. قوة الثقافة العربية هي أنها أعادت إنتاج ما جاءها من اليونان داخل منظومة جديدة داخل بنية جديدة وأصبحت تعلب أدوارا أخرى خاصة ما نقل من أرسطو كفلسفة يونانية في جانبها البرهاني الذي أخذ أبعادا أخرى في الغرب الإسلامي في المشرق. اختلط العقل اليوناني بالموروث القديم من غنوصية وهرمسية ومانوية هذا مع ابن سينا والغزالي والفارابي. أما في الغرب الإسلامي فسوف يصبح هناك منتوج آخر هو ما سنراه عند ابن رشد وعند ابن حزم وعند الشاطبي وعند ابن خلدون وغيرهم. نحن أمام عقل توجه نحو مناخ فكري ابتعد على ما جاءت به مشاكل الخلافة وابتعد على ما جاءت به الفتنة الكبرى وابتعد نسبياً عن ما يسميه الجابري بالموروث القديم (الغنوصية، والهرمسية، والمانوية) وكل ما استطاع أن يعيش بعد ما جاء الإسلام بحيث أن الإسلام لم يستطع أن يمسح الطاولة في المشرق ولكنه في المغرب وجد بيئة أخرى تكاد تكون ممسوحة طاولتها. انتقل إلى بيئة بريئة نسبيا من كل ما هو (غنوصية وهرمسية ومانوية) كل ما هو موروث قديم هذا هو الأساس الذي قام عليه البرهان لذلك نحن نستطيع أن نفسر توجه الجابري أنه استمرار لابن رشد وابن حزم والشاطبي وابن خلدون. في الغرب الإسلامي قليلا ما تجد بعض الشطحات حتى التصوف كان أقرب إلى التصوف الفلسفي. إن ما قام به الجابري هو أحد المشاريع التي طرحت لتحديد العقل العربي بعد رفاعة الطهطاوي وسؤال النهضة لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا، كيف السبيل لتجاوز التأخر التاريخي والهيمنة الاستعمارية، بأشكالها حتى الحالية. هذا السؤال هو هذه النقطة التي حاول المفكرون العرب الإجابة عنها، هناك من اختار الأفكار الدينية رشيد رضا، وحسن البنا وسيد قطب وما عرف فيما بعد بالحركات الإسلامية التي حاولت أن تجيب عن هذا السؤال « وأنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها» وكذلك محمد عبده وجمال الدين الأفغاني. الاثنان جمعهما رشيد رضا وأصبحت هذه الأفكار موجودة في الواقع فيما يسمى بالحركة الدينية خاصة حركة «الاخوة المسلمين». هناك اتجاه آخر الذي قال يجب أن نكون ليبراليين وأن نكون دستوريين وأن نبني المؤسسة الدستورية، لطفي السيد وغيره من الليبراليين. وهناك من قال بالعقل والفكر كطه حسين وهناك من قال إنه يجب أن نأخذ بالتجربة اشتراكية كالطيب تزيني وحسين مروة وغيرها كمشروع رؤية جديدة للفكر العربي الوسيط في النزاعات المادية.

نويهض: كان الرازي في نصه الفقهي فيلسوفاً كبيراً

ولابد من إعادة ترسيم الحدود بين ما نسميه فقه الفلسفة، وفلسفة الفقه
هل استطاع العقل اليوناني أن يعمل في البيئة العربية الصحراوية القائمة على النقل وعلى مسألة التنقل مقابل ثقافة الحاضرة القائمة على الثبات والتدوين؟
– لا شك أن ترجمة الفكر اليوناني للعربية كان له أثره على رغم أن هناك اختلاف في إجابة سؤال متى بدأ الفكر الفلسفي عند العرب هل هو بعد الترجمة أو عصر التدوين أو كان هناك تفكير فلسفي قبلهما، وحين نرجع إلى صاعد الأندلسي نرى أنه كان هناك أسئلة فلسفية بالمعنى العام طبعا وليس بالطريقة الأرسطوية، كان عندنا أسئلة فلسفية أكثر منها منهجية فلسفية كان لها دور في إثارة العقل وتحديدا في الآيات المجملة التي كانت تثير أسئلة عامة وكذلك ظاهرة الناسخ والمنسوخ، وجاء منهج الجرح والتعديل الذي استخدم في إعادة ترتيب وتحديد الأحاديث من حيث دقة النقل وصحتها. طبعاً ظهرت منهجيات كثيرة وكان هناك عملية الترجمة الفلسفية، ولابد من إعادة ترسيم الحدود بين ما نسميه فقه الفلسفة وفلسفة الفقه. والاختلاف بين المسألتين لا يلغي التداخل إذ كانت بدايات الأسئلة الأولى وتحديداً ما نشأ بين الحسن البصري وخلافه مع واصل بن عطاء، من ثم بدء الاعتزال وصولا إلى فقدان مدارس الاعتزال وظيفتها التاريخية بعد حكم لمدة 40 عاماً في العصر العباسي برز الكندي الذي عاصر المعتضد وهو يعتبر أول فيلسوف عربي، كما كان هناك الفارابي وهو الفيلسوف الحقيقي، بمعنى أنه اشتغل على المنهج. وهنا لابد أن نبحث في كيفية اختلاف المناهج، ومنها تأثير المهنة على الفكر. كان الكندي لغوياً ومصححاً وكان مشرفاً على الترجمة، بينما الفارابي كان يهتم بالموسيقى وهذا له تأثر على الفكر والفلسفة. ابن سينا كان جراحاً وكان كيماوياً يمزج الأدوية مع بعض، وكذلك الرازي الذي جاء قبل الفارابي. كذلك الغزالي الذي كان من بيت فقير مسكين يشتغل على غزل الصوف توفي والده الذي كان خادماً يتصف بالأمانة وكان يتعامل مع بعض العلماء وهذه ورثها الغزالي عن والده وعن أصحاب والده وبالتالي كان له علاقة بالمؤسسات. إذاً المهنة والبيئة الجغرافية والظروف تلعب دورها في الإنتاج الفكري. هناك الفكر نأخذه من المصادر الأولى نقرأ أفلاطون وأرسطو والفكر الأوروبي ونأخذ عنه، وأيضا هناك ظروفنا وبيئتنا التي تلعب دورا أساسيا في تعديل الكيفية التي نستقيها من القراءات ومنابتها المختلفة، ولذلك لابد من إعادة قراءة تاريخ الفلسفة انطلاقاً من أنه ماذا يعني عندنا الفقه هل الفقه هو فلسفي أم لا، هل الفقهاء ارتقوا في مناهجهم الفكرية إلى مرتبة الفلاسفة أم لا. هناك نقاط كثيرة لابد من ملاحظتها مثلاَ عندما نقرأ فخر الدين الرازي في نصه الفقهي تشعر أنك مع فيلسوف كبير رغم أنه لا يدرج بصفته أحد الفلاسفة، عندما تقرأ نصوص العقل والنقل مع ابن تيمية نجد أننا أمام عقل كبير يحاول أن يساجل النصوص اليونانية والعربية. كذلك الغزالي و الشاطبي في كتاب «الموافقات» الذي هو كتاب فقهي ولكنك تشعر أنك أمام كتاب فلسفي. إذاً لابد من إعادة الاعتبار للفقه الإسلامي واعتباره فعلاً فلسفة. الفكر الإسلامي جزء كبير من طرحه ومن منتوجه ومن الجهد البشري كان فقهيا بالمعنى الفلسفي باعتبار أن الفقيه يعمل على الاجتهاد في النص وبالتالي يربط العام بالخاص والمطلق بالوقائع الجارية كما يسميها ابن خلدون أو المصالح المرسلة كما يسميها الإمام مالك.
أنت هاهنا تؤكد على وجود فلسفة عربية في الوقت الذي البعض ينفي وجود فلسفة عربية ومن هنا في نفي ظل وجود فلسفة عربية أصلا هل نستطيع القول بوجود عقل عربي؟
– هناك فلسفة عربية ومستقلة في مقابل عقل يوناني. غير صحيح أن الفكر العربي الإسلامي في إطاره الفلسفي أو في منظومته الفلسفية هو يوناني. إذا أردنا أن نؤكد على استقلالية الفلسفة العربية لابد أن يكون لنا فلسفتنا كما قال مثلاً طه عبدالرحمن في كتابه (الحق العربي في الاختلاف). «من حقنا أن يكون لدينا مشروعنا الفلسفي المستقل ومن الممكن أن نعيد قراءة الفقه وأن نستنبط من هذا الفقه الفلسفة المستقلة.

آيت وعلي: الأفكار حينما انتقلت من الفلسفة اليونانية إلى بنية أخرى أصبحت لها هوية جديدة

حينما انتقلت الأفكار من بنية الفلسفة اليونانية إلى بنية أخرى أصبحت لها هوية جديدة ليس بالضرورة أن نبحث عن أصلها ونتتبعها، بل ما هو الدور التي أصبحت تلعبه في بنية جديدة لا نسأل ما أصلك. هناك مجموعة من المفاهيم لم تكن موجودة في الفكر العربي نقلت من الفلسفة اليونانية منها الجوهر وغيره، كلمات غير موجودة أصلاً ثمة مفاهيم لم تكن موجودة على الإطلاق في الفكر العربي ولكنها أصبحت تلعب دوراً مهماً. فكلمة الجوهر في علم الكلام مفهوم مركزي جداً وله حمولة معرفية كبيرة، حينما نسأل عن الذات والصفات لم يستطع المتكلمون تفسير الذات والصفات والخوض فيها إلا بالاستعانة بمفاهيم فلسفية مثل الجوهرالبسيط الذي يعني غير مجزأ وإذا كان غير مجزأ فهو لا يقبل من يركبه ولا يسري عليه الزمان والمكان، والجزء اليسير الذي انتقل في البداية مع كندي من مفاهيم فلسفية إلى فكر الإسلام العربي أصبح يلعب أدواراً أخرى وأصبح له حمولة معرفية أخرى. لن نستطيع أن ندرك هذه الأشياء إلا باستحضار دروس جيِّدة في اللسانيات، فطه عبدالرحمن حينما نحت مفهوم التداول في الفكر العربي ونقل البرجماتيك إلى العربية وسماها بمبحث التداول أعطى معنى آخر للأفكار. فما هي القيمة التداولية التي أصبح يلعبها هذا المفهوم اليوناني داخل بنية جديدة.
الديري: أنا أضيف على كلام السفير، أن فهم الأفكار وانتقالها عبر التأثر والتأثير. واقعنا في مشكلة المستشرقين الذين دائما يتحسسون من مسألة التأثير. وللخروج من ذلك ممكن نستخدم مصطلح الاسترجاع فكل فكر يسترجع أفكاراً سابقة ويبني عليها ويعيد صياغتها من جديد، فننتهي من فكرة من أثر وأين المؤثِر فيه ويظهر لنا الفاعل، والمفعول الذي دائماً هو أدنى من المفاعل، بينما هي استرجاعات تصبح لها وظيفة في بنية أخرى، بنية جديدة.
آيت وعلي: المغرب لم يتأثر كثيراً بالفتنة الكبرى، ولكن يجب أن نكون صادقين مع التاريخ، ما انتقل من الأفكار من المشرق إلى المغرب هي أفكار خارجية ممزوجة بكثير من المعتزلة، أفكار خوارج اعتزالية، والحفر في هذا الموضوع يجيبنا لماذا سيكون لاحقا ابن رشد والشاطبي نوعاً من البرهان ونوعاً من العقلانية.
الديري: استرجع من جديد أن فكرة السببية التي أخذ بها الجابري في دراسة العقل، بقدر ما هي نقطة قوة، هي أيضا نقطة ضعف في مشروع الجابري لأنه حصر مفهوم العقل في مفهوم السببية وأعطاه قيمة حكمية فصارت الحضارة أو العقل. لا يستعمل العقل بهذا المفهوم هو درجة أدنى، تحوّل إلى أداة تبضيع أداة تبخيس لبقية الأدوات العقلية. واستناداً إلى هذا الانحياز الذي قدمه للعقل اعتقد أنه قسم العقل العربي إلى ثلاثية ليس فقط تقسيماً إجرائياً ليسهل عليه التعامل مع هذه النصوص وإنما هو قسمه لانحيازه إلى مفهوم العقل السببي، فهذا جعله يستطيع أن يفصل ثلاثة عقول فصلا ليس معرفيا فقط، ليس لأن بنية العقل تشتغل بهذه الطريقة ليس هذا هو السبب وإنما هو يريد ذلك. وما أفهمه من أن ( الجابري هو ابن رشد هذا العصر) هو أنه مال إلى ابن رشد وابن رشد مال إلى أرسطو وفتن به واعتبر أن العقل بمفهوم الأرسطي هو العقل الجدير بأن نأخذ به، والجابري هو ابن رشد أيضا لأن موقف ابن رشد من بقية العقول العقل الصوفي أو من العقل البياني هو أيضا موقف سلبي، والجابري هو ابن رشد لأنه يعول أيضاً على استعادة مفهوم العقل لتأسيس عقلانية جديدة وتأسيس عقل جديد وتأسيس فلسفة جديدة هو حصر نفسه في هذا المفهوم عن العقل، في حين نحن الآن في عصر تجاوزنا فيه مفهوم العقل الأرسطي بل تجاوزنا فيه أرسطو، بل إن الحضارة الأوروبية القائمة الآن هي حضارة على أنقاض أرسطو على نقد أرسطو، نسترجع فرنسيس بيكون حينما وضع الأوركونان الجديد علم المنطق الجديد، هو وضعه لكي ينقض المفهوم الأرسطي، فمع هذا المنهج تجاوزنا العقل الأرسطي في العقلانية الحديثة بل تجاوزنا مفهوم العقل كبنية ثابتة أن هناك عدم تعارض وأن هناك مبدأ هوية تجاوزنا أيضاً هذا المفهوم إلى أن ننفتح على عقلانيات متعددة في العالم، وأن نجد في كل عقلانية بما هي مجموعة من القواعد والمعايير لقراءة العالم وقراءة الإله وقراءة الكون، ننفتح على عقلانيات متعددة في هذه القراءات لا أن نبخسها ونجرحها لا أن نقف منها موقف المنتقص الذي يريد منها أن ترتفع وتلحق بالعقل الأرسطي وعلاقاته السببية. لكي تكون عقلانياً جديراً لابد أن تؤخذ كل الإضافات في الاعتبار. وأرجع إلى التقسيم الموجود وأرى أنه ليس إجرائياً وإنما هو انحياز إلى هذا المفهوم السببي وعلى أساس هذا الانحياز هو بخَّس أيضاً من العقل العرفاني ومن العقل البياني.

آيت وعلي: حينما تكلم الجابري عن القطيعة الأبستمولوجية حصرها داخل الحقل الفلسفي الواحد

في الوقت الذي يحصر الجابري البرهان في المغرب. ويتجلى المغرب العربي باشتغاله على المجال العقلي ثمة مفارقة أنه ذو أصول صوفية فقبل أن نتحدث عن الفترة الحديثة واشتغاله بمنهاج العقل الحديث أو علوم الإنسان الحديثة والمجال العقلي هو من أصول صوفية متعددة المشارب والمذاهب. وعودة إلى الجابري هل يتحمل مفهوم العرفان أن يصبح مكوناً للعقل العربي في ظل خصوصيته وكونه طارئاً أو مفتعلاً أو فيه شيء من ردة الفعل على الاتجاه العقلي أو شيء من ردة الفعل على الاتجاه السياسي كنوع التصوف أو الانعزال إلى جهة معينة حين تستلبه أيدي السياسة أو يقينيات العقل الصاخبة.
– يمكن أن نكون واضحين فإذا قلنا إن المفاهيم السابقة كانت خياراً إجرائياً بمعنى أن هذه الأشياء لم تكن مفصولة، لم يكن في تاريخ الفكر العربي هذا شيء عرفاني وهذا برهاني بهذا الشكل -لا أبداً- فحتى مع ابن رشد نجد أن من مكونات فكره أشياء بيانية، حينما قلت إنها عملية إجرائية تسهّل عملية البحث فقط لكي تتضح الرؤية، وليس بالضرورة أن يكون ما أنتج في المغرب هو فقط برهان غير صحيح، وإنما داخل العرفان حتى داخل التصوف هناك نوع من الواقعية ونوع من العقلانية بمعنى أن الجابري في تكوين العقل العربي يقول في أحد بحوثه داخل تكوين العقل العربي، القرآن كان يدعو الآخرين إلى العقلانية وهم يدعونه إلى أشياء أخرى، غير عقلانية ، مائدة من السماء، شيء من الخوارق ولكن القرآن كان عقلانيا، جاء ضد ما كان شائعا من غنوص وهرمسية ومانوية وغير ذلك وكان اقرب إلى منطق الواقع كان بعيدا عن الأشياء التي هي غير عقلانية. هذا المنطق هو الذي انتقل إلى الغرب الإسلامي بعيداً عن البيئة التي كان موجودا فيها، وحينما انتقل إلى الغرب الإسلامي وجد بيئة أخرى وجد أفكاراً أخرى وجد طاولة ممسوحة غير موجود فيها هذه الأشياء القديمة فاستطاع أن يعطي فكرا أقرب إلى العقلانية أقرب إلى البرهان ولكنه مشدود إلى البيان ومشدود إلى العرفان لأن الأصل آتٍ من المشرق، ولم تكن هناك قطيعة نهائية حينما تكلم الجابري عن القطيعة الأبستومولوجية، تكلم عن القطيعة داخل حقل واحد هو داخل الحقل الفلسفي، كان لديه ابن رشد وأمامه الغزالي أو ابن سينا، ليست هناك قطيعة داخل الحقل هناك امتداد للعقل المشرقي نحو المغرب ومن الصعب جداً أن نقطع بهذه الأشياء ونقسم جغرافياً أن العرفان كان في المشرق والبرهان كان في المغرب.
الديري: أحببت أن اعلق على الطاولة الممسوحة التي وردت في أكثر من مرة، وهي مغرية للتعليق، الطاولة الممسوحة كما يستخدمها السفير بأن هي الفكر الصافي أو الفكر الذي لم تصبه شائبة العقل الغنوصي، وهذه نقطة من النقاط التي هي ناتجة من انحياز الجابري لمفهوم العقل السببي. في الحقيقة أنا لا أعتقد أن هناك طاولة ممسوحة لا في الفكر المغربي ولا في الفكر العربي ولا في الفكر اليوناني أيضا، حتى الفكر اليوناني كانت إلى جانب العقلانية الموجودة عند فلاسفته كسقراط وأفلاطون وأرسطو أنفسهم كانت طاولاتهم مليئة بغبار إن صح ان نسمي أن الأساطير هي غبار في حين أجدها مادة للتفكير، لذلك نجد أفلاطون حواراته يفكر من خلال الأساطير يطوّر آلية إجراء الحوار عبر استرجاع مجموعة من الأساطير والتفكير من خلالها، كذلك أرسطو حينما توفي أحد أقاربه وضع القرابين. العقل البشري ليس طاولة ممسوحة، العقل البشري في كل لحظاته ملتبس دائماً بالميثولوجيا ملتبس دائما بالأساطير وهذه هي مكونات معرفية ومكونات العقل نفسه، هذه مسألة ناتجة من انحيازات معرفية من الجابري كونه يعتبر منطقة المغرب هي منطقة ممسوحة من غبار الأساطير ومنطقة المشرق هي منطقة مليئة بغبار الاساطير، وهذا أيضا يعبر عن هذا الانحياز.
– آيت وعلي: لا ليست المسألة مسألة الأساطير، فالفلسفة اليونانية انتهت إلى كثير من العرفان مع الأفلاطونية المحدثة هذا الجزء فقط لم ينتقل إلى المغرب بالشكل الذي استطاع أن يعيش في المشرق، أرض الديانات، وأرض الأفكار، والروحانيات هي المشرق، وهناك من يقول إن مكة هي وسط بين الوحي والمادي كلما اتجهت غرباً تقل الروحانيات وتزداد الماديات وكلما اتجهت شرقا تقل الماديات وتزداد الروحانيات إلى درجة أن في الهند مَنْ يعبد الحيوان، بينما هذا صعب جداً في الغرب. ليست المسألة مسألة أساطير بل مركز الديانات عاشت فيها الافلاطونية المحدثة، وما نقل نقل مع النخبة، وهي التي انتقلت إلى الغرب، النخبة التي هربت من مشكلة الخلافة ولجأت إلى أقصى نقطة جغرافيا ولم ينتقل معها الكثير من الأساطير المشرقية فقد كانت عندهم أساطير أخرى، والأمازيغ واليهود والمسيحيون نقلوا أساطير أخرى.

نويهض: اشتغال الجابري على التراث خطوة نوعية لتجاوزه

هل مازال العقل العربي يتحمل المزيد من الاستعادة للإشكاليات العربية القديمة والفلسفات القديمة كاشتغالات ابن رشد الفارابي ابن سينا، هل مازال المثقف العربي يتحمل المزيد من الاستعادة للاشكاليات العربية القديمة وإعمالها في الواقع الآني، ألا تجر هذه الاستعادة إلى استعادة أوضاع ومسائل من المفترض تم تجاوزها إلى معايشة حقيقية لأدوات هذا العصر واشتغالات حكام العصر واشتغالات الدول الكبرى واشتغالات آلة وتكنولوجيا هذا العصر؟
– هذه إشكالية كبيرة كيف نتعامل مع الماضي مع الحاضر والمستقبل. هذه مسألة معقدة ولكنها متداخلة لا بد أن نعترف أننا لا نستطيع أن نتجاوز التراث إذا لم نشتغل عليه واشتغال الجابري على التراث كان خطوة نوعية مهمة لأنه أعطى روحية وحيوية للاشتغال على هذا النص القديم باعتباره ليس قديماً فقط وإنما له دور فاعل ومعاصر، وربطه في بداية البحث عن سؤال النهضة الأوروبية وصلتها بتراث ودستور الرومان والفكر اليوناني. والنهضة الأوروبية أعادت ترجمة ما كانت تأخذه من اللغة العربية إلى البحث مباشرة عن النصوص الأصلية وتم الاشتغال على أرسطو وتجاوزه، فإذا أردنا أن نتجاوز لا بد أن نعود ونقرأ ونسترجع بعض هذه النصوص نعيد قراءتها حتى يتم تفكيكها وإعادة تركيبها وتجاوزها. لا نستطيع أن نتجاوز إذا لم نكن نعرف ماضينا وكيف يمكن التعامل معه، هذا الجانب مهم في التعامل مع التراث لأن هناك كلام أن التراث هو عائق أو مكبل ونحن في عصر التكنولوجيا، هذا لا يلغي العودة أو استعادة النص وإعادة قراءته ومن ثم تجاوزه.

ندوة تاريخ العرق الفارسي في البحرين

«تاريخ العرق الفارسي في البحرين»

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=184648&hi

فريق مركز الحوار:

علـــي الديـــري

باسمــة القصــاب

أحمـــــد الســاري

فريق الضيوف والمشاركين:

د. علي أكبر بوشهري «باحث تاريخي»

موسى الأنصاري «أمين عام جمعية الإخاء»

يوسف أمر الله «عضو إداري – جمعية الإخاء»

جعفر عابدين «عضو – جمعية الإخاء»

ناصر حسين «عضو – جمعية الإخاء»

محمود القصاب «نائب الأمين العام لجمعية التجمع القومي الديمقراطي»

New Picture (5)

* الوقت: القضية الثالثة التي سنطرحها في مركز الحوار في صحيفة «الوقت»، هي عن تاريخ العرق الفارسي، أو من يعرفون بالعجم في البحرين. جلستنا فكرية ثقافية بعيدة عن أي تعصبات عرقية أو أيديولوجية. نريد أن نعرف مسيرة قرن أو أكثر، كيف جاء هذا العرق إلى البحرين؟ وكيف صار جماعة؟ وما التحولات التي طرأت على هذه الجماعة وثقافتها؟ وكيف كان مآل هويتها؟ وكيف عاشت انتماءها العرقي والثقافي والوطني والقومي؟ وما الحوادث السياسية التي امتحنت فيها؟ وكيف هي علاقتها ببقية الجماعات؟ وكيف تفهم ولاءها الوطني والقومي والديني؟ وما هو وضعها الحالي؟

نبدأ مع علي أكبر بوشهري ليقدم لنا نبذة عن تاريخ هذا العرق.

– علي أكبر بوشهري: من ناحية المستندات التاريخية، فإن أقدم مستند موجود لدينا لتواجد العجم في البحرين هو العام .1828 لكن هذا لا يعني أنهم غير موجودين قبل هذه الفترة. هذه الوثيقة الموجودة بين أيدينا الآن. لكنهم دوماً كانوا موجودين قبل هذا التاريخ. الوثيقة هي لبيت موجود في المنامة، وكان يشتغل في التجارة. الإيرانيين دوماً يهاجرون. سنة 735 كان حاكم البحرين هو نفسه حاكم بوشهر. وهذا يدعو إلى ازدياد الهجرة المتبادلة بين الطرفين. الهجرات زادت في فترات لاحقة، لكن العجم استمروا وبنوا منشآتهم وبيوتهم ومؤسساتهم وتوافقوا مع المجتمعات الثانية في المنامة والمحرق.

* لنقل إن العام 1828 هو التاريخ الذي يمكن أن نستند إليه. لكن منذ ذلك التاريخ إلى الآن، هناك محطات تاريخية مهمة لتواجد العجم على شكل جماعة وليس على شكل عرق فقط.

– بوشهري: هم دوماً جماعة عرقية. استوطنوا الجزيرة، وبمرور الزمن صاروا كثراً، وصلوا إلى الانتماء إلى الجزيرة. أحبوها. كونوا فرجاناً ومآتم ومؤسسات. ارتبطوا مع مجتمعات ثانية.

* من حيث العدد؟

– بوشهري: في السابق كانوا قليلين؛ لأنه ليس لدينا إحصائيات، لكن إذا ذهبنا إلى أوثق إحصاء لعدد البحرينيين الفرس العام 1905 كان .1650 أما حالياً حسب حساباتي الشخصية فهم 20% من مواطني البحرين. نحو 100 ألف على الأقل.

ما الذي أثر على هذه الزيادة، وفي أي فترة تاريخية كانت الهجرة أكبر؟

– بوشهري: الهجرات كانت على فترات تاريخية مختلفة. بدأ العدد يزداد بشكل ملحوظ العام ,1850 وبسبب الإشكالات الطبيعية التي واجهتها الساحة الإيرانية من قلة الأمطار والمجاعة، أدت تلك إلى الهجرة إلى البحرين. فحسب اعتقادي، لا أحد يترك وطنه وأرضه وعشيرته إلا إذا كان مضطراً.

* هل تميز في رصدك التاريخي بين العجم الشيعة والعجم السنة والهولة؟

– بوشهري: أولاً أن يطلق على العجم السنة بأنهم «هولة»، هذه تسمية خاطئة. الهولة هم قبائل وأسر عربية الأصل، هاجروا من الساحل العربي إلى الساحل الفارسي في الخليج. أما عجم السنة فهم ليسوا هولة، هم من الفرس. لكن مذهبهم سني. العجم في البحرين جماعة غير طائفية، منهم السنة ومنهم الشيعة.

* هل العدد 100 ألف يضم الهولة؟

– بوشهري: طبعاً لا. الهولة من العرب. هم ينتمون إلى قبائل معروفة.

لو رجعنا إلى فترة الخمسينات، كيف كان وضع العجم من حيث العدد؟

– بوشهري: منذ الثلاثينات صارت النسبة ثابتة. 20% من عدد السكان البحرينيين. أعني من المواطنين البحرينيين قبل الزيادة الهائلة الآن في عدد السكان بسبب التجنيس. أي 20% من الـ «550 ألف بحريني».

* من أين حصلت على هذه النسبة الإحصائية؟

– بوشهري: عملية مطولة. أخذت العدد الذي ذكر في إحصاء ,1905 ثم تابعت جوازات البحرين، كانت توجد إحصاءات تذكر أعداد الداخلين والخارجين. وإحصاءات عن عدد من دخل البحرين. مثلاً يذكر أن هكذا عدد قد دخل من إيران وهكذا عدد من السعودية أو عُمان أو أي مكان آخر. ثم أخرى تبين عدد من خرجوا، المتبقون هم الذين يبقون، بمقارنتها مع الزيادة السكانية، توصلت لهذه النسبة.

* لأي تاريخ يستطيع العجم الآن أن يؤرخوا لعائلاتهم المهاجرة إلى البحرين؟

– بوشهري: بعض العائلات لديهم مستندات ولديهم اهتمام بتاريخهم. فهم يدونون تاريخ عائلاتهم. في عائلتي أنا قمت بالتدوين كباحث تاريخي، طوال حياتي أبحث في تاريخ العائلة. قابلت الكثير منهم. كتبت التاريخ كبحوث، وجمعت وثائق. لكن لم أنشرها.

* لأي سنة أرجعت تاريخ عائلتك؟

– بوشهري: عائلتي ليست قديمة بالنسبة إلى غيرها. ترجع إلى .1860 قبلنا كانت عائلات كثيرة.

* هل لدى أحد منكم ما يتعلق بالبعد التاريخي لعائلته؟

– جعفر عابدين: نحن لم ندون تاريخ عائلتنا، لكن بالتقدير أستطيع أن أقول إن جدي اشترك في بناء قصر القضيبية القديم العام .1926 جدي كان مولوداً في البحرين. هو والد أمي. كان يتكلم ونحن في طريقنا إلى عين أم شعوم من تليغراف – أي شارع الزبارة في القضيبية – كان يقول: نحن بنينا هذا الجزء أو ذاك. لكن نحن لم نكن ندون. الأمر الآخر يوجد مأتم «كلبهرام»، عمره أكثر من 170 سنة. هم يدعون بأنهم هم من بدؤوا الحيدر من هذا المأتم لسبب معين. كان مكان المأتم في فريق العوضية الآن جنب مقبرة الشيعة. وقتها لم يكن العوضية متواجدين في تلك المنطقة ولم يكن اسمه فريق العوضية. كان الميناوية ساكنين في مكان مرتفع. المأتم من برستج.

كان يوم جمعة ومصادف للعاشر من محرم حين أتى الميجر (ديلي) وطلب من «كلبهرام» ألا يخرج مأتمه للعزاء. سأله عن السبب فقال إن إخوانكم المسلمين السنة سيصلون الجمعة، فلا تخرجوا للعزاء كي لا يحدث تداخل بين المعزين والمصلين. قال كلبهرام للميجر ديلي: حسناً، نحن لن نخرج يوم الجمعة، لكن سنخرج يوم الأحد، فعليكم أن تغلقوا كنيستكم في هذا اليوم لأننا نريد أن نعزي. وقد كانت هناك كنيسة الإرسالية الأميركية، يمر عليها المأتم في طريق عزائه. اعترض ديلي وقال: كيف نغلق الكنيسة لكي تخرجوا للعزاء؟ قال كلبهرام: «إذاً، كيف تريدنا أن نوقف العزاء من أجل أن إخواننا سيصلون الجمعة. نحن سننتهي من العزاء قبل وقت الصلاة، أو سنبدأ بعد أن ينتهوا من الصلاة، أنت لا دخل لك بيننا نحن وإخوتنا السنَة. لا دخل لك بين الشيعة والسنة هنا. نحن نتدبر أمورنا معاً بشكل جيد». خرج المأتم في حيدر ولبسوا الأكفان. كان المغيسل في عين الحورة أمام المأتم. النخل اسمه «باغ سيدو»، هناك قتلت امرأة اسمها حورية، لا نعرف تماماً سبب مقتلها حتى الآن، ثمة معمّر واحد فقط يعرف الحكاية، هو كبير جداً في السن، وقد رواها لي ولم أستوعبها جيداً لأن كلماته غير مفهومة تماماً. المهم أنه تمت تسمية هذا النخل باسمها «نخل حورية». ومنه تمت تسمية المنطقة بالحورة.

– ناصر حسين: هناك عجم سنة وشيعة، وهناك هولة. الآن كل عجمي سني صار يعرف بالهولي. هناك حوادث سياسية حدثت. بعض العائلات السنة المحافظين هربوا خوفاً من رضا شاه الذي فرض على النساء نزع الحجاب. كان ذلك في الثلاثينات. أما في 1146 هجرية كان حاكم إيران هو نادر شاه. نادر شاه كان شخصية غازية. لديه فتوحات كثيرة وغزوات. وصل إلى الهند مرات عدة. ومن الغنائم التي حصل عليها نادر شاه موجودة في طهران، في البنك المركزي حالياً قطعة ألماسة كبيرة معروفة باسم «درياي نور» أي بحر النور، وقطعة ثانية من هذه الألماسة موجودة في بريطانيا. ولكثرة ما هجم على الهند، انتصر على ملك من ملوك الهند اسمه محمد، ثم زوج ابنه من ابنة الملك. حاول أيضاً الانتصار على البرتغاليين؛ لأنهم كانوا يحكمون جنوب إيران. وفي الوقت نفسه كانوا يحكمون البحرين. الإنجليز تمكنوا من طرد البرتغاليين. وفي الوقت نفسه الإيرانيون صاروا يحاربون الإنجليز. العجم كانوا يعانون من رضا الشاه ومن الإنجليز. هاجر بعضهم إلى البحرين طلباً للرزق، وبعضهم هرباً من السياسة خوفاً على حياتهم لأنهم كانوا يحاربون الإنجليز. كانوا يأتون من بوشهر. المسافة من بوشهر إلى البحرين 18 ساعة باللنج. كان ذلك بين الأعوام 1920 و1940 قبل الحرب العالمية الثانية.

– محمود القصاب: في تقديري أن العجم موجودون قبل الفترة التي حددها بوشهري. في نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، كان الخليج هادئاً ومستقراً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، حتى على مستوى التجارة. الحراك ما بين السواحل الفارسية كان يتم بكل هدوء ومن دون أية مشكلات. بشكل طبيعي وهادئ كانت القبائل العربية ترحل إلى الخليج العربي شرقاً والمجاميع الفارسية تأتي إلى السواحل العربية غرباً من دون أي مشكلات. متى بدأت المشكلات؟ عندما قدمت الدول الاستعمارية؛ البرتغاليون تحديداً. في هذه الفترة كانت هناك دولة اسمها «هرمز» تبعد عن سواحل الخليج بنحو 12 ميلاً. تتنازع بين من يحكمها، الفرس أم البرتغاليون. هي نشطة اقتصادياً، لكن حكمها ضعيف. كانت إذا وجدت نفسها مهددة من البرتغاليين لجأت إلى عباس الصفوي، أي إلى الصفويين، وإذا صار العكس لجأت إلى البرتغاليين. هرمز كان يخضع لها الساحل العماني كله. احتلت البحرين، أكثر من منطقة في الخليج العربي. البرتغاليون يتنافسون لإثبات سيطرتهم على هرمز والبحرين وكل الدول التابعة لها. أعتقد أن الفرس كانوا موجودين في البحرين لهذه الأسباب أيضاً وإن بنسبة قليلة. الحوادث السياسية التالية زادت من وجودهم. الهجرات ليست جميعها هجرات سياسية. الدولة الصفوية كانت دولة طامعة. لا أحد ينكر أن لها أهداف استعمارية في البحرين. وبالتالي تتم بعض الهجرات تحت دوافع استعمارية. كذلك كان البرتغاليون والعثمانيون، بمعنى أنه إذا كانت هناك هجرات لدوافع الرزق وهرباً من القمع والبطش وطلباً للأمان هناك أيضاً هجرات منظمة لأغراض سياسية استعمارية.

New Picture (4)

الانتقال والهجرة

* ما المرويات والحكايات التي سمعتموها من آبائكم وأجدادكم عن تاريخ الانتقال والتحول إلى هذه الجزيرة؟

– موسى الأنصاري: لو نظرنا إلى الماضي، فإنه في السابق لا يوجد بترول ولا مصانع ولا معامل تكرير. العالم كله يعيش على الغزوات. الغزوات هي مصدر الرزق. سواء أكانت كانت إيران أم تركيا أم روسيا أم أي دولة في العالم. والأقليات موجودة في كل دول العالم. دائماً هناك مهاجرون من بلدان الجوار. ليس فقط في البحرين أو أي دولة بشكل خاص. كان عصر نادر شاه هو أقرب وقت إلى احتلال البحرين من قبل البرتغاليين. نادر شاه هو أقوى قائد وأيامه أقوى الأيام بالنسبة للحكم الشاهي. وكما تفضل الأخ محمود أن العرب والفرس كانوا يتنقلون بين السواحل. فبقيت مجموعات من الفرس هنا. تغيرت بعض المسميات. العنصر الفارسي الذي صار يسمى بالعجم، أنا لدي تحفظ على هذا المسمى الآن، سابقاً كان هذا الاسم صحيحاً؛ لأنه لم يكن هناك وجود لأي لغة ثانية في البحرين إلا الفارسية، ولأن كل من لا ينطق اللغة العربية فهو أعجمي حسب القرآن واللغة، فإن إطلاق التسمية في ذلك الوقت على هذا الأساس كان صحيحاً. لكن بعد اختلاط الأعراق وتدفق الآسيويين وغيرهم إلى البحرين صار المعنى مختلفاً. الآن العجم بالمعنى القاموسي هم ليسوا الفرس فقط، بل جميع من لا يتحدثون باللغة العربية وهم كثر. حالياً عندما يقال أصول فارسية، دائماً يعنون بها العجم الشيعة. لكن هناك أصول فارسية من السنة، وهناك أيضاً الهولة ذوو أصول عربية. الأصول الإيرانية تشمل البلوش وعرب السواحل وعرب خوزستان والأذربيجانيين والأكراد والتركمانيين في أقوام مختلفة. كانت تسمى فارس (بارس)، ثم بدلت إلى إيران لتشمل كل هذه القوميات.

اليوم الفرس يشكلون أكثر من 55% من إيران. أما البقية هناك فكلها أعراق أخرى. الأعراق الأخرى لديها حريات. بنظرة بسيطة للجانب السياسي هناك، فإن القيادات في إيران اليوم من أصل آذرية، من أصل عربي. من يحكمون اليوم إيران هم من أصول عربية. في الأصل لا يوجد «سيِّد» من أصل فارسي. ذرية الرسول أصلها عربي. لكن هذا الوجود العربي في إيران صار له مئات السنين. وصار جزءاً من الفرس. الآذريون الآن صاروا قيادات. ربما أختلف مع المرجعيات الدينية في إيران والقادة، هذا شيء يخصني، لكن هناك نوع من الحريات. هناك 50 صحيفة بالعربية. هناك محطات بالعربية. هناك مذياع بالعربية. لكن اللغة الفارسية هي المعمول بها في كل إيران.

– ناصر حسين: بعض الإيرانيين الذين هاجروا إلى الهند. حتى اليوم يسمونهم «بارسي» فارسي. في البحرين تسمية العجم في البحرين لاتزال قائمة.

– محمود القصاب: أعتقد أن العجم أنفسهم قد ساهموا في ترسيخ هذه التسمية. تسمية مأتم «العجم الكبير» مثالاً، على كل حال هذه التسمية لا تحمل أي نقيصة أو أي مضمون سلبي من العجم وغالبية العجم لا يرفضونها ولا ينكروها.

– موسى الأنصاري: الأخ ناصر يتحدث عن الإيرانيين في الهند، إنهم لايزالون محتفظين بتسمية الفارسي؛ لأنهم احتفظوا بدينهم الأصلي، الدين الزرادشتي، وهم قلة هناك. هؤلاء بعد الإسلام لم يتقبلوا الدين الجديد وانسحبوا جهة الهند وباكستان، وهم قلة قليلة.

– جعفر عابدين: كان العجم يساهمون مع أشقائهم العرب في كل الأعمال هنا في البحرين. في الغوص والبناء والتجارة. كثير من تسميات البحر كلمات فارسية الأصل. مثلاً كلمة النوخذة أو ربان السفينة. الأصل كلمة فارسية مكونة من مقطعين: ناو ويعني باخرة، ثم خدا ويعني: رب. فكلمة «ناو خدا» يعني ربان السفينة. العرب نطقوها نوخدة. القرقور أيضاً كلمة فارسية أصلها كولغير، أي مغلق ومحكم.

– يوسف أمر الله: الهجرات العربية إلى البر الفارسي تفوق أضعاف الهجرة الفارسية إلى البر العربي. في صحيفة «الوقت» يوجد لديكم شيء جميل أنكم تهتمون بتاريخ الأسر. هناك أسر مرموقة من الصف الأول في البحرين، كثير منهم هاجروا إلى إيران. وكثير منهم تعرضوا إلى الاضطهاد أو لوجود متطرف ضيق عليهم سياسياً واجتماعياً. الإيرانيون أيضاً كانت هجرتهم نوع اًمن الثورة البيضاء على رضا شاه. لأنه حاول أن يفعل مثل علمانية أتاتورك المتطرفة ضد الدين. كثير من العائلات الفارسية المحافظة هاجرت. هذه هي الهجرات الحديثة. كثير من العرب هاجروا إلى البر الفارسي بسبب قطاع طرق أو خوفاً من بعض المتطرفين الوهابيين. تركوا رؤوس أموالهم في بلدانهم وهاجروا.

* في العام ,1937 أمر حاكم البحرين، آنذاك سمو الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة (1923 – 1924)بإصدار جوازات سفر بحرينية جديدة. هل أقبل العجم على الجواز البحريني في ذلك الوقت؟

– موسى الأنصاري: قانون الجنسية في البحرين كان العام ,1937 سأبدأ بنموذج حديث. البارحة كان أحدهم يروي لي أنه ذهب لعمل البطاقة الذكية، قال أعطوني موعداً بعد 15 يوماً. قبل سنوات لم يكن أحد يهتم بالبطاقة الذكية. الآن صار الوضع ملحاً ولا يمكنك أن تمارس أي جزئية من حياتك من دونها، لهذا صار التوجه لها مكثفاً إلى هذا الحد الذي لا تستطيع الحصول معه على موعد قريب. سقت هذا المثال لأوضح أن الحاجة هي التي تخلق التوجهات في كثير من الأحيان. وهي التي تدفعك للذهاب إلى الشيء والاهتمام به أو عدم الاكتراث به. سابقاً لم يكن هناك جواز. الناس تذهب الى الخارج بورقة وتعود بورقة. البوانيش تذهب إلى إيران وتأتي بالفاكهة. البحرين أيضاً ينقلون إلى إيران الشاي والسكر. لم يكن أحد يهتم بالجواز. في الأربعينات والخمسينات صار ممنوعاً السفر من دون جواز. هنا صار الجواز يمثل مشكلة. الحكومة البريطانية كان لها دور أيضاً. الحكومة البريطانية استقوت بالطرفين في عهد القاجار. عهد القاجار قبل العهد البهلوي. هو من أسوأ العهود التي مرت على إيران.

* الثورة المشروطية كانت في عهدهم..

– موسى الأنصاري: نعم، في آخر أيامهم كانت الثورة المشروطية. في أيامهم ذهبوا الى أحضان الغربيين، إلى تغريب إيران. في الوقت نفسه أعطوا البريطانيين كل الحرية في الجنوب. العهد القاجاري كان الأضعف في إيران.

* نعم، نحن نريد أن نركز الآن على البعد التاريخي. في الثلاثينات عندما ظهر قانون الجنسية، ما عدد العجم الذين تجنسوا؟

– موسى الأنصاري: هناك جانبان، هناك جانب اقتصادي وهناك جانب الإهمال. اقتصادياً، النمو التجاري الذي شهدته البحرين كان متأخراً، أي في بداية السبعينات مع الطفرة النفطية. قبلها كانت الطبقة الوسطى متقاطعة ومتلاقية بدرجة كبيرة مع الطبقة الثرية. الفجوة بين الطبقتين اقتصادياً لم تكن كبيرة. لم يكن الوضع مثل الوضع الآن. طبقة فقيرة في الطرف وطبقة غنية في الطرف الآخر. لم تكن توجد مغريات في البحرين ليهتم الإيرانيون بأن يحصلوا على الجنسية. كان التفكير بالنسبة إليهم أن الوضع واحد في البحرين كما في إيران، هنا سأعيش في برستج ولو رجعت إيران سأعيش في برستج أيضاً. الناس لم تكن منشغلة بموضوع الجنسية خلال الثلاثينات. في الخمسينات والأربعينات عندما صار الجواز ملحاً، حرموا من الجنسيات. الإنجليز لهم دور في ذلك. قبل 71 كان الإنجليز هم من يدير البحرين. في المحرق مثلاً كانوا يضعون العجم في جيب ويسفرونهم. أتحدث هنا عن مرحلة سابقة لمرحلة الثمانينات واشتعال حوادث الثورة. كان ذلك في الأربعينات والخمسينات. عندما تذهب إلى إيران وتلتقي بأبناء الناس الذين تم تسفيرهم، ستجد بعضهم يقولون لك: «أنا أبي من البحرين، لكن سفرو»،

عانى العجم كثيراً في تلك الفترة على يد الإنجليز، أنا من مواليد ,1943 أعرف ناس كانوا من الأوائل في التوجيهي وحرموا من كل البعثات. حرموا من الذهاب إلى الحج أو إلى أهلهم في إيران. والآن يأت أناس لم يروا البحرين طوال حياتهم ليتسلموا الجواز قبل أن يصلوا البحرين، وهذا موضوع آخر ربما ليس مكانه هنا.

* كم كــان عــدد العــجم الــذين استــخرجوا جــوازات بحرينية حين صــدرت الجـــوازات الجديــدة في العـــام 1937؟ وكــم عــدد الذين حصلوا على الجنسية حين صدر قانون الجنسية والملكية في العام 1939؟

– بوشهري: هناك فرق بين الجنسية والجواز. الجنسية هي طلب الحصول على جنسية بحرينية لشخص غير بحريني. رأيت وثائق قديمة يحدد فيها أصل الشخص، وأنه قد طلب الحصول على جنسية بحرينية. طلب الجنسية شيء والجواز شيء آخر. كان المقتدر فقط يطلب الجواز. في العشرينات فما فوق، كان عليك أن تدفع 10 روبيات للحصول على الجواز، يبقى الجواز صالحاً لمدة 4 سنوات، ولكي تجدده يجب أن تدفع 5 روبيات أيضاً. كان ذلك في العام ,1927 عشر روبيات تعتبر مبلغاً خيالياً في ذلك الوقت لا يستطيع عليه المواطن العادي. عندما ظهر القانون عدد قليل من العجم من المقتدرين طلبوا الجنسية. لم يكن مهماً حينها بالنسبة للناس طلب الجنسية. كان الجميع يركب اللنج ويرتحل بكل بساطة لأي مكان من دون تعقيدات. صار الضغط عندما ظهر قانون الأملاك. قانون الأملاك ظهر مباشرة بعد قانون الجنسية. إذا لم تكن لديك جنسية لا يحق لك إلا أن تملك بيتاً ودكاناً فقط. فإذا كانت لديك أملاك وأنت غير حاصل على الجنسية فليس لك حق فيها، يجب أن تبيعها. كان هذا هو أحد الدوافع. قانون الجنسية لم يحرك شيئاً، فجاء قانون الأملاك كنوع من الضغط. البعض أخذ الجنسية في الفترة نفسها والبعض الآخر تأخر. عائلتي أخذت الجنسية مباشرة العام .1927 جواز عائلتي كان رقم .42 المقتدرون فقط أخذوا والباقي لم يتمكنوا. يقال إنهم كانوا يأتون يوزعون الجوازات في «خيشة»، في السوق، ولا أحد يأخذ.

بعد وصول رضا شاه إلى السلطة، والسياسة القومية التي كانت لديه، صار هناك تخوف من العجم في البحرين. أي شيء يحدث في إيران، ويكون مزعجاً للبحرين أو الخليج، فإن الضغط مباشرة يأتي علينا نحن الإيرانيين في البحرين. وهذه خاصية صرنا معتادين عليها وشبه مستعدين لها دائماً أمام أي تأزيم مع بين أي طرف في إيران وأي طرف من الخليج. دوماً هذا ثابت في تاريخنا.

– جعفر عابدين: هناك صحيفة أسبوعية من شركة نفط البحرين «نجمة الأسبوعية». للمرة الأولى تقوم بإحصاء عن الأنفس في البحرين. في الخمسينات وجدوا أن العجم 70%. في السوق والدكاكين كلهم عجم، العمال والمنظفون والسقاية و«النجاجير» والعمال والبناء كلهم من العجم. أنا أستخدم كلمة عجمي.

* لكن أول إحصاء حدث في البحرين كان في 1941؟

– محمود القصاب: أنا أشتبه في هذه النسبة؛ لأنها غير دقيقة، ولم يكونوا الأجانب يوماً في البحرين يشكلون الأغلبية. لم يحدث ذلك إلا في هذه المرحلة بسبب التجنيس السياسي، وزيادة العمالة الوافدة المستوطنة أما قبلها فلا.

– بوشهري: كلام جعفر جزء منه صحيح. الإحصاء السكاني سنة 1941 كان الأول في البحرين. كان يذكر البحرينيين ثم الأجانب. ثم يتم تحديد الأجانب: سعودي، إيراني، هندي، عماني.. الخ. فمن الممكن أن هذه النسبة الـ 70% هي نسبة العجم بالنسبة للأجانب وليس إلى البحرينيين. أي أن 5% من سكان البحرين أجانب، ومن الـ 5% فإن العجم يشكلون 70% من الـ 5%.

– محمود القصاب: نعم، بهذا المعنى قد يكون معقولاً..

في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الخمسين من بعد ظهر يوم 26 مارس/آذار العام 1970 أعلنت إذاعة لندن أن كلا من بريطانيا وإيران تقدمتا بطلب إلى السكرتير العام للأمم المتحدة لإرسال مندوب من المنظمة الدولية لاستطلاع رأي شعب البحرين عما إذا كان يرغب في الاستقلال أو الانضمام إلى إيران.

وفي الساعة السابعة من صباح يوم 30 مارس/آذار العام ,1970 وصلت لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة. وضمت البعثة في عضويتها ستة ممثلين دوليين من إندونيسيا وأيرلندا وفرنسا والهند والأردن، إضافة إلى رئيسها المندوب الإيطالي السيد «ونسبير جيو شاردي». وقد تم وضع برنامج الاستطلاع للجنة الأمم المتحدة، بحيث يشمل معظم مناطق البلاد، وقد بدأت البعثة هذه اللقاءات مع المواطنين، وذلك في قاعة المؤتمرات في فندق الخليج، حيث كان رجال الدين هم أول من التقت بهم البعثة، وذلك في الساعة الخامسة عصراً، ثم توالت هذه اللقاءات لمعظم الأندية والجمعيات والقرى والمؤسسات، وذلك حرصاً من جانب اللجنة على أن يشمل الاستطلاع معظم فئات وأفراد الشعب. وعلى سبيل المثال، اجتمعت البعثة مع إدارات أندية العروبة والخريجين والبحرين وجدحفص والنسور والسنابس والجزائر والفردوسي وسترة والرفاع واليرموك والإصلاح والنعيم والأهلي والترسانة. كما التقت البعثة بإدارات جمعية رعاية الطفولة والأمومة ونهضة فتاة البحرين، وأسرة الأدباء والكتاب وأسرة فناني البحرين وجمعية الهلال الأحمر البحريني.

* إلى أي جهة كان يميل صوت العجم في هذا الحدث الكبير؟ وكيف أدرك العجم هويتهم وولاءهم وانتماءهم القومي من خلال حدث الاستفتاء هذا؟

– موسى الأنصاري: كان الاستفتاء العام ,1970 أتى وفد من الأمم المتحدة إلى البحرين، وكان الاستفتاء يشمل ثلاثة أسئلة: هل تريدون الانضمام إلى إيران، أو تبقون تحت الحماية البريطانية، أو تريدون أن تكونون دولة مستقلة. لنكن واضحين وشفافين. الاستفتاء لم يكن كما حدث في استفتاء الميثاق. طلب العجم أن تكون البحرين إمارة مستقلة تحت دستور يضمن حقوق الجميع. يضمن حقوقنا كأقليات. العجم كانوا مندمجين مع البحرينيين. كانوا يريدون دولة مستقلة دستورية. لنكن واقعيين. كل عرق يفتخر بعرقه ومن لا يفتخر به ليس فيه خير. أنا ذهبت إلى الاستفتاء. وصوّتُ على أن البحرين تكون مستقلة، ذات سيادة، تحت دستور ديمقراطي. وضعت شرطاً من عندي أن تحترم الأقليات؛ لأنك أثناء الاستقلال لا تعرف ماذا يحدث. ذهبت كبحريني. لكن لا أريد تضييع هويتي كفارسي.

* عندما ذهبت إلى التصويت، كيف بدت لك هويتك، هل بحرينية أم إيرانية؟

– موسى الأنصاري: ذاهب كبحريني، لكني لا أريد أن أضيع هويتي كفارسي.

* هل كان هناك رأي معارض للتصويت من قبل جماعة من العجم تعتقد أن البحرين جزء من إيران؟

– موسى الأنصاري: لنكن واقعيين. لم يكن هناك وعي كافٍ في تلك الفترة. حتى البحرينيين لم يكن لهم حضور قوي. لم يكن هناك إعلام قوي كما حدث مع الميثاق مثلاً. المثقفون والسياسيون فقط هم الذين كانوا يذهبون.

– جعفر عابدين: للاستفتاء تم تقسيم البحرين إلى 84 جزءاً، كل جزء يمثل صوتاً. كان يلزم التصويت بنسبة 80% كي تنال البحرين استقلالها كاملاً. الأجزاء هي عبارة عن الأندية المنتشرة في البحرين، 4 منها فقط نوادٍ تمثل العجم في البحرين.

– بوشهري: لمزيد من التوضيح، سنة 70 لم يكن في البحرين جمعيات سياسية ولا نقابات عمالية. الأمم المتحدة تريد أخذ رأي الشعب، وجدت أن الجهة الوحيدة الموجودة في البحرين والتي يجري بينها انتخابات هي النوادي. أعضاء بحرينيون يجرى انتخابهم، المنتخبون هم يمثلون الباقي. كانت 4 نوادٍ للعجم هي الفردوسي والتاج والاتفاق والشعاع. جميع النوادي اختارت أن تكون البحرين دولة مستقلة. واحد من هذه النوادي أضاف «نحن نريد أن نعرف ماذا ستكون مكانتنا في هذه الدولة«. كان ذلك هو التحفظ الوحيد، لكن الكل صوّت على الاستقلال.

* هل هناك من بين هذه الجماعة من اعتبرها خيانة للوطن الأم؟

– بوشهري: منذ ولدنا هنا في البحرين، لم نفكر يوماً بالانتماء إلى إيران، التمسك بالأصل والثقافة دائماً موجودة، لكن لم يكن لنا رغبة في الانتماء إلى دولة إيران. نحن دوماً نعتبر أنفسنا بحرينيين. نحن تناسلنا جيلاً وراء جيل هنا. أنا في عائلتي أعد من الجيل الرابع. حالياً الجيل السادس من عائلتي موجود. عملنا هنا، تزوجنا هنا، حلالنا هنا.

– جعفر عابدين: نحن لسنا عرباً. ولكن لدينا لهجة فارسية بحرينية، تميزنا عن اللهجة الفارسية الأخرى. عندما نذهب إلى الكويت أو الإمارات أو أي منطقة على الحدود، بمجرد أن نتكلم يقال لنا إن هذه لهجته من عجم البحرين.

* في مرحلة الاستفتاء، هل كان التيار القومي يرى أن العجم يشكلون خطراً؟

– محمود القصاب: طبعاً، أنا لم يكن وعيي السياسي حينها مثل وعيي اليوم. لكني كنت أعيش هذه التفاصيل وأتذكر الحوادث. لنكن واقعيين. الحساسية كانت موجودة. الإخوة ذكروا أن العجم كانوا مع البحرين المستقلة. لكن هذا لا يلغي أن البعض كان يتطلع نحو إيران. لا أستطيع نفي أو إثبات ذلك. لكن أعتقد بوجود هذا البعض. المهم الآن هل العجم يعتبرون أنفسهم بحرينيين من أصول فارسية؟ هذا هو السؤال، بمعنى أن يكون ولاؤهم للبلد الذي احتضنهم من دون أن ينكر عليهم أصولهم العرقية أو القومية!

نحن كقوميين عرب كيف ننظر إلى القوميات الأخرى؟ نحن نتعامل مع الأقليات (وأنا عندي حساسية تجاه تسمية الأقليات) على أساس مبدئي وإنساني. أي نؤمن بالعروبة بمعناها الحضاري، أي أنها قادرة على استيعاب كل من يعيش على أرضها من أعراق وأقليات دينية أو إثنية. شخصياً، فتحت عيني في فريق المخارقة في محيط يضم الكثير من العجم. ندخل معهم في صداقات وخلافات وزواج. هذا لا يلغي الخصائص المشتركة التاريخية بيننا وبينهم. هذا الجانب الاجتماعي. من الناحية السياسية فإن أي تعصب سواء من العرب أو العجم هي موقع ضرر للطرفين. القوى المعادية والقوى المتربصة تستغل هذه الخلافات وتستثمرها. أي خلاف يصب في جهة الضرر للطرفين.

* نعم، لكن ما تتحدث به هو وعي حديث، أنا أسأل عن وعي التيار القومي العروبي في تلك الفترة الزمنية من التاريخ؟

– محمود القصاب: نعم، أنا أتكلم عن موقفي وموقف الجمعية وفهمنا للعروبة وللقومية باعتبارها الوعاء الحضاري الذي يستوعب كل من عاش على أرض العروبة وتفاعل مع قضاياها المصيرية. نعود للاستفتاء. في تلك الفترة كانت إيران بالفعل تطالب بالبحرين. كان البعض يقول لنا حين نختلف معهم: انتظروا عندما يأتيكم الشاه سترون ماذا نفعل. هذا يعبر عن شيء موجود ومضمون. لا أقول إن هذا موجود عند كل العجم، لكن هذا يعبّر عن بعض المضموم. الحساسية إذاً كانت موجودة. ليس لدي إثبات أو إحصاء يقول كم عدد العجم الذين صوتوا مع الاستقلال أو ضده. ولا أعتقد أن أحداً هنا يستطيع أن يحدد ذلك. ما حدث أن الأندية ومنهم نادي العروبة أقام اجتماعات عدة. كان يقيم الندوات، يذهب في وفود لتشجيع الأهالي وحثهم على التصويت مع عروبة البحرين واستقلالها. كان يلتقي بالعرب والعجم. في نادي العروبة لدينا مجموعة من الأصدقاء والأعضاء من أصول فارسية، وهم أصدقائي. العروبة هي قومية إنسانية متفتحة وليست عنصرية ضد العجم أو غيرهم، كذلك الفارسية يجب أن تبقى قومية، لكن ليست عنصرية. الفارسية هي ثقافة قومية. كل من ينتمي إلى أمة من حقه أن يفتخر بأمته وتقاليدها وتراثها وأن يحافظ عليها ويعتز بها.

* في انتخابات ,1973 كانت العملية الديمقراطية تتطلب أن ينتظم الناس في جماعات حزبية أو عرقية، أو أقليات تعبر عن مطالبها، كيف تصرف العجم في هذه الانتخابات؟ هل استطاعوا إرسال مجموعة من مرشحيهم؟ هل استطاعوا أن ينظموا أنفسهم على شكل تكتل سياسي أكثر تماسكاً لدخول البرلمان؟

– موسى الأنصاري: في 72م كان المجلس التأسيسي، وفي 73م كان المجلس الوطني. في المحرق ترشح اثنان من العجم للمجلس، المرحوم عبدالنبي خيامي والمرحوم علي عبدالله كريمي. الوعي السياسي كان شبه معدوم. لكن لم تكن هناك أي نظرة عرقية في ذلك الوقت. البرلمان الجديد مع الأسف الشديد عمل لنا نوعاً من العرقية والطائفية على عكس ما هو مفترض. في 73 كانت الدعوة للوحدة الوطنية. المجلس كان أنجح لأنه لم يكن هناك نظرة طائفية أو عرقية.

– جعفر عابدين: كان هناك عجم قد رشحوا أنفسهم للانتخابات، لكن نحن انتخبنا عرباً؛ لأننا كنا نرى أنهم أكثر كفاءة. لا لأن هذا عجمي أو عربي. كانت أكثر أصوات العجم انتخبت علي ربيعة ومحمد جابر الصباح.

– ناصر حسين: في المنامة، العجم كلهم صوتوا لعبدالهادي خلف لأنه إنسان وطني.

– محمود القصاب: في نظري، فإن الأقليات دائماً تتجه لتأييد القوى السياسية التي يعتقد أن ليست لها توجهات قومية. لهذا أعتقد أن أكثر العجم صوّتوا لمرشحي الأحزاب الماركسية والشيوعية. لكن ليس للمرشحين الذين ينتمون إلى الأحزاب القومية. لهذا تجد العجم في العمل الحزبي أقرب للمنظمات الماركسية. عندما ترجع لتاريخ بعض المنظمات الشيوعية ستجد أن لديهم أعداد كبيرة من العجم، وهذه مشكلة وحساسية تلازم كل الأقليات في كل مكان وفي كل الأوقات لأسباب عدة ومتداخلة بعضها يعود إلى الخوف من الأكثرية وهيمنتها وبعضها يعود إلى التعصب تجاه هذه الأكثرية.

* هل كانت هناك تحالفات على أساس عرقي في الانتخابات؟

– بوشهري: لا يوجد. كان هناك مرشحان للمجلس التأسيسي. ومرشحان للمجلس الوطني في منطقة المنامة. أكبر عدد من الأصوات حصل عليها مرشح عجمي للمجلس الوطني 145 صوتاً. قانون الانتخابات كان يقول: اللذي عنده الجواز والجنسية يحق له التصويت. العجم يجب أن يكونوا قد منحوا الجنسية قبل الانتخابات بفترة زمنية طويلة (ربما 15 أو 20 سنة). العجم الذين يحق لهم التصويت كان عددهم محدوداً. عجم الفريق ذهبوا إلى كبار الفريق، واتفقوا أنا سأعطيك صوتي وأنت أعطني صوتك. النتيجة كانت أننا لم ننجح لأن العدد محدود جداً. عبدالهادي خلف كانت له مؤهلات. باقي المرشحين كانوا من الأعيان، لكن لم يكونوا يمتلكوا مؤهلات عبدالهادي خلف.

القوميـون والعجـم

فيما يتعلق بموقف التيار القومي من العجم. سأقرأ مقطعاً من مذكرات عبدالرحمن الباكر: كان يوجه مقترحات لمنطقة الخليج العربي حول الأخطار المحدقة في الخليج العربي، وكان مهتماً بما يسميه بالأخطار الآتية من إيران. يقول: فهناك في كل جزء من الخليج العربي الطابور الخامس الإيراني المنظم أحسن تنظيم مما تتمتع به تلك الجاليات من امتيازات (…) ولو ولد في تلك المنطقة وتعلم فيها واقتنى من خيراتها، فإنه إيراني قلباً وقالباً، ولن يتخلى عن إيرانيته (…) فإنهم لا يتكلمون فيما بينهم إلا بالإيرانية. ولا يربون أبناءهم إلا على اللغة الأم (…) كما يخلقون فيهم روح الابتعاد عن كل ما هو عربي. ويقول في موضع آخر: هذا مثل بسيط بالنسبة لحوادث كثيرة قد حصلت وتوضح كلها كيف أن الإيرانيين كانوا يقفون من القضايا الوطنية المواقف السلبية. ويطالب بلجنة لتمحيص كل من منحوا الجنسيات يقول: لو تألفت لجنة من كل إمارة ومحصت الجوازات الممنوحة للمتسللين لوجدت أن ثمانين بالمائة إيرانيون وقد تسربوا إلى البلاد بطرق غير مشروعة بواسطة الجمعيات الإيرانية التي تدير نظام الهجرة غير المشروعة إلى الخليج العربي بغية إغراقه بالإيرانيين. ويقول: إنني ويعلم الله، لا أهدف من وراء كلامي هذا أن أستعدي العرب على الإيرانيين في الخليج العربي، ولا أقول إن كل الإيرانيين يحملون هذه الروح الخبيثة ضد البلاد التي أنعمت عليهم ونعموا بخيراتها، لكني أحذر بني قومي من مغبة حسن النوايا، لاسيما مع جماعة تتعطش حكومتهم للاستيلاء علينا». كيف ترون خطاب الباكر؟

– ناصر حسين: هناك أناس عندهم حساسية من العرق الآخر. سأقول نكتة أقابل بها هذه الشدة التي تطرق لها عبدالرحمن الباكر. في أيام شبابي كنت في لندن أقف بانتظار صديق لي. كان هولياً. جاء عراقي رآني واقفاً، سلم عليّ، ثم سألني من أين أنت، قلت له أنا من البحرين. قال: أنتم في البحرين لديكم إيرانيون كثيرون. قلت له: نعم، لكن هؤلاء لا يعتبرون إيرانيين، هؤلاء بحرينيون من أصل إيراني، ونحن في البحرين لا نميز بين عربي وإيراني. قال: يا أخي أنا أي واحد أصله إيراني، بمجرد أن يتكلم عربي أعرف أن أصله إيراني. ثم أضاف: أنتم لماذا لا تطردون العجم؟ قلت له: لماذا نطردهم، ماذا فعل لك العجم؟ في هذه الأثناء جاء صديقي ومباشرة قال لي: ها جتوري؟ خوبن؟. هنا صدم العراقي وراح يعتذر: أنا آسف كل شي ماكو.. قلت له أنت لم تترك شيئاً أصلاً. الخلاصة أن هناك حساسية عرقية عند البعض. يحبون قومياتهم، لكن لا يحبون القوميات الأخرى.

– موسى الأنصاري: الكلام الذي قاله الباكر فيه شيء من الصحة. نحن نحافظ على اللغة الفارسية هذا أمر لا خلاف عليه. نحرص على تعليم اللغة لأبنائنا هذا لا خلاف عليه. أنا عجمي هذا لا خلاف عليه أيضاً. المواطنة لا تلغي القوميات، لكن العنصرية هي التي تلغي.

– يوسف أمر الله: يؤسفني أن أسمع هذا الكلام من شخصية وطنية وتاريخية ويعد قائداً وزعيماً ورمزاً. فهذا الكلام فيه كثير من العصبية، إلا أن خطابه هذا يعكس حقبة الخمسينات والستينات، وهي فترة القومية العربية. بخصوص تمسك العجم بلغتهم والمحافظة عليها، فهذا شيء طبيعي لا دخل له في السياسة، فجميع القوميات والمجتمعات التي تعيش في هذا الكون تحافظ على لغتهم وعاداتهم حتى لو كانوا يعيشون في بلدان ليس ببلدانهم الأصلية. فمثلاً العرب الذين هاجروا إلى إيران في صدر الإسلام قبل أكثر من 1400 سنة إلى الآن هم يتحدثون العربية ومتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم.

* محمود القصاب، في ظل السياق التاريخي والتكوين القومي، كيف تقرأ موقف عبدالرحمن الباكر من العجم؟

– محمود القصاب: أكيد أن هذا الخطاب شديداً في لهجته، فالهيئة كانت في الخمسينات تخوض نضالاً مريراً. الوضع كان حساساً. إذاً، الخطاب هو ابن تلك المرحلة. المنطقة كانت تغلي: الاستعمار من جهة، وإيران من جهة أخرى. هناك صراع بين القومية العربية التي يمثلها ويقودها الزعيم جمال عبدالناصر في تلك الفترة، مع إيران الشاه والقوى الاستعمارية الداعمة له. نحن نعتقد أن من كان يتطلع إلى الهيمنة تكون لديه وسائل يحاول من خلالها الوصول إلى هدفه. والشاه كان يتطلع إلى البحرين ومن الوارد أنه كانت لديه وسائله، من بينها العمل على خلخلة التركيبة السكانية للبلد. قد يكون ما ذكره الباكر فيه نوع من المبالغة، لكن ظروف المرحلة هي التي تصنع خطابات تلك المرحلة. أنا في وجهة نظري لو أن الباكر لايزال موجوداً لأعاد تصوره من جديد. اليوم نحن نختلف. بالنسبة إليّ، لا أشعر بأن العجم يمثلون خطورة على البحرين. أعتقد أنهم بقوا على ولائهم للبحرين. في المرحلة التي نعيشها اليوم، أنا على يقين تام من ولاء العجم للبحرين. هذا لا يلغي بعض الاستثناءات، أي وجود بعض المتعصبين عرقياً من العجم من الذين يتمسكون بولاء لعرقهم ولدولة إيران التي تمثلهم، وعلينا نحن واجب طمأنة واستيعاب كل العجم وتشجيعهم على الاندماج في الوطن بصورة أكبر وعليهم واجب زرع الروح والنزعة الوطنية عند أجيالهم وإبعادهم عن أي شكل من أشكال التعصب أو العداء، بمعنى أنه كما يحرصون على تعليم أولادهم اللغة الفارسية والتاريخ الفارسي والثقافة الفارسية – وهذا حقهم – عليهم أيضاً أن يعلموهم كيف يحبون هذا الوطن الذي نشؤوا فيه ويخلصون له، وينموا فيهم روح الاستعداد للدفاع عنه في الشدائد والمهمات، ونحن على يقين إذا ما حصل هذا الأمر وتوافرت النوايا الطيبة من كل الأطراف فإن حمولة التاريخ السلبية وحالة الشك السائدة بين الطرفين سوف تنزاح عن كاهلنا جميعاً. أي دولة تحترم نفسها عليها أن تراعي حقوق الأقليات فيها. التعددية هي المجال الوحيد للاستقرار والتقدم. لا نريد أن يطابق العجمي البحريني. هو له خصوصياته ونحن لنا خصوصياتنا. لكن لهذه الأرض حقوقاً علينا جميعاً. هذه هي النظرة القومية الأصيلة التي نعتز بها.

العجم والولاء

– ناصر حسين: يتهمونا أن ليس لدينا ولاء. ماذا يقصدون، أن ليس لدينا ولاء؟ المعتدي لن يفرق بين العربي والعجمي. فعلينا جميعاً أن ندافع عن هذه الأرض التي تجمعنا.

– جعفر عابدين: أول رسالة ولاء في تاريخ البحرين كتبت للحاكم، كانت مقدمة من قبل العجم في البحرين.

– محمود القصاب: كنتم إذاً تقدمون ولاءكم ضد الهيئة الوطنية التي كانت تواجه المستعمر وكان لها طموحاتها وأهدافها الوطنية التي تطالب الحكم بها، إذا صح هذا التحليل علينا في هذه الحالة ألا نستغرب شدة خطاب الباكر وموقفه من الإيرانيين في البحرين وفي منطقة الخليج العربي عموماً، وكما قلت قبل قليل إن الواقع وسياق الحوادث فيه هما اللذان يحددان طبيعة وشكل الخطاب السياسي ويرسمان درجة مرونته وشدته.

* الجماعة الوظيفية هي الجماعة التي تستخدم لتحقيق مآرب معينة في فترة من الفترات. فهل تم استخدام العجم كجماعة وظيفية؟ هل تم استخدامهم من قبل الحكومة الإيرانية مثلاً كما يقال من أجل تغير الواقع السكاني في فترة ما أو من قبل مثلاً حاكم البحرين لضرب حركة الهيئة كما يقال؟

– بوشهري: كلمة «استخدام» أراها غير صحيحة. العجم كجماعة عرقية توحدوا للدفاع عن أنفسهم. الباكر كان قومياً. آراؤه القومية كانت في الخمسينات. القوميون الحاليون معظمهم لا يحملون هذه النظرة. هل تم استغلالنا وتحريكنا؟ نحن كنا شبه مستقلين في البحرين. لم يكن لدينا أي اتصال بأي قوة أجنبية. الباكر أول إعلان أخرجه: الإيرانيون في البحرين طابور خامس. أسس هيئة وطنية. لم يطلب من البحرينيين العجم أن ينضموا إلى الهيئة الوطنية. وأطلق عليهم لقب طابور خامس. طبيعي إذا أنت هاجمتني من ناحية العرقية سأدافع. سأكتب رسالة ولاء. لكن لم يحدث أن كانوا عملاء. هو دفاع عن النفس. العجم طلبوا تأسيس هيئة وطنية للعجم.

– محمود القصاب: أعتقد أن الخطاب الموجود والسائد في تلك الفترة يجب أن يوضع في سياقه التاريخي الصحيح. إذا كان الإخوان يعتقدون أن الولاء للحكم أفضل من الولاء للهيئة، أي أنهم اختاروا أن يكونوا طرفاً في المواجهة ضد الهيئة، وبذلك أعتقد أنهم كانوا مخطئين. متأكد أنهم لو صوتوا للهيئة كان حالهم اليوم أفضل. خطاب الباكر هذا يجب ألا نتوقف عنده طويلاً؛ لأنه صار تاريخاً. المد القومي كان حقيقة موجودة والتطرف موجوداً أيضاً. التيارات القومية المتفتحة المتسامحة أيضاً موجودة.

* الولاء المزدوج إلى وطن قومي، ودولة قومية. لأي درجة كان هذا الولاء موضوعاً للتشكيك. في أي مرحلة كان موضع تشكيك؟

– محمود القصاب: هنا يبرز سؤال مهم: لو حدث هجوم على البلد لا سمح الله من جانب إيران أو من غيرها، ما هو موقف العجم؟ هل العجم لن يدافعوا عن البحرين؟ هناك من يشك في هذا الأمر، الإخوان يقولون بكل وضوح ومن دون تردد إنهم سيقفون مع البحرين في كل الأحوال، هذه مشاعر طيبة وصادقة علينا أن نثق فيها ولا يجب أن نشكك في هذا الأمر، بل من واجبنا أن نحيي هذه الروح وننميها في صفوف الأقليات، وهذه مهمة النخبة المثقفة، وعلينا هنا ألا ننسى حقيقة وهي أنه في ظروف معينة خاصة في فترات الاضطرابات والصراعات تكون الأقليات موضع الاهتمام، بل تكون في موضع اتهام أحياناً، فالتاريخ يؤكد دائماً أن القوى الاستعمارية والدول الطامعة تستغل الأقليات وتأخذهم جسوراً ومطية للوصول إلى أهدافها الخبيثة، وبعض هذه الأقليات للأسف تنخدع بالوعود الاستعمارية وتتآمر على الوطن الذي احتضنهم، والشواهد من التاريخ البعيد والقريب حاضرة بصورة جلية.

– الأنصاري: ولماذا علينا أن نبرز الولاء، وكأننا مشكك في ولائنا من الأصل؟ الولاء هذه الكلمة من أين جاءت؟ كأن هناك أطماعاً في البحرين وعلينا أن نظهر ولاءنا للبحرين لا للجهة الطامعة؟

* نحن لسنا بصدد إظهار الولاء، تأكيده أو نفيه، نحن نريد أن نعرف متى يصبح موضوع ولاء العرق الفارسي مثاراً؟

– يوسف أمر الله: عند أي خلاف أو سوء تفاهم ينشأ بين إيران والبحرين ويكون في الطرف الإيراني حكم قومي (كحكم الشاه سابقاً) ففي هذه الحالة تقوم أطراف محسوبة على طرف ما بإثارة التشكيك في ولاء العجم. وعندما يكون الحكم في إيران إسلامي (شيعي كالحكم الحالي بعد الثورة) في هذه الحالة تقوم هذه الأطراف نفسها في التشكيك وإثارة ولاء العجم والعرب الشيعة سواء. بل في كثير من الحالات يتهم فيها المعارضون وغيرهم بالولاء لأطراف خارجية. هذا بسبب وجود أطراف معينة لديها مصلحة في إشعال مثل هذه الفتن الداخلية للتفرقة ما بين السلطة والشعب ولتقترب من السلطة على حساب المصلحة الوطنية.

ويكون في هذه الحالة على جميع الأطراف إثبات ولائهم للحكم أكثر من إثبات ولائهم للوطن. وأكبر دليل على ولاء العجم للبحرين هو أنه عندما حرمت شريحة كبيرة منهم من الجنسية ومن التوظيف ومن المنح الدراسية وكذلك أعمال التسفير القسري والتشريد وتم التشكيك في ولائهم. كل هذا لم يؤثر على استمرارهم وبقائهم في البلد وإخلاصهم والتفاني في العمل. وحتى أنهم يقومون بتسجيل أملاكهم بأسماء آخرين ممن يملكون الجنسية، وذلك بسبب أنهم لا يستطيعون تسجيل أي ملك باسمهم. حتى أنهم لم يفكروا في شراء منازل في إيران أو غير إيران، وذلك لأنهم لم يفكروا أن يعيشوا في بلد غير هذا الوطن الغالي.

– بوشهري: لماذا العجم فقط هم من يطلب منهم الولاء؟ لدينا مجنسون. لماذا نُسأل نحن عن ولاءنا ونحن أبناء هذه البلد نشأنا فيها جيلاً بعد جيل، ولا يُسأل المجنسون الجدد عن ولائهم وهم الوافدون الجدد على بلد لا يعرفونها ولم ينشؤوا فيها ولم يحبوها. لماذا كلما قامت إيران بعمل أو أدلى أحدهم بتصريح يطلب من العجم أن يثبتوا ولاءهم؟ العجم بكل تاريخهم ولاؤهم للبحرين، حبهم للأرض. إذا سافرنا إلى أي مكان أنتظر العودة بفارغ الصبر. يفتح باب المطار يستقبلني إلى الحر والرطوبة وأستقبلهما بالحب والشوق. في كل مكان أثبتنا ولاءنا.

العجم والثورة الإيرانية

* لنقف عند حدث الثورة الإيرانية. كيف كانت تداعيات الحدث على هويتهم وعلاقتهم بالحكم؟ أتكلم عن تلقيات الثورة حينها وليس عن الوعي الحالي؟

– بوشهري: ثورة الخميني سبّبت نوعاً من التفرقة بين العجم. حتى في المجتمعات الأخرى. بالنسبة إلينا، في المنامة بالتحديد، في البداية، الأكثرية كانت معارضة، الأقلية مؤيدة. حالياً المعارضون قلة معدودة. عندما أتى الرئيس السابق خاتمي إلى البحرين، ألقى محاضرة في فندق الخليج باللغة العربية. كان المكان يضج بالعجم وبالتأييدات والصلوات. أنا واثنان من أصدقائي كنا هناك. الجميع يرفعون أصواتهم بالصلوات ما عدانا نحن. للمرة الأولى شعرت بأني صرت أقلية بين الأقلية. ثلاثة أقلية بين 1500 هم عدد الحضور.

– محمود القصاب: نحن كنا نعتز بالثورة؛ لأنها أطاحت بالشاه. هي أزاحت عنا همّ الأطماع والتوسعات. لكن دخلنا في متاهات جديدة وأطماع من نوع آخر مغلفة بشعارات ثورية ودينية. الحرب العراقية الإيرانية غيرت مفاهيم كثيرة، لا نريد الآن أن نخوض فيها، لكنها باعتقادي غيرت كثيراً من أفكار العجم الموجودين، وبالتالي جعلتهم يصفون في مصاف إيران. هذا واقع تاريخي لا يمكن أن ننكره. الآثار ممتدة إلى اليوم، واختلط فيها الديني بالمذهبي بالقومي. اليوم أغلب الإيرانيين في البحرين يؤيدون رجال الدين الإيرانيين. لهذا دائماً أقول إن مهمة النخبة المثقفة أن تظهر الوجه الوطني للبحرينيين العجم. نحن جميعاً نعاني. أنا أحمل فكر تيار قومي، لكني أعاني. الأقلية اليوم هم الذين يؤمنون بالتعددية والديمقراطية، أصبحنا نحن أقلية، وأصبحت الأكثرية هي الجمهور المتعصب الذي ينقاد إلى زيد وعبيد بدوافع مذهبية متعصبة للأسف الشديد.

– موسى الأنصاري: أنا لا أعرف لماذا اتخذت الثورة هذا الطابع في البحرين. التعصب الموجود في البحرين غير موجود في إيران. في إيران سترى الناس تسمع موسيقى وأغاني، النساء بنصف حجاب يضحكن في الشارع. هنا أنت كافر إذا تسمع كاسيت أو تسمع غناء. في البحرين الوضع مختلف تماماً.

– القصاب: من أين لنا نحن هذا التشدد والتعصب إذاً؟ لماذا ومن أين هذا التزمت في حياتنا الاجتماعية؟ حتى نظن أننا في حالة خصام دائم مع الفرح والبهجة، وزادت عندنا مساحة المحرمات والممنوعات وجرت مصادرة عقول الناس ووعيهم باسم الدين والمذهب.

– الأنصاري: من التعصب الإسلامي المتطرف.

* ما الذي يقلق العجم الآن في الوقت الحالي؟

– الأنصاري: تقلقنا بعض الكتل السلفية المتطرفة التي تحاول أن تفصل بين المواطنين وتشق الخلافات بينهم.

المهن ومكان السكن

* ما المهن التي شغلها العجم في أجيالهم المختلفة؟ كيف تفسرون اختصاص العجم حتى وقت قريب بمهن معينة كمهنة الخباز مثلاً وتكتلهم في مؤسسات معينة مثل شركة بابكو؟

– الأنصاري: العجم والعرب عاشوا في هذه الأرض قبل النفط وامتهنوا مهناً مختلفة، كل فئة امتهنت بحسب ميولها وعاداتها! فمثلاً ركز العرب الشيعة على مهنة الزراعة والصيد والصفافرة وصناعة السفن وصناعة الفخار والنسيج والحدادة وغيرها. والعرب السنة كانت لديهم مهنة صيد اللؤلؤ والتجارة وصناعة ثوب النشل والبشت. وأما العجم فركزوا على مهنة التجارة وهذا يشمل كثيراً من المهن فمنها الخبازة والخياطة والحلاقة والبناء والمطاعم وهم كذلك يحتكرون محلات القهاوي.

وعند بزوغ عصر النفط تغيرت كثير من المهن فقد دخلت كثير من المهن الجديدة المصاحبة كصناعة النفط والمصاحبة لفترة التي تلت فترة بداية النفط.

وكان العجم وأشقاؤهم العرب ممن ساهموا في رقي ونمو الوطن وإنشاء شركة نفط البحرين بابكو. وكذلك امتهنوا كثيراً من المهن الجديدة المصاحبة لهذا الصناعة، إلا أنه بعد فترة من الزمن تم تهميش وتمييز ضد العجم وعدم توظيفهم في كثير من الوزارات ومؤسسات الدولة أدى هذا إلى لجوئهم للقطاع الخاص والالتحاق بشركات صناعية خاصة كشركة نفط البحرين بابكو وشركة ألبا. وقد ساهموا في نمو هذه الشركات وتحقيق نجاح باهر فيها وكذلك التحقوا بالبنوك وكانوا متميزين فيها. وبعد هذا قاموا بإنشاء كثير من الشركات التي ساهمت في نمو وتقدم البلد.

* على المستوى الطبغرافي، ما الفرجان التي سكنها العجم؟

– ناصر حسين: في المحرق، فريج البنعلي والمعاودة وحالة أبوماهر وعين سمادو وفريج بوخميس وفريج الصنقل. وفي المنامة، فريج المشبر وظلم آباد (العدلية) والحورة وسنككي وتليغراف ش(القضيبية) والعوضية.

* لماذا لم يتواجد العجم في القرى؟ لماذا تواجدوا في المدن فقط؟

– ناصر حسين: لم يسكن العجم في القرى لكونها محدودة المساحة، وقلة وجود فرص العمل، حيث كان التركيز على الزراعة، والعجم كانوا مهتمين بالتجارة والحرف الأخرى.

مدرسة العجم

جاء في كتاب «مائة عام من التعليم النظامي في البحرين» (ص: 105) «في بداية هذا القرن وبالتحديد في العام ,1913 قررت مجموعة من التجار الفرس المقيمين في البحرين، تأسيس مدرسة خاصة لتعليم البنين، وكان الهدف الظاهر هو العلم والمعرفة، أما القصد المبيت فهو المحافظة على اللغة والهوية الفارسية للجالية المقيمة في البحرين والتي كانت فئة كبيرة منها تعمل في التجارة».

وجاء في هامش (ص 107) أعضاء الهيئة التأسيسية لمدرسة العجم:

.1 حاجي عبدالنبي كل عوض كازروني (كل لقب يطلق على من زار العتبات المقدسة في كربلاء).

.2 حاجي عبدالنبي حاجي أحمد بوشهري.

.3 حاجي ميرزا حسين دشتي.

.4 أبو القاسم لطف علي شيرازي.

.5 كل عباس حاجي بوشهري.

.6 ميرزا علي عبد الرضا دشتي (مدير المدرسة).

وجاء في ص 109 – 112 الموقع والبداية:

تقع مدرسة العجم في فريق الحمّام قرب مدرسة فاطمة الزهراء في المنامة، وتعتبر ثاني مدرسة نظامية في البحرين بعد مدرسة الإرسالية الأميركية التي تأسست العام .1899

عقدت الفصول الدراسية لهذه المدرسة أول مرة على عتبات مأتم العجم في فريق المخارقة بالمنامة، وكان ذلك بسبب سرعة التأسيس وقبل توافر مقر رسمي لها، كان ذلك في 14 أغسطس/آب 1913 وحتى شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام ذاته.

بعد ذلك انتقلت المدرسة إلى عريش في المساحة المقابلة للمأتم المذكور، وفي تلك الفترة لم يطلق على المدرسة أي اسم يذكر، استمرت المدرسة في العريش المقابل لمأتم العجم من أكتوبر 1913 حتى فبراير/شباط .1915

وفي 15 فبراير 1915 انتقلت المدرسة من العريش المؤقت إلى مبنى آخر، وأطلق عليه اسم «مدرسة الإصلاح المباركة» وكان المقر الجديد منزلاً كبيراً مؤجراً من السيد «حاجي جمعة بن ناصر بوشهري» والمنزل المذكور تم بناؤه العام ,1900 واستمرت مدرسة العجم في منزل جمعة من 15/2/1915 حتى 8/8/1923 حين انتقلت إلى المقر الثابت والأخير في منطقة فريق الحمّام قرب مدرسة الزهراء (ومايزال المبنى قائماً إلى هذا اليوم).

ومع انتقال المدرسة إلى المقر الجديد تحوّل الاسم مرة أخرى من مدرسة الإصلاح المباركة إلى «اتحادية إيرانيان والإصلاح» ويعود تاريخ هذا الاسم إلى 14 يوليو/تموز .1923

وجاء في (ص 113 – 114) انفصال المدرسة إلى مدرستين ثم اتحادهما.

في العام 1927 توفي الحاج عبدالنبي كازروني (أحد المؤسسين الأوائل) وبعد موته حاول أحد أعضاء مجلس الإدارة (الحاج عبدالنبي بوشهري) السيطرة على المجلس، وحين فشل في ذلك انسحب من الإدارة وأسس مدرسة خاصة به سماها «مدرسة التربية» أو «مدرسة بوشهري»، واستمرت الفرقة بين المدرستين من العام 1928 حتى ,1931 ومع تلك النقلة تغير اسم المدرسة الثانية «مدرسة التربية» إلى اسم جديد هو «مدرسة الإخوة الإيرانية» وكان مديرها في الفترة الواقعة بين 1929 و1930 «الحاج حيدر أسيري» الذي سبق أن كان مديراً للمدرسة الأولى.

واستمرت مدرسة الأخوة الإيرانية في منزل بوشهري من يوليو 1929 حتى العام .1931

وفي النهاية اتحدت المدرستان «الإخوة والاتحاد الإيراني» في مدرسة واحدة يجمعهما مقر واحد هو المبنى الدائم الذي تم بناؤه العام .1923

وأصبح الاسم الجديد «اتحاد ملي» أو «مدرسة الاتحاد الوطني» وظلت مدرسة العجم الموحدة تحمل هذا الاسم من العام 1931 حتى العام ,1979 حين تغير الاسم «بعد الثورة الإيرانية» إلى «مدرسة الجمهورية الإسلامية في البحرين» التي أغلقت أبوابها العام 1996.